مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

طريق النجاة الوحيد : تعقيباً على البحث السابق في نجاة بني إسرائيل بصورة إعجازية من قبضة الفراعنة ، خاطبت هذه الآيات الثلاث بني إسرائيل بصورة عامة ، وفي كل عصر وزمان ، وذكرتهم بالنعم الكبيرة التي منحها الله إيّاهم ، وأوضحت طريق نجاتهم. فقالت أوّلاً : (يَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِن عَدُوّكُمْ).

ثم تشير إلى واحدة من النعم المعنوية المهمة ، فتقول : (وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ). وهذه إشارة إلى حادثة ذهاب موسى عليه‌السلام مع جماعة من بني إسرائيل إلى مكان ميعادهم في الطور ، ففي ذلك المكان أنزل الله سبحانه ألواح التوراة على موسى وكلّمه ، وشاهدوا جميعاً تجلّي الله سبحانه.

وأخيراً أشارت إلى نعمة ماديّة مهمة من نعم الله الخاصة ببني إسرائيل ، فتقول : (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى). ففي تلك الصحراء كنتم حيارى ، ولم يكن عندكم شيء من الطعام المناسب ، فأدرككم لطف الله ، ورزقكم من الطعام الطيّب اللذيذ ما كنتم بأمسّ الحاجة إليه.

و «المنّ» نوعاً من العسل الطبيعي كان موجوداً في الجبال المجاورة لتلك الصحراء ؛ و «السلوى» نوع من الطيور المحللة اللحم شبيهاً بالحمام.

ثم تخاطبهم الآية التالية بعد ذكر هذه النعم الثلاث العظيمة ، فتقول : (كُلُوا مِن طَيّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ).

الطغيان في النعمة هو أن يتخذ الإنسان هذه النعم وسيلة للذنب والجحود والكفران والتمرد والعصيان ، بدل أن يستغلّها في طاعة الله وسعادته ، تماماً كما فعل بنو إسرائيل ، ولذلك حذّرتهم الآية بعد ذلك فقالت : (فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِى وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِى فَقَدْ هَوَى). «هوى» : في الأصل بمعنى السقوط من المكان المرتفع ، والذي تكون نتيجته الهلاك عادةً ، إضافة إلى أنّه هنا إشارة إلى السقوط الرتبي والبعد عن قرب الله ، والطرد من رحمته.

ولما كان من الضروري أن يقترن التحذير والتهديد بالترغيب والبشارة دائماً ، لتتساوى كفّتا الخوف والرجاء ، حيث تشكّلان العامل الأساسي في تكامل الإنسان ، ولتفتح أبواب التوبة والرجوع بوجه التائبين ، فقد قالت الآية التالية : (وَإِنّى لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى).

«غفّار» : صيغة مبالغة ، وتوحي أنّ الله سبحانه لا يقبل هؤلاء التائبين ويشملهم برحمته مرّة واحدة فقط ، بل سيعمّهم عفوه ومغفرته مرّات ومرّات.

٢٢١

(وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (٨٣) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (٨٤) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (٨٥) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (٨٦) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (٨٧) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى فَنَسِيَ (٨٨) أَفَلَا يَرَوْنَ أَنْ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلَا نَفْعاً (٨٩) وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (٩٠) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى) (٩١)

صخب السامري : ذكر في هذه الآيات فصل آخر من حياة موسى عليه‌السلام وبني إسرائيل ، ويتعلق بذهاب موسى عليه‌السلام مع وكلاء وممثّلي بني إسرائيل إلى الطور حيث موعدهم هناك ، ثم عبادة بني إسرائيل للعجل في غياب هؤلاء.

كان من المقرر أن يذهب موسى عليه‌السلام إلى «الطور» لتلقّي أحكام التوراة ، ويصطحب معه جماعة من بني إسرائيل ، غير أنّ شوق موسى عليه‌السلام إلى المناجاة مع الله وسماع ترتيل الوحي ، وصل لوحده قبل الآخرين إلى ميقات الله وميعاده. هنا نزل عليه الوحي : (وَمَا أَعْجَلَكَ عَن قَوْمِكَ يمُوسَى).

شوق المناجاة وسماع كلامك قد سلب قراري ، كنت مشتاقاً إلى أن آخذ منك أحكام التوراة بأسرع ما يمكن لُاؤدّيها إلى عبادك ، ولأنال رضاك عنّي بذلك ...

وفي هذا اللقاء إمتدّت مدّة الإشراقات والتجليات المعنوية الإلهية من ثلاثين ليلة إلى أربعين ، وأدّت الأجواء المهيّأة لانحراف بني إسرائيل دورها ، فالسامري ، ذلك الرجل الفطن والمنحرف صنع باستعماله الوسائل عجلاً ، ودعا تلك الجماعة إلى عبادته ، وأوقعهم فيها.

وأخيراً أخبر الله موسى في الميعاد بما جرى لقومه والسامري إذ تحكي الآية التالية ذلك

٢٢٢

فتقول : (قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِىُّ).

(فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا).

وما أن وقعت عينه على ذلك المنظر القبيح ، منظر عبادة العجل (قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا). وهذا الوعد الحسن إمّا أن يكون وعد بني إسرائيل بنزول التوراة وبيان الأحكام السماوية فيها ، أو الوعد بالنجاة والإنتصار على الفراعنة ووراثة حكومة الأرض ، أو الوعد بالمغفرة والعفو للذين يتوبون ويؤمنون ويعملون الصالحات ، أو أنّه كل هذه الامور.

ثم أضاف : (أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ).

وحتى لو نأيت عنكم سنين طويلة فينبغي أن تلتزموا بالتعاليم الإلهية التي تعلّمتموها وتؤمنوا بالمعجزات التي رأيتموها : (أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مّن رَّبّكُمْ فَأَخْلَفْتُم مَّوْعِدِى). فقد عاهدتكم على أن تثبتوا على خطّ التوحيد وطريق طاعة الله الخالصة ، وأن لا تنحرفوا عنه قيد أنملة ، إلّاأنّكم نسيتم كل كلامي في غيابي ، وكذلك تمردّتم على طاعة أمر أخي هارون وعصيتموه.

فلمّا رأى بنو إسرائيل أنّ موسى عليه‌السلام قد عنّفهم بشدة ولامهم على فعلهم وتنبّهوا إلى قبح ما قاموا به من عمل ، هبوا للإعتذار ف (قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا) فلم نكن في الواقع قد رغبنا وصمّمنا على عبادة العجل (وَلكِنَّا حُمّلْنَا أَوْزَارًا مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِىُّ).

إنّ كبير القوم إذا لام مَن تحت إمرته على إرتكابهم ذنباً ما ، فإنّهم يسعون إلى نفي ذلك الذنب عنهم ، ويلقونه على عاتق غيرهم ، وكذلك عبّاد العجل من بني إسرائيل ، فإنّهم كانوا قد انحرفوا بإرادتهم ورغبتهم عن التوحيد إلى الشرك ، إلّاأنّهم أرادوا أن يلقوا كل التبعة على السامري.

على كلّ ، فإنّ السامري ألقى كل أدوات زينة الفراعنة وحليّهم التي كانوا قد حصلوا عليها عن طريق الظلم والمعصية ـ ولم يكن لها قيمة إلّاأن تصرف في مثل هذا العمل المحرّم ـ في النّار (فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَدًا لَّهُ خُوَارٌ) (١) فلمّا رأى بنو إسرائيل هذا المشهد ، نسوا فجأةً كل تعليمات موسى التوحيديّة (فَقَالُوا هذَا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسَى).

وبهذا فإنّ السامري قد نسي عهده وميثاقه مع موسى ، وإله موسى : (فَنَسِىَ).

وهنا قال الله سبحانه توبيخاً وملامة لعبدة الأوثان هؤلاء : (أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفَعًا). فإنّ المعبود الواقعي يستطيع على الأقل أن يُلبّي طلبات

__________________

(١) «الخوار» : صوت البقرة والعجل ، ويطلق أحياناً على صوت البعير.

٢٢٣

عباده ويجيب على أسئلتهم ، فهل يمكن أن يكون سماع خوار العجل من هذا الجسد الذهبي لوحده ، دليلاً على جواز عبادة العجل ، وصحّة تلك العبادة؟

ولا شك أنّ هارون ، خليفة موسى ونبي الله الكبير ، لم يرفع يده عن رسالته في هذا الصخب والغوغاء ، وأدّى واجبه في محاربة الانحراف والفساد قدر ما يستطيع ، كما يقول القرآن : (وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هرُونُ مِن قَبْلُ يقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُم بِهِ) ثم أضاف : (وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ).

لقد كنتم عبيداً فحرّركم ، وكنتم أسرى فأطلقكم ، وكنتم ضالين فهداكم ، وكنتم متفرقين مبعثرين فجمعكم ووحّدكم تحت راية رجل رباني ، وكنتم جاهلين فألقى عليكم نور العلم وهداكم إلى صراط التوحيد المستقيم ، فالآن (فَاتَّبِعُونِى وَأَطِيعُوا أَمْرِى).

أنسيتم أنّ أخي موسى قد نصّبني خليفة له وفرض عليكم طاعتي؟ فلماذا تنقضون الميثاق؟ ولماذا ترمون بأنفسكم في هاوية الفناء؟

إلّا أنّ بني إسرائيل تمسكّوا بهذا العجل عناداً ، ولم يؤثّر فيهم المنطق السليم القوي لهذا الرجل ، ولا أدلة هذا القائد الحريص ، وأعلنوا مخالفتهم بصراحة : (قَالُوا لَنْ نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى).

وبهذا لم يذعن بنو إسرائيل لأمر العقل ولا لأمر خليفة قائدهم وزعيمهم أيضاً.

ولكن إفترق عنهم هارون مع القلة من المؤمنين الثابتين ، والذين كان عددهم قرابة إثني عشر ألفاً ، في حين أنّ الأغلبية الجاهلة كادوا أن يقتلوه.

(قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (٩٢) أَنْ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (٩٣) قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (٩٤) قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (٩٥) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (٩٦) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (٩٧) إِنَّمَا إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِي لَا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) (٩٨)

٢٢٤

نهاية السامري المريرة : تعقيباً على البحث الذي تناولته الآيات السابقة حول تقريع موسى وملامته لبني إسرائيل الشديدة على عبادتهم العجل ، تعكس هذه الآيات التي نبحثها ـ في البداية ـ محاورة موسى عليه‌السلام مع أخيه هارون عليه‌السلام ، ثم مع السامري. فخاطب أوّلاً أخاه هارون (قَالَ يَا هرُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ) أفلم أقل لك أن (اخْلُفْنِى فِى قَوْمِى وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) (١). فلماذا لم تهب لمحاربة عبادة العجل هذه؟

إنّ المراد من جملة (أَلَّا تَتَّبِعَنِ) هو : لماذا لم تتّبع طريقة عملي في شدّة مواجهة عبادة الأصنام؟

ثم أضاف : (أَفَعَصَيْتَ أَمْرِى). لقد كان موسى عليه‌السلام يتحدث بهذا الكلام مع أخيه وهو في فورة وسَورةٍ من الغضب ، وكان يصرخ في وجهه ، وقد أخذ برأسه ولحيته يجرّه إليه ، فلمّا رأى هارون غضب أخيه الشديد قال له ـ من أجل تهدئته وليقلّل من فورته ، وكذلك ليبيّن عذره وحجّته في هذه الحادثة ضمناً ... (قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَاتَأْخُذْ بِلِحْيَتِى وَلَا بِرَأْسِى إِنّى خَشِيْتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِى).

إنّ هارون يريد أن يقول : إنّي إذا كنت قد أقدمت على الإشتباك معهم كان ذلك خلاف أمرك ، وكان من حقّك أن تؤاخذني. وبهذا أثبت هارون براءته.

وبعد الانتهاء من محادثة أخيه هارون وتبرئة ساحته ، بدأ بمحاكمة السامري : لماذا فعلت ما فعلت ، وما هدفك من ذلك : (قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِىُّ). فأجابه و (قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مّنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِى نَفْسِى).

إنّ كلمة «الأثر» يعني بعض تعليمات موسى عليه‌السلام ؛ و «نبذتها» بمعنى ترك تعليمات موسى عليه‌السلام. وأخيراً فإنّ (بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا) تشير إلى ما كان لديه من معلومات خاصّة عن دين موسى عليه‌السلام.

ومن الواضح أنّ جواب السامري عن سؤال موسى عليه‌السلام لم يكن مقبولاً بأيّ وجه ، ولذلك فإنّ موسى عليه‌السلام أصدر قرار الحكم في هذه المحكمة ، وحكم بثلاثة أحكام عليه وعلى عجله ، فأوّلاً : (قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِى الْحَيَوةِ أَن تَقُولَ لَامِسَاسَ). أي يجب عليك الإبتعاد عن الناس وعدم الإتصال بهم إلى آخر العمر ، فكلما أراد شخص الإقتراب منك ، فعليك أن

__________________

(١) سورة الأعراف / ١٤٢.

٢٢٥

تقول له : لا تتصل بي ولا تقربني ، وبهذا الحكم الحازم طرد السامري من المجتمع وجعله في عزلة تامة. منزوياً بعيداً عنهم.

قال بعض المفسرين : إنّ جملة (لَامِسَاسَ) إشارة إلى أحد القوانين الجزائية في شريعة موسى عليه‌السلام التي كانت تصدر في حق من يرتكب جريمة كبيرة ، وكان ذلك الفرد يبدو كموجود شرّير نجس قذر ، فلا يخالط أحداً أو يخالطه أحد (١).

والعقاب الثاني : إنّ موسى عليه‌السلام قد أسمعه وأعلمه بجزائه في القيامة فقال : (وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَّن تُخْلَفَهُ).

والثالث : (وَانظُرْ إِلَى إِلهِكَ الَّذِى ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِى الْيَمّ نَسْفًا).

وشخّص موسى في آخر جملة ، ومع التأكيد الشديد على مسألة التوحيد ، وحاكمية نهج الله ، فقال : (إِنَّمَا إِلهُكُمُ اللهُ الَّذِى لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَىْءٍ عِلْمًا). فليس هو كالأوثان المصنوعة التي لا تسمع كلاماً ، ولا تجيب سائلاً ، ولا تحلّ مشكلة ، ولا تدفع ضرّاً.

(كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (٩٩) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْراً (١٠٠) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلاً (١٠١) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (١٠٢) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً (١٠٣) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً) (١٠٤)

مع أنّ الآيات السابقة كانت تتحدث حول تاريخ موسى وبني إسرائيل والفراعنة والسامري المليء بالحوادث ، وقد بيّنت في طيّاتها بحوثاً مختلفة ، فإنّ القرآن الكريم بعد الانتهاء منها يستخلص نتيجة عامة فيقول : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِن أَنبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ). ثم يضيف : (وَقَدْءَاتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْرًا) قرآناً مليئاً بالدروس والعبر ، والأدلّة العقلية ، وأخبار الماضين وما ينبّه المقبلين ويحذّرهم.

إنّ كلمة (ذكر) هنا ، وفي آيات كثيرة اخرى من آيات القرآن الكريم تشير إلى القرآن نفسه ، لأنّ آياته سبب لتذكّر وتذكير البشر ، والوعي والحذر.

ولهذا السبب فإنّ الآية التالية تتحدث عن الذين ينسون حقائق القرآن ودروس التاريخ

__________________

(١) تفسير في ظلال القرآن ٥ / ٤٩٤.

٢٢٦

وعبره ، فتقول : (مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيمَةِ وِزْرًا).

نعم ... إنّ الإعراض عن القرآن يجرّ الإنسان إلى مثل هذه المتاهات التي تحمّله أعباءاً ثقيلة من أنواع الذنوب والانحرافات الفكرية والعقائدية.

ثم تضيف : (خلِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيمَةِ حِمْلاً).

ثم تتطرق الآيات إلى وصف يوم القيامة وبدايته ، فتقول : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا). «زُرق» : جمع «أزرق» تأتي عادةً بمعنى زرقة العين ، إلّاأنّها تطلق أحياناً على القاتم جسده بسبب الشدة والألم ، فإنّ البدن عند تحمّل الألم والتعب والعذاب يضعف ، ويفقد طراوته ، فيبدو قاتماً وكأنّه أزرق.

في هذه الحال يتحدث المجرمون فيما بينهم بإخفات حول مقدار مكوثهم وبقائهم في عالم البرزخ ، فبعضهم يقول : لم تلبثوا إلّاعشر ليال ، أو عشرة أيام بلياليها : (يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا).

وإنّ تخافتهم هذا بالكلام إمّا هو للرعب والخوف الشديد الذي ينتابهم عند مشاهدة أهوال القيامة ، أو أنّه نتيجة شدة ضعفهم وعجزهم.

ثم يضيف : (نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ) سواء تكلّموا بهمس أم بصراخ ، وبصوت خفي أم عال (إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً (١٠٥) فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً (١٠٦) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجاً وَلَا أَمْتاً (١٠٧) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً (١٠٨) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (١٠٩) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (١١٠) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (١١١) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْماً وَلَا هَضْماً) (١١٢)

مشهد القيامة المهول : تتابع هذه الآيات الكلام في الآيات السابقة عن الحوادث المرتبطة بانتهاء الدنيا وبداية القيامة. ويظهر من الآية الاولى أنّ الناس كانوا قد سألوا

٢٢٧

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله عن مصير الجبال عند انتهاء الدنيا. ولذلك يقول : (وَيَسَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ). والجواب : (فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا) (١).

يستفاد من مجموع آيات القرآن حول مصير الجبال أنّها تمرّ عند حلول القيامة بمراحل مختلفة : فهي ترجف وتهتزّ أوّلاً : (يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ) (٢).

ثم تتحرّك : (وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا) (٣).

وفي المرحلة الثالثة تتلاشى وتتحوّل إلى كثبان من الرمل : (وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَّهِيلاً) (٤).

وفي المرحلة الأخيرة سيزحزحها الهواء والطوفان من مكانها ويبعثرها في الهواء وتبدو كالصوف المنفوش : (وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) (٥).

ثم تقول الآية : إنّ الله سبحانه بعد تلاشي الجبال وتطاير ذرّاتها يأتي أمره إلى الأرض (فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا* لَّاتَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا) (٦). وفي ذلك الحين يدعو الداعي الإلهي جميع البشر إلى الحياة والاجتماع في المحشر للحساب فيلبّي الجميع دعوته ويتّبعونه (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ لَاعِوَجَ لَهُ). كما أنّ سطح الأرض يصبح صافياً ومستوياً بحيث لا يبقى فيه أيّ إعوجاج ، فإنّ أمر الله والداعي أيضاً كل منهما صافٍ ومستقيم جلي ، واتّباعه واضح لا سبيل لأيّ إنحراف وإعوجاج إليه.

عند ذلك : (وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا). إنّ هدوء الأصوات أو خشوعها هذا إمّا هو لهيمنة العظمة الإلهية على عرصة المحشر حيث يخضع لها الجميع ، أو خوفاً من الحساب ونتيجة الأعمال ، أو لكليهما.

__________________

(١) «نسف» : تعني وضع الحبوب الغذائية في الغربال وغربلتها ، أو ذرها في الهواء لينفصل الحبّ عن القشر ، وهنا إشارة إلى تلاشي الجبال وتهشّمها ، ثم تناثرها في الهواء.

(٢) سورة المزمل / ١٤.

(٣) سورة الطور / ١٠.

(٤) سورة المزمل / ١٤.

(٥) سورة القارعة / ٥.

(٦) يستفاد من مجموع هذين الوصفين (القاع وصفصفاً) أنّ كل الجبال والنباتات ستمحى من على وجه الأرض في ذلك اليوم وستبقى الأرض مستوية خالية.

«العوج» : بمعنى الإعوجاج ؛ و «الأمت» : أي الأرض المرتفعة والربية ، وبناءً على هذا فإنّ معنى الآية هو أنّه لا يرى في ذلك اليوم أيّ إرتفاع وإنخفاض على وجه الأرض.

٢٢٨

وبما أنّ بعض الغارقين في الذنوب والمعاصي قد يحتمل أن تنالهم شفاعة الشافعين وتنجيهم ، فإنّه يضيف مباشرة : (يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفعَةُ إِلَّا مَن أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِىَ لَهُ قَوْلاً). وهذا إشارة إلى أنّ الشفاعة هناك ليست إعتباطية وعشوائية ، بل إنّ هناك تخطيطاً دقيقاً لها ، سواء ما يتعلق بالشافعين أو المشفوع لهم ، وما دام الأفراد لا يملكون الأهلية والاستحقاق للشفاعة ، فلا معنى حينئذ لها.

ولمّا كان حضور الناس في عرصات القيامة للحساب والجزاء لابدّ معه من علم الله سبحانه بأعمالهم وسلوكهم ومعاملاتهم ، فإنّ الآية التالية تضيف : (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا). فهو يعلم ما قدّم المجرمون وما فعلوه في الدنيا ، وهو مطّلع على كل أفعالهم وأقوالهم ونيّاتهم في الماضي وما سيلاقونه من الجزاء في المستقبل ، إلّاأنّهم لا يحيطون بعلم الله ، وبهذا فإنّ إحاطة علم الله سبحانه تشمل العلم بأعمال هؤلاء وبجزائهم ، وهذان الركنان في الحقيقة هما دعامة القضاء التام العادل.

في ذلك اليوم : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىّ الْقَيُّومِ).

«العنت» : من مادة العنوة ، وقد وردت بمعنى الخضوع والذلة ، ولذلك يقال للأسير : «عاني» ، لأنّه خاضع وذليل في يد الآسر ، وإذا رأينا الخضوع قد نسب إلى الوجوه هنا ، فلأنّ كل الإحساسات النفسية ، ومن جملتها الخضوع ، تظهر آثارها أوّلاً على وجه الإنسان.

إنّ إنتخاب صفتي (الحي والقيوم) هنا من بين صفات الله سبحانه ، لأنّهما يناسبان النشور أو الحياة وقيام الناس جميعاً من قبورهم «يوم القيامة».

وتختتم الآية بالقول : (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا) فالظلم والجور كالحمل العظيم الذي يثقل كاهل الإنسان ، ويمنعه من السير والرقي إلى نعم الله الخالدة.

ولمّا كانت طريقة القرآن غالباً هي بيان تطبيقي للمسائل ، فإنّه بعد أن بيّن مصير الظالمين في ذلك اليوم ، تطرّق إلى بيان حال المؤمنين فقال : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا) (١).

التعبير ب (مِنَ الصَّالِحَاتِ) إشارة إلى أنّهم إن لم يستطيعوا أن يعملوا كل الصالحات فليقوموا ببعضها ، لأنّ الإيمان بدون العمل الصالح كالشجرة بلا ثمرة ، كما أنّ العمل الصالح

__________________

(١) «الهضم» : بمعنى النقص ، وإذا قيل لجذب الغذاء إلى البدن : هضم ، فلأنّ الغذاء يقلّ ظاهراً وتبقى فضلاته.

٢٢٩

بدون إيمان كالشجرة من دون جذر ، إذ قد تبقى عدة أيّام لكنها تجفّ آخر الأمر.

مراحل القيامة : وردت الإشارة في الآيات ـ محل البحث ـ إلى سلسلة من الحوادث التي تقع عند حلول القيامة وبعدها :

١ ـ رجوع الأموات إلى الحياة : (يَوْمَ يُنْفَخُ فِى الصُّورِ).

٢ ـ جمع المجرمين وحشرهم : (نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ).

٣ ـ تلاشي جبال الأرض ، ثم تبعثرها في كل مكان ، وإستواء سطح الأرض تماماً : (يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفًا).

٤ ـ إستماع الجميع لدعوة داعي الله ، وإنقطاع جميع الأصوات : (يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِىَ ...).

٥ ـ عدم تأثير الشفاعة في ذلك اليوم بدون إذن الله : (يَوْمَئِذٍ لَّاتَنفَعُ الشَّفعَةُ ...).

٦ ـ إعداد الله تعالى جميع خلقه للحساب بعلمه المطلق غير المتناهي (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا).

٧ ـ خضوع الجميع في مقابل حكمه : (وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَىّ الْقَيُّومِ).

٨ ـ يأس الظالمين : (وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا).

٩ ـ رجاء المؤمنين لطف الله ورحمته : (وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ ...).

(وَكَذلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (١١٣) فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً) (١١٤)

الآيات محل البحث ـ في الواقع ـ إشارة إلى مجموع ما مرّ في الآيات السابقة حول المسائل التربوية المرتبطة بالقيامة والوعد والوعيد ، فتقول : (وَكَذلِكَ أَنزَلْنهُ قُرْءَانًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا).

التعبير ب (كذلك) إشارة إلى المطالب التي بيّنت قبل هذه الآية.

كلمة (عربيًّا) وإن كانت بمعنى اللغة العربية ، إلّاأنّها هنا إشارة إلى فصاحة القرآن وبلاغته وسرعة إيصاله للمفهوم والمراد من جهتين :

الاولى : إنّ اللغة العربية ـ بشهادة علماء اللغة في العالم ـ واحدة من أبلغ لغات العالم ، وأدبها من أقوى الآداب.

٢٣٠

والثانية : إنّ جملة (صرّفنا) أحياناً تشير إلى التعبيرات القرآنية المختلفة حول حادثة واحدة ، فمثلاً نراه يبيّن مسألة الوعيد وعقاب المجرمين من خلال ذكر قصص الامم السابقة وحوادثها تارة ، وتارة اخرى على هيئة خطاب موجّه للحاضرين ، وثالثة بتجسيد حالهم في مشهد القيامة ، وهكذا.

أمّا الآية التالية فتضيف قائلة : (فَتَعَالَى اللهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ).

وبما أنّ النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كان يعجّل في إبلاغ الوحي وما ينزل من القرآن لاهتمامه به وتعشّقه أن يحفظه المسلمون ويستظهروه ، ولم يتمهّل أن يتمّ جبرئيل ما يلقيه عليه من الوحي فيبلغه عنه ، فإنّ الآية محلّ البحث تذكّره بأن يتمهّل فتقول : (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْءَانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا).

فإذا كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله مأموراً أن يطلب زيادة العلم من ربّه إلى آخر عمره مع غزارة علمه ، وروحه المليئة وعياً وعلماً ، فإنّ واجب الآخرين واضح جدّاً ، وفي الحقيقة ، فإنّ العلم من وجهة نظر الإسلام لا يعرف حدّاً ، وزيادة الطلب في كثير من الامور مذمومة إلّافي طلب العلم فانّها ممدوحة ، والإفراط قبيح في كل شيء إلّافي طلب العلم.

(وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (١١٥) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (١١٦) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (١١٧) إِنَّ لَكَ أَنْ تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (١١٨) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (١١٩) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (١٢٠) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (١٢١) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى) (١٢٢)

آدم ومكر الشيطان : إنّ هذه الآيات وما بعدها تتحدث عن قصة آدم وحواء ، وعداء ومحاربة إبليس لهما ، وربما كانت إشارة إلى أنّ الصراع بين الحق والباطل لا ينحصر بالأمس واليوم ، وموسى عليه‌السلام وفرعون ، بل كان منذ بداية خلق آدم وسيستمر كذلك.

٢٣١

وبالرغم من أنّ قصة آدم وإبليس قد وردت مراراً في القرآن ، إلّاأنّها تمتزج في كل مورد بملاحظات ومسائل جديدة ، وهنا تتحدث أوّلاً عن عهد الله إلى آدم فتقول : (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى ءَادَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِىَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا).

والمراد من العهد المذكور ، أمر الله بعدم الإقتراب من الشجرة الممنوعة.

فلا شك أنّ آدم لم يرتكب معصية ، بل بدر منه ترك الأولى. أو بتعبير آخر ، فإنّ مرحلة وجود آدم في الجنّة لم تكن مرحلة تكليف ، بل كانت مرحلة تجريبية للإستعداد للحياة في هذه الدنيا وتقبّل المسؤولية.

ثم أشارت إلى جانب آخر من هذه القصة ، فقالت : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إبْلِيسَ أَبَى). ومن هنا يتّضح مقام آدم العظيم ، آدم الذي سجدت له الملائكة ، كما أنّ عداوة إبليس تجلّت له ضمناً من أوّل الأمر إذ لم يخضع لآدم ولم يعظّمه.

لا شك أنّ السجدة لا تعني السجدة الخاصة بعبادة الله ، ولا أحد أو موجود يستحق أن يكون معبوداً من دون الله سبحانه ، وبناءً على هذا فإنّ هذه السجدة كانت لله ، غاية ما هناك أنّها كانت من أجل خلق هذا الموجود العظيم. فإنّ الله سبحانه تعالى أنذر آدم بقوله : (فَقُلْنَا يَاءَادَمُ إِنَّ هذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى).

من الواضح أنّ الجنة هنا لا يراد منها جنّة الخلود في العالم الآخر ، والتي هي نقطة تكامل لا يمكن الخروج منها أو التراجع عن نعيمها ، بل كانت بستاناً فيه كل شيء مما في بساتين هذه الدنيا ، ولم يكن فيها نصب ولا غصّة بلطف الله.

ثم يبيّن الله لآدم راحة الجنة وهدوءها ، وألم ومشقة الخروج منها ، فيقول : (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى * وَأَنَّكَ لَاتَظْمَؤُا فِيهَا وَلَا تَضْحَى).

فقد اشير في هاتين الآيتين إلى أربع إحتياجات أصلية وابتدائية للإنسان ، أي : الحاجة إلى الغذاء ، والماء ، واللباس ـ للحماية من حرارة الشمس ـ والمسكن ، لكن ومع كل ذلك ، فإنّ الشيطان قد ربط رباط العداوة حول آدم ، ولهذا لم يهدأ له بال : (فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطنُ قَالَ يَاءَادَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّايَبْلَى).

«الوسوسة» : في الأصل تعني الصوت المنخفض جدّاً ، ثم قيلت لخطور الأفكار السافلة والخواطر السيئة سواء كانت تنبع من داخل الإنسان ، أو من خارجه.

إنّ الشيطان تتبّع رغبة آدم وأنّها في أيّ شيء ، فوجد أنّ رغبته في الحياة الخالدة

٢٣٢

والوصول إلى القدرة الأزلية ، ولذلك جاء إليه عن هذين العاملين وإستغلّهما في سبيل جرّه إلى مخالفة أمر الله.

وأخيراً وقع المحذور ، وأكل آدم وحواء من الشجرة الممنوعة ، فتساقط عنهما لباس الجنة ، فبدت أعضاؤهما : (فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا) (١). فلما رأى آدم وحواء ذلك إستحييا (وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ) (٢). نعم ، لقد كانت العاقبة المؤسفة (وَعَصَى ءَادَمُ رَبَّهُ فَغَوَى). «غوى» : اخذت من مادّة الغي ، أي العمل الصبياني الناشىء من إعتقاد خاطىء ، ولما كان آدم هنا قد أكل ـ جهلاً وإشتباهاً ـ من الشجرة المحرمة ، نتيجة للظن الذي حصل له من قول الشيطان ، فقد عُبّر عن عمله ب (غوى).

ولكن لما كان آدم نقيّاً ومؤمناً في ذاته ، وكان يسير في طريق رضى الله سبحانه ، وكان لهذا الخطأ الذي أحاط به نتيجة وسوسة الشيطان صفة استثنائية ، فإنّ الله سبحانه لم يبعده عن رحمته إلى الأبد ، بل (ثُمَّ اجْتَبهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى).

(قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (١٢٣) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (١٢٤) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (١٢٥) قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (١٢٦) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى) (١٢٧)

مع أنّ توبة آدم قد قبلت ، إلّاأنّ عمله أدّى إلى عدم استطاعته الرجوع إلى الحالة الاولى ، ولذا فإنّ الله سبحانه أصدر أمره لآدم وحواء كليهما وكذلك الشيطان أن يهبطوا جميعاً من الجنة : (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ). إلّاأنّي اعلمكم بأنّ طريق النجاة والسعادة مفتوح أمامكم (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنّى هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَاىَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى).

__________________

(١) «سوءات» : جمع سوءة ، وهي في الأصل كل شيء غير سار ويسيء الإنسان ، ولذلك تطلق أحياناً على جسد الميّت ، وأحياناً على العورة ، والمراد هنا هو المعنى الأخير.

(٢) «يخصفان» : من مادّة خصف ، وهي هنا تعني خياطة اللباس.

٢٣٣

ومن أجل أن يتّضح أيضاً مصير الذين ينسون أمر الحق ، فقد أضاف تعالى (وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِى فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ أَعْمَى) (١).

هنا (قَالَ رَبّ لِمَ حَشَرْتَنِى أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا). فيسمع الجواب مباشرةً : (قَالَ كَذلِكَ أَتَتْكَءَايتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى). وتعمى عينك عن رؤية نعم الله ومقام قربه.

أمّا الآية الأخيرة من الآيات محل البحث فهي بمثابة الاستنتاج والخلاصة إذ تقول : (وَكَذلِكَ نَجْزِى مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِن بَايتِ رَبّهِ وَلَعَذَابِ الْأَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى).

(أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (١٢٨) وَلَوْ لَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (١٢٩) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) (١٣٠)

لما كانت عدّة بحوث في الآيات السابقة قد وردت عن المجرمين ، فقد أشارت الآيات الاولى من الآيات محلّ البحث إلى واحد من أفضل طرق التوعية وأكثرها تأثيراً ، وهو مطالعة تأريخ الماضين ، فتقول : (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كُمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مّنَ الْقُرُونِ). اولئك الذين عمّهم العذاب الإلهي الأليم (يَمْشُونَ فِى مَسكِنِهِمْ).

إنّ هؤلاء يمرّون في مسيرهم وذهابهم وإيّابهم على منازل قوم عاد ـ في أسفارهم إلى اليمن ـ وعلى مساكن ثمود المتهدمة الخربة ـ في سفرهم إلى الشام ـ وعلى منازل قوم لوط التي جُعل عاليها سافلها ـ في سفرهم إلى فلسطين ـ ويرون آثارهم ، إلّاأنّهم لا يعتبرون.

نعم ... (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِأُولِى النُّهَى) (٢).

إنّ موضوع أخذ العبرة من تأريخ الماضين من الامور التي يؤكّد عليها القرآن والأحاديث الإسلامية كثيراً.

في كتاب معاني الأخبار عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «... وأغفل الناس من لم يتّعظ بتغيّر الدنيا من حال إلى حال». ولا يفكّر في تقلّب الليل والنهار وتعاقبهما.

الآية التالية جواب عن سؤال يثار هنا ، وهو : لماذا لا يجري الله سبحانه على هذا القسم

__________________

(١) «الضنك» : المشقّة والضيق ، وهذه الكلمة تأتي دائماً بصيغة المفرد ، وليس لها تثنية ولا جمع ولا تأنيث.

(٢) «النهى» : من مادّة نهي ، وهي هنا بمعنى العقل ، لأنّ العقل ينهي الإنسان عن القبائح والسيّئات.

٢٣٤

من المجرمين ما أجراه على المجرمين السابقين ، فيقول القرآن : (وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُّسَمًّى).

إنّ هذه السنّة الإلهية التي ذكرت في مواضع عديدة من القرآن باسم (كلمة) إشارة إلى قانون الخلقة المبتني على حرية البشر ، لأنّ كل مجرم إذا عوقب مباشرة وبدون أن يمهل ، فإنّ الإيمان والعمل الصالح سيتّصف بالجبر تقريباً ، وسيكون على الأغلب خوفاً من العقاب الآني ، وبناءً على هذا فسوف لا يكون وسيلة للتكامل الذي هو الهدف الأصلي.

إضافةً إلى أنّه إذا تقرّر أن يعاقب جميع المجرمين فوراً ، فسوف لا يبقى أحد حيّاً على وجه الأرض : (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَابَّةٍ) (١). وبناءً على هذا فيجب أن تكون هناك مهلة وفترة تعطى لكل المرتبطين بطريق الحق حتى يرجع المجرمون إلى أنفسهم ويسلكوا سبيل الصلاح ، ولتكون كذلك فرصة لتهذيب النفس.

إنّ التعبير ب (أجل مسمّى) بالشكل الذي يفهم من مجموع آيات القرآن ، إشارة إلى الزمان الحتمي لنهاية حياة الإنسان.

ثم يوجّه الخطاب إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فيقول : (فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ). ومن أجل رفع معنويات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقوية قلبه ، وتسلية خاطره ، فإنّه يُؤمر بمناجاة الله والصلاة والتسبيح فيقول : (وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْءَانَاىِ الَّيْلِ فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى) ولا يتأثّر قلبك جرّاء كلامهم المؤلم.

لا شك أنّ هذا الحمد والتسبيح محاربة للشرك وعبادة الأصنام ، وفي الوقت نفسه صبر وتحمّل أمام أقوال المشركين السيئة ، وكلامهم الخشن.

(وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (١٣١) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (١٣٢) وَقَالُوا لَوْ لَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (١٣٣) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْ لَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (١٣٤) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى) (١٣٥)

__________________

(١) سورة النحل / ٦١.

٢٣٥

لقد أصدرت في هذه الآيات أوامر وتوجيهات للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، والمراد منها والمخاطب فيها عموم المسلمين ، وهي تتمة للبحث الذي قرأناه آنفاً حول الصبر والتحمل. فتقول أوّلاً : (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ). فإنّ هذه النعم المتزلزلة الزائلة ما هي إلّا (زَهْرَةَ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا).

في الوقت الذي أمددناهم بها (لِنَفْتِنَهُم فِيهِ وَرِزْقُ رَبّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى). فإنّ الله سبحانه وهب لك مواهب ونعماً متنوّعة ، فأعطاك الإيمان والإسلام ، والقرآن والآيات الإلهية والرزق الحلال الطاهر ، وأخيراً نعم الآخرة الخالدة ، هذه الهبات والعطايا المستمرة الدائمة.

وتقول الآية التالية تلطيفاً لنفس النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وتقوية لروحه : (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَوةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا) لأنّ هذه الصلاة بالنسبة لك ولأهلك أساس العفّة والطهارة وصفاء القلب وسموّ الروح ودوام ذكر الله.

إنّ هذه السورة لمّا كانت قد نزلت في مكة ، فإنّ مصداق الأهل في ذلك الزمان كان (خديجة وعلياً عليهما‌السلام) إلّاأنّ مصطلح أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أصبح واسع الدلالة بمرور الزمن.

ثم تضيف بأنّه إذا كان قد صدر الأمر لك ولأهلك بالصلاة فإنّ نفعها وبركاتها إنّما يعود كل ذلك عليكم ، فإنّا (لَانَسَلُكَ رِزْقًا نَّحْنُ نَرْزُقُكَ) فإنّ هذه الصلاة لا تزيد شيئاً من عظمة الله ، بل هي رأس مال عظيم لتكامل البشر وإرتقائهم ودرس تعليمي وتربوي عال.

وتضيف الآية في النهاية : (وَالْعقِبَةُ لِلتَّقْوَى). فإنّ ما يبقى ويفيد في نهاية الأمر هو التقوى ، والمتقون هم الفائزون في النهاية ، أمّا الذين لا تقوى لهم فهم محكومون بالهزيمة والإنكسار.

ثم أشارت الآية التالية إلى واحدة من حجج الكفار الواهية فقالت : (وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بَايَةٍ مّن رَّبّهِ) واجابتهم مباشرة : (أَوَلَمْ تَأْتِهِم بَيّنَةُ مَا فِى الصُّحُفِ الْأُولَى). حيث كانوا يشكّكون ويطلبون الأعذار بصورة متلاحقة من أجل الإتيان بالمعجزات ، وبعد رؤية ومشاهدة تلك المعاجز إستمرّوا في كفرهم وإنكارهم ، فحاق بهم العذاب الإلهي ، أفلا يعلمون بأنّهم إذا ساروا في نفس الطريق فسينتظرهم المصير نفسه.

إنّ هؤلاء المتذّرعين ليسوا اناساً طلّاب حق ، بل إنّهم دائماً في صدد إيجاد أعذار وتبريرات جديدة ، فحتّى (وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنهُم بِعَذَابٍ مّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَءَايتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى) إلّاأنّهم الآن وقد جاءهم هذا النبي الكريم بهذا الكتاب العظيم ، يقولون كل يوم كلاماً ، ويختلقون الأعذار للفرار من الحق.

٢٣٦

وقالت الآية التالية : أنذر هؤلاء و (قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبّصٌ) فنحن بإنتظار الوعود الإلهية في حقّكم ، وأنتم بإنتظار أن تحيط بنا المشاكل والمصائب (فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحبُ الصّرَاطِ السَّوِىّ وَمَنِ اهْتَدَى). وبهذه الجملة الحاسمة العميقة المعنى تنتهي المحاورة مع هؤلاء المنكرين العنودين المتذّرعين.

«نهاية تفسير سورة طه»

* * *

٢٣٧
٢٣٨

٢١

سورة الأنبياء

محتوى السورة :

١ ـ إنّ هذه السورة كما تدلّ عليها تسميتها هي سورة الأنبياء ، لأنّ اسم ستّة عشر نبيّاً قد جاء في هذه السورة ، بعضهم بذكر نماذج وصور من حالاتهم ، والبعض كإشارة ، وهم :

موسى ـ هارون ـ إبراهيم ـ لوط ـ إسحاق ـ يعقوب ـ نوح ـ داود ـ سليمان ـ أيّوب ـ إسماعيل ـ إدريس ـ ذو الكفل ـ ذو النون (يونس) ـ زكريا ـ يحيى عليهم‌السلام.

٢ ـ إضافة إلى ما مرّ ، فإنّ خاصية السور المكية التي تتحدث عن العقائد الدينية ، وبالأخصّ المبدأ والمعاد ، منعكسة تماماً في هذه السورة.

٣ ـ وتحدّث جانب آخر من هذه السورة عن إنتصار الحق على الباطل ، والتوحيد على الشرك ، وجنود الحق على جنود إبليس.

والذي يلفت النظر هنا أنّ هذه السورة تبتدىء بتهديد الناس الغافلين الجاهلين بالحساب الشديد ، وتنتهي بتهديدات اخرى في هذا المجال أيضاً.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «من قرأ سورة الأنبياء حاسبه الله حساباً يسيراً ، وصافحه وسلّم عليه كل نبي ذكر اسمه في القرآن».

وقد قلنا مراراً : إنّ القرآن كتاب عقيدة وعمل ، والقراءة مقدمة للتفكير والتدبر ، وهو مقدمة للإيمان والعمل.

٢٣٩

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (١) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٢) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٣) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٤) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ) (٥)

تبدأ هذه السورة بتحذير قوي شديد موجّه لعموم الناس ، تحذير يهزّ الوجدان ويوقظ الغافلين ، فتقول : (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِى غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ).

إنّ عمل هؤلاء يدلّ على أنّ هذه الغفلة عمّت كل وجودهم ، وإلّا فكيف يمكن للإنسان أن يؤمن بإقتراب الحساب ... الحساب الدقيق المتناهي في الدقة ، ومع كل ذلك لا يكترث بالامور ويرتكب أنواع الذنوب.

كلمة (إقترب) لها دلالة على التأكيد أكثر من (قرب) وهي إشارة إلى أنّ هذا الحساب قد أصبح قريباً جدّاً.

ثم إنّ الفرق بين «الغفلة» و «الإعراض» يمكن أن يكون من جهة أنّ هؤلاء غافلون عن إقتراب الحساب ، وهذه الغفلة هي تسبّب الإعراض عن آيات الله سبحانه.

إنّ المراد من إقتراب الحساب والقيامة هو أنّ ما بقي من الدنيا قليل في مقابل ما مضى منها ، ولهذا فإنّ القيامة ستكون قريبة ـ قرباً نسبيّاً ـ خاصة وأنّه قد روي ـ في تفسير مجمع البيان ـ عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : (بعثت أنا والساعة كهاتين) وأشار إلى السبابة والوسطى اللتين تقع إحداهما إلى جنب الاخرى.

ثم تبيّن الآية التالية علامة من علامات إعراض هؤلاء بهذه الصورة : (مَا يَأْتِيهِم مّن ذِكْرٍ مّن رَّبّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ).

كلمة «ذكر» في الآية إشارة إلى كل كلام منبّه يوقظ الغافلين ، والتعبير بـ (محدث) إشارة إلى أنّ الكتب السماوية كانت تنزل الواحد تلو الآخر ، وتحتوي كل سورة من سور القرآن ، وكل آية من آياته محتوى جديداً ينفذ إلى قلوب الغافلين بطرق مختلفة ، لكن أيّ فائدة مع مَن يتّخذ كل ذلك هزواً؟

٢٤٠