مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

١٧

سورة الإسراء

أسماء السورة : بالرغم من أنّ الإسم المشهور لهذه السورة هو «بني إسرائيل» إلّا أنّ لها أسماء اخرى مثل «الإسراء» و «سبحان».

ومن الواضح أنّ ثمة علاقة بين أي اسم من أسماء السورة وبين محتواها ومضمونها ، فهي «بني إسرائيل» لأنّ هناك قسماً مهماً في بداية السورة ونهايتها يرتبط بالحديث عن بني إسرائيل.

وإذا قلنا أنّها سورة «الإسراء» فإنّ ذلك يعود إلى الآية الاولى فيها التي تتحدث عن إسراء (ومعراج) النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله.

وأمّا تسميتها ب «سبحان» فإنّ ذلك يعود إلى الكلمة الاولى في السورة المباركة.

محتوى السورة : هذه السورة مكية وفق القول المشهور بين المفسرين ، لذا فإنّ محتوى السورة يوافق خصوصيات السور المكية.

وبالامكان فرز المحاور المهمة الآتية التي يدور حولها مضمون السورة :

١ ـ الإشارة إلى أدلة النبوة الخاتمة وبراهينها ، وفي مقدمتها معجزة القرآن وقضية المعراج.

٢ ـ ثمة بحوث في السورة ترتبط بقضية المعاد.

٣ ـ تتحدّث السورة في بدايتها ونهايتها عن قسم من تاريخ بني إسرائيل المليء بالأحداث.

٦١

٤ ـ تتعرض السورة إلى حرية الاختيار لدى الإنسان وأنّ الإنسان غير مجبر في أعماله ، وبالتالي فإنّ على الإنسان أن يتحمّل مسؤولية تلك الحريّة من خلال تحمّله لمسؤولية أعماله سواء كانت حسنة أو سيئة.

٥ ـ تبحث السورة قضية الحساب والكتاب في هذه الدنيا ، لكي يعي الإنسان قضية الحساب والكتاب على أعماله وأقواله في اليوم الآخر.

٦ ـ تشير إلى الحقوق في المستويات المختلفة ، خصوصاً فيما يتعلق بحقوق الأقرباء ، وبالأخص منهم الأم والأب.

٧ ـ تتعرض السورة إلى حرمة «الإسراف» ، و «التبذير» ، و «البخل» ، و «قتل الأبناء» ، و «الزنا» ، و «أكل مال اليتيم» ، و «البخس في المكيال» ، و «التكبر» ، و «إراقة الدماء».

٨ ـ في السورة بحوث حول التوحيد ومعرفة الله تعالى

٩ ـ تواجه السورة مواقف العناد والمكابرة إزاء الحق ، وأنّ الذنوب تتحوّل إلى حجب تمنع الإنسان من رؤية الحق.

١٠ ـ تركّز السورة على أفضلية الإنسان على سائر الموجودات.

١١ ـ تؤكّد السورة على تأثير القرآن الكريم في معالجة الأشكال المختلفة من الأمراض الأخلاقية والاجتماعية.

١٢ ـ تبحث السورة في المعجزة القرآنية وعدم تمكن الخصوم وعجزهم عن مواجهة هذه المعجزة.

١٣ ـ تحذّر السورة المؤمنين من وساوس الشيطان وإغواءاته ، وتنبههم إلى المسالك التي ينفذ من خلالها إلى شخصية المؤمن.

١٤ ـ تتعرض السورة إلى مجموعة مختلفة من القضايا والمفاهيم والتعاليم الأخلاقية.

١٥ ـ أخيراً تتعرض السورة إلى مقاطع من قصص الأنبياء عليهم‌السلام ليتسنى للإنسان استكناه الدروس والعبر من هذه القصص.

في كل الأحوال تعكس سورة الإسراء في مضمونها ومحتواها العقائدي والأخلاقى والإجتماعي لوحة متكاملة ومتناسقة لسمو وتكامل البشر في المجالات المختلفة.

فضيلة تلاوة السورة : في تفسير مجمع البيان عن الإمام الصادق عليه‌السلام أنّه قال : «من قرأ سورة بني إسرائيل في كل ليلة جمعة لم يمت حتى يدرك القائم ويكون من أصحابه».

٦٢

وينبغي أن يلاحظ أنّ التلاوة ينبغي أن تقترن بالتفكر في معانيها والتأمل في مفاهيمها ، وأن يعقب ذلك جميعاً العمل بها ، وتحويلها إلى قواعد يسترشدها الإنسان المسلم في سلوكه.

بِسْمِ اللّهِ الرَّحْمـَنِ الرَّحِيمِ

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (١)

معراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله : الآية الاولى في سورة الإسراء تتحدّث عن إسراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله أي سفره ليلاً من المسجد الحرام في مكّة المكرمة إلى المسجد الأقصى (في القدس الشريف). وقد كان هذا السفر «الإسراء» مقدمة لمعراجه صلى‌الله‌عليه‌وآله إلى السماء. وقد لوحظ في هذا السفر أنّه تمّ في زمن قياسي حيث إنّه لم يستغرق سوى ليلة واحدة بالنسبة إلى وسائل نقل ذلك الزمن ولهذا كان أمراً اعجازياً وخارقاً للعادة.

السورة المباركة تبدأ بالقول : (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَا الَّذِى بَارَكْنَا حَوْلَهُ).

وقد كان القصد من هذا السفر الليلي الإعجازي هو (لِنُرِيَهُ مِنْءَايَاتِنَا).

وبالرغم من أنّ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله كان عارفاً بعظمة الله سبحانه ، وكان عارفاً أيضاً بعظمة خلقه ، لقد كان الهدف من هذا السفر الإعجازي أن تمتلىء روح رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أكثر بدلائل العظمة الربانية ، وآيات الله في السماوات ، ولتجد روحه السامية في هذه الآيات زخماً إضافياً يوظّفه صلى‌الله‌عليه‌وآله في هداية الناس إلى ربّ السماوات والأرض.

ثم خُتمت الآية بالقول : (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ). وهذه إشارة إلى أنّ الله تبارك وتعالى لم يختر رسوله ولم يصطفه لشرف الإسراء والمعراج ، إلّابعد أن اختبر استعداده لهذا الشرف ولياقته لهذا المقام ، فالله تبارك وتعالى سمع قول رسوله ورأى عمله وسلوكه فاصطفاه للمقام السامي الذي اختاره له في الإسراء والمعراج (١).

__________________

(١) من المشهور بين علماء الإسلام أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله عندما كان في مكة أسرى به الله تبارك وتعالى بقدرته من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ومن هناك صعد به إلى السماء «المعراج» ليرى آثار العظمة الربانية وآيات الله الكبرى في فضاء السماوات ، ثم عاد صلى‌الله‌عليه‌وآله في نفس الليلة إلى مكة المكرمة.

والمعروف أيضاً أنّ سفر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في الإسراء والمعراج قد تمّ بجسم رسول الله وروحه معاً.

٦٣

إنّ تعبير «أسرى» في الآية يشير إلى وقوع السفر ليلاً.

وبالرغم من أنّ كلمة «ليلاً» جاءت في الآية تأكيداً لكلمة «أسرى» إلّاأنّها تريد أن تبيّن أنّ سفر الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله قد تمّ في ليلة واحدة فقط على الرغم من أنّ المسافة بين المسجد الحرام وبيت المقدس تقدّر بأكثر من مائة فرسخ ، هذا السفر يقع في ليلة واحدة فقط.

(وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (٢) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (٣) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (٤) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَفْعُولاً (٥) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (٦) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً (٧) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً) (٨)

بعد أن أشارت الآية الاولى في السورة إلى معجزة إسراء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كشفت آيات السورة الاخرى عن موقف المشركين والمعارضين لمثل هذه الأحداث ، وأبانت استنكارهم لها ، وعنادهم إزاء الحق ، في هذا الإتجاه انعطفت الآية الاولى ـ من الآيات مورد البحث ـ على قوم موسى ، لتقول لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إنّ تأريخ النبوّات واحد ، وإنّ موقف المعاندين واحد أيضاً ، وأنّه ليس من الجديد أن يقف الشرك القرشي موقفه هذا منك ، وبين يديك الآن تأريخ بني إسرائيل في موقفهم من موسى عليه‌السلام. تقول الآية أوّلاً : (وَءَاتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ).

وصفة هذا الكتاب أنّه : (وَجَعَلْنهُ هُدًى لّبَنِى إِسْرَاءِيلَ). والكتاب الذي تعنيه الآية هنا هو «التوراة» الذي نزل على موسى عليه‌السلام هدى لبني إسرائيل.

ثم تشير الآية إلى الهدف من بعثة الأنبياء بما فيهم موسى عليه‌السلام فتقول : (أَلَّا تَتَّخِذُوا مِن دُونِى وَكِيلاً).

٦٤

إنّ التوحيد في العمل هو واحدٌ من معالم أصل التوحيد ، وهو علامة على التوحيد العقائدي. الآية تقول : لا تتكىء على أحد سوى الله.

ومن أجل أن تحرّك الآية التالية عواطف بني إسرائيل وتحفّزهم لشكر النعم الإلهية عليهم ، خصوصاً نعمة نزول الكتاب السماوي ، فإنّها تضع لهم نموذجاً للعبد الشكور فتقول : (ذُرّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ). ولا تنسوا : (إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا).

والآية تخاطب بني إسرائيل بأنّهم أولاد من كان مع نوح ، وعليهم أن يقتدوا ببرنامج أسلافهم وآبائهم في الشكر لأنعم الله.

بعد هذه الإشارة تدخل الآيات إلى تاريخ بني إسرائيل المليء بالأحداث ، فتقول : (وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِى إِسْرَإِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِى الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا).

والمقصود من «الأرض» في الآية ـ بقرينة الآيات الاخرى ـ هي أرض فلسطين المقدسة التي يقع المسجد الأقصى المبارك في ربوعها.

الآية التي تليها تفصّل ما أجملته من إشارة إلى الإفسادين الكبيرين لبني إسرائيل والحوادث التي تلي ذلك على أنّها عقوبة إلهية فتقول : (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولهُمَا) وإرتكبتم ألوان الفساد والظلم والعدوان (بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِى بَأْسٍ شَدِيدٍ).

وهؤلاء القوم المحاربون الشجعان يدخلون دياركم للبحث عنكم : (فَجَاسُوا خِللَ الدّيَارِ). وهذا الأمر لا مناص منه : (وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً).

ثم تشير بعد ذلك إلى أنّ الألطاف الإلهية ستعود لتشملكم ، وسوف تعينكم في النصر على أعدائكم ، فتقول : (ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا).

وهذه المنّة واللطف الإلهي بكم على أمل أن تعودوا إلى أنفسكم وتصلحوا أعمالكم وتتركوا القبائح والذنوب لأنّه : (إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).

إنّ الآية تعبّر عن سنّة ثابتة ، إذ إنّ محصلة ما يعمله الإنسان من سوء أو خير تعود لنفسه.

تقول الآية في وصف المشهد الثاني أنّه حين يحين الوعد الإلهي سوف تغطّيكم جحافل من المحاربين ويحيق بكم البلاء إلى درجة أنّ آثار الحزن والغم تظهر على وجوهكم : (فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْأَخِرَةِ لِيَسُوا وُجُوهَكُمْ). بل ويأخذون منكم حتى بيت المقدس : (وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

٦٥

وسوف لا يكتفون بذلك بل سيحتلّون جميع بلادكم ويدمّرونها عن آخرها : (وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا). وفي هذه الحالة فإنّ أبواب التوبة الإلهية مفتوحة : (عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ).

(وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا). أي : إن عدتم لنا بالتوبة فسوف نعود عليكم بالرحمة ، وإن عدتم للإفساد عدنا عليكم بالعقوبة. وإذا كان هذا جزاؤكم في الدنيا ففي الآخرة مصيركم جهنم : (وجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا) (١).

الإفسادان التأريخيان لبني إسرائيل : تحدثت الآيات أعلاه عن فسادين اجتماعيين كبيرين لبني إسرائيل ، يقود كل منهما إلى الطغيان والعلو ، وقد لاحظنا أنّ الله سلّط على بني إسرائيل عقب كل فساد ، رجالاً أشدّاءً شُجعاناً يذيقونهم جزاء فسادهم وعلوّهم وطغيانهم ، هذا مع استثناء الجزاء الأخروي الذي أعدّه الله لهم.

يستفاد من تاريخ بني إسرائيل بأنّ أوّل من هجم على بيت المقدس وخرّبه هو ملك بابل «نبوخذ نصر» حيث بقي الخراب ضارباً فيه لسبعين عاماً ، إلى أنّ نهض اليهود بعد ذلك لإعماره وبنائه ، أمّا الهجوم الثاني الذي تعرّض له ، فقد كان من قبل قيصر الروم «أسييانوس» الذي أمر وزيره «طرطوز» بتخريب بيت المقدس وقتل بني إسرائيل. وقد تمّ ذلك في حدود مائة سنة قبل الميلاد.

وبذلك يحتمل أن تكون الحادثتان اللتان أشارت إليهما الآيات أعلاه هما نفس حادثتي «نبوخذ نصر» و «أسييانوس».

(إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (٩) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (١٠) وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولاً (١١) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً) (١٢)

__________________

(١) «حصير» : مشتقة من «حصر» بمعنى الحبس ، وكل شيء ليس له منفذ للخروج يطلق عليه اسم «حصير» ويقال للحصير العادية حصيراً لأنّ خيوطها وموادها نسجت إلى بعضها البعض.

٦٦

أقصر الطرق للهداية والسعادة : الآيات السابقة تحدّثت عن بني إسرائيل وكتابهم السماوي «التوراة» وكيف تخلّفوا عن برنامج الهداية الإلهية ليلقوا بعض جزائهم في هذه الحياة الدنيا ، والباقي مدّخر ليوم القيامة. وفي هذا المقطع من الآيات ، إنتقل الحديث إلى القرآن الكريم ، الكتاب السماوي للمسلمين ، وآخر حلقة في الكتب السماوية ، فقال تعالى أوّلاً : (إِنَّ هذَا الْقُرْءَانَ يَهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ).

إنّ معنى الآية أعلاه ، هو أنّ القرآن الكريم يمثّل أقصر وأفضل طرق الإستقامة والثبات والهداية.

وبهذا فإنّ الطريق القويم من وجهة نظر العقائد والأفكار.

العقيدة الأقوم من هذه الزاوية ، هي التي توافق بين الإعتقاد والعمل ، والظاهر والباطن ، الفكر والمنهج ، وتدفع الإنسان والجميع نحو الله.

أمّا الأقوم من وجهة نظر القوانين الاجتماعية والاقتصادية والعسكرية والسياسية ، التي تسود المجتمع.

وأخيراً فإنّ المنهج الأقوم بالنسبة للنظم والسلطات الحاكمة ، هو كل ما يدفعها إلى إقامة العدل ، والدعوة إلى إشاعة الإنصاف ، ومواجهة الظلم والظالمين.

بعد ذلك تشير الآيات إلى موقف الناس في مقابل الكتاب الأقوم ، هذا الموقف الذي ينقسم فيه الناس إلى فئتين ، فالاولى يكون حالها كما يقول تعالى : (وَيُبَشّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا).

أمّا الفئة الثانية فيكون مصيرها تبعاً لموقفها كما يقول تعالى : (وَأَنَّ الَّذِينَ لَايُؤْمِنُونَ بِالْأَخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا).

وإذا كان استخدام «بشارة» واضح هنا بالنسبة للمؤمنين ، فهو بالنسبة لغيرهم من غير المؤمنين يقع على معنى السخرية والإستهزاء.

الآية التي بعدها تنساق في نفس اتجاه البحث وتشير إلى احدى العلل المهمة لعدم الإيمان وتقول بأنّ عجلة الإنسان وتسرّعه وعدم اطلاعه على الامور وإحاطته بها تسوقه إلى أن يساوي في جهده بين دعائه بالخير وطلبه ، وبين دعائه بالشر وطلبه له.

تقول الآية : (وَيَدْعُ الْإِنسَانُ بِالشَّرّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ). لماذا؟ : (وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولاً).

إنّ استعجال الإنسان واندفاعه في سبيل تحصيل المنافع لنفسه ، تقوده إلى النظرة السطحية للُامور بحيث إنّه لا يحيط الأشياء بالدراسة الشاملة مما يفوّت عليه تشخيص

٦٧

منفعته الواقعية ، وهكذا بنتيجة تعجّله واندفاعه المضطرب يَضيع عليه وجه الحقيقة ، ويتغير مضمونها بنظره ، فيقود نفسه باتجاه الشر والأعمال السيئة الضارّة.

وهكذا ينتهي الإنسان ـ نتيجة سوء تشخيصه واضطراب مقياسه في رؤية الخير والحقيقة ـ إلى أن يطلب من الله الشر ، تماماً كما يطلب منه الخير ، وأن يسعى وراء الأعمال السيئة ، كسعيه وراء الأعمال الحسنة ، وهذا الإضطراب وفقدان الموازين هو أسوأ بلاء يصاب به الإنسان ويحول بينه وبين السعادة الحقيقية.

في محاسن البرقي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله إنّما أهلك الناس العجلة ، ولو أنّ الناس تثبّتوا لم يهلك أحد.

طبعاً هناك باب في الروايات الإسلامية بعنوان «تعجيل فعل الخير» ففي الكافي عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «إنّ الله يحبّ من الخير ما يعجّل».

إنّ العجلة المذمومة هي التي تكون أثناء البحث والدراسة لمعرفة جوانب العمل المختلفة ، أمّا السرعة والعجلة الممدوحتان فهما اللتان يكونان بعد اتخاذ قرار الشروع بالعمل ، والتصميم على التنفيذ ، لذلك نقرأ في الروايات : «سارعوا في عمل الخير». أي : بعد أن يثبت أنّ هذا العمل خير فلا مجال للتأخير والتسويف.

الآية التي بعدها تتحدث عن تعاقب الليل والنهار ومنافع هذا التعاقب ، لتجعل من هذا الشاهد مثالاً على معرفة الله والتمعّن بآياته ، والمثال أيضاً يفيد معنى التأمل والهدوء ويدعو إلى محاذرة التعجّل والتسرّع. الآية تقول أوّلاً : (وَجَعَلْنَا الَّيْلَ وَالنَّهَارَءَايَتَيْنِ). ثم : (فَمَحَوْنَاءَايَةَ الَّيْلِ وَجَعَلْنَاءَايَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً). ولنا في ذلك هدفان : الأوّل : (لّتَبْتَغُوا فَضْلاً مِّن رَّبّكُمْ) حيث تنطلقون نهاراً في الكسب والعمل والمعاش مستثمرين العطايا الإلهية ، وتنعمون ليلاً بالراحة والهدوء والإستقرار. والهدف الثاني فهو : (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السّنِينَ وَالْحِسَابَ) لكي لا تبقى شبهة لأحد (وَكُلَّ شَىْءٍ فَصَّلْنهُ تَفْصِيلاً).

(وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً (١٣) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (١٤) مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) (١٥)

٦٨

لقد تحدّثت الآيات القرآنية السابقة عن القضايا التي تتصل بالمعاد والحساب ، لذلك فإنّ الآيات التي نبحثها الآن تتحدّث عن قضية «حساب الأعمال» التي يتعرض لها البشر ، وكيفية ومراحل إنجاز ذلك في يوم المعاد والقيامة حيث يقول تعالى : (وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنهُ طِرَهُ فِى عُنُقِهِ). «الطائر» : يعني الطير ، ولكن الكلمة هنا تشير إلى معنى آخر كان سائداً ومعروفاً بين العرب ؛ إذ كانوا يتفألون بواسطة الطير ؛ وكانوا يعتمدون في ذلك على طبيعة الحركة التي يقوم بها الطير. فمثلاً إذا تحرّك الطير من الجهة اليمنى ، فهم يعتبرون ذلك فألاً حسناً وجميلاً ، أمّا إذا تحرّك الطير من اليُسرى فإنّ ذلك في عُرفهم وعاداتهم علامة الفأل السيّء ، أو ما يعرف بلغتهم بالتطيّر.

إنّ القرآن يبيّن أنّ التفؤل الحسن والسيّء أو الحظ النحس والجميل ، إنّما هي أعمالكم لا غير ، والتي ترجع عهدتها إليكم وتتحملون على عاتقكم مسؤولياتها ، وهذه الأعمال لا تنفصل عنكم في الدنيا ولا في الآخرة.

يقول القرآن بعد ذلك : (وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيمَةِ كِتَابًا يَلْقهُ مَنشُورًا).

والمقصود من «الكتاب» في الآية الكريمة هي صحيفة الأعمال لا غير ، وهي نفس الصحيفة الموجودة في هذه الدنيا والتي تثبّت فيها الأعمال ، ولكنها هنا (في الدنيا) مخفية عنّا ومكتومة ، بينما في الآخرة مكشوفة ومعروفة.

في هذه اللحظة يقال للإنسان : (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا).

يعني أنّ المسألة ـ مسألة المصير ـ بدرجة من الوضوح والعلنية والإنكشاف ، بحيث لا مجال لانكارها.

وفي تفسير العياشي عن الإمام الصادق عليه‌السلام في قوله (اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ) قال : «يذكر العبد جميع ما عمل ، وما كتب عليه ، حتى كأنّه فعله تلك الساعة ، فلذلك قالوا يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلّاأحصاها».

الآية التي بعدها توضّح أربعة أحكام أساسية فيما يخص مسألة الحساب والجزاء على الأعمال ، وهذه الأحكام هي :

١ ـ أوّلاً تُقرر أنّ (مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِى لِنَفْسِهِ) حيث تعود النتيجة عليه.

٢ ـ ثم تُقرر أيضاً أنّ (وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا).

وقرأنا نظير هذين الحكمين في الآية السابعة من هذه السورة في قوله تعالى : (إِنْ

٦٩

أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا).

٣ ـ ثم تنتقل الآية لتقول : (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). «الوزر» : بمعنى الحمل الثقيل ؛ وأيضاً تأتي بمعنى المسؤولية ، لأنّ المسؤولية ـ أيضاً ـ حمل معنوي ثقيل على عاتق الإنسان.

طبعاً هذا القانون الكلي الذي تُقرره آية (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) لا يتنافى مع ما جاء في الآية (٢٥) من سورة النحل التي تقول : (لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيمَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ) لأنّ هؤلاء بسبب تضليلهم للآخرين يكونون فاعلين للذنب أيضاً ، أو يُعتبرون بحكم الفاعلين له ، ولذلك فهم في واقع الأمر يتحملون أوزارهم وذنوبهم.

٤ ـ الحكم الرابع يتمثل في قوله تعالى : (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) يقوم ببيان التكليف وإلقاء الحجة.

(وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (١٦) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (١٧)

مراحل العقاب الإلهي : إنّ موضوع البحث في هذه الآيات يُكمّل ما كنّا بصدد بحثه في نهاية الآيات السابقة ، ولكن بصورة اخرى ، إذ تقول الآية الكريمة : (وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنهَا تَدْمِيرًا) (١).

إنّ الآيات التي كُنّا قبل قليل بصدد بحثها ، كانت تتحدّث عن أنّ العقاب الإلهي لا يمكن أن ينزل بساحة شخص أو مجموعة أو امّة ، من دون أن تكون هناك حجة وبيان للتكليف من قبل الرسل والأنبياء عليهم‌السلام والآية التي نحن بصددها الآن ، تتحدث عن نفس هذا الأصل ولكن بطريقة اخرى.

إنّ الله لا يُعاقب أو يؤاخذ أحداً بالعذاب ، قبل أن يتمّ الحجة عليه ، وقبل أن يتّضح ويستبين تكليفه ، ففي البداية يضع الله تعليماته وأوامره أمام الناس ، فإذا التزموا بها وأطاعوا فستنالهم سعادة الدنيا والآخرة. أمّا إذا عصوا وخالفوا ولم يلتزموا الأوامر والنواهي الربانية ، فسيحيق بهم العذاب ، ويؤدّي إلى هلاكهم.

__________________

(١) بالرغم من أنّ كلمة «قول» لها معنى واسع ولكنّها هنا تعني إعطاء الأمر بالعذاب.

٧٠

إضافة إلى ذلك ، فإنّ التعبير في الآية الكريمة ينطوي على إشارة مهمة ، هي أنّ أغلب المفاسد الاجتماعية تنبع من المترفين ، أصحاب الأموال ، البعيدين عن الله تعالى ، والذين يعيشون حياةً مترفة بعيدة عن الشرع مملوءة بالأهواء والمفاسد.

الآية التي بعدها تشير إلى نماذج بهذا الخصوص ، على أنّها أصل عام ، وقاعدة سارية ، إذ تقول : (وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ) وفقاً لهذه القاعدة والسنّة ، ثم تضيف بعد ذلك : (وَكَفَى بِرَبّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا). أي : إنّ ظلم وذنوب فرد أو مجموعة لا يمكنها أن تكون خافية على العين البصيرة التي لا تنام لرب العالمين.

أمّا لماذا أكّدت الآية على القرون من بعد نوح عليه‌السلام؟ فقد يكون ذلك بسبب أنّ الحياة قبل نوح عليه‌السلام كانت حياة بسيطة ، والاختلافات التي تقسّم المجتمعات إلى مُترف ومستضعف ، كانت بسيطة وضئيلة ، لذلك فالعذاب الإلهي لم يشملهم بكثرة.

(مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُوماً مَدْحُوراً (١٨) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (١٩) كُلًّا نُمِدُّ هؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (٢٠) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً) (٢١)

طلّاب الدنيا والآخرة : لقد تحدّثت الآيات السابقة عن الذين عصوا أوامر الله تعالى ، وكيفية هلاكهم ، لذا فإنّ هذه الآيات ـ التي نحن بصددها الآن ـ تشير إلى سبب التمرّد على شريعة الله ، والعصيان لأوامره ، وهذا السبب هو حبّ الدنيا ، إذ يقول تعالى : (مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلهَا مَذْمُومًا مَّدْحُورًا).

«العاجلة» : تعني النعم الزائلة ، أو الحياة الزائلة.

والظريف في الآية ، أنّها لا تقول : إنّ من يسعى وراء الدنيا ، ويجعلها كل همّه ، يحصل على كل ما يريد ، بل قيّدت ذلك بشرطين هما :

أوّلاً : سيحصل على جزء مما يريده ؛ وأنّ هذا الجزء هو المقدار الذي نريده نحن ، أي (مَا نَشَاءُ).

٧١

ثانيا : إنّ جميع الأشخاص ـ رغم سعيهم الدنيوي ـ لا يحصلون على هذا المقدار ، وإنّما قسم منهم سيحصل على جزء من متاع الدنيا. وهذا معنى قوله : (لِمَن نُّرِيدُ).

وبناءاً على ذلك ، فلا كل طلّاب الدنيا يحصلون عليها ، ولا اولئك الذين يحصلون على شيء منها ، يحصلون على ما يريدون. ومسار الحياة اليومية يوضّح لنا هذين الشرطين ، إذ ما أكثر الذين يكدّون ليلاً ونهاراً ولكنهم لا يحصلون على شيء.

وما أكثر الذين لهم امنيات كبيرة وطموحات متعددة ومشاريع بعيدة ، ولكن لا يحصلون إلّاعلى القليل منها.

والجدير بالإنتباه هنا ، أنّ عاقبة هذه المجموعة من الناس ، والتي هي نار جهنّم ، قد تمّ تأكيدها في الآية ، بكلمتي (مَذْمُومًا) و (مَّدْحُورًا) إذ التعبير الأوّل يأتي بمعنى اللوم ، بينما الثاني يعني الإبتعاد عن رحمة الخالق ، وإنّ نار جهنّم تمثّل العقاب الجسدي لهم ، أما «مذموم» و «مدحور» فهما عقاب الروح ، لأنّ المعاد هو للروح وللجسد ، والجزاء والعقاب يكون للإثنين معاً.

بعد ذلك تنتقل الآيات إلى توضيح وضع المجموعة الثانية ومصيرها ، وبقرينة المقابلة ـ وهي أسلوب قرآني مميّز ـ يتوضّح الموضوع أكثر إذ يقول تعالى : (وَمَنْ أَرَادَ الْأَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَشْكُورًا).

بناءاً على ذلك هناك ثلاثة شروط أساسية للوصول إلى السعادة الأبدية ، هي :

أوّلاً : إرادة الإنسان : وهي الإرادة التي ترتبط بالحياة الأبدية ، ولا تكون مرتبطة باللذّات الزائلة والنعم غير الثابتة ، والأهداف المادية.

ثانياً : هذه الإرادة يجب أن لا تكون ضعيفة وقاصرة في المجال الفكري والروحي للإنسان ، بل إنّها يجب أن تشمل جميع ذرات الوجود الإنساني ، وتدفعه للحركة ، وببذل كل ما يستطيع من السعي في هذا المجال.

ثالثاً : إنّ كل ما سبق من حديث عن الإرادة في النقطتين السابقتين ، ينبغي أن يقترن بالإيمان ؛ الإيمان الثابت القوي. لأنّ أيّ تصميم وجهد ، إذا أريد له أن يُثمر يجب أن تكون أهدافه صحيحة ، ومصدر هذه الأهداف هو الإيمان بالله لا غير.

وقد يتوهم البعض ويلتبس عليه الأمر ، ظانّاً أنّ نعم الدنيا هي من نصيب عبيدها وطلّابها فقط ، وأنّ طلّاب الآخرة وأهلها محرومون منها ، لذلك فإنّ الآية التي بعدها تقف

٧٢

أمام هذا اللبس ، وتمنع هذا الظن ، عندما تقول : (كَلَّا نُّمِدُّ هؤُلَاءِ وَهؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبّكَ) لتضيف بعدها بقليل : (وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبّكَ مَحْظُورًا).

هذه النعم هي تعبير عن مقام الرحمانية الإلهية التي تشمل فيوضاتها جميع الناس ، المؤمن والكافر ولكن هناك نعم لا تحصى وراء ذلك تختص بالمؤمنين والمحسنين دون غيرهم.

الآية التي بعدها تشير إلى أصل مهم في هذا الخصوص وتقول : كما أنّ السعي في هذه الدنيا متفاوت ، وتتفاوت معه الأجور ، فكذلك الأمر في الآخرة ، ولكن التفاوت الدنيوي محدود ، لأنّ الدنيا هي نفسها محدودة ، وأمّا الآخرة ـ ولكونها غير محدودة ـ فإنّ تفاوتها غير محدود ، إذ يقول تعالى : (انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْأَخِرَةِ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً).

هل الدنيا والآخرة تقعان على طرفي نقيض؟ إنّنا نرى في كثير من الآيات القرآنية مدحاً وتمجيداً للدنيا وبإمكاناتها المادية ، ولكن ، وبرغم الأهمية الكبرى التي تختص بها النعم المادية ، فإنّ القرآن الكريم استخدم تعابير اخرى تحقّرها وتحطّ منها بقوة.

هذه المعاني المزدوجة إزاء النعم والمواهب المادية ، يمكن ملاحظتها أيضاً في الأحاديث والروايات الإسلامية.

إنّه إذا تمّت الاستفادة من مواهب الدنيا وعطاياها التي تُعتبر من النعم الإلهية ؛ ويعتبر وجودها ضرورياً في نظام الخلق والوجود ، وتمّت الاستفادة في سعادة الإنسان الأخروية وتكامله المعنوي ، فإنّ ذلك يعتبر أمراً جيّداً ، وتمتدح معه الدنيا ، أمّا إذا اعتبرناها هدفاً لا وسيلة ، وأبعدناها عن القيم المعنوية والإنسانية ، عندها سيُصاب الإنسان بالغرور والغفلة والطغيان والبغي والظلم.

(لَا تَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (٢٢) وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (٢٣) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً) (٢٥)

٧٣

أحكام إسلامية مهمة : الآيات التي نحن بصدد بحثها هي بداية لسلسلة من الأحكام الإسلامية الأساسية ، والتي تبدأ بالدعوة إلى التوحيد والإيمان ؛ التوحيد الذي يعتبر الأساس والأصل لكل النشاطات الإيمانية ، والأعمال الحسنة والبنّاءة. في البداية تبدأ هذه الآيات بالتوحيد وتقول : (لَّاتَجْعَلْ مَعَ اللهِ إِلهًاءَاخَرَ).

إنّها لم تقل : لا تعبد مع الله إلهاً آخر ، بل تقول : (لَّاتَجْعَلْ) هذا اللفظ أشمل وأوسع ، إذ هو يعني : لا تجعل معبوداً آخر مع الله لا في العقيدة ، ولا في العمل ، ولا في الدعاء ، ولا في العبودية. بعد ذلك توضّح الآية النتيجة القاتلة للشرك : (فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً).

إنّ استعمال كلمة «القعود» تدل على الضعف والعجز. ومن هذا التعبير يمكن أن نستفيد أنّ للشرك ثلاثة آثار سيئة جدّاً في وجود الإنسان ، هي :

١ ـ الشرك يؤدّي إلى الضعف والعجز والذلة.

٢ ـ الشرك موجب للذم واللوم ، لأنّه خط انحرافي واضح في قبال منطق العقل ، ويعتبر كفراً واضحاً بالنعم الإلهية.

٣ ـ الشرك يكون سبباً في أن يترك الله سبحانه وتعالى الإنسان إلى الأشياء التي يعبدها ، فإنّهم يصبحون «مخذولين» أي بدون ناصر ومعين.

بعد تبيان هذا الأصل التوحيدي ، تشير الآيات إلى واحدة من أهم توجيهات الأنبياء عليهم‌السلام للإنسان ، فالآية ـ بعد أن تؤكّد مرّة اخرى على التوحيد ـ تقول : (وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إحْسَانًا).

كلمة قضاء لها مفهوم توكيدي أكثر من كلمة «أمر» وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه ، وهذا أوّل تأكيد في هذه القضية. أمّا التأكيد الثاني الذي يدل على أهمية هذا القانون الإسلامي ، فهو ربط التوحيد الذي يعتبر أهم أصل إسلامي ، مع الإحسان إلى الوالدين.

أمّا التأكيدان الثالث والرابع فهما يتمثلان في معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة إحسان والتي تشمل كل أنواع الإحسان. وكذلك معنى الإطلاق الذي تفيده كلمة «والدين» إذ هي تشمل الأم والأب ، سواء كانا مسلمين أم كافرين.

أمّا التأكيد الخامس فهو يتمثل بمجيء كلمة «إحساناً» نكرة ، لتأكيد أهميتها وعظمتها.

ثم تنتقل إلى أحد مصاديق هذه العبادة متمثلاً بالإحسان إلى الوالدين فتقول : (إِمَّا

٧٤

يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا) بحيث يحتاجان إلى الرعاية والإهتمام الدائم ، فلا تبخل عليهما بأي شكل من إشكال المحبة واللطف ولا تؤذيهما أو تجرح عواطفهما بأقل إهانة حتى بكلمة «اف» : (فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍ (١) وَلَا تَنْهَرْهُمَا). بل : (وَقُلْ لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا). وكن أمامهما في غاية التواضع (وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَّبّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا).

إضافة إلى ما ذكرناه ، فثمّة ملاحظة لطيفة اخرى يطويها التعبير القرآني ، هذه الملاحظة خطاب للإنسان يقول : إذ أصبح والداك مسنيّن وضعيفين وكهلين لا يستطيعان الحركة أو رفع الخبائث عنهما ، فلا تنس أنّك عندما كُنت صغيراً كُنت على هذه الشاكلة أيضاً ، ولكن والديك لم يقصّرا في مداراتك والعناية بك ، لذا فلا تقصّر أنت في مداراتهم ومحبتهم.

وقد تحدث من قبل بعض الأبناء انحرافات فيما يتعلق بحقوق الوالدين واحترامهم والتواضع لهم ، وقد يصدر هذا العقوق عن جهل في بعض الأحيان ، وعن قصد وعلم في أحيان اخرى ، لذا فإنّ الآية الأخيرة في بحثنا هذا تشير إلى هذا المعنى بالقول : (رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِى نُفُوسِكُمْ). وهذه إشارة إلى أنّ علم الله ثابت وأزلي وأبدي وبعيد عن الإشتباهات ، بينما علمكم أيّها الناس لا يحمل هذه الصفات! لذلك فإذا طغى الإنسان وعصى أوامر خالقه في مجال احترام الوالدين والإحسان إليهم ، ولكن بدون قصد وعن جهل ، ثم تاب بعد ذلك وأناب ، وندم على ما فعل وأصلح ، فإنّه سيكون مشمولاً لعفو الله تعالى : (إِن تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا).

إحترام الوالدين في المنطق الإسلامي : إنّ الإسلام يُعطي التعليمات اللازمة إزاء قضية احترام الوالدين ورعاية حقوقهما ، إلّافي قضايا نادرة اخرى.

وعلى سبيل المثال يمكن أن تشير الفقرات الآتية إلى هذا المعنى :

أ) في أربع سور قرآنية ذكر الإحسان إلى الوالدين بعد التوحيد مباشرة ، وهذا الإقتران يدل على مدى الأهمية التي يوليها الإسلام للوالدين.

ب) إنّ مسألة إحترام الوالدين ورعاية حقهما من المنزلة بمكان ، حتى أنّ القرآن

__________________

(١) إنّ هذه الكلمة مأخوذ من «الصوت» الذي يخرج من الفم عندما ينفخ الإنسان لتنظيف بدنه أو ملابسه من الغبار الموجود عليها. إنّ الآية تريد أن تقول لا يجوز تجاوز الحدود أمامهما أو إيذاؤهما حتى بمستوى ما تحمله كلمة «أف» من معنى.

٧٥

والأحاديث والروايات الإسلامية ، تؤكّدان معاً على الإحسان للوالدين حتى ولو كانا مشركين.

ج) رفع القرآن الكريم منزلة شكر الوالدين إلى منزلة شكر الله تعالى.

د) القرآن الكريم لا يسمح بأدنى إهانة للوالدين ، ولا يجيز ذلك.

ه) بالرغم من أنّ الجهاد يعتبر من أهم التعاليم الإسلامية ، إلّاأنّ رعاية الوالدين تعتبر أهم منه ، بل لا يجوز إذا أدّى الأمر إلى أذية الوالدين.

و) في الكافي عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إيّاكم وعقوق الوالدين فإنّ ريح الجنة توجد من ميسرة ألف عام ولا يجدها عاقّ.

وفي الكافي عن الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام قال : «سأل رجل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ما حق الوالد على ولده؟ قال : لا يسمّيه باسمه ، ولا يمشي بين يديه ، ولا يجلس قبله ، ولا يستسبّ له. (أي : لا يفعل شيئاً يؤدّي إلى أن يسبّ الناس والديه).

(رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً) (٣٠)

رعاية الإعتدال في الإنفاق والهبات : مع هذه الآيات يبدأ الحديث عن فصل آخر من سلسلة الأحكام الإسلامية الأساسية ، التي لها علاقة بحقوق القربى والفقراء والمساكين ، والإنفاق بشكل عام ينبغي أن يكون بعيداً عن كل نوع من أنواع الإسراف والتبذير ، حيث تقول الآية : (وَءَاتِ ذَاالْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذّرْ تَبْذِيرًا).

إنّ كلمة (ذِى الْقُرْبَى) لها مفهوم عام وتشمل كل الأرحام والمقربين ، الّا أنّ أهل بيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله هم من أوضح مصاديق القربى له والرسول في طليعة المخاطبين بالآية الكريمة.

إنّ «التبذير» هو هدر المال في غير موقعه ولو كان قليلاً ، بينما إذا صُرف في محلّه فلا يعتبر تبذيراً ولو كان كثيراً.

٧٦

الآية التي بعدها هي لتأكيد النهي عن التبذير : (إِنَّ الْمُبَذّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيطِينِ وَكَانَ الشَّيْطنُ لِرَبّهِ كَفُورًا).

لأنّ الله أعطاه قدرةً وقوّةً وإستعداداً وذكاءاً خارقاً للعادة ، ولكن الشيطان استفاد من هذه الامور في غير محلّها ، أي في طريق إغواء الناس وإبعادهم عن الصراط المستقيم.

ثم إنّ استخدام «إخوان» تعني أنّ أعمالهم متطابقة ومتناسقة مع أعمال الشيطان ، كالأخوين اللذين تكون أعمالهما متشابهة ، أو أنّهم قرناء وجلساء للشيطان في الجحيم.

ثم أنّ الإنسان قد لا يملك ما يعطيه للمسكين أحياناً ، وفي هذه الحالة ترسم الآية الكريمة طريقة التصرف بالنحو الآتي : (وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا).

«ميسور» : مشتقة من «يسر» وهي بمعنى الراحة والسهولة ، أمّا هنا فلها مفهوم واسع ، يشمل كل كلام جميل وسلوك مقرون بالإحترام والمحبة.

الإعتدال هو شرط في كل الامور بما فيها الإنفاق ومساعدة الآخرين ، لذلك تنتقل الآية للقول : (وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ). وهذا تعبير جميل يفيد أنّ الإنسان ينبغي أن يكون ذا يد مفتوحة ، لا أن يكون مثل البخلاء وكأنّ أيديهم مغلولة إلى أعناقهم بُخلاً وخشية من الإنفاق ، ولكن في نفس الوقت تقرّر الآية أنّ بسط اليد لا ينبغي أن يتجاوز الحد المقرر والمعقول في الصرف والبذل والعطاء ، حتى لا ينتهي المصير إلى الملامة والإبتعاد عن الناس : (وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَّحْسُورًا).

سؤال : لماذا يجب أن يكون هناك مساكين وفقراء ومحرومون حتى ننفق عليهم؟ أليس من الافضل أن يعطيهم الله ما يريدون حتى لا يحتاجون إلى إنفاقنا؟

الجواب : تعتبر الآية الأخيرة بمثابة جواب على هذا السؤال : (إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا). إنّه اختبار لنا ، فالله قادر على كل شيء ، ولكنه يريد بهذا الطريق تربيتنا على روح السخاء والتضحية والعطاء ، إضافة إلى ذلك ، إذا أصبح أكثر الناس في حالة الكفاية وعدم الحاجة فإنّ ذلك يقود إلى الطغيان والتمرّد (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَءَاهُ اسْتَغْنَى) ؛ لذلك من المفيد أن يبقوا في حد معين من الحاجة. هذا الحد لا يسبب الفقر ولا الطغيان ، من ناحية اخرى يرتبط التقدير والبسط في رزق الإنسان بمقدار السعي وبذل الجهد (باستثناء بعض الموارد من قبيل العجزة والمعلولين) ، وهكذا تقتضي

٧٧

المشيئة الإلهية ببسط الرزق وتقديره لمن يشاء ، وهذا دليل الحكمة ، إذ تقضي الحكمة بزيادة رزق من يسعى ويبذل الجهد ، بينما تقضي بتضييقه لمن هو أقل جهداً وسعياً.

(وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْأً كَبِيراً (٣١) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً (٣٢) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (٣٣) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولاً (٣٤) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) (٣٥)

ستة أحكام مهمة : في متابعة للأحكام الإسلامية التي أثارتها الآيات السابقة ، تتحدث هذه الآيات عن ستة أحكام إسلامية اخرى وردت في ست آيات.

أوّلاً : تشير الآية إلى عمل قبيح وجاهلي هو من أعظم الذنوب ، فتنهى عنه : (وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلدَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلقٍ). فرزق هؤلاء ليس عليكم (نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ). أمّا علّة الحكم فهي : (إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطًا كَبِيرًا).

هذه الآية تفيد أنّ الوضع الاقتصادي للعرب في الجاهلية كان صعباً وسيّئاً. بحيث إنّهم كانوا يقتلون أبناءهم في بعض الأحيان خوف العيلة والفقر ، وهناك كلام بين المفسرين فيما إذا كان العرب في الجاهلية يدفنون البنات أحياء وحسب ، أو أنّهم كانوا يقتلون الأبناء أيضاً خوفاً من الفقر.

وفي الوقت الذي نستغرب فيه ارتكاب الجاهليين لهذه الجرائم بحق النوع البشري ، فإنّ عصرنا الحاضر ـ وفي أكثر مجتمعاته رُقيّاً وتقدّماً ـ يعيد تكرار هذه الجريمة ولكن بأسلوب آخر ، إذ أنّ العمليات الواسعة في إسقاط الجنين وقتله خوفاً من الضائقة المالية وازدياد عدد السكان ، هي نموذج آخر للقتل.

ثانياً : الآية التي بعدها تشير إلى ذنب عظيم آخر هو الزنا : (وَلَا تَقْرَبُوا الزّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً).

٧٨

لم تقل الآية : لا تزنوا ، بل قالت : لا تقربوا هذا العمل الشائن ، وهذا الاسلوب في النهي فضلاً عمّا يحمله من تأكيد ، فإنّه يوضّح أنّ هناك مقدمات تجر إلى الزنا ينبغي تجنّبها وعدم مقاربتها ، فخيانة العين تعتبر واحدة من المقدمات ، والسفور والتعرّي مقدمة اخرى ، الكتب السيئة والأفلام الملوّثة والمجلات الفاسدة ومراكز الفساد كل واحدة مِنها تعتبر مقدمة لهذا العمل.

كذلك فإنّ الخلوة بالأجنبية (يعني خلوة المرأة والرجل الأجنبي في مكان واحد ولوحدهما) يعتبر عاملاً في إثارة الشهوة.

وأخيراً فإنّ امتناع الشباب عن الزواج خاصة مع ملاحظة الصعوبات الموضوعة أمام الطرفين ، هي من العوامل التي قد تؤدّي إلى الزنا. والآية نهت عن كل ذلك بشكل بليغ مختصر ، ولكنّا نرى في الأحاديث والروايات نهياً مفصّلاً عن كل واحدة من هذه المقدمات.

فلسفة تحريم الزنا : يمكن الإشارة إلى ثلاثة عوامل في فلسفة تحريم الزنا ، هي :

١ ـ شياع حالة الفوضى في النظام العائلي ، وانقطاع العلاقة بين الأبناء والآباء ، هذه الرابطة التي تختص بكونها سبباً للتعارف الاجتماعي ، بل إنّها تكون سبباً لصيانة الأبناء.

إنّ العلاقات الاجتماعية القائمة على أساس العلاقات العائلية ستتعرض للانهيار والتصدّع إذا شاع وجود الابناء غير الشرعيين «أبناء الزنا».

وعلاوة على ذلك ، فإنّهم سيحرمون من الحبّ الاسري الذي يعتبر عاملاً في الحدّ من الجريمة في المجتمع الإسلامي ، وحينئذ يتحوّل المجمتع الإنساني بالزنا إلى مجتمع حيواني تغزوه الجريمة والقساوة من كل جانب.

٢ ـ لقد أثبت العلم ودلّت التجارب على أنّ إشاعة الزنا سبب لكثير من الأمراض والمآسي الصحية وكل المعطيات تشير إلى فشل مكافحة هذه الأمراض من دون مكافحة الزنا. (يمكن أن تلاحظ موجات مرض الإيدز في المجتمعات المعاصرة ، ونتائجها الصحية والنفسية المدمّرة).

٣ ـ يجب أن لا ننسى أنّ هدف الزواج ليس إشباع الغريزة الجنسية وحسب ، بل المشاركة في تأسيس الحياة على أساس تحقيق الإستقرار الفكري والأنس الروحي للزوجين. وأمّا تربية الأبناء والتعامل مع قضايا الحياة ، فهي آثار طبيعية للزواج ، وكل هذه الامور لا يمكن لها أن تثمر من دون أن تختص المرأة بالرجل ، وقطع دابر الزنا وأشكال المشاعيّة الجنسية.

٧٩

ثالثاً : الحكم الآخر الذي تشير إليه الآية التي بعدها ، هو احترام دماء البشر ، وتحريم قتل النفس حيث تقول : (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِى حَرَّمَ اللهُ إِلَّا بِالْحَقّ).

إنّ الإسلام يحاسب على أقل أذى ممكن أن يلحقه الإنسان بالآخرين ، فكيف بقضية القتل وإراقة الدماء؟! وهنا نستطيع أن نقول ـ باطمئنان ـ : إنّنا لا نرى أيّ شريعة غير الإسلام أعطت هذه الحرمة الاستثنائية لدم الإنسان ، بالطبع هناك حالات ينتفي معها إحترام دم الإنسان ، كما لو قام بالقتل أو ما يوجب إنزال العقوبة به ، لذلك فإنّ الآية بعد أن تُثبت حرمة الدم كأصل ، تشير للإستثناء بالقول : (إِلَّا بِالْحَقّ).

إنّ حرمة دم الإنسان في الإسلام لا تختص بالمسلمين وحسب ، بل تشمل غير المسلمين أيضاً من غير المحاربين ، والذين يعيشون مع المسلمين عيشة مُسالمة ، فإنّ دماءهم ـ أيضاً ـ وأعراضهم وأرواحهم مصونة ويحرم التجاوز عليها.

تشير الآية بعد ذلك إلى إثبات حق القصاص بالمثل لولي القتيل فتقول : (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سُلْطَانًا). ولكن في نفس الوقت ينبغي لولي المقتول أن يلتزم حدّ الإعتدال ولا يسرف (فَلَا يُسْرِف فِّى الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنصُورًا). إذ ما دام ولي الدم يتحرّك في الحدود الشرعية فإنّه سيكون مورداً لنصرة الله تعالى.

والنهي عن الإسراف تشير إلى واقع كان سائداً في الجاهلية ، واليوم أيضاً يمكن مشاهدة نماذج لها ، فحين يُقتل فرد من قبيلة معينة ، فإنّها تقوم بهدر الكثير من الدماء البريئة من قبيلة القاتل.

أو أن يقوم أولياء الدم بقتل أناس أبرياء أو الذين لا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم.

رابعًا : الآية التي بعدها تشير إلى حفظ مال اليتيم ، والملاحظ أنّ الآية استخدمت نفس اسلوب الآية التي سبقتها ، فلم تقل : لا تأكلوا مال اليتيم وحسب ، وإنّما قالت : (وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ).

وفي هذا التعبير تأكيد على حرمة مال اليتيم. ولكن قد تكون هذه الآية حجة لبعض الجهلاء الذين سيتركون مال اليتامى يُهدر ويكون عرضة للحوادث بدون أن يكون عليه قيّم ، لذلك استثنت بقوله : (إِلَّا بِالَّتِى هِىَ أَحْسَنُ). وبناء على هذا الاستثناء يمكن التصرف بأموال اليتامى بشرط حفظ هذه الأموال ، وتنميتها وتكثيرها. وهذا الوضع يستمر إلى أن يبلغ اليتيم سن الرشد ويستطيع فكرياً واقتصادياً أن يكون قيّماً على نفسه وأمواله (حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ).

٨٠