مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

ثم تقول الآية : (مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لِتَشْقَى). «تشقى» : مأخوذة من مادة الشقاء ضدّ السعادة ، إلّاأنّ هذه المادة تأتي أحياناً بمعنى المشقّة والتعب ، والمراد في الآية هذا المعنى.

ثم تبيّن الآية الاخرى الهدف من نزول القرآن فتقول : (إِلَّا تَذْكِرَةً لّمَن يَخْشَى).

إنّ التعبير ب «تذكرة» من جهة ، وب «من يخشى» من جهة اخرى يشير إلى واقع لا يمكن إنكاره ، وهو : إنّ التذكرة توحي بأنّ أسس ومقومات كل التعليمات الإلهية موجودة في أعماق روح الإنسان وطبيعته ، وتعليمات الأنبياء تجعلها مثمرة ، وتوصلها إلى حدّ النضج ، كما نذكّر أحياناً بمطلب وأمر ما.

إنّ تعبير «من يخشى» يبيّن أنّ نوعاً من الإحساس بالمسؤولية ، والذي سمّاه القرآن بالخشية ، إذا لم يكن موجوداً في الإنسان ، فسوف لا يقبل الحقائق.

ثم تتطرق الآيات إلى التعريف بالله تعالى المنزل للقرآن ، لتّتضح عظمة القرآن من خلال معرفته ، فتقول : (تَنزِيلاً مّمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّموَاتِ الْعُلَى).

إنّ هذا التعبير إشارة إلى ابتداء وانتهاء نزول القرآن ، انتهاؤه إلى الأرض وابتداؤه من السماوات.

ثم تستمر في تعريف الله المنزل للقرآن فتقول : (الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى).

إنّ هذا التعبير كناية عن تسلّط الله ، وإحاطته الكاملة بعالم الوجود ، ونفوذ أمره وتدبيره في جميع أنحاء العالم.

ثم تتحدث عن مالكية الله بعد حاكميته فتقول : (لَهُ مَا فِى السَّموَاتِ وَمَا فِى الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى). «الثرى» : في الأصل بمعنى التراب الرطب ، ولمّا كانت قشرة الأرض ـ فقط ـ هي التي تجف نتيجة لأشعة الشمس وهبوب الرياح ، وتبقى الطبقة السفلى ـ غالباً ـ رطبة ، فإنّه يقال لهذه الطبقة : ثرى. وعلى هذا فإنّ (وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) تعني أعماق الأرض وجوفها ، وكلها مملوكة لمالك الملك وخالق عالم الوجود.

وأشارت الآية التالية إلى الركن الرابع ، أي «العالمية» ، فقالت : (وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السّرَّ وَأَخْفَى).

وعرف منزل القرآن من مجموع الآيات أعلاه معرفة إجمالية في الأبعاد الأربعة : الخلقة ، والحكومة ، والمالكية ، والعلم.

والآية التالية ربّما تشير إلى ما ذكرنا : (اللهُ لَاإِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى).

٢٠١

إنّ التعبير بالأسماء الحسنى قد ورد مراراً وتكراراً في الآيات القرآنية ، ومن البديهي أنّ كل أسماء الله حسنة ، ولكن لمّا كانت لبعض أسماء الله وصفاته أهمية أكبر ، فقد سمّيت بالأسماء الحسنى.

(وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (٩) إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَاراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (١٠) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (١١) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (١٢) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (١٣) إِنَّنِي أَنَا اللهُ لَا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (١٤) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (١٥) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) (١٦)

نار في الجانب الآخر من الصحراء : من هنا تبدأ قصة نبي الله الكبير موسى عليه‌السلام ، وتفصيل الجوانب المهمة من هذه القصة المليئة بالأحداث سيأتي في أكثر من ثمانين آية ، لتكون تهدئة ومواساة وتسلية لخاطر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والمؤمنين الذين كانوا يعانون خلال تلك الفترة في مكة ضغوطاً شديدةً من الأعداء.

ويمكن تقسيم مجموع الآيات في هذه السورة إلى أربعة أقسام :

القسم الأوّل : يتحدث عن بداية نبوة موسى وبعثته ، وأوّل ومضات الوحي.

القسم الثاني : يتحدث عن دعوة موسى وأخيه هارون لفرعون وملئه إلى دين التوحيد ، ثم اشتباكهما بالأعداء.

القسم الثالث : يبحث عن خروج موسى وبني إسرائيل من مصر ، وكيفية نجاتهم من قبضة فرعون وأتباعه ، وغرق هؤلاء وهلاكهم.

القسم الرابع : ويتحدث حول الإتجاهات الانحرافية الشديدة لبني إسرائيل عن دين التوحيد إلى الشرك ، وقبول وساوس السامري ، ومواجهة موسى الحازمة لهذا الإنحراف.

فهذه الآيات تقول بتعبير رقيق وجذاب : (وَهَلْ أَتكَ حَدِيثُ مُوسَى).

إنّ هذا الاستفهام ليس هدفه تحصيل الخبر ، بل مقدمة لبيان خبر مهم.

٢٠٢

ثم تقول : (إِذْ رَءَا نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنّىءَانَسْتُ نَارًا لَّعَلّىءَاتِيكُم مّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى).

(فَلَمَّا أَتهَا نُودِىَ يَا مُوسَى * إِنّى أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى).

ويستفاد من الآية (٣٠) من سورة القصص ، أنّ موسى قد سمع هذا النداء من جهة شجرة كانت هناك : (فَلَمَّا أَتهَا نُودِىَ مِنْ شطِىِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِى الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَن يمُوسَى إِنّى أَنَا اللهُ رَبُّ الْعلَمِينَ). إنّ موسى لمّا اقترب شاهد النار في داخل الشجرة ، وهذه النار ليست ناراً عادية ، بل إنّ هذا النور الإلهي الذي ليس لم يحرق الشجرة وحسب ، بل إنّه منسجم معها ، ألا وهو نور الحياة.

وقد هام موسى لدى سماعه هذا النداء المحيي للروح : (إِنّى أَنَا رَبُّكَ) وشعر بكل وجوده بلذّة لا يمكن وصفها.

لقد امر أن يخلع نعليه ، لأنّه قد وضع قدمه في أرض مقدسة ... الأرض التي تجلّى فيها النور الإلهي ، ويسمع فيها نداء الله ، ويتحمل مسؤولية الرسالة ، فيجب أن يخطو في الأرض بمنتهى الخضوع والتواضع ، وهذا هو سبب خلعه النعل عن رجله.

ثم سمع هذا الكلام من نفس المتكلم : (وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى). ومن بعدها تلقّى موسى أوّل جملة من الوحي على شكل ثلاثة امور : (إِنَّنِى أَنَا اللهُ لَاإِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِى وَأَقِمِ الصَّلَوةَ لِذِكْرِى). شرعت هذه الآية في بيان أهم أصل لدعوة الأنبياء في هذه الآية ، ألا وهو مسألة التوحيد ، وبعدها ذكرت موضوع عبادة الله الواحد كثمرة لشجرة الإيمان والتوحيد ، ثم أصدرت له أمر الصلاة بعد ذلك ، وهي تعني أكبر عبادة وأهم إرتباط بين الخلق والخالق ، وأكثر الطرق تأثيراً في عدم الغفلة عن الذات المقدسة.

ولمّا كان المعاد هو الأصل والأساس الثاني ، فبعد ذكر التوحيد وأغصانه وفروعه ، أضافت الآية التالية : (إِنَّ السَّاعَةَءَاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَعْسَى).

إنّ علّة إخفاء تاريخ القيامة حسب الآية ، هي : (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَعْسَى). وبتعبير آخر : فإنّ كون الساعة مخفية سيوجد نوعاً من حرية العمل للجميع.

وأشارت الآية الأخيرة إلى أصل اساسي يضمن تنفيذ كل البرامج العقائدية والتربوية ، فتقول : (فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لَّايُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَيهُ) والّا فسوف تهلك (فَتَرْدَى) فاصمد في مقابل الكافرين ووساوسهم وعراقيلهم ، ولا تدع للخوف من كثرتهم

٢٠٣

ومؤامرتهم وخططهم الخبيثة إلى قلبك سبيلاً ، ولا تشك مطلقاً في أحقية دعوتك وأصالة دينك نتيجة هذه الضوضاء.

إنّ جملة «يؤمن» وردت هنا بصيغة المضارع ، وجملة «واتبع هويه» بصيغة الماضي ، وهي أشارت إلى هذه النكتة ، وهي أنّ عدم إيمان منكري القيامة ينبع من أتباع هوى النفس ، فهم يريدون أن يكونوا أحراراً ويفعلون ما تشتهي أنفسهم.

(وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (١٧) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (١٨) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (١٩) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (٢٠) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (٢١) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (٢٢) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى) (٢٣)

عصا موسى واليد البيضاء : لا شك أنّ الأنبياء يحتاجون إلى المعجزة لإثبات إرتباطهم بالله ، وإلّا فإنّ أيّ واحد يستطيع أن يدعي النبوة.

إنّ موسى عليه‌السلام بعد تلقّيه أمر النبوة ، يجب أن يتلقّى دليلها وسندها أيضاً ، وهكذا تلقّى موسى عليه‌السلام في تلك الليلة المليئة بالذكريات والحوادث معجزتين كبيرتين من الله ، ويبيّن القرآن الكريم هذه الحادثة فيقول : (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يمُوسَى).

فأجاب موسى : (قَالَ هِىَ عَصَاىَ). ولمّا كان راغباً في أن يستمر في حديثه مع محبوبه الذي فتح الباب بوجهه لأوّل مرّة ، وربّما كان يظن أيضاً أنّ قوله : (هِىَ عَصَاىَ) غير كاف ، فأراد أن يبيّن آثارها وفوائدها فأضاف : (أَتَوَكَّؤُا عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِى) (١). أي أضرب بها على اغصان الشجر فتتساقط اوراقها لتأكلها الأغنام (وَلِىَ فِيهَا مَارِبُ أُخْرَى) (٢).

إنّ موسى غطّ في تفكير عميق : أيّ سؤال هذا في هذا المجلس العظيم ، وأيّ جواب أعطيه؟ وماذا كانت تلك الأوامر؟ ولماذا هذا السؤال؟

وفجأة : (قَالَ أَلْقِهَا يمُوسَى * فَأَلْقهَا فَإِذَا حَيَّةٌ تَسْعَى). «تسعى» : من مادة السعي أي المشي السريع الذي لا يصل إلى الركض.

__________________

(١) «أهش» : من مادة هشّ ـ بفتح الهاء ـ أي ضرب أوراق الشجر وتساقطها.

(٢) «مارب» : جمع مأربة ، أي الحاجة والقصد.

٢٠٤

وهنا صدر الأمر لموسى : (قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى).

ثم أشارت الآية التالية إلى المعجزة المهمة الثانية لموسى ، فأمرته : (وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍءَايَةً أُخْرَى).

إنّ موسى كان مأموراً أن يدخل يده في جيبه ويوصلها إلى تحت إبطه.

وجملة (مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) إشارة إلى أنّ بياض يدك ليس نتيجة مرض البرص وأمثاله ، بدليل أنّ لها لمعاناً وبريقاً خاصاً يظهر في لحظة ويختفي في لحظة اخرى.

وتقول الآية الأخيرة ، وكنتيجة لما مرّ بيانه في الآيات السابقة : (لِنُرِيَكَ مِنْءَايَاتِنَا الْكُبْرَى). والمراد من الآيات الكبرى هو تلكما المعجزتان المهمتان اللتان وردتا أعلاه.

(اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٢٤) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (٢٥) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (٢٦) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (٢٧) يَفْقَهُوا قَوْلِي (٢٨) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (٢٩) هَارُونَ أَخِي (٣٠) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (٣١) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (٣٢) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (٣٣) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (٣٤) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً (٣٥) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى) (٣٦)

موسى وطلباته القيّمة : إلى هنا وصل موسى إلى مقام النبوة ، وتلقّى معاجز مهمّة تسترعي الإنتباه ، إلّاأنّه من الآن فصاعداً صدر له أمر الرسالة ... رسالة عظيمة وثقيلة جدّاً ... الرسالة التي تبدأ بإبلاغ أعتى وأخطر شخص في ذلك المحيط ، فتقول الآية : (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى).

أجل ... فمن أجل إصلاح بيئة فاسدة ، وإيجاد ثورة شاملة يجب البدء برؤوس الفساد وأئمة الكفر ... اولئك الذين لهم تأثير في جميع أركان المجتمع.

ومضافاً إلى أنّ موسى عليه‌السلام لم يستوحش ولم يخف من هذه المهمّة الثقيلة الصعبة ، ولم يطلب من الله أيّ تخفيف في هذه المهمّة ، فإنّه قد تقبّلها بصدر رحب ، غاية ما في الأمر أنّه طلب من الله أسباب النصر في هذه المهمّة. ولمّا كان أهم وأوّل أسباب النصر الروح الكبيرة ، والفكر الوقّاد ، والعقل المقتدر ، وبعبارة اخرى : رحابة الصدر ، فقد (قَالَ رَبّ اشْرَحِ لِى صَدْرِى).

ولمّا كان هذا الطريق مليئاً بالمشاكل والمصاعب التي لا يمكن تجازوها إلّابلطف الله ، فقد

٢٠٥

طلب موسى من الله في المرحلة الثانية أن تيسر له اموره وأعماله ، وأن تذلل هذه العقبات التي تعترضه ، فقال : (وَيَسّرْ لِى أَمْرِى).

ثم طلب موسى أن تكون له قدرة على البيان بأعلى المراتب فقال : (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِّن لِّسَانِى).

خاصة وأنّه بيّن علة هذا الطلب فقال : (يَفْقَهُوا قَوْلِى). فهذه الجملة تفسير للآية التي قبلها. أي : أريد أتكلم بدرجة من الفصاحة والبلاغة والتعبير بحيث يدرك أيّ سامع مرادي من الكلام جيّداً.

ولمّا كان إيصال هذا الحمل الثقيل ـ حمل رسالة الله ، وقيادة البشر وهدايتهم ، ومحاربة الطواغيت والجبابرة ـ إلى المحل المقصود يحتاج إلى معين ومساعد ، ولا يمكن أن يقوم به إنسان بمفرده ، فقد كان الطلب الرابع لموسى من الله هو : (وَاجْعَل لِّى وَزِيرًا مِّنْ أَهْلِى).

ثم يشير إلى أخيه ، فيقول : (هرُونَ أَخِى). وهارون كان الأخ الأكبر لموسى ، وكان يكبره بثلاث سنين ، وكان طويل القامة ، جميلاً بليغاً ، عالي الإدراك والفهم ، وقد رحل عن الدنيا قبل وفاة موسى بثلاث سنين.

وقد كان نبيّاً مرسلاً كما كان نبيّاً وهبه الله لموسى من رحمته.

ثم يبيّن موسى عليه‌السلام هدفه من تعيين هارون للوزارة والمعونة فيقول : (اشْدُدْ بِهِ أَزْرِى).

ويطلب ، من أجل تكميل هذا المقصد والمطلب : (وَأَشْرِكْهُ فِى أَمْرِى). فيكون شريكاً في مقام الرسالة ، وفي إجراء وتنفيذ هذا البرنامج الكبير ، إلّاأنّه يتبع موسى على كل حال ، فموسى إمامه ومقتداه.

وفي النهاية يبيّن نتيجة هذه المطالب فيقول : (كَى نُسَبّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيرًا).

ولمّا كان موسى لم يهدف من طلباته المخلصة هذه إلّاالخدمة الأكثر والأكمل ، فإنّ الله سبحانه قد لبّى طلباته في نفس الوقت : (قَالَ قَد أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يمُوسَى).

إنّ موسى طلب كل ما كان يلزمه في هذه اللحظات الحساسة الحاسمة التي يجلس فيها لأوّل مرّة على مائدة الضيافة الإلهية ويطأ بساطها ، والله سبحانه كان يحبّ ضيفه أيضاً ، حيث لبّى كل طلباته وأجابه فيها في جملة قصيرة تبعث الحياة ، وبدون قيد وشرط.

٢٠٦

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (٣٧) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (٣٨) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (٣٩) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (٤٠) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي) (٤١)

الربّ الرحيم يشير الله سبحانه في هذه الآيات إلى فصل آخر من فصول حياة موسى عليه‌السلام ، والذي يرتبط بمرحلة الطفولة ونجاته من قبضة الفراعنة. وهذا الفصل وإن كان من ناحية التسلسل التاريخي قبل فصل الرسالة والنبوّة ، إلّاأنّه ذكر كشاهد على شمول عناية الله عزوجل لموسى عليه‌السلام من بداية عمره ، وهي في الدرجة الثانية من الأهمية بالنسبة إلى الرسالة ، فيقول أوّلاً : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى) (١).

وبعد ذكر هذا الإجمال تتطرق الآيات إلى الشرح والتفصيل ، فتقول : (إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمّكَ مَا يُوحَى).

وهو إشارة إلى أنّنا قد علّمنا امّه كل الطرق التي تنتهي إلى نجاة موسى عليه‌السلام من قبضة الفراعنة ، لأنّه يستفاد من سائر آيات القرآن أنّ فرعون شدّد ارهابه على بني إسرائيل للتصدّي لقوّتهم وعصيانهم المحتمل ، أو أنّه كان قد أمر بقتل أبنائهم وإبقاء البنات للخدمة ، لكي يمنع ولادة ولد من بني إسرائيل كان قد أخبره المنجّمون أنّه يثور عليه ويزيل ملكه.

إنّ هذه الام أحسّت بأنّ حياة وليدها في خطر ، وإخفاؤه مؤقتاً سوف لا يحلّ المشكلة ...

في هذه الأثناء ألهمها الله ـ الذي رشّح هذا الطفل لثورة كبيرة ؛ فألقى في قلب الامّ : (أَنِ اقْذِفِيهِ فِى التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِى الْيَمّ). «اليم» : هنا يعني نهر النيل العظيم الذي يطلق عليه

__________________

(١) «المنة» : في الأصل من المن ، وهو يعني الأحجار الكبيرة التي كانوا يزنون بها ، ولذلك فإنّ كل نعمة كبيرة ونفيسة يقال عنها : إنّها منّة. والمراد في الآية هو هذا المعنى ، وهذا المعنى مفهوم جميل وايجابي للمنّة ، إلّاأنّ الإنسان إذا عظّم عمله الصغير بكلامه ، وذكّر الطرف الآخر به ، فإنّه مصداق حي للمنّة السلبية المذمومة.

٢٠٧

أحياناً اسم البحر لسعته وكثرة مياهه ؛ و «التابوت» : تعني الصندوق الخشبي ، ولا يعني دائماً الصندوق الذي يوضع فيه الأموات كما يظن البعض ، بل إنّ له معنى واسعاً.

ثم تضيف : (فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّى وَعَدُوٌّ لَّهُ).

إنّ كلمة «عدو» قد تكررت هنا ، وهذا تأكيد على عداء فرعون لله ، ولموسى وبني إسرائيل ، وأشارت إلى أنّ الشخص الذي انغمس إلى هذا الحدّ في العداء هو الذي سيتولّى في النهاية تربية موسى.

ولما كان موسى عليه‌السلام يجب أن يحفظ في حصن أمين في هذا الطريق المليء بالمخاطر ، فقد ألقى الله قبساً من محبّته عليه ، إلى الحدّ الذي لم ينظر إليه أحد إلّاويعشقه ، فلا يكف عن قتله وحسب ، بل لا يرضى أن تنقص شعرة من رأسه ، كما يقول القرآن في بقية هذه الآيات : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنّى).

يقولون : إنّ قابلة موسى كانت من الفراعنة ، وكانت مصمّمة على رفع خبر ولادته إلى فرعون ، إلّاأنّه لمّا وقعت عينها على عين المولود الجديد ، فكأنّ ومضة برقت من عينه وأضاءت أعماق قلبها ، وطوّقت محبته رقبتها ، وابتعدت عن رأسها كل الأفكار السيئة.

وتقول الآية في النهاية : (وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِى).

وكان قصر فرعون قد بني على جانب شط النيل ، وبينما كان فرعون وزوجته على حافّة الماء ينظرون إلى الأمواج ، وإذا بهذا الصندوق الغريب يلفت انتباههما ، فأمر جنوده أن يخرجوا الصندوق من الماء ، فلمّا فتحوا الصندوق شاهدوا بكامل العجب مولوداً جميلاً فيه ، وهو شيء لم يكن بالحسبان.

وهنا تنبّه فرعون إلى أنّ هذا الوليد ينبغي أن يكون من بني إسرائيل ، وإنّما لاقى هذا المصير خوفاً من جلاوزته ، فأمر بقتله ، إلّاأنّ زوجته ـ التي كانت عقيماً ـ تعلّقت جدّاً بالطفل ، فقد نفذ النور الذي كان ينبعث من عيني الطفل إلى زوايا قلبها ، وجذبها إليه ، فضربت على يد فرعون وطلبت منه أن يصرف النظر عن قتله ، وعبّرت عن هذا الطفل بأنّه (قرّة عين) ، بل وتمادت في طلبها ، فطلبت منه أن يتخذاه ولداً ليكون مبعث أمل لهما ، ويكبر في أحضانهما ، وأصرّت على طلبها حتى أصابت سهامها ، وحققت ما تصبو إليه.

غير أنّ الطفل جاع ، وأراد لبناً ، فاخذ يبكي ويذرف الدموع.

والآن نقرأ بقية القصة على ضوء الآيات الشريفة :

نعم يا موسى ، فإنّا كنّا قدّرنا أن تتربى بأعيننا وعلمنا (إِذْ تَمْشِى أُخْتُكَ) بأمر امّك

٢٠٨

لتراقب مصيرك ، فرأت جنود فرعون : (فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ). وربّما أضافت بأنّ هذه المرأة لها لبن نظيف ، وأنا مطمئنة بأنّ هذا الرضيع سيقبلها.

فاستبشر الجنود على أمل أن يجدوا ضالّتهم عن هذا الطريق ، فذهبوا معها ، فأطلعت اخت موسى ـ والتي كانت تظهر نفسها بمظهر الشخص الغريب والمجهول ـ امّها على الأمر ، فجاءت امّه إلى بلاط فرعون ، من دون أن تفقد سيطرتها على أعصابها ، بالرغم من أنّ أمواجاً من الحب والأمل كانت قد أحاطت بكل قلبها ، واحتضنت الطفل ، فلما شمّ الطفل رائحة امّه ، وكانت رائحة مألوفة لديه ، التقم ثديها كأنّه تضمّن لذة الروح وحلاوتها ، واشتغل الطفل بشرب اللبن بلهفة وعشق شديدين ، فانطلقت صرخات الفرح من الحاضرين ، وبدت آثار الفرح والسرور على زوجة فرعون.

فقد أمرها فرعون بالإهتمام بالطفل ، وأكّدت زوجته كثيراً على حفظه وحراسته ، وأمرت أن يعرض عليها الطفل بين فترة واخرى.

هنا تحقق ما قاله القرآن : (فَرَجَعْنكَ إِلَى أُمّكَ كَى تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ).

ومرّت السنون والاعوام ، وتربّى موسى عليه‌السلام وسط هالة من لطف الله ومحبته ، وفي محيط آمن ، وشيئاً فشيئاً أصبح شابّاً. وكان ذات يوم يمرّ من طريق فرأى رجلين يتشاجران ، أحدهما من بني إسرائيل والآخر من الأقباط ـ وهم المصريون ، قوم فرعون ـ ولمّا كان بنو إسرائيل يعيشون دائماً تحت ضغط الأقباط الظالمين وأذاهم ، هبّ موسى لمعونة المظلوم الذي كان من بني إسرائيل ، ومن أجل الدفاع عنه وجّه ضربة قاتلة إلى ذلك القبطي ، فقضت عليه.

إنّ موسى ، وحسب إشارة بعض أصدقائه عليه ، خرج متخفّياً من مصر ، وتوجّه إلى مدين ، فوجد محيطاً وجوّاً آمناً في ظل النبي «شعيب» ، والذي سيأتي شرح حاله في تفسير سورة القصص إن شاء الله تعالى

هنا حيث يقول القرآن الكريم : (وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنكَ مِنَ الْغَمّ وَفَتَنكَ فُتُونًا). فبعد حادثة القتل اختبرناك كثيراً والقينا بك في اتون الحوادث والشدائد (فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِى أَهْلِ مَدْيَنَ). وبعد اجتياز هذا الطريق الطويل ، والإستعداد الروحي والجسمي ، والخروج من دوامة الأحداث بشموخ وانتصار (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يمُوسَى). أي لاستلام مهمة الرسالة في زمان مقدّر إلى هذا المكان.

٢٠٩

ثم يضيف : (وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِى). فمن أجل مهمّة تلقّي الوحي الصعبة ، ومن أجل قبول الرسالة ، ومن أجل هداية العباد وإرشادهم ربّيتك واختبرتك في الحوادث الصعبة ومشاقّها ، ومنحتك القوة والقدرة ، والآن حيث ألقيت هذه المهمة الكبرى على عاتقك ، فإنّك مؤهّل من جميع الجوانب.

«اصطناع» : من مادة «صنع» بمعنى الإصرار والاقدام الأكيد على اصلاح شيء. ويعني إنّني قد اصلحتك من كل الجهات.

(اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (٤٢) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (٤٣) فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (٤٤) قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (٤٥) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (٤٦) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (٤٧) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) (٤٨)

أوّل لقاء مع فرعون الجبار : الآن وقد أصبح كل شيء مهيّأً ، وكل الوسائل قد جعلت تحت تصرّف موسى ، فقد خاطب الله سبحانه موسى وهارون بقوله : (اذْهَبْ أَنتَ وَأَخُوكَ بَايتِى). الآيات التي تشمل المعجزتين الكبيرتين لموسى عليه‌السلام ، كما تشمل كل آيات الله وتعليماته التي هي بذاتها دليل على أحقّية دعوته.

ومن أجل رفع معنوياتهما ، والتأكيد على بذل أقصى ما يمكن من المساعي والجهود ، فقد أضاف سبحانه قائلاً : (وَلَا تَنِيَا فِى ذِكْرِى) وتنفيذ أوامري ، لأنّ الضعف واللين وترك الحزم سيذهب بكل جهودكما أدراج الرياح ، فأثبتا ولاتخافا من أيّ حادثة ، ولا تضعفا أمام أيّ قدرة.

بعد ذلك ، يبيّن الهدف الأساس لهذه الحركة ، والنقطة التي يجب أن تكون هدفاً لتشخيص المسار ، فيقول : (اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى). فإنّه سبب كل الشقاء والتعاسة في هذه المنطقة الواسعة ، وما لم يتمّ إصلاحه فسوف لا ينجح أيّ عمل ، لأنّ عامل تقدّم الامّة أو تخلّفها ، سعادتها أو شقائها وبؤسها هو قادتها وحكّامها.

ثم بيّنت الآية طريقة التعامل المؤثرة مع فرعون ، فمن أجل أن تنفذا إليه وتؤثّرا فيه (فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى).

٢١٠

ومع هذه الحال ، فقد كان موسى وهارون قلقين من أنّ هذا الرجل القوي المتغطرس المستكبر ، الذي عمّ رعبه وخشونته كل مكان ، قد يقدم على عمل قبل أن يبلّغان الدعوة ، ويهلكهما ، لذلك (قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَن يَطْغَى).

إلّا أنّ الله سبحانه قد أجابهما بحزم : ف (قَالَ لَاتَخَافَا إِنَّنِى مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) وبناءً على هذا ، فمع وجود الله القادر معكما في كل مكان ، الله الذي يسمع كل شيء ، ويرى كل شيء ، وهو حاميكما وسندكما ، فلا معنى للخوف والرعب.

ثم يبيّن لهما بدقّة كيفية إلقاء دعوتهما في محضر فرعون في خمس جمل قصار قاطعة غنيّة المحتوى ، ترتبط أوّلها بأصل المهمة ، والثانية ببيان محتوى المهمة ، والثالثة بذكر الدليل والسند ، والرّابعة بترغيب الذين يقبلونها ، وأخيراً فإنّ الخامسة تكفّلت بتهديد المعارضين.

فتقول أوّلاً : (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبّكَ).

ثم تقول : (فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِى إِسْرَاءِيلَ وَلَا تُعَذّبْهُمْ).

ثم أشارت إلى دليلهما ووثيقتهما ، فتقول : قولا له : (قَدْ جْنكَ بَايَةٍ مِّن رَّبّكَ). وبناءً على هذا ، فإنّ العقل يحكم بأن تفكّر في كلامنا على الأقل ، وأن تقبله إن كان صحيحاً ومنطقياً.

ثم تضيف الآية من باب ترغيب المؤمنين : (وَالسَّلمُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى). وهذه الجملة يمكن أن تشير أيضاً إلى معنى آخر ، وهو أنّ السلامة في هذه الدنيا ، والعالم الآخر من الآلام والعذاب الإلهي الأليم ، ومن مشاكل الحياة الفردية والاجتماعية ، من نصيب اولئك الذين يتّبعون الهدى الإلهي ، وهذه في الحقيقة هي النتيجة النهائية لدعوة موسى.

وأخيراً ، فإنّ الله يأمرهما أن يُفهماه العاقبة المشؤومة للتمرد على هذه الدعوة وعصيانها ، بقولهما له : (إِنَّا قَدْ أُوحِىَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَن كَذَّبَ وَتَوَلَّى).

إنّ هذه حقيقة يجب أن تقال لفرعون بدون لفّ ودوران ، وبدون أي تغطية وتورية.

(قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (٤٩) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (٥٠) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (٥١) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (٥٢) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (٥٣) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (٥٤) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (٥٥)

٢١١

لقد حذف القرآن المجيد هنا بعض المطالب التي يمكن فهمها بمعونة الأبحاث الآتية ، وتوجّه مباشرةً إلى محاورة موسى وهارون مع فرعون ، والمبحث في الواقع هكذا :

لمّا أصبح موسى أمام فرعون وجهاً لوجه ، أعاد تلك الجمل الدقيقة المؤثرة التي علّمه الله إيّاها أثناء الأمر بالرسالة. فلما سمع فرعون هذا الكلام ، كان أوّل ردّ فعله أن (قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا يمُوسَى). والعجيب أنّ فرعون المغرور والمعجب بنفسه لم يكن مستعدّاً حتى أن يقول : من ربّي الذي تدّعيانه؟ بل قال : من ربّكما؟

فأجابه موسى مباشرةً بجواب جامع جدّاً ، وقصير في الوقت نفسه ، عن الله : (قَالَ رَبُّنَا الَّذِى أَعْطَى كُلَّ شَىْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى). ففي هذه العبارة الموجزة إشارة إلى أصلين أساسيين من الخلقة والوجود ، وكل واحد منهما دليل وبرهان مستقل يوصل إلى معرفة الله :

الأوّل : إنّ الله سبحانه قد وهب لكل موجود ما يحتاجه.

والثاني : مسألة هداية وإرشاد الموجودات.

إنّ من الممكن أن يمتلك الإنسان أيّ شيء من أسباب الحياة ، إلّاأنّه يجهل كيفية الاستفادة منها ، والمهم أن يعرف طريقة استعمالها ، وهذا هو الشيء الذي نراه في الموجودات المختلفة بوضوح ، وكيف أنّ كلّاً منها يستغلّ طاقته بصورة دقيقة في إدامة حياته ، كيف يبني بيتاً ، وكيف يتكاثر ، وكيف يربّي أولاده ويخفيهم ويبعدهم عن متناول الأعداء ، أو يعلّمهم كيف يواجهون الأعداء.

والبشر ـ أيضاً ـ لديهم هذه الهداية التكوينية.

فإنّ الإنسان نتيجة لإمتلاكه العقل والإرادة ، فإنّ له واجبات ومسؤوليات ، وبعد ذلك مناهج تكاملية ليس للحيوانات مثلها ، ولذلك فإنّه إضافة إلى الهداية التكوينية محتاج إلى الهداية التشريعية.

فلما سمع فرعون هذا الجواب الجامع الجميل ، ألقى سؤالاً آخر (قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى).

أجابه موسى عليه‌السلام بقوله : (قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبّى فِى كِتبٍ لَّايَضِلُّ رَبّى وَلَا يَنسَى).

إنّ موسى قد نبّه بصورة ضمنيّة على إحاطة علم الله بكل شيء ، لينتبه فرعون إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ أي شيء من عمله لا يخفى على الله وإن كان بمقدار رأس الإبرة ، وسوف ينال عقابه أو ثوابه.

٢١٢

ولما كان جانب من حديث موسى عليه‌السلام حول مسألة التوحيد ومعرفة الله ، فإنّه يبيّن هنا فصلاً آخر في هذا المجال ، فيقول : (الَّذِى جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّن نَّبَاتٍ شَتَّى). وفي مجموع هذه الآية إشارة إلى أربعة أنواع من نعم الله الكبرى.

إنّ هذه النعم الأربع الكبرى تشكّل حسب الترتيب الذي ورد في الآية أولويّات حياة الإنسان ، فقبل كل شيء يحتاج الإنسان إلى محلّ سكن وهدوء ، وبعده إلى طرق المواصلات ، ثم الماء ، ثم المحاصيل الزراعية.

ثم أشار إلى خامس النعم وآخرها من سلسلة النعم الإلهية هذه ، فقال : (كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ).

وفي النهاية ، وبعد أن أشار إلى كل هذه النعم ، قال : (إِنَّ فِى ذلِكَ لَأَيتٍ لِأُولِى النُّهَى).

«النهى» : جمع «نهية» وهي في الأصل مأخوذة من مادة «نهي» مقابل الأمر ، وتعني العقل الذي ينهى الإنسان عن القبائح والسيئات ، يعني إنّ العقل والفكر المسؤول هو الذي يستطيع أن يدرك ويطّلع على هذه الحقيقة.

وبما أنّ هذه الآيات دلّلت على التوحيد بخلق الأرض ونعمها ، فقد بيّنت مسألة المعاد بالإشارة إلى الأرض في آخر آية من هذه الآيات أيضاً فقالت : (مِنْهَا خَلَقْنكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى).

(وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (٥٦) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (٥٧) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَاناً سُوًى (٥٨) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (٥٩) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (٦٠) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (٦١) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (٦٢) قَالُوا إِنْ هذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (٦٣) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى) (٦٤)

٢١٣

فرعون يُهيّء نفسه للجولة الأخيرة : تعكس هذه الآيات مرحلة اخرى من المواجهة بين موسى وفرعون ، ويبدأ القرآن الكريم هذا الفصل بهذه الجملة : (وَلَقَدْ أَرَيْنهُءَايَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى). ومن المسلّم أنّ المراد من هذه الآيات هي المعجزات التي أراها فرعون في بداية دعوته ، معجزة العصا ، واليد البيضاء ، ومحتوى دعوته السماوية الجامعة.

والآن ، لنر ماذا قال فرعون الطاغي المستكبر العنود في مقابل موسى ومعجزاته ، وكيف اتّهمه كما هي عادة كل المتسلطين والحكّام المتعنّتين؟ (قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يمُوسَى). وهو إشارة إلى أنّنا نعلم أنّ مسألة النبوة والدعوة إلى التوحيد ، وإظهار هذه المعجزات تشكّل بمجموعها خطّة منسّقة للإنتصار علينا ، وبالتالي إخراجنا مع الأقباط من أرض آبائنا وأجدادنا.

إنّ هذه التهمة هي نفس الحربة التي يستخدمها الطواغيت والمستعمرون على إمتداد التاريخ ، ويلوحون بها ويشهرونها كلّما رأوا أنفسهم في خطر ، ومن أجل إثارة الناس لصالحهم يثيرون مسألة تعرّض مصالح البلد للخطر ، فالبلد يعني حكومة هؤلاء العتاة ، ووجوده يعني وجودهم!

ثم أضاف فرعون بأن لا تظن بأنّنا نعجز عن أن نأتي بمثل هذا السحر : (فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مّثْلِهِ). ولكي يظهر حزماً أكثر فإنّه قال : (فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَّانُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنتَ مَكَانًا سُوًى).

إلّا أنّ موسى لم يفقد هدوء أعصابه ، ولم يدع للخوف من عنجهيّة فرعون إلى قلبه طريقاً ، بل قال بحزم : (قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزّينَةِ وَأَن يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى) (١).

إنّ التعبير ب (يَوْمُ الزّينَةِ) إشارة إلى يوم عيد إلّاأنّ المهم هو أنّ الناس كانوا يعطّلون أعمالهم فيه.

إنّ فرعون بعد مشاهدة معجزات موسى العجيبة ، وتأثيرها النفسي في أنصاره ، صمّم على مواجهة موسى عليه‌السلام بالإستعانة بالسّحرة ، ولذلك وضع الإتفاق المذكور مع موسى (فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى).

وأخيراً حلّ اليوم الموعود ، ووقف موسى أمام جميع الحاضرين ، الذين كان بعضهم

__________________

(١) «الضحى» : بمعنى زيادة أشعّة الشمس ، أو إرتفاع الشمس.

٢١٤

السحرة ، وكان عددهم ـ على رأي بعض المفسرين ـ إثنين وسبعين ساحراً ، وقال آخرون إنّهم بلغوا أربعمائة ، وذكر البعض أعداداً أكبر أيضاً ، وكان قسم من ذلك الجمع عبارة عن فرعون وأنصاره وحاشيته ، وأخيراً القسم الثالث الذي كان يشكّل الأكثرية ، وهم الناس المتفرجون.

هنا توجّه موسى إلى السّحرة ، أو إلى الفراعنة والسحرة ، و (قَالَ لَهُم مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى).

وواضح أنّ مراد موسى من الإفتراء على الله سبحانه هو أن يجعلوا شخصاً أو شيئاً شريكاً له ، أو ينسبوا معجزات رسول الله إلى السحر ، ويظنّوا أنّ فرعون إلههم ومعبودهم.

إنّ كلام موسى المتين الذي لا يشبه كلام السّحرة بوجه ، بل إنّ نبرته كانت نبرة دعوة كل الأنبياء الحقيقيين ، ونابعة من صميم قلب موسى الطاهر ، فأثّرت على بعض القلوب ، وأوجدت إختلافاً بين ذلك الحشد من السّحرة ، فبعض كان يناصر المواجهة والمبارزة ، وبعض تردّد في الأمر ، واحتمل أن يكون موسى عليه‌السلام نبيّاً إلهيّاً ، وأثّرت فيهم تهديداته ، خاصةً وأنّ لباس موسى وهارون البسيط كان لباس رعاة الأغنام ، وعدم مشاهدة الضعف والتراجع على محيّاهما بالرغم من كونهما وحيدين ، كان يعتبر دليلاً آخر على أصالة أقوالهما وصدق نواياهما ، ولذلك فإنّ القرآن يقول : (فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُم بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى).

إلّا أنّ أنصار الاستمرار في المواجهة إنتصروا أخيراً وأخذوا زمام المبادرة بيدهم ، وشرعوا في تحريك السحرة بطرق مختلفة ، فأوّلاً (قَالُوا إِنْ هذَانِ لَسَاحِرَانِ). وبناءً على هذا فلا يجب أن تخافوا مواجهتهما ، لأنّكم كبار وأساتذة السحر في هذه البلاد العريضة ، ولأنّ قوّتكم وقدرتكم أكبر منهما.

ثم إنّهما (يُرِيدَانِ أَن يُخْرِجَاكُم مّنْ أَرْضِكُم بِسِحْرِهِمَا). الوطن الذي هو أعزّ من أنفسكم. إضافة إلى أنّهما لا يقنعان بإخراجكم من أرضكم ، بل إنّهما يريدان أيضاً أن يجعلا مقدساتكم اضحوكة ومحلّاً للسخرية (وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى) (١).

والآن حيث أصبح الأمر كذلك ، فلا تدعوا للتردّد إلى أنفسكم طريقاً مطلقاً ، بل

__________________

(١) «الطريقة» : تعني العادة والاسلوب المتبع ، والمراد منها هنا المذهب ؛ و «مثلى» : من مادّة «مثل» وهي هنا تعني العالي والأفضل ، أي الأشبه بالفضيلة.

٢١٥

(فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا) لأنّ الوحدة رمز إنتصاركم في هذه المعركة المصيرية الحاسمة (وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى).

(قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (٦٥) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (٦٦) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (٦٧) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (٦٨) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى) (٦٩)

موسى عليه‌السلام ينزل إلى الساحة : لقد اتّحد السّحرة ظاهراً ، وعزموا على محاربة موسى عليه‌السلام ومواجهته ، فلمّا نزلوا إلى الميدان (قَالُوا يمُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِىَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى).

غير أنّ موسى عليه‌السلام بدون أن يبدي عجلة ، لإطمئنانه بأنّ النصر سوف يكون حليفه ، بل وبغضّ النظر عن أنّ الذي يسبق إلى الحلبة في هذه المجابهات هو الذي يفوز (قَالَ بَلْ أَلْقُوا).

فقبل السحرة ذلك أيضاً ، وألقوا كل ما جلبوه معهم من عصي وحبال للسحر في وسط الساحة دفعة واحدة ، وإذا قبلنا الرواية التي تقول : إنّهم كانوا آلاف الأفراد ، فإنّ معناها أنّ في لحظة واحدة القيت في وسط الميدان آلاف العصي والحبال التي ملئت أجوافها بمواد خاصة (فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى).

إنّ المشهد كان عجيباً جدّاً ، فإنّ السحرة الذين كان عددهم كبيراً ، وتمرّسهم وإطلاعهم في هذا الفن عميقاً ، وكانوا يعرفون جيّداً طريقة الاستفادة من خواص هذه الأجسام الفيزيائية والكيميائية الخفية ، استطاعوا أن ينفذوا إلى أفكار الحاضرين ليصدّقوا أنّ كل هذه الأشياء الميتة قد ولجتها الروح ، فعلت صرخات السرور من الفراعنة ، بينما كان بعض الناس يصرخون من الخوف والرعب ، ويتراجعون إلى الخلف.

في هذه الأثناء (فَأَوْجَسَ فِى نَفْسِهِ خِيفَةً مُّوسَى). «أوجس» : أخذت من مادة «إيجاس» وفي الأصل من (وجس) على وزن (حبس) بمعنى الصوت الخفي ، وبناءً على هذا فإنّ الإيجاس يعني الإحساس الخفي والداخلي ، وهذا يوحي بأنّ خوف موسى الداخلي كان سطحياً وخفيفاً. كما نقرأ في خطبة الإمام علي عليه‌السلام : «لم يوجس موسى عليه‌السلام خيفة على نفسه ، بل

٢١٦

أشفق من غلبة الجهّال ودول الضلال» (١).

فقد نزل النصر والمدد الإلهي على موسى في تلك الحال ، وبيّن له الوحي الإلهي أنّ النصر حليفه كما يقول القرآن : (قُلْنَا لَاتَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى).

فقد أرجعت لموسى إطمئنانه الذي تزلزل للحظات قصيرة.

وخاطبه الله مرّة اخرى بقوله تعالى : (وَأَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى).

وممّا يلفت النظر أنّه لم يقل (الق عصاك) بل يقول : (أَلْقِ مَا فِى يَمِينِكَ) وربّما كان هذا التعبير إشارة إلى عدم الإهتمام بالعصا ، وإشارة إلى أنّ العصا ليست مسألة مهمّة ، بل المهم إرادة الله وأمره ، فإنّه إذا أراد الله شيئاً ، فليست العصا فقط ، بل أقل وأصغر منها قادر على إظهار مثل هذه القدرة.

(فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (٧٠) قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى (٧١) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (٧٢) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (٧٣) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (٧٤) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (٧٥) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى) (٧٦)

الإنتصار العظيم لموسى عليه‌السلام : إنتهينا في الآيات السابقة إلى أنّ موسى امر أن يلقي عصاه ليبطل سحر السّاحرين ، وقد عُقّبت هذه المسألة في هذه الآية ، غاية الأمر أنّ العبارات والجمل التي كانت واضحة قد حذفت ، وهي (أنّ موسى قد ألقى عصاه ، فتحوّلت إلى حيّة

__________________

(١) لقد قال الإمام علي عليه‌السلام هذا الكلام في وقت كان قلقاً من انحراف الناس ، ويشير إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ قلقي ليس نابعاً من شكّي في الحق. (نهج البلاغة الخطبة ٤).

٢١٧

عظيمة لقفت كل آلات وأدوات سحر السّحرة ، فعلت الصيحة والغوغاء من الحاضرين ، فاستوحش فرعون وإرتبك ، وفغر أتباعه أفواههم من العجب.

فأيقن السحرة الذين لم يواجهوا مثل هذا المشهد من قبل ، وكانوا يفرّقون جيّداً بين السحر وغيره ، إنّ هذا الأمر ليس إلّامعجزة إلهية ، وأنّ هذا الرجل الذي يدعوهم إلى ربّهم هو رسول الله ، فاضطربت قلوبهم ، وتبيّن التحوّل العظيم في أرواحهم ووجودهم).

والآن نسمع بقيّة الحديث من لسان الآيات :

(فَأُلْقِىَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُواءَامَنَّا بِرَبّ هرُونَ وَمُوسَى). إنّ التعبير ب (القي) ـ وهو فعل مبني للمجهول ـ ربّما كان إشارة إلى أنّهم قد صدّقوا موسى ، وتأثّروا بمعجزته إلى الحد الذي سجدوا معه دون إرادة.

إنّ عمل السّحرة هذا قد وجّه صفعة قويّة إلى فرعون وحكومته الجبارة المستبدة الظالمة ، ولذلك لم ير فرعون بدّاً إلّاأن يجمع كيانه ويلملم ما تبقّى من هيبته وسلطانه عن طريق الصراخ والتهديد والوعيد الغليظ ، فتوجّه نحو السحرة و (قَالَءَامَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْءَاذَنَ لَكُمْ).

إنّ هذا الجبار المستكبر لم يكن يدّعي الحكومة على أجسام وأرواح الناس وحسب ، بل كان يريد أن يقول : إنّ قلوبكم تحت تصرفي أيضاً ، ويجب على أحدكم إذا أراد أن يصمّم على أمر ما أن يستأذنني.

إنّ فرعون لم يكتف بذلك ، بل إنّه ألصق بالساحرين التهمة وقال : (إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِى عَلَّمَكُمُ السّحْرَ).

لا شكّ أنّ فرعون كان على يقين ومعرفة تامّة بكذب كلامه وبطلانه ، إلّاأنّا نعلم أنّ الطغاة لا يتورّعون عن إلصاق أي كذب وتهمة بخصومهم عندما يرون مركزهم الذي حصلوا عليه بغير حق يتعرّض للخطر.

ثم إنّه لم يكتف بهذا ، بل إنّه هدّد السحرة أشدّ تهديد ، التهديد بالموت ، فقال : (فَلَأُقَطّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلفٍ وَلَأُصَلّبَنَّكُمْ فِى جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى).

لكن نرى ماذا كان ردّ فعل السحرة تجاه تهديدات فرعون الشديدة؟ إنّهم لم يخافوا ولم يهربوا من ساحة المواجهة ، أثبتوا صمودهم في الميدان بصورة قاطعة ، و (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيّنتِ وَالَّذِى فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ) لكن ، ينبغي أن تعلم بأنّك تقدر على

٢١٨

القضاء في هذه الدنيا ، أمّا في الآخرة فنحن المنتصرون ، وستلاقي أنت أشدّ العقاب (إِنَّمَا تَقْضِى هذِهِ الْحَيَوةَ الدُّنيَا).

ثم أضافوا بأنّا قد إرتكبنا ذنوباً كثيرة نتيجة السحر ، ف (إِنَّاءَامَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطينَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السّحْرِ وَاللهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى). وخلاصة القول : إنّ هدفنا هو الطهارة من الذنوب الماضية ، ومن جملتها محاربة نبي الله الحقيقي ، فإذا كنت تهدّدنا بالموت في الدنيا ، فإنّنا نتقبّل هذا الضرر القليل في مقابل ذلك الخير العظيم.

ثم واصل السحرة قولهم بأنّنا إذا كنّا قد آمنا فإنّ سبب ذلك واضح ف (إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ) ومصيبته الكبرى في الجحيم هي أنّه (لَايَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى) بل إنّه يتقلّب دائماً بين الموت والحياة ، تلك الحياة التي هي أمرّ من الموت ، وأكثر مشقّة منه.

(وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصلِحتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجتُ الْعُلَى * جَنتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الْأَنْهرُ خلِدِينَ فِيهَا وَذلِكَ جَزَاءُ مَن تَزَكَّى).

عندما صمّموا على قبول الحقّ والثبات عليه بعشق ، وعلى قول المفسر الكبير العلّامة الطبرسي رحمه‌الله : «كانوا أوّل النهار كفّاراً سحرة ، وآخر النهار شهداء بررة».

(وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَّا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (٧٧) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُم مِّنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (٧٨) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى) (٧٩)

نجاة بني إسرائيل وغرق الفراعنة : بعد حادثة المجابهة بين موسى والسحرة ، وإنتصاره الباهر عليهم ، وإيمان جمع عظيم منهم ، فقد غزا موسى عليه‌السلام ودينه أفكار الناس في مصر ، بالرغم من أنّ أكثر الأقباط لم يؤمنوا به ، إلّاأنّ هذا كان ديدنهم دائماً ، وكان بنو إسرائيل تحت قيادة موسى مع قلّة من المصريين في حالة صراع دائم مع الفراعنة ، ومرّت أعوام على هذا المنوال ، وحدثت حوادث مرّة موحشة وحوادث جميلة مؤنسة ، أورد بعضها القرآن الكريم في الآية (١٢٧) وما بعدها من سورة الأعراف.

وتشير الآيات التي نبحثها إلى آخر فصل من هذه القصة ، أي خروج بني إسرائيل من مصر ، فتقول : (وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِى). فتهيّأ بنو إسرائيل للتوجه إلى

٢١٩

الوطن الموعود (فلسطين) ، إلّاأنّهم لمّا وصلوا إلى سواحل النيل علم الفراعنة بهم ، فتعقّبهم فرعون في جيش عظيم ، فرأى بنو إسرائيل أنفسهم محاصرين بين البحر والعدو ، إلّا أنّ الله أمر موسى أن امض بقومك (فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِى الْبَحْرِ يَبَسًا). طريقاً متى ما مضيت فيه ف (لَّاتَخفُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى).

وبذلك فإنّ موسى وبني إسرائيل قد ساروا في تلك الطرق التي فتحت في أعماق البحر بعد إنحسار المياه عنها ، في هذه الأثناء وصل فرعون وجنوده إلى ساحل البحر فدُهشوا لهذا المشهد المذهل المثير غير المتوقّع ، ولذلك أعطى فرعون أمراً لجنوده باتّباعهم ، وسار هو أيضاً في نفس الطريق : (فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ).

إنّ فرعون الذي ركب الغرور والعصبية رأسه ، وغرق في بحر العناد والحماقة ، لم يهتمّ لهذه المعجزة الكبيرة ، وأمر جيشه في المسير في هذه الطرق البحرية المريبة حتى دخل من هذه الجهة آخر جندي فرعوني ، في وقت خرج من الجانب الآخر آخر فرد من بني إسرائيل.

في هذه الأثناء صدر الأمر لأمواج المياه أن ترجع إلى حالتها الاولى ، فوقعت عليهم الأمواج كما تسقط البناية الشامخة إذا هدّمت قواعدها (فَغَشِيَهُم مّنَ الْيَمّ مَا غَشِيَهُمْ). أجل ، (وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى).

صحيح أنّ جملة (أضلّ) وجملة (ما هدى) تعطي معنى واحداً تقريباً إلّاأنّ الظاهر أنّ هناك تفاوتاً فيما بينهما ، وهو أنّ (أضلّ) إشارة إلى الإضلال ، و (ما هدى) إشارة إلى عدم الهداية بعد وضوح الضلالة.

إنّ فرعون كان عنيداً إلى الحد الذي لم يبيّن لقومه الحقيقة حتى بعد وضوح الضلال ومشاهدته.

(يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (٨٠) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (٨١) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى) (٨٢)

٢٢٠