مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

آية الله ناصر مكارم الشيرازي

مختصر الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - ج ٣

المؤلف:

آية الله ناصر مكارم الشيرازي


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مدرسة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام
المطبعة: سليمان‌زاده
الطبعة: ١
ISBN: 964-533-050-5
ISBN الدورة:
964-533-53-X

الصفحات: ٥٩١

ـ بعد فترة ـ نرى أنّ نباتات الأرض تتشابك فيما بينها : (فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ).

الجبل والصحراء يتحوّلان إلى قوّة حياتية دافعة ، أمّا البراعم والفواكه والأوراد فإنّها تزيّن الأغصان ، وكأنّ الجميع يضحك ، يصرخون صراخ الفرح ؛ يرقصون فرحاً.

لكن هذا الواقع الجذّاب لا يدوم طويلاً ، حيث تهب رياح الخريف وتلقي بغبار الموت على النباتات ، يبرد الهواء ، وتشح المياه ، ولا تمضي مدّة حتى يمسى ذلك الزرع الجميل الأخضر ذو الأغصان المورقة ، ميتاً ويابساً : (فَأَصْبَحَ هَشِيمًا) (١).

تلك الأوراق التي لم تتمكن العواصف الهوجاء من فصلها عن الأغصان في فصل الربيع ، قد أصبحت ضعيفة بدون روح بحيث إنّ أي نسيم يهب عليها يستطيع فصلها عن الأغصان ويرسلها إلى أيّ مكان شاء : (تَذْرُوهُ الرّيحُ) (٢).

نعم : (وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلّ شَىْءٍ مُّقْتَدِرًا).

الآية التي بعدها تذكر وضع المال والثروة والقوة الإنسانية اللذين يعتبران ركنين أساسيين في الحياة الدنيا ، حيث تقول : (الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَوةِ الدُّنْيَا).

إنّ هذه الآية تشير إلى أهم قسمين في رأسمال الحياة حيث ترتبط الأشياء الاخرى بهما ، إنّها تشير إلى (القوة الاقتصادية) و (القوة الإنسانية).

ثم يضيف القرآن : (وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً).

إنّ مفهوم الباقيات الصالحات يشمل كل فكره وقول وعمل صالح تدوم وتبقى آثاره وبركاته بين الأفراد والمجتمعات.

(وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (٤٧) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (٤٨) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَا لِهذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِراً وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) (٤٩)

__________________

(١) «هشيم» : من «هشم» بمعنى محطّم ، وهي هنا تطلق على النباتات المتيبسة والمتحطّمة.

(٢) «تذروه» : من «ذرو» وتعني التشتيت.

١٤١

يا ويلتاه من هذا الكتاب : تعقيباً لما كانت تتحدّث به الآيات السابقة عن غرور الإنسان وإعجابه بنفسه ، وما تؤدّي إليه هذه الصفات من إنكار للبعث والمعاد ، ينصب المقطع الراهن من الآيات التي بين أيدينا على تبيان المراحل الممهدة للقيامة وفق الترتيب الآتي :

١ ـ مرحلة ما قبل بعث الإنسان.

٢ ـ مرحلة البعث.

٣ ـ قسم من مرحلة ما بعد البعث.

الآية الاولى تذكّر الإنسان بمقدمات البعث والقيامة فتقول : إنّ إنهيار معالم الشكل الراهن للعالم هي أوّل مقدمات البعث ، وسيتمّ هذا التغيير لشكل العالم من خلال مجموعة مظاهر ، في الطليعة منها تسيير الجبال الرواسي وكل ما يمسك الأرض ويبرز عليها ، حتى تبدو الأرض خالية من أيّ من المظاهر السابقة : (وَيَوْمَ نُسَيّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً).

هذه الآية تشير إلى حوادث قبيل البعث ، وهي حوادث كثيرة جدّاً. والملاحظ أنّ السور القصار تتحدث عنها بشكل بارز في إطار حديثها عما بات يعرف اصطلاحاً ب «أشراط الساعة».

إنّ المستفاد من مجموعة تلك السور أنّ وجه العالم الراهن يتغيّر بشكل كلي حيث تتلاشى الجبال ، وعلى حطام كل ذلك تظهر إلى الوجود سماء جديدة ، وأرض جديدة ، ليبدأ الإنسان حينئذ حياته الاخرى في مرحلة البعث والحساب.

بعد ذلك تضيف الآية قوله تعالى : (وَحَشَرْنهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا).

«نغادر» : من «غدر» بمعنى الترك. ولذلك يقال للذي يخلف الوعد والميثاق ويتركه بأنّه «غدر» ويقال لمياه الامطار المتجمعة في مكان واحد ب «الغدير» لأنّها قد تركت هناك.

تؤكّد الآية الآنفة الذكر على أنّ المعاد هو حالة عامة لا يستثنى منها أحد.

الآية التي بعدها تتحدث عن كيفية بعث الناس فتقول : (وَعُرِضُوا عَلَى رَبّكَ صَفًّا). إنّ استخدام هذا التعبير قد يكون إشارة إلى حشر كل مجموعة من الناس تتشابه في أعمالها في صفٍ واحد ؛ أو أنّ الجميع سيكونون في صف واحد دون أيّة إمتيازات أو تفاوت ، وسوف يقال لهم : (لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ).

فليس ثمة كلام عن الأموال والثروات ، ولا الذهب والزينة ، ولا الإمتيازات والمناصب

١٤٢

المادية ، ولا الملابس المختلفة ، وليس هناك ناصر أو معين ، ستعودون كمثل الحالة التي خلقناكم فيها أوّل مرّة ، بالرغم من أنّكم كنتم تتوهمون عدم امكان ذلك : (بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا).

وذلك في وقت سيطرت فيه حالة الغرور عليكم بما أوتيتم من إمكانات مادية غفلتم معها عن الآخرة ، وأصبحتم تفكّرون في حياتكم الدنيا وخلودها ، وغفلتم عن نداء الفطرة فيكم.

ثم تشير الآيات إلى مراحل اخرى من يوم البعث والمعاد فتقول : (وَوُضِعَ الْكِتبُ). هذا الكتاب الذي يحتوي على أحوال الناس بكل تفصيلاتها : (فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ). وذلك عندما يطّلعون على محتواه فتتجلى آثار الخوف والوحشة على وجوههم.

في هذه الأثناء يصرخون : (وَيَقُولُونَ يوَيْلَتَنَا مَالِ هذَا الْكِتبِ لَايُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصهَا).

بالإضافة إلى الكتاب المكتوب ثمة دليل آخر : (وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا). وجدوا الحسنات والسيئات ، الظلم والعدل ، السلبيات والخيانات ، كل هذه وغيرها وجدوها متجسّدة أمامهم.

في الواقع إنّهم يلاقون مصير أعمالهم : (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا). الذي سيشملهم هناك هو ـ لا محالة ـ ما قاموا به في هذه الحياة الدنيا ، لذلك فلا يلومون أحداً سوى أنفسهم.

ترى ما مقدار ما يعكسه الإيمان بهذا اليوم ـ بهذه المحكمة بكلّ ما تتخلله من مشاهد ومواقف ـ على قضية تربية الإنسان ودفعه ليتحرك في خط الرسالة والاستقامة والابتعاد عن الشهوات. فهل يمكن أن يجمع الإنسان بين الذنب ، وبين إيمانه ويقينه بهذا اليوم؟!

(وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (٥٠) مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (٥١) وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (٥٢) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفاً) (٥٣)

١٤٣

لا تتخذوا الشياطين أولياء : لقد تحدّثت الآيات مرّات عدّة عن خلق آدم وسجود الملائكة له ، وعدم انصياع إبليس. وقد قلنا : إنّ هذا التكرار يتضمن دروساً متعددة ، وفي كل مقطع مكرّر هناك دروس وعبر جديدة.

ولأنّ الآيات السابقة ذكرت مثالاً واقعياً عن كيفية وقوف الأثرياء المستكبرين والمغرورين في مقابل الفقراء المستضعفين وتجسّد عاقبة عملهم ، ولأنّ الغرور كان هو السبب الأصلي لإنحراف هؤلاء وانجرارهم إلى الكفر والطغيان ، لذا فإنّ الآيات تعطف الكلام على قصة إبليس وكيف أبى السجود لآدم غروراً منه وعلوّاً ، وكيف قاده هذا الغرور والعلو إلى الكفر والطغيان.

إضافة إلى ذلك ، فإنّ هذه القصة توضّح أنّ الانحرافات تنبع من وساوس الشيطان.

في البداية تقول الآيات : تذكّروا ذلك اليوم الذي فيه : (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلِكَةِ اسْجُدُوا لِأَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ).

هذا الاستثناء يمكن أن يوهمنا بأنّ إبليس كان من جنس الملائكة ، في حين أنّ الملائكة معصومون ، فكيف سلك إبليس ـ إذاً ـ طريق الطغيان والكفر إذا كان من جملتهم؟! لذلك فإنّ الآيات ـ منعاً لهذا الوهم ـ تقول مباشرة إنّه : (كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ).

إنّه إذاً لم يكن من الملائكة ، لكنه ـ بسبب عبوديته وطاعته للخالق جلّ وعلا ـ قرّب وكان في صف الملائكة ، إلّاأنّه ـ بسبب لحظة من الغرور والكبر ـ سقط وأصبح أكثر الموجودات نفرة وابتعاداً عن الله تبارك وتعالى.

ثم تقول الآية : (أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِى).

والعجب أنّهم : (وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ). وهذا العدو ، هو عدوّ صعب مصمّم على ضلالكم وأن يوردكم سوء العاقبة ، وقد أظهر عدوانه منذ اليوم الأوّل لأبيكم آدم عليه‌السلام.

فاتّخاذ الشيطان وأولاده بدلاً من الخالق المتعال أمر قبيح : (بِئْسَ لِلظلِمِينَ بَدَلاً).

الآية التي بعدها هي دليل آخر على إبطال هذا التصور الخاطيء ، إذ تقول : عن إبليس وابنائه أنّهم لم يكن لهم وجود حين خلق السماوات والأرض ، بل لم يشهدوا حتى خلق أنفسهم : (مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّموَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ). حتى نطلب العون منهم في خلق العالم ، أو نطلعهم على أسرار الخلق.

١٤٤

لذا فإنّ الشخص الذي ليس له أيّ دور في خلق العالم ، وحتى في خلق من يقع على شاكلته ومن هو من نوعه ، ولا يعرف شيئاً من أسرار الخلق ، كيف يكون مستحقاً للولاية ، أو العبادة ، وأيّ قدرة أو دور يملك؟

ثم تقول : (وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلّينَ عَضُدًا).

يعني أنّ الخلق قائم على أساس الصدق والصحة والهداية ، أمّا الكائن الذي يقوم منهج حياته على الإضلال والإفساد ، فليس له مكان في إدارة هذا النظام.

آخر آية من الآيات التي نبحثها ، تحذّر مرّة اخرى ، وتقول : تذكّروا يوماً يأتي فيه النداء الإلهي : (وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَاءِىَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ).

لقد كنتم تنادونهم عمراً كاملاً ، وكنتم تسجدون لهم ، واليوم وبعد أن أحاطت بكم أمواج العذاب في ساحة الجزاء ، نادوهم ليأتوا لمساعدتكم ولو لساعة واحدة فقط.

هناك ينادي الأشخاص الذين لا تزال ترسّبات أفكار الدنيا في عقولهم : (فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ). فلم يجيبوا على ندائهم ، فكيف بمساعدتهم وانقاذهم!

(وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوبِقًا) (١).

ثم تقول الآية التي بعدها موضّحة عاقبة الذين اتبعوا الشيطان والمشركين : (وَرَءَا الْمُجْرِمُونَ النَّارَ).

لقد انكشفت لهم النّار التي لم يكونوا يصدّقون بها أبداً ، وظهرت أمام أعينهم ، وحينئذ يشعرون بأخطائهم ، ويتيقّنون بأنّهم سيدخلون النار : (فَظَنُّوا أَنَّهُم مُّوَاقِعُوهَا).

ثم يتيقّنون أيضاً أن لا منقذ لهم منها : (وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا).

فلا تنقذهم اليوم منها لا معبوداتهم ولا شفاعة الشفعاء ، ولا الكذب أو التوسل بالذهب والقوة ، إنّها النار التي يزداد سعيرها بسبب أعمالهم.

«مواقعوها» : مشتقة من «مواقعة» بمعنى الوقوع على الآخرين ، وهي إشارة إلى أنّهم يقعون على النّار ، وأنّ النّار تقع عليهم ، فالنّار تنفذ فيهم وهم ينفذون في النار ؛ وقد قرأنا في الآية (٢٤) من سورة البقرة قوله تعالى : (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِى وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).

__________________

(١) «موبق» : من «وبوق» على وزن «نبوغ» وهي تعني الهلاك ، و «موبق» تقال للمهلكة.

١٤٥

(وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (٥٤) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً (٥٥) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُواً) (٥٦)

في انتظار العقاب : تنطوي هذه الآيات على تلخيص واستنتاج لما ورد في الآيات السابقة ، وهي تشير ـ أيضاً ـ إلى بحوث قادمة. الآية الاولى تقول : (وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِى هذَا الْقُرْءَانِ لِلنَّاسِ مِن كُلّ مَثَلٍ).

لقد ذكرنا نماذج من تأريخ الماضين المليء بالإثارة ، وقد أوضحنا للناس الحوادث المرّة للحياة واللحظات الحلوة في التاريخ ، وقد فصّلنا بيان هذه الامور بحيث تتقبلها القلوب المستعدّة للحق ، وتكون الحجة على الآخرين تامّة ، ولا يبقى ثمّة مجال للشك.

ولكن بالرغم من هذا فإنّ مجموعة عصاة لم يؤمنوا أبداً : (وَكَانَ الْإِنسنُ أَكْثَرَ شَىْءٍ جَدَلاً).

الآية التي بعدها تقول : إنّه بالرغم من كل هذه الأمثلة المختلفة والتوضيحات المثيرة والأساليب المختلفة التي ينبغي أن تنفذ إلى داخل الإنسان المستعد لقبول الحق ، فإنّ هناك مجموعة كبيرة من الناس لم تؤمن : (وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ). أي مصير الامم السالفة : (أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلاً) (١). فيرونه بأمّ أعينهم.

إنّ هذه الآية إشارة إلى أنّ هذه المجموعة المعاندة والمغرورة لا تؤمن بإرادتها وبشكل طبيعي أبداً ، بل هم يؤمنون في حالتين فقط :

أوّلاً : عندما يصيبهم العذاب الأليم الذي نزل مثله في الأقوام والامم السابقة.

ثانياً : عندما يشاهدون العذاب الإلهي بأعينهم ، وقد أشرنا مراراً إلى أنّ مثل هذا الإيمان هو إيمان عديم الفائدة.

__________________

(١) «قبل» : تعني التقابل ، بمعنى مشاهدة العذاب الإلهي بالعين.

١٤٦

ومن أجل طمأنة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله في مقابل صلافة وعناد أمثال هؤلاء ، تقول الآية : (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ).

ثم تقول الآية : إنّ هذه القضية ليست جديدة ، بل إنّ من واقع هؤلاء الأشخاص المعارضة والاستهزاء بآيات الله : (وَيُجدِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُواءَايتِى وَمَا أُنذِرُوا هُزُوًا) (١).

وهذه الآية تشبه الآيات (٤٢ ـ ٤٥) من سورة الحج التي تقول : (وَإِن يُكَذّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ) الآيات.

(وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (٥٧) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (٥٨) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً) (٥٩)

لا استعجال في العقاب الإلهي : الآيات السابقة كانت تتحدث عن مجموعة من الكافرين المتعصبين والمظلمة قلوبهم ؛ والآيات التي بين أيدينا تستمر في نفس البحث. ففي البداية قوله تعالى : (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بَايتِ رَبّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِىَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ).

إنّ استخدام تعبير ذكّر يوحي إلى أنّ تعليمات الأنبياء عليهم‌السلام هي بمثابة التذكير بالحقائق الموجودة بشكل فطري في أعماق الإنسان ، وإنّ مهمة الأنبياء هي رفع الحجب عن نقاء وشفافية هذه الفطرة.

الطريف في الأمر أنّ الآية الكريمة رسمت ثلاثة مسالك ليقظة هؤلاء وإعادتهم إلى نور الهداية ، هي :

__________________

(١) «يدحضوا» : مشتقة من «إدحاض» بمعنى الإبطال والإزالة ، وهي في الأصل مأخوذة من كلمة «دحض» بمعنى الإنزلاق.

١٤٧

أوّلاً : إنّ هذه الحقائق تلائم بشكل كامل ما هو مكنون في فطرتكم ووجدانكم وأرواحكم.

ثانياً : إنّها جاءت من قبل خالقكم.

ثالثاً : عليكم أن لا تنسوا أنّكم اقترفتم الذنوب ، وأنّ منهاج عمل الأنبياء هو فتح باب التوبة من الذنوب والهداية للصواب.

لكن هذه الفئة من الناس لم تؤمن برغم كل ذلك : (إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِىءَاذَانِهِمْ وَقْرًا). وبذلك لا تنفع معهم دعوتك : (وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا).

إنّ البرنامج التربوي للخالق جلّ وعلا هو أن يعطي لعباده الفرصة بعد الاخرى ، وهو جلّ وعلا لا يعاقب بشكل فوري مثل الجبّارين والظالمين ، بل إنّ رحمته الواسعة تقتضي دوماً إعطاء أوسع الفرص للمذنبين ، لذا فإنّ الآية التي بعدها تقول : (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ).

(لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ). فاذا كانت الإرادة الإلهية تقتضي انزال العذاب بسبب إرتكابهم للذنوب لتحقّق ذلك فوراً.

(بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَن يَجِدُوا مِن دُونِهِ مَوْئِلاً) (١).

فغفرانه تعالى يقضي أن يرحم التوابين ، ورحمته تقضي أن لا يعجّل عذاب غيرهم ، إذ من المحتمل أن يلتحق بعضهم بصفوف التوابين ، إلّاأنّ عدالته تعالى تقتضي مجازاة المذنبين العاصين الظالمين عندما يصل طغيانهم وتمرّدهم إلى أقصى درجاته.

وأخيراً تنتهي هذه المجموعة من الآيات إلى توجيه التحذير الأخير من خلال التذكير بالعاقبة المؤلمة المرّة لمن ظلم من السابقين ليكون مصيرهم عبرة لمن يسمع ، فتقول : إنّ هذه المدن والقرى أمامكم ، ولكم أن تشاهدوا خرائبها والدمار الذي حلّ فيها ، وقد أهلكنا أهلها بما إرتكبوا من ظلم ، في نفس الوقت الذي لم نعجّل فيه لهم العذاب ، بل جعلنا موعداً لمهلكهم : (وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِدًا).

__________________

(١) «موئل» : من كلمة «وئل» وتعني الملجأ ووسيلة النجاة.

١٤٨

(وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (٦٠) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (٦١) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هذَا نَصَباً (٦٢) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (٦٣) قَالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصاً) (٦٤)

لقاء موسى والخضر عليهما‌السلام : ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره : لمّا أخبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قريشاً بخبر أصحاب الكهف ، قالوا : أخبرنا عن العالم الذي أمر الله موسى عليه‌السلام أن يتبعه ، من هو؟ كيف تبعه؟ وما قصّته؟ فأنزل الله تعالى.

لقد ذكرت في سورة الكهف ثلاث قصص متناسقة وهذه القصص هي : قصة أصحاب الكهف التي إنتهينا منها ؛ وقصة موسى والخضر عليهما‌السلام ؛ وقصة ذي القرنين التي سنقف على ذكرها فيما بعد.

هذه القصص الثلاث تخرجنا من الأفق المحدود في حياتنا وما تعوّدنا عليه وألفناه ، وتبيّن لنا أنّ حدود العالم لا تنحصر في نطاق ما نرى وما نشاهد ، وأنّ الشكل العام للحوادث والأحداث ليس هو ما نفهمه من خلال النظرة الاولى.

فإنّ قصة موسى والخضر لها أبعاد عجيبة اخرى. ففي القصة يواجهنا مشهد عجيب نرى فيه نبيّاً من أولي العزم بكل وعيه ومكانته في زمانه يعيش محدودية في علمه ومعرفته من بعض النواحي ، وهو لذلك يذهب إلى معلم (هو عالم زمانه) ليدرس ويتعلّم على يديه.

في أوّل آية نقرأ قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتهُ لَاأَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِىَ حُقُبًا).

إنّ المعني بالآية هو بلا شك موسى بن عمران النبي المعروف من أولي العزم.

أمّا المعني من فتاه فهو يوشع بن نون ، الرجل الشجاع الرشيد المؤمن من بني اسرائيل.

«مجمع البحرين» : بمعنى محل التقاء البحرين ، والمقصود بمجمع البحرين هو محل اتصال «خليج العقبة» مع «خليج السويس» ، وهذان الخليجان يتصلان بالبحر الأحمر.

«حقب» : تعني المدة الطويلة والتي فسّرها البعض بثمانين عاماً ، وغرض موسى عليه‌السلام من هذه الكلمة ، هو أنّني سوف لا أترك الجهد والمحاولة للعثور على ما ضيّعته ولو أدّى ذلك أن أسير عدّة سنين.

١٤٩

قوله تعالى (فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا) أي السمكة التي كانت معهما ، أمّا العجيب في الأمر فإنّ الحوت (فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ سَرَبًا).

هذه السمك الذي كان معدّاً للغذاء كانت سمكة طازجة حيث بعثت فيها الحياة بشكل اعجازي وقفزت إلى الماء وغاصت فيه ، حيث يوجد بعض أنواع السمك يبقى على قيد الحياة فترة بعد إخراجه من الماء ، ويعود إلى الحياة الكاملة إذا أعيد في هذه الفترة إلى الماء.

وفي تتمة القصة نقرأ أنّ موسى وصاحبه بعد أن جاوزا مجمع البحرين شعرا بالجوع ، وفي هذه الأثناء تذكّر موسى عليه‌السلام أنّه قد جلب معه طعاماً ، وعند ذلك قال لصاحبه : (فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتهُءَاتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذَا نَصَبًا).

إنّ هذه الجملة تظهر أنّ موسى ويوشع قد سلكا طريقاً يمكن أن نسمّيه بالسفر ، إلّاأنّ نفس هذه التعابير تفيد أنّ هذا السفر لم يكن طويلاً.

وفي هذه الأثناء قال له صاحبه : (قَالَ أَرَءَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنّى نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسنِيهُ إِلَّا الشَّيْطنُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِى الْبَحْرِ عَجَبًا).

ولأنّ هذا الحادث والموضوع ـ بشكل عام ـ كان علامة لموسى عليه‌السلام ، لكي يصل من خلاله إلى موقع (العالم) الذي خرج يبحث عنه ، لذا فقد قال : (قَالَ ذلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ).

وهنا رجعا في نفس الطريق : (فَارْتَدَّا عَلَى ءَاثَارِهِمَا قَصَصًا).

وهنا قد يطرح هذا السؤال : هل يمكن لنبي مثل موسى عليه‌السلام أن يصاب بالنسيان حيث يقول القرآن ف (نَسِيَا حُوتَهُمَا).

في الجواب نقول : إنّه لا يوجد ثمة مانع من الإصابة بالنسيان في المسائل والموارد التي لا ترتبط بالأحكام الإلهية والامور التبليغية ، أي في مسائل الحياة العادية.

(فَوَجَدَا عَبْداً مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (٦٥) قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (٦٦) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (٦٧) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (٦٨) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ صَابِراً وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (٦٩) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً) (٧٠)

١٥٠

رؤية المعلم الكبير : عندما رجع موسى عليه‌السلام وصاحبه إلى المكان الأوّل ، أي قرب الصخرة وقرب (مجمع البحرين) ، فجأة : (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَاءَاتَيْنهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا).

إنّ استخدام كلمة «وجدا» تفيد أنّهم كانوا يبحثون عن نفس هذا الرجل العالم ، وقد وجداه أخيراً.

أمّا استخدام عبارة (عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا) فهي تبيّن أنّ أفضل فخر للإنسان هو أن يكون عبداً حقيقياً للخالق جلّ وعلا ، وإنّ مقام العبودية هذا يكون سبباً في شمول الإنسان بالرحمة الإلهية ، وفتح أبواب المعرفة والعلم في قلبه.

كما أنّ استخدام عبارة (مِن لَّدُنَّا) تبيّن أنّ علم ذلك العالم لم يكن علماً عادياً ، بل كان يعرف جزءاً من أسرار هذا العالم ، وأسرار الحوادث التي لا يعلمها سوى الله تعالى.

والمقصود من عبارة (رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا) هو الإستعداد الكبير والروح الواسعة ، وسعة الصدر التي وهبها الله تعالى لهذا الرجل كي يكون قادراً على استقبال العلم الإلهي.

في هذه الأثناء قال موسى للرجل العالم باستفهام وبأدب كبير : (قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَن تُعَلّمَنِ مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا).

في معرض الجواب نرى أنّ الرجل العالم يجيب موسى عليه‌السلام بكلام عجيب : (قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا).

ثم بيّن سبب ذلك مباشرة وقال : (وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا).

إنّ هذا الرجل العالم كان يحيط بأبواب من العلوم التي تخصّ أسرار وبواطن الأحداث ، في حين أنّ موسى عليه‌السلام لم يكن مأموراً بمعرفة البواطن ، وبالتالي لم يكن يعرف عنها الكثير.

في مثل هذه الحالة يفقد الشخص الذي ينظر إلى الظاهر صبره وتماسكه فيقوم بالإعتراض وحتى بالتشاجر.

وقد يكون موسى عليه‌السلام اضطرب عندما سمع هذا الكلام وخشي أن يحرم من فيض هذا العالم الكبير ، لذا فقد تعهّد بأن يصبر على جميع الحوادث و (قَالَ سَتَجِدُنِى إِن شَاءَ اللهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِى لَكَ أَمْرًا).

مرّة اخرى كشف موسى عليه‌السلام عن قمّة أدبه في هذه العبارة ، فقد اعتمد على خالقه حيث لم يقل للرجل العالم : إنّي صابر ، بل قال : إن شاء الله ستجدني صابراً.

١٥١

ولأنّ الصبر على حوادث غريبة وسيّئة في الظاهر والتي لا يعرف الإنسان أسرارها ، ليس بالأمر الهيّن ، لذا فقد طلب الرجل العالم من موسى عليه‌السلام أن يتعهد له مرّة اخرى ، وحذّره : (قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِى فَلَا تَسَلْنِى عَن شَىْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا) (١). وقد أعطى موسى العهد مجدداً وانطلق مع العالم الأستاذ.

(فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (٧١) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (٧٢) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (٧٣) فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُّكْرًا (٧٤) قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا (٧٥) قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا (٧٦) َانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (٧٧) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا) (٧٨)

المعلم الإلهي والأفعال المنكرة : نعم ، لقد ذهب موسى وصاحبه وركبا السفينة : (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِى السَّفِينَةِ خَرَقَهَا).

«خرق» : (كما يقول الراغب في المفردات) الخرق ، قطع الشيء على سبيل الإفساد بلا تدبّر ولا تفكّر حيث كان ظاهر عمل الرجل العالم على هذا المنوال.

وبحكم كوْن موسي عليه‌السلام نبيّاً إلهيّاً فقد كان من جانب يرى أنّ من واجبه الحفاظ على أرواح وأموال الناس ، وأن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ومن جانب آخر كان وجدانه الإنساني يضغط عليه ولا يدعه يسكت أمام أعمال الرجل العالم التي يبدو ظاهرها سيّئاً قبيحاً ، لذا فقد نسي العهد الذي قطعه للخضر (العالم) فاعترض و (قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا

__________________

(١) إنّ عبارة «أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا» يكون مفهومها بعد الأخذ بنظر الإعتبار كلمة «أحدث» هو : إنّي أنا الذي أبدأ بالكلام وأكشف للمرّة الاولى ؛ أمّا أنت فلا تتكلم.

١٥٢

لَقَدْ جِئْتَ شَيًا إِمْرًا).

وفي هذه الأثناء نظر الرجل العالم إلى موسى عليه‌السلام نظرة خاصة وخاطبه : (قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا).

أمّا موسى الذي ندم على استعجاله ، بسبب أهمية الحادثة ، فقد تذكّر عهده الذي قطعه لهذا العالم الأستاذ ، لذا فقد التفت إليه قائلاً : (قَالَ لَاتُؤَاخِذْنِى بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِى مِنْ أَمْرِى عُسْرًا). يعني لقد أخطأت ونسيت الوعد فلا تؤاخذني بهذا الإشتباه.

«ترهقني» : مشتقة من «إرهاق» وتعني تغطية شيء ما بالقهر والغلبة ، وتأتي في بعض الأحيان بمعنى التكليف ، وفي الآية ـ أعلاه ـ يكون معناها : لا تصعّب الامور عليّ ، ولا تقطع فيضك عنّي بسبب هذا العمل.

لقد انتهت سفرتهم البحرية وترجّلوا من السفينة : (فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلمًا فَقَتَلَهُ) ، وقد تمّ ذلك بدون أي مقدمات.

وهنا ثار موسى عليه‌السلام مرّة اخرى حيث لم يستطع السكوت على قتل طفلٍ بريء بدون أي سبب ، وظهرت آثار الغضب على وجهه وملأ الحزن وعدم الرضا عينيه ونسي وعده مرّةً اخرى ، فقام للإعتراض ، وكان اعتراضه هذه المرّة أشد من اعتراضه في المرّة الاولى ، لأنّ الحادثة هذه المرّة كانت موحشة أكثر من الاولى : (قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ). أي إنّك قتلت انساناً بريئاً من دون أن يرتكب جريمة قتل ، (لَّقَدْ جِئْتَ شَيًا نُّكْرًا).

ومرّة اخرى كرّر العالم الكبير جملته السابقة التي إتّسمت ببرود خاص ، حيث قال لموسى عليه‌السلام : (قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِىَ صَبْرًا).

تذكّر موسى تعهده فانتبه إلى ذلك وهو خجل ، حيث أخلّ بالعهد مرتين ـ ولو بسبب النسيان ـ وبدأ تدريجياً يشعر بصدق عبارة الأستاذ في أنّ موسى لا يستطيع تحمل أعماله ، لذا فلا يطيق رفقته كما قال له عندما عرض عليه موسى الرفقة ، لذا فقد بادر إلى الاعتذار وقال : إذا اعترضت عليك مرّة اخرى فلا تصاحبني وأنت في حلّ منّي : (قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَىْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصحِبْنِى قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّى عُذْرًا).

صيغة العذر هنا تدل على انصاف موسى عليه‌السلام ورؤيته البعيدة للُامور ، وتبيّن أنّه عليه‌السلام كان

١٥٣

يستسلم للحقائق ولو كانت مرّة.

بعد هذا الكلام والعهد الجديد : (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيّفُوهُمَا). والمقصود من كلمة قرية هو مدينة (الناصرة) أو ميناء (أيلة).

المهم في الأمر ، أنّنا نستنتج من خلال ما جرى لموسى عليه‌السلام وصاحبه من أهل هذه المدينة أنّهم كانوا لئاماً دنيئي الهمّة. في مجمع البيان عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : «كانوا أهل قرية لئام».

ثم يضيف القرآن : (فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ). وقد كان موسى عليه‌السلام شاهد كيف أنّ الخضر قام بترميم الجدار بالرغم من سلوك أهل القرية القبيح إزاءهما ، وكأنّه بذلك أراد أن يجازي أهل القرية بفعالهم السيّئة ؛ وكان موسى يعتقد بأنّ على صاحبه أن يطالب بالأجر على هذا العمل حتى يستطيعا أن يعدّا لأنفسهما طعاماً.

لذا فقد نسي موسى عليه‌السلام عهده مرّة اخرى وبدأ بالإعتراض ، إلّاأنّ اعتراضه هذه المرّة بدا خفيفاً ف (قَالَ لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا).

وفي الواقع فإنّ موسى يعتقد بأنّ قيام الإنسان بالتضحية في سبيل أناس سيئين عمل مجاف لروح العدالة.

وهنا قال الرجل العالم كلامه الأخير لموسى ، بأنّك ومن خلال حوادث مختلفة ، لا تستطيع معي صبراً ، لذلك قرّر العالم قراره الأخير : (قَالَ هذَا فِرَاقُ بَيْنِى وَبَيْنِكَ سَأُنَبّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا). «تأويل» : من «أول» على وزن «قول» وتعني الإرجاع ، لذا فإنّ أي عمل أو كلام يرجعنا إلى الهدف الأصلي يسمّى «تأويل» كما أنّ رفع الحجب عن أسرار شيء هو نوع من التأويل.

إنّ مفارقة رجل بهذه الخصائص أمرٌ صعب للغاية ، لكن على موسى عليه‌السلام أن ينصاع لهذه الحقيقة المرّة.

المفسر المعروف أبو الفتوح الرازي يقول : ورد في الخبر ، أنّ موسى عليه‌السلام عندما سئل عن أصعب ما لاقى من مشكلات في طول حياته ، أجاب قائلاً : لقد واجهت الكثير من المشاكل والصعوبات (إشارة إلى ما لاقاه عليه‌السلام من فرعون ، وما عاناه من بني إسرائيل) ولكن لم يكن أيّاً منها أصعب وأكثر ألماً على قلبي من قرار الخضر في فراقي إيّاه.

١٥٤

(أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (٧٩) وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً (٨٠) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (٨١) وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً) (٨٢)

الأسرار الداخلية لهذه الحوادث : بعد أن أصبح الفراق بين موسى والخضر عليهما‌السلام أمراً حتمياً ، كان من اللازم أن يقوم الأستاذ الإلهي بتوضيح أسرار أعماله التي لم يستطع موسى أن يصبر عليها ، وفي الواقع فإنّ استفادة موسى من صحبته تتمثل في معرفة أسرار هذه الحوادث الثلاثة العجيبة ، والتي يمكن أن تكون مفتاحاً للعديد من المسائل ، وجواباً لكثير من الأسئلة. ففي البداية ذكر قصة السفينة وقال : (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسكِينَ يَعْمَلُونَ فِى الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا).

وبهذا الترتيب كان ثمّة هدف خيّر وراء ثقب السفينة الذي بدأ في حينه عملاً مشيناً سيّئاً ، والهدف هو نجاتهم من قبضة ملك غاصب ، وكان هذا الملك يترك السفينة المعيبة ويصرف النظر عنها ، إذاً خلاصة المقصود في الحادثة الاولى هو حفظ مصالح مجموعة من المساكين.

كلمة «وراء» لا تعني هنا الجانب المكاني ، وإنّما هي كناية عن الخطر المحيط بهم (خطر الملك) بدون أن يعلموا به ، وبما أنّ الإنسان لا يحيط بالحوادث التي سوف تصيبه لاحقاً ، لذا استخدمت الآية التعبير الآنف الذكر.

بعد ذلك ينتقل العالم إلى بيان سر الحادثة الثانية التي قتل فيها الفتى ، فيقول : (وَأَمَّا الْغُلمُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَينِ فَخَشِينَا أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْينًا وَكُفْرًا).

إنّ تعبير (خشينا) جاء هنا بمعنى : لم نكن نرغب ، وإلّا لا معنى للخوف في هذه الموارد بالنسبة لشخص بهذا المستوى من العلم والوعي والقدرة.

وبعبارة اخرى : فإنّ الهدف هو الإتّقاء من حادث سيء نرغب أن نقي الأبوين منه على أساس المودة لهما.

١٥٥

ثم تحكي الآيات على لسان العالم قوله : (فَأَرَدْنَا أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مّنْهُ زَكَوةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا). «زكاة» : هنا بمعنى الطهارة والنظافة ، ولها مفهوم واسع حيث تشمل الإيمان والعمل الصالح ، وتتسع للامور الدينية والمادية ، وقد يكون في هذا التعبير ما هو جواب على اعتراض موسى عليه‌السلام الذي قال : (أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً ...» فقال له العالم في الجواب : إنّ هذه النفس ليست زكية ، وأردنا أن يبدلهما ربّهما ابناً طاهراً بدلاً عن ذلك.

وفي الكافي عن الإمام الصادق عليه‌السلام قال : (أبدلهما الله به جارية ولدت سبعين نبيّاً).

في آخر آية من الآيات التي نبحثها ، كشف الرجل العالم عن السر الثالث الذي دعاه إلى بناء الجدار فقال : (وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِى الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَّهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صلِحًا). (فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا). (رَحْمَةً مِّن رَّبّكَ).

وأنا كنت مأموراً ببناء هذا الجدار بسبب جميل وإحسان أبوي هذين اليتيمين ، كي لا يسقط وينكشف الكنز ويكون معرّضاً للخطر.

وفي خاتمة الحديث ، ولأجل أن تنتفي أيّ شبهة محتملة ، أو شك لدى موسى عليه‌السلام ، ولكي يكون على يقين بأنّ هذه الأعمال كانت طبقاً لمخطط وتوجيه غيبي ، قال العالم : (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِى) بل بأمر من الله.

وذلك سرّ ما لم يستطع عليه موسى عليه‌السلام صبراً ، إذ قال : (ذلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْرًا).

دروس قصة خضر وموسى عليهما‌السلام : هناك جملة دروس يمكن أن نستفيدها من القصة ، ويمكن لنا أن ندرجها كما يلي :

أ : أهمية العثور على قائد عالم والاستفادة من علمه ، بحيث رأينا أنّ نبيّاً من اولي العزم مثل موسى عليه‌السلام يسلك هذا الطريق الطويل ، وقد بذل ما بذل لتحقيقه ، وهذا درس لجميع الناس مهما كان علمهم وفي أيّ عمر كانوا.

ب : جوهرة العلم الإلهي تنبع من العبودية لله تعالى.

ج : يجب تعلّم العلم للعمل ، كما يقول موسى عليه‌السلام لصاحبه (مِمَّا عُلّمْتَ رُشْدًا). أي : علمني عملاً يقرّبني من هدفي ومقصدي ، فأنا لا أطلب العلم لنفسه ، بل للوصول إلى الهدف.

د : يجب عدم الإستعجال في الأعمال ، إذ العديد من الامور تحتاج إلى الفرص المناسبة.

ه : الظاهر والباطن من المسائل المهمّة الاخرى التي نتعلّمها من القصة ، إذ يجب علينا أن

١٥٦

لا نصدر أحكاماً سريعة تجاه الحوادث التي تقع في مجرى حياتنا مما قد لا يعجبنا ، إذ ما أكثر الحوادث التي نكرهها ، ولكن يتّضح بعد مدّة أنّ هذه الحوادث لم تكن سوى نوع من الألطاف الخفية الإلهية ، والقرآن يصرّح بمضمون هذه الحقيقة في الآية (٢١٦) من سورة البقرة قوله تعالى : (عَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَاتَعْلَمُونَ).

و : من دروس القصة الإعتراف بالحقائق واتخاذ المواقف المطابقة لها ، فعندما تخلّف موسى ثلاث مرّات عن الوفاء بالتزامه لصاحبه العالم ، عرف أنّه لا يستطيع الاستمرار معه في الصحبة.

يجب على الإنسان أن لا يستمر إلى آخر عمره في اختبار نفسه ، بحيث تتحوّل حياته إلى مختبر للأمور المستقبلية التي قد لا تحصل أبداً ، اذ عليه عندما يختبر موضوعاً ما عدّة مرّات ، أن يلتزم العمل بنتائج الإختبار وأن يقتنع به.

ز : تأثير إيمان الآباء على الأبناء ؛ لقد تحمل الخضر مسؤولية حماية الأبناء بالمقدار الذي كان يستطيعه ، وذلك بسبب الأب الصالح الملتزم ، بمعنى أنّ الإبن يستطيع أن يسعد في ظل الإيمان وأمانة والتزام الأب ، وإنّ نتيجة العمل الصالح الذي يلتزمه الأب تعود على الإبن أيضاً.

ح : قصر العمر بسبب إيذاء الوالدين ؛ عندما يطال الموت الإبن بسبب ما يلحقه من أذى بوالديه في مستقبل حياته ، وبسبب ما يرهقهما به من أذىً وطغيان وكفر ، قد يحرفهم عن الطريق الإلهي ، كما رأينا ذلك في القصة التي بين أيدينا.

ط : الناس أعداء ما جهلوا ؛ قد يحدث أن يقوم شخص بالإحسان إلينا ، إلّاأنّنا نتصوره عدوّاً لنا ، لأنّنا لا نعرف بواطن الامور ، ونتسرّع ونفقد الصبر ، خصوصاً إزاء الأحداث والامور التي نجهلها ولا نحيط بأسبابها علماً. من الطبيعي أن يفقد الإنسان صبره إزاء ما لا يحيط به علماً من الأحداث والقضايا ، إلّاأنّ الدرس المستفاد من القصة هو أن لا نتسرّع في إصدار الأحكام على مثل هذه القضايا حتى تكتمل لدينا الرؤية التي نحيط من خلالها بجوانب وزوايا الموضوع المختلفة.

ى : أدب التلميذ والأستاذ ؛ ثمّة ملاحظات لطيفة حول أدب التلميذ والأستاذ ظهرت في مقاطع الحديث بين موسى عليه‌السلام والرجل الرباني العالم ، فمن ذلك مثلاً :

١ ـ اعتبار موسى عليه‌السلام نفسه تابعاً للخضر قوله : (أَتَّبِعُكَ).

١٥٧

٢ ـ وللتواضع فقد اعتبر علم أستاذه كثيراً ، وهو يطلب جانباً من هذا العلم ، فقال : (مِمَّا عُلّمْتَ).

(وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (٨٣) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (٨٤) فَأَتْبَعَ سَبَباً (٨٥) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (٨٦) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً (٨٧) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً (٨٨) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٨٩) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً (٩٠) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً) (٩١)

قصة ذو القرنين العجيبة : قلنا في بداية حديثنا عن أصحاب الكهف : إنّ مجموعة من قريش قرّرت اختبار الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وقامت هذه المجموعة بالتنسيق مع اليهود واستشارتهم بطرح ثلاث قضايا ونحن الآن بصدد ذكر قصة ذو القرنين» :

إنّ قصة ذو القرنين تدور حول شخصية أثارت اهتمامات الفلاسفة والباحثين منذ القدم. وقد بذلت جهود ومساعي كثيرة للتعرّف على هذه الشخصية.

وسنقوم أوّلاً بتفسير الآيات الست عشرة الخاصّة بذي القرنين ، ثم ننتقل إلى بحوث لمعرفة شخصية ذي القرنين نفسه.

بتعبير آخر : إنّ ما يهمنا أوّلاً هو الحديث عن شخصية ذي القرنين ، وهو ما فعله القرآن ، حيث يقول تعالى : (وَيَسَلُونَكَ عَن ذِى الْقَرْنَيْنِ).

فيكون الجواب على لسان الرسول المصطفى صلى‌الله‌عليه‌وآله : (قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْرًا).

إنّ بداية الآية تبيّن لنا أنّ قصة ذو القرنين كانت متداولة ومعروفة بين الناس ، ولكنّها كانت محاطة بالغموض والإبهام ، لهذا السبب طالبوا الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله الإدلاء حولها بالتوضيحات اللازمة.

وفي إستئناف الحديث عن ذي القرنين يقول تعالى : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِى الْأَرْضِ). أي : منحناه سبل القوّة والقدرة والحكم.

١٥٨

(وَءَاتَيْنهُ مِن كُلّ شَىْءٍ سَبَبًا). إنّ الله تبارك وتعالى منح «ذو القرنين» أسباب الوصول لكل الأشياء : العقل ، العلم الكافي ، الإدارة السليمة ، القوّة والقدرة ، الجيوش والقوى البشرية ، بالإضافة إلى الإمكانات المادية ، أي إنّه منح كل الأسباب والسبل المادية والمعنوية الكفيلة بتحقيق الأهداف المنشودة.

ثم يشير القرآن بعد ذلك إلى استفادة ذي القرنين من هذه الأسباب والسبل فيقول : (فَأَتْبَعَ سَبَبًا). ثم (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ). فرأى أنّها تغرب في بحر غامق أو عين ذات ماء آسن : (وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ) (١).

(وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْمًا). أي مجموعة من الناس فيهم الصالح والطالح ، هؤلاء القوم هم الذين خاطب الله ذا القرنين في شأنهم : (قُلْنَا يذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا).

بعد ذلك تحكي الآيات جواب «ذي القرنين» الذي قال : (قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبّهِ فَيُعَذّبُهُ عَذَابًا نُّكْرًا) (٢). أي إنّ الظالمين سينالون العذاب الدنيوي والأخروي معاً.

(وَأَمَّا مَنْءَامَنَ وَعَمِلَ صلِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى). (وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا). أي : أنّنا سنتعامل معه بالقول الحسن ، فضلاً عن أنّنا سنخفف عنه ولا نجعله يواجه المشاكل والصعاب ، بالإضافة إلى أنّنا سوف لن نجبي منه ضرائب كثيرة.

وعندما إنتهى «ذو القرنين» من سفره إلى الغرب توجه إلى الشرق حيث يقول القرآن في ذلك : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا). أي استخدم الوسائل والإمكانات التي كانت بحوزته.

(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ). وهنا رأى أنّها : (وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْرًا). وفي اللفظ كناية عن أنّ حياة هؤلاء الناس بدائية جدّاً ، ولا يملكون سوى القليل من الملابس التي لا تكفي لتغطية أبدانهم من الشمس.

أمّا بعض المفسرين فلم يستبعدوا افتقار هؤلاء الناس إلى المساكن التي تحميهم من الشمس.

__________________

(١) «حمئة» : تعني في الأصل الطين الأسود ذا الرائحة الكريهة ، أو الماء الآسن الموجود في المستنقعات. وهذا الوصف يبيّن لنا بأنّ الأرض التي بلغها «ذو القرنين» كانت مليئة بالمستنقعات ، بشكل كان ذو القرنين يشعر معه بأنّ الشمس كانت تغرب في هذه المستنقعات ، تماماً.

(٢) «نكر» : مشتقة من «منكر» بمعنى الشيء المجهول ؛ أي العذاب المجهول الذي لم يمكن تصوره.

١٥٩

بالطبع ليس هناك تعارض بين التفاسير هذه ، قوله تعالى : (كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا). هكذا كانت أعمال «ذو القرنين» ونحن نعلم جيّداً بإمكاناته.

(ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (٩٢) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (٩٣) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً (٩٤) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (٩٥) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (٩٦) فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً (٩٧) قَالَ هذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً) (٩٨)

كيف تمّ بناء سدّ ذي القرنين : الآيات أعلاه تشير إلى سفرة اخرى من أسفار ذي القرنين حيث تقول : (ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا). أي : بعد هذه الحادثة استفاد من الوسائل المهمة التي كانت تحت تصرفه ومضى في سفره حتى وصل إلى موضع بين جبلين : (حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْمًا لَّايَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً).

والآية تشير إلى أنّه وصل إلى منطقة جبلية ، وهناك وجد اناساً كانوا على مستوى دانٍ من المدنية ، لأنّ الكلام أحد أوضح علائم التمدن لدى البشر.

في هذه الأثناء اغتنم هؤلاء القوم مجيء ذي القرنين ، لأنّهم كانوا في عذاب شديد من قبل أعدائهم يأجوج ومأجوج ، لذا فقد طلبوا العون منه قائلين : (قَالُوا يذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِى الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).

قد يكون كلامهم هذا تمّ عن طريق تبادل العلامات والإشارات ، لأنّهم لا يفهمون لغة ذي القرنين.

أمّا ذو القرنين فقد أجابهم : (قَالَ مَا مَكَّنّى فِيهِ رَبّى خَيْرٌ) ، وأنّي لا أحتاج إلى مساعدتكم المالية وإنّما : (فَأَعِينُونِى بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا).

«ردم» : على وزن «طرد» في الأصل تعني ملء الشق بالأحجار ، إلّاأنّها فيما بعد أخذت معنىً واسعاً بحيث شمل كل سدّ ، بل وشمل حتى ترقيع الملابس.

١٦٠