البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

الالتفات إليها غيبة فى الله واشتغالا بشهوده. وقيل لبعضهم : متى ينتهى سير الطالبين؟ قال : «الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا». وأيض : الا تجتمع المجاهدة مع المشاهد ، فإذا تحققت المشاهدة فلا مجاهدة. هم الذين كفروا من النّفوس المتمردة ، والهوى ، وصدوكم عن مسجد الحضرة ، والهدى معكوفا ، وحبسوكم عن التقرب إلى الله بالنفس والمال أن يبلغ محله ، بأن تمنعكم من إعطائه ، أو تشيبه بما يفسده من الرّياء والعجب ، لئلا تبلغ محل الإخلاص.

ثم ذكر حكمة منعهم من دخول مكة عام الحديبية ، فقال :

(... وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (٢٥))

قلت : (أن تطؤوهم) : بدل اشتمال من رجال ونساء ، ومن ضمير «تعلموهم» وبغير متعلق بتطؤهم ، وجواب «لولا» محذوف ، أغنى عنه جواب «لو» أي : لما كف أيديكم عنهم.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ) بمكة ، ضعفوا عن الهجرة (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ) ؛ لم تعرفوهم بأعيانهم ؛ لاختلاطهم مع المشركين ، (أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ) أي : غير عالمين بهم (فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ) أي : مشقة ومكروه. وفى تفسير المحلى «المعرة» بالإثم نظر ، مع فرض عدم العلم ، إلا أن يحمل على صورة الإثم ، وهو الخطأ ، وفيه الكفارة. والمعرة : مفعلة من : عراه : إذا دهاه ما يكرهه وشقّ عليه ، وهو هنا الكفارة إذا قتله خطأ ، وسوء مقالة المشركين أنهم فعلوا بأهل دينهم مثل ما فعلوا بنا من غير تمييز ، والإثم إذا قصد قتله. والوطء عبارة عن الإيقاع والإبادة. والحاصل أنه كان بمكة قوم مسلمون مختلطون بالمشركين ، غير متميّزين منهم ، فقيل : ولولا كراهة أن تهلكوا ناسا من المؤمنين بين ظهرانى المشركين وأنتم غير عارفين بهم ، فتصيبكم بإهلاكهم مشقة ومكروه ، ولما كففنا أيديكم عنهم ، ولسلطانكم عليهم.

وكان ذلك الكفّ (لِيُدْخِلَ اللهُ فِي رَحْمَتِهِ) أي : فى توفيقه لزيادة الخير والطاعة لمؤمنيهم ، أو : ليدخلهم فى الإسلام من رغب فيه من مشركيهم (مَنْ يَشاءُ) زيادته أو هدايته ، فاللام متعلقة بمحذوف ، تعليل لما دلت عليه الآية ، وسيقت له ، من كفّ الأيدى عن أهل مكة ، والمنع من قتلهم ، صونا لما بين أظهرهم من المؤمنين. (لَوْ تَزَيَّلُوا) أي : تفرقوا وتميز المسلمون من الكافرين ، (لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) بقتل

٤٠١

مقاتلتهم ، وسبى ذراريهم. ويجوز أن يكون : «لو تزيلوا» كالتكرير ل «لولا ..» ؛ لمرجعهما لمعنى واحد ، ويكون (لعذّبنا ...) إلخ ، هو جواب «لولا» والتقدير : ولولا أن تطئوا رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات من غير علم ، ولو كانوا متميزين لعذبناهم بالسيف.

الإشارة : إذا اختلط أهل الانتقاد مع أهل الاعتقاد ، لا يعم البلاء المعدّ لأهل الانتقاد ، ولو تزيلوا لعذبنا المنكرين عذابا أليما ، وكذلك إذا اختلط الفجار مع الأبرار ، وغلب جمع الأبرار ، لا يعم البلاء ، ويصرف عن الجميع ، فلو تزيل الفجار لعذبوا عذابا أليما.

قال القشيري : قد تكون فى النّفس أوصاف مستحسنة ، تليق بالفيض الإلهى ، مع أوصاف مذمومة ، فلو سلطناكم على إهلاكها بالمرة ، لفاتكم ما فيها من الأوصاف الحسنة ، فتصيبكم معرة ، ليدخل الله فى رحمته بالوصول إلى حضرته من يشاء من النّفوس ، بتصفية ما فيها من الرّذائل. لو تزيلوا تميز ما يصلح قلعه ، كالكبر ، والشر ، والحرص والحقد ، أو ما يصلح تبديله ، كالبخل بالسخاء ، والحرص بالقناعة ، والغضب بالحلم ، والجبن بالشجاعة ، والشهوة بالعفة ، لعذّبنا النّفوس المتمردة عذابا أليما ، بإهلاكها بالكلية. بالمعنى.

ثم وصف أهل الكفر المتقدمين الآن بالحمية ، فقال :

(إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٢٦))

يقول الحق جل جلاله : واذكر (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قريش أي : ألقوا (فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ) أي : الأنفة والتكبر ، أو : صيّروا الحمية راسخة فى قلوبهم (حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ) : بدل ، أي : حميّة الملة الجاهلية ، أو الحميّة النّاشئة من الجاهلية ، ووضع الموصول موضع ضميرهم ، إذ تقدم ذكرهم ، لذمّهم بما فى حيز الصلة ، وتعليل الحكم به. والجعل بمعنى الإلقاء ، فلا يتعدى إلى مفعولين ، أو : بمعنى التصيير ، فالمفعول الثاني محذوف ، كما تقدم. و «الذين» : فاعل ، على كلّ حال. (فَأَنْزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ) أي : أنزل فى قلوبهم الطمأنينة والوقار ، فلم يتضعضعوا من الشروط التي شرطت قريش.

٤٠٢

روى : أن رسول الله لمّا نزل الحديبية بعثت قريش سهيل بن عمرو ، وحويطب بن عبد العزّى ، ومكرز بن حفص ، على أن يعرضوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يرجع من عامه ذلك ، على أن تخلى له قريش مكة من العام القابل ثلاثة أيام ، ففعل ذلك ، وكتب بينهم كتابا ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلىّ رضي الله عنه : «اكتب «بسم الله الرّحمن الرّحيم» فقال سهيل وأصحابه : ما نعرف هذا ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، ثم قال : «اكتب : هذا ما صالح عليه رسول الله أهل مكة» فقالوا : لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت وما قاتلناك ، ولكن اكتب : هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله أهل مكة ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اكتب ما يريدون ، فأنا أشهد أنّى رسول ، وأنا محمد بن عبد الله» فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك ، ويبطشوا بهم ، فأنزل الله السكينة عليهم ، فتوقّروا وحلموا (١). وفى رواية البخاري : فكتب علىّ رضي الله عنه : «هذا ما قضى عليه محمد رسول الله» فلما أبوا ذلك ، قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لعلىّ : «امح رسول الله ، واكتب : محمد بن عبد الله» ، فقال : ولله لا أمحوك أبدا ، فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الصحيفة وكتب ما أرادوا. قيل : كتب بيده معجزة ، وقيل : أمر من كتب ، وهو الأصح.

(وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) ، شهادة «لا إله إلا الله» (٢) ، وقيل : «بسم الله الرّحمن الرّحيم ، وقيل : محمد رسول الله ، وقيل : الوفاء بالعهد ، والثبات عليه. وإضافتها إلى التقوى ؛ لأنها سببها وأساسها ، وقيل : كلمة أهل التقوى. (وَكانُوا أَحَقَّ بِها) أي : متصفين بمزيد استحقاق بها ، على أن صيغة التفضيل للزيادة مطلقا ، أو : أحق بها من غيرهم من سائر الأمم (وَ) كانوا أيضا (أَهْلَها) المتأهلون لها بتأهيل الله إياهم. قال القشيري : كلمة التقوى هى التوحيد عن قلب صادق ، وأن يكون مع الكلمة الاتقاء من الشرك ، وكانوا أحق بها فى سابق حكمه ، وقديم علمه ، وهذا إلزام إكرام ولطف ، لا إلزام إكراه وعنف ، وإلزام بر ، لا إلزام جبر. ه. (وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيجرى الأمور على مساقها ، فيسوق كلّا إلى ما يستحقه.

الإشارة : لا يصل العبد إلى مولاه حتى تكون نفسه أرضية ، وروحه سماوية ، يدور مع الحق أينما دار ، ويخضع للحق أينما ظهر ، ولأهله أينما ظهروا ، لم تبق فيه حميّة ولا أنفه ، بل يكون كالأرض يطأها البار والفاجر ، ولا تميز بينهما ، وأما من فيه حمية الجاهلية ، فهو من أهل الخذلان ، وأما أهل العناية ، فأشار إليهم بقوله : (فَأَنْزَلَ اللهُ

__________________

(١) أخرجه البيهقى فى دلائل النّبوة (باب سياق قصة الحديبية ٤ / ١٠٥) من حديث عروة بن الزبير ، مرسلا ، والقصة هى الصحيح ، فقد أخرجها البخارى فى (الصلح ، باب كيف يكتب : هذا ما صالح فلان بن فلان ، ح ٢٦٩٨) كما أخرجها مطولة فى (الشروط ، باب الشروط فى الجهاد ، ٥ / ٣٢٩ ـ ٣٣٣) من حديث عروة بن الزبير ، عن المسور بن مخرمة ومروان ، وأخرجها مسلم فى (الجهاد ، باب صلح الحديبية ح ١٧٨٣) من حديث البراء بن عازب ـ رضي الله عن الصحابة أجمعين.

(٢) هذا هو التفسير المروى عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وأخرجه الترمذى فى (التفسير ـ سورة الفتح ح ٣٢٦٥) وأحمد فى المسند (٥ / ١٣٨ ، ح ٢١١٥١) والحاكم (٢ / ٤٦١) «وصحّحه ووافقه الذهبى» والطبرانى فى الكبير (١ / ١٦٨) من حديث علىّ رضي الله عنه. وأخرجه البيهقى فى الأسماء والصفات (ص ١٠٩) من حديث الطفيل بن أبىّ ، عن أبيه.

٤٠٣

سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ) فكان متواضعا سهلا لينا ، كما قال تعالى : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (١) وعلى المؤمنين ، فأخبر عنهم بقوله : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) (٢) الآية ، «وألزمهم كلمة التقوى» ، «لا إله إلا الله» لأنها تهذب الأخلاق ، وتخرج ما فى القلب من الأمراض والنّفاق ؛ لأن النّفى : تنزيه وتخلية ، والإثبات : نور وتحلية ، فلا يزال النّفى يخرج من القلب ما فيه هى الظلمة والمساوئ ، حتى يتطهر ويتصف بكمال المحاسن.

قال فى نوادر الأصول ، لمّا تكلم على (وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى) : هو «لا إله إلا الله» ، وجه تسميتها بذلك : أنه اتقى بها ونفى ما أحدث من الشرك ، حمية للتوحيد وعصبية وغيرة ، اقتضاها نور التوحيد والمحبة ، فنفى القلب كلّ رب ادعى العباد ربوبيته ، وولهت قلوبهم إليه ، فابتدأ هذا القلب ـ الذي وصفنا ـ بالنفي لأرباب الأرض ، ثم سما عاليا حتى انتهى إلى الرّب الأعلى ، فوقف عنده ، وتذلل وخشع له ، واطمأن ووله إليه. وقال لنبيه : (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) (٣) أي : إن هذه أرباب متفرقون ، والرّب الله الواحد القهار ، فهداه إلى الرّب الأعلى ، وقال : (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) (٤). ثم قال : ألزم قلوبهم هذه الكلمة بنور المحبة ، كما قال : (حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) (٥) ، فبحلاوة الحب ، وزينة البهاء ، صارت الكلمة لازمة لقلوبهم.

وأما قوله : (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) فإنما صاروا كذلك ؛ لأن الله كان ولا شىء ، فخلق المقادير ، وخلق الخلق فى ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه من ذلك النّور اهتدى ، ومن أخطأه ضل ، فقد علم من يخطئه ممن يصيبه. ثم ذكر أحاديث ، من ذلك : حديث [ابن عمرو] (٦) : «إن الله خلق خلقه ، ثم جعلهم فى ظلمة ، ثم أخذ من نوره ما شاء ، فألقاه عليهم ، فأصاب النّور من شاء أن يصيبه ، وأخطأ من شاء أن يخطئه ...» الحديث (٧). ثم قال بعد كلام طويل : ثم لمّا نفخ الرّوح فى آدم أخرج نسم بنيه ، أهل اليمين ، من كتفه الأيمن فى صفاء وتلألؤ ، وأصحاب الشمال [كالحمّة] (٨) سود من كتفه الأيسر ، والسابقون أمام الفريقين ، المقربون ، وهم الرّسل والأنبياء والأولياء ،

__________________

(١) الآية ٤ من سورة القلم.

(٢) من الآية ٢٩ من سورة الفتح.

(٣) الآية الأولى من سورة الأعلى.

(٤) من الآية ٤٢ من سورة النّجم.

(٥) من الآية ٧ من سورة الحجرات.

(٦) فى الأصول [ابن عمر] والمثبت هو الصحيح ، فالحديث مروى عن عبد الله بن عمرو بن العاص.

(٧) أخرجه بنحوه الترمذي وحسّنه فى (الإيمان ، باب افتراق هذه الأمة ، ح ٢٦٤٢) وأحمد فى المسند (ح ٦٨٥٤) ومطولا (ح ٦٦٤٤) والحاكم (١ / ٣٠ ـ ٣١) «وصحّحه ووافقه الذهبي» وكذا صحّحه ابن حبان (ص ٤٤٩) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وقال الهيثمي فى المجمع (٧ / ١٩٣ ـ ١٩٤) : «رواه أحمد بإسنادين ، والبزار والطبراني ، ورجال أحد إسنادى أحمد ثقات».

(٨) فى الأصول [كالحمية] والمثبت من نوادر الأصول ، وهو الصحيح.

والحم : الأسود من كلّ شىء ، والاسم : الحمّة. انظر اللسان (حمم ٢ / ١٠٠٩).

٤٠٤

فقرّبهم (١) كلهم ، وأخذ عليهم الميثاق على الإقرار بالعبودية ، وأشهدهم على أنفسهم ، وشهد عليهم بذلك ، ثم ردهم إلى الأصلاب ليخرجهم تناسلا إلى الأرحام (٢). ه.

وقال الجنيد رضي الله عنه فى قوله : (وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها) : من أدركه عناية السبق فى الأزل جرى عليه عنوان المواصلة ، وهو أحق بها ، لما سبق إليه من كرامة الأزل. ه. والحاصل : أنهم أحق بها بالسبق بالاصطفائية ، وبقيت نعوتها وأنوارها فى قلوبهم ، دون الذين حجبهم الله عن رؤية نورها. قاله فى الحاشية.

ثم بشّرهم بفتح مكة ، وصدق الرّؤيا التي رآها النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

(لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (٢٧))

يقول الحق جل جلاله : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا) أي : صدقه فى رؤياه ولم يكذبه ـ تعالى الله عن الكذب ـ فحذف الجارّ وأوصل الفعل ؛ كقوله : (صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) (٣) يقال : صدقه الحديث : إذا حققه وبينّه له ، أو : أخبره بصدق ، روى أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى فى النّوم ، قبل خروجه إلى الحديبية ، كأنّه وأصحابه قد دخلوا مكة آمنين ، وقد حلقوا وقصّروا ، فقص الرّؤيا على أصحابه ، ففرحوا ، وحسبوا أنهم داخلوها ، وقالوا : إن رؤيا رسول الله حق. والله تعالى قد أبهم الأمر عليهم لينفرد بالعلم الحقيقي ، فلما صدوا ، قال عبد الله بن أبىّ وغيره من المنافقين : والله ما حلقنا ولا قصّرنا ، ولا رأينا المسجد الحرام ، فنزلت (٤) : (لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ) فيما أراه ، وما كذب عليه ، ولكن فى الوقت الذي يريد.

وقوله : (بِالْحَقِ) ، إما صفة لمصدر محذوف ، أي : صدقا ملتبسا بالحق ، أي : بالغرض الصحيح ، والحكمة البالغة التي تميز بين الرّاسخ فى الإيمان والمتزلزل فيه ، أو : حال من الرّؤيا ، أي : ملتبسة بالحق ليست من قبيل

__________________

(١) فى نوادر الأصول : [فقررهم].

(٢) النقل بتصرف.

(٣) من الآية ٢٣ من سورة الأحزاب.

(٤) أخرجه البيهقي فى دلائل النّبوة (باب نزول الفتح مرجع الحديبية ٤ / ٣٦٤) وابن جرير فى التفسير (٢٦ / ١٠٧) عن مجاهد ، مرسلا.

٤٠٥

أضغاث الأحلام ، ويجوز أن يكون قسما ، أي : أقسم بالحق (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ) ، وعلى الأول : جواب القسم محذوف ، أي : والله لتدخلن المسجد الحرام ، والجملة القسمية : استئناف بيانى ، كأن قائلا قال : ففيم صدقه؟ فقال : (لتدخلن المسجد إن شاء الله). وهو تعليق للعدة بالمشيئة لتعليم العباد. قال ثعلب : استثنى الله فيما يعلم ؛ ليستثنى الخلق فيما لا يعلمون. وقال فى القوت : استثنى الله معلما لعباده ورادا لهم إلى مشيئته ، وهو أصدق القائلين ، وأعلم العالمين. ه. أو : للإشعار بأن بعضهم لا يدخلونه ، لموت ، أو : غيبة ، أو غير ذلك ، أو : هو حكاية لما قاله ملك الرّؤيا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو لما قاله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأصحابه ، حين قصّ عليهم ، أي : والله لتدخلنها (آمِنِينَ) من غائلة العدو ، فهو حال من فاعل «لتدخلن» والشرط معترض. (مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ) أي : محلقا بعضكم ، ومقصرا آخرون ، (لا تَخافُونَ) بعد ذلك أبدا ، فهو حال أيضا ، أو استئناف ، (فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا) من الحكمة فى تأخير فتح مكة إلى العام القابل ، (فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ) ؛ فتح مكة (فَتْحاً قَرِيباً) وهو فتح خيبر ، لتستروح إليه قلوب المؤمنين ، إلى أن يتيسر الفتح الموعود. والله تعالى أعلم.

الإشارة : العارف الكامل لا يركن إلى شىء دون الله تعالى ، فلا يطمئن إلى وعد ، ولا يخاف من وعيد ، بل هو عبد بين يدى سيده ، ينظر ما يبرز من زمن عنصر قدرته ، فإن بشّر بشىء فى النّوم أو اليقظة ، لا يركن إليه ، ولا يقف معه ؛ لأن غيب المشيئة غامض ، وإن خوّف بشىء فى النّوم أو غيره ، لا يفزع ولا يجزع ؛ لأن الغنى بالله والأنس به غيّبه عن كلّ شىء ، وفى الله خلف من كلّ تلف «ما ذا فقد من وجدك؟ (١)» والله يتولى الصالحين ، (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ..) الآية (٢).

قال فى الإبريز (٣) : الرؤيا المحزّنة إنما هى اختبار من الله للعبد ، هل يبقى مع ربه أو ينقطع عنه ، فإن كان العبد متعلقا به تعالى ، ورأى الرّؤيا المحزنة ، لم يلتفت إليها ، ولما يبال بها ؛ لعلمه بأنه منسوب إلى من بيده تصاريف الأمور ، وأنّ ما اختاره تعالى سبقت به المشيئة ، فلا يهوله أمر الرّؤيا ، ولا يلقى إليها بالا ، وهذه لا تضره بإذن الله تعالى : وإذا كان العبد غير متعلق بربه ، ورأى رؤيا محزنة ، جعلها نصب عينيه ، وعمّر بها باطنه ، وانقطع بها عن ربه ، ويقدّر أنها لا محالة نازلة به ، فهذا هو الذي تضره ؛ لأنّ من خاف من شىء سلّطه عليه. ه.

__________________

(١) من مناجاة الشيخ ابن عطاء السكندرى. انظر تبويب الحكم للمتّقى الهندي (ص ٤٢).

(٢) الآية ٢ من سورة الطلاق.

(٣) لسيدى عبد العزيز الدبّاغ ـ رحمه‌الله تعالى.

٤٠٦

وسئل سهل التستري رضي الله عنه عن الاستثناء فى هذه الآية ، فقال : تأكيدا فى الافتقار إليه ، وتأديبا لعباده فى كل حال ووقت. ه. أي : أدّبهم لئلا يقفوا مع شىء دونه.

ثم ردّ حميّة الجاهلية فى عدم إقرارهم برسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

(هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (٢٨) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٢٩))

يقول الحق جل جلاله : (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى) ؛ بالتوحيد ، أي : ملتبسا به ، أو : بسببه ، أو : لأجله ، (وَدِينِ الْحَقِ) ؛ وبدين الإسلام ، وبيان الإيمان والإحسان. وقال الورتجبي : ودين الحق : هو بيان معرفته والأدب بين يديه. ه. (لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ) ؛ ليعليه على جنس الدين ، يريد الأديان كلها من أديان المشركين وأهل الكتاب ، وقد حقق ذلك سبحانه ، فإنك لا ترى دينا قط إلا والإسلام فوقه بالعزة والغلبة ، إلا ما كان من النّصارى بالجزيرة (١) ، حيث فرّط أهل الإسلام ، وقيل : هو عند نزول عيسى عليه‌السلام حين لا يبقى على وجه الأرض كافر. وقيل : هو إظهاره بالحجج والآيات. (وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً) على أن ما وعده كائن. وعن الحسن : شهد على نفسه أنه سيظهر دينه ، أو : كفى به شهيدا على نبوة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو تمييز ، أو حال.

(مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ) أي : ذلك المرسل بالهدى ودين الحق هو محمد رسول الله ، فهو خبر عن مضمر ، و «رسول» : نعت ، أو : بدل ، أو : بيان ، أو : «محمد» : مبتدأ و «رسول» : خبر ، (وَالَّذِينَ مَعَهُ) : مبتدأ ، خبره : (أَشِدَّاءُ

__________________

(١) يعنى الأندلس.

٤٠٧

عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) أو : «الذين» : عطف على «محمد» ، و «أشداء» : خبر الجميع ، أي : غلاظ شداد على الكفار فى حربهم ، رحماء متعاطفون بينهم ، يعنى : أنهم كانوا يظهرون لمن خالف دينهم الشّدة والصلابة ، ولمن وافق دينهم الرّأفة والرّحمة ، وهذا كقوله تعالى : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) (١) ، وبلغ من تشديدهم على الكفار أنهم كانوا يتحرّزون من ثيابهم أن تلزق بثياب الكفار ، ومن أبدانهم أن تمسّ أبدانهم ، وبلغ من تراحمهم فيما بينهم : أنهم كانوا لا يرى مؤمن مؤمنا إلا صافحه وعانقه.

وهذا الوصف الذي مدح الله به الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مطلوب من جميع المؤمنين ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ترى المؤمنين فى تراحمهم وتوادّهم وتعاطفهم كالجسد الواحد ، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمّى» (٢). رواه البخاري ، وقال أيضا : «نظر الرّجل إلى أخيه شوقا خير من اعتكاف سنة فى مسجدى هذا» ، (٣) ذكره فى الجامع.

(تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً) أي : تشاهدهم حال كونهم راكعين ساجدين ؛ لمواظبتهم على الصلوات ، أو : على قيام الليل ، كما قال من شاهد حالهم : رهبان بالليل أسدّ بالنهار ، وهو استئناف ، أو : خبر ، (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) أي : ثوابا ورضا وتقريبا (سِيماهُمْ) ؛ علاماتهم (فِي وُجُوهِهِمْ) ؛ فى جباههم (مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ) أي : من التأثير الذي يؤثّره كثرة السجود. وما روى عنه عليه‌السلام : «لا تعلموا صوركم» (٤) أي : لا تسموها ، إنما هو فيمن يتعمد ذلك باعتماد جبهته على الأرض ، ليحدث ذلك فيها ، وذلك رياء ونفاق ، وأما إن حدث بغير تعمد ، فلا ينهى عنه ، وقد ظهر على كثير من السلف الصالح غرة فى جباههم مع تحقق إخلاصهم.

وقال منصور : سألت مجاهدا عن قوله : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) أهو الأثر يكون بين عينى الرّجل؟ قال : لا ربما يكون بين عينى الرّجل مثل ركبة البعير ، وهو أقسى قلبا من الحجارة ، ولكنه نور فى وجوههم من الخشوع. وقال ابن جريج : هو الوقار والبهاء ، وقيل : صفرة الوجوه ، وأثر السهر. وقال الحسن : إذا رأيتهم حسبتهم مرضى ، وما هم مرضى. وقال سفيان وعطاء : استنارت وجوههم من طول ما صلّوا بالليل ، لقوله عليه‌السلام : «من كثرت صلاته

__________________

(١) من الآية ٥٤ من سورة المائدة.

(٢) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب رحمة النّاس والبهائم ، ح ٦٠١١) ومسلم فى (البر والصلة باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم ، ح ٢٥٨٦) من حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنه.

(٣) عزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٩٢٦٦) للحكيم عن ابن عمرو ، وضعّفه.

(٤) على هامش النّسخة الأم : «هذا حديث لا أصل له».

٤٠٨

بالليل حسن وجهه بالنّهار» (١) وقال ابن عطية : إنه من قول شريك (٢) لا حديث ، فانظره ، وقال ابن جبير : فى وجوههم يوم القيامة يعرفون به أنهم سجدوا فى الدنيا لله تعالى. ه.

(ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ) ، الإشارة إلى ما ذكر من نعوتهم الجليلة ، وما فيها من معنى البعد مع قرب العهد للإيذان بعلو شأنه ، وبعد منزلته فى الفضل ، أي : ذلك وصفهم العجيب الجاري فى الغرابة مجرى الأمثال ، هو نعتهم فى التوراة ، أي : كونهم أشدّاء على الكفار ، رحماء بينهم ، سيماهم فى وجوههم.

ثم ذكر وصفهم فى الإنجيل فقال : (وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ ..) إلخ ، وقيل : عطف على ما قبله ، بزيادة «مثل» ، أي : ذلك مثلهم فى التوراة والإنجيل ، ثم بيّن المثل فقال : هم كزرع (أَخْرَجَ شَطْأَهُ) فراخه ، يقال : أشطأ الزرع : أفرخ ، فهو مشطىء ، وفيه لغات : شطأه بالسكون والفتح ، وحذف الهمزة ، كقضاة. و «شطه» ، بالقصر. (فَآزَرَهُ) ؛ فقوّاه ، من : المؤازرة ، وهى الإعانة ، (فَاسْتَغْلَظَ) ؛ فصار من الرّقة إلى الغلظ ، (فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ) ؛ فاستوى على قصبه ، جمع : ساق ، (يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ) يتعجبون من قوّته ، وكثافته ، وغلظه ، وحسن نباته ومنظره. وهو مثل ضربه الله لأصحابه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى بدء الإسلام ، ثم كثروا واستحكموا ، بترقى أمرهم يوما بيوم ، بحيث أعجب النّاس أمرهم ، فكان الإسلام يتقوى كما تقوى الطاقة من الزرع ، بما يحتفّ بها مما يتولّد منها.

وقيل : مكتوب فى الإنجيل : سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع ، يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر (٣). وعن عكرمة : أخرج شطأه بأبى بكر ، فآزره بعمر ، فاستغلظ بعثمان ، فاستوى على سوقه بعلي. (٤). وحكى النّقاش عن ابن عباس ، أنه قال : الزرع النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فآزره علىّ بن أبى طالب ، فاستغلظ بأبى بكر ، فاستوى على سوقه بعمر. ه.

__________________

(١) أخرجه ابن ماجة فى (إقامة الصلاة والسنة فيها ، باب ما جاء فى قيام الليل ، ح ١٣٣٣) قال : «حدثنا إسماعيل بن محمد الطلحي ، ثنا ثابت بن موسى أبو يزيد ، عن شريك ، عن الأعمش ، عن أبى سفيان ، عن جابر رضي الله عنه الحديث» ورفعه ..

(٢) «شريك» أحد رواة الحديث. قال السندي : معنى الحديث ثابت بموافقة القرآن ، وشهادة التجربة ، لكن الحفّاظ على أن الحديث بهذا اللفظ غير ثابت. وأخرج البيهقي فى الشعب ، عن محمد بن عبد الرّحمن بن كامل قال : قلت لمحمد بن عبد الله بن نمير : ما تقول فى ثابت بن موسى؟ قال : شيخ له فضل وإسلام ودين وصلاح وعبادة ، قلت : ما تقول فى هذا الحديث؟ قال : غلط من الشيخ ، وأما غير ذلك فلا يتوهم عليه. وقد تواردت أقوال الأئمة على عدّ هذا الحديث فى الموضوع ، على سبيل الغلط ، لا العمد ، وخالفهم القضاعي فى مسند الشهاب ، فمال فى الحديث إلى ثبوته. انظر حاشية سنن ابن ماجة (١ / ٤٢٣). وانظر أيضا ـ تفسير القرطبي (٧ / ٦٣٠٢).

(٣) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١٤) عن قتادة.

(٤) انظر هذه الأقوال فى تفسير البغوي (٧ / ٣٢٥).

٤٠٩

واختار ابن عطية : أن المثل شامل للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وللصحابة ، فإنّ النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث وحده ، فهو الزرع ، حبّة واحدة ، ثم كثر المسلمون ، فهم كالشطء ، تقوّى بهم صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ) تعليل لما يعرب عنه الكلام من تشبيههم بالزرع فى ذكائه واستحكامه ، أي : جعلهم كذلك ليغيظ بهم من كفر بالله.

(وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) ؛ استئناف مبيّن لما خصّهم به من الكرامة فى الآخرة ، بعد بيان ما خصّهم به فى الدنيا ، ويجوز أن يرجع لقوله : (ليغيظ بهم ...) إلخ : أي : ليغيظ بهم وعدهم بالمغفرة والأجر العظيم ؛ لأن الكفار إذا سمعوا ما أعدّ لهم فى الآخرة مع ما خصّهم فى الدنيا من العزة والنّصر غاظهم ذلك أشد الغيظ ، و «من» فى «منهم» للبيان ، كقوله : (فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ) (١) ، أي : وعد الله الذين آمنوا من هؤلاء.

الإشارة : هو الذي أرسل رسوله بالهدى : بيان الشرائع ، ودين الحق : بيان الحقائق ، فمن جمع بينهما من أمته ظهر دينه وطريقته ، وهذا هو الولىّ المحمدي ، أعنى : ظاهره شريعة ، وباطنه حقيقة ، وما وصف به سبحانه أصحاب الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم هو وصف الصوفية ، أهل التربية النّبوية ، خصوصا طريق الشاذلية ، حتى قال بعضهم : من حلف أن طريق الشاذلية عليها كانت بواطن الصحابة ما حنث. وقوله تعالى : (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ وَرِضْواناً) قال الورتجبي : أي : يطلبون مزيد كشف فى الذات والدنو والوصال والبقاء مع بقائه بلا عتاب ولا حجاب ، وهذا محل الرضوان الأكبر. ه.

وقوله تعالى : (سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ) أي : نورهم فى وجوههم ، لتوجههم نحو الحق ، فإنّ من قرب من نور الحق ظهرت عليه أنوار المعرفة ، وجمالها وبهاؤها ، ولو كان زنجيا أو حبشيا ، وفى ذلك قيل :

وعلى العارفين أيضا بهاء

وعليهم من المحبّة نور

ويقال : السيما للعارفين ، والبهجة للمحبين ، فالسيما هى الطمأنينة ، والرّزانة ، والهيبة والوقار ، كل من رآهم بديهة هابهم ، ومن خالطهم معرفة أحبهم ، والبهجة : حسن السمت والهدى ، وغلبة الشوق ، والعشق ، واللهج بالذكر اللساني. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) من الآية ٣٠ من سورة الحج.

٤١٠

وروى السلمى عن عبد العزيز المكي : ليس السيما النّحولة والصفرة ، ولكنه نور يظهر على وجوه العابدين ، يبدو من باطنهم على ظاهرهم ، يتبين ذلك للمؤمنين ، ولو كان ذلك فى زنجى أو حبشى. وعن بعضهم : ترى على وجوههم هيئة لقرب عهدهم بمناجاة سيدهم. وقال ابن عطاء : ترى عليهم طلع الأنوار لائحة. وقال الورتجبي : المؤمن وجه لله بلا قفا ، مقبلا عليه ، غير معرض عنه ، وذلك سيما المؤمن. ه. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

٤١١
٤١٢

سورة الحجرات

مدنية. وهى ثمانى عشرة آية. ومناسبتها لما قبلها : أنه تعالى لمّا مدح الصحابة ، وبشّرهم بالمغفرة ؛ علّمهم الأدب ؛ لأنه من أعظم أسباب المغفرة والقرب ، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (٢) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣))

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ، تصدير الخطاب بالنداء ، تنبيه المخاطبين على أنّ ما فى حيّزه أمر خطير يستدعى اعتنائهم بشأنه ، وفرط اهتمامهم بتلقيه ومراعاته ، ووصفهم بالإيمان لتنشيطهم ، والإيذان بأنه داع إلى المحافظة عليه ووازع عن الإخلال به ، (لا تُقَدِّمُوا) أي : لا تفعلوا التقديم ، على ترك المفعول للقصد إلى نفس الفعل من غير اعتبار تعلقه بأمر من الأمور ، على طريقة قولهم : فلان يعطى ويمنع ، أو : لا تقدّموا أمورا من الأمور ، على حذف المفعول ، للعموم ، أو : يكون التقديم بمعنى التقدم ، من «قدّم» اللازم ، ومنه : مقدمة الجيش ، للجماعة المتقدّمة ، ويؤيده قراءة من قرأ : (لا تقدّموا) (١) بحذف إحدى التاءين ، أي : لا تتقدموا (بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) ، أي : لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به ، وحقيقة قولك : جلست بين يدى فلان : أن تجلس بين الجهتين المسامتتين ليمينه وشماله قريبا منه ، فسميت الجهتان يدين ؛ لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما ، توسعا ، كما يسمّى الشيء باسم غيره إذا جاوره.

__________________

(١) وهى قراءة يعقوب ، أحد القراء العشرة. انظر الإتحاف (٢ / ٤٨٥).

٤١٣

وفى هذه العبارة ضرب من المجاز الذي يسمى تمثيلا ، وفيه فائدة جليلة ، وهى : تصوير الهجنة والشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء على أمثلة الكتاب والسنة. ويجوز أن يجرى مجرى قولك : سرّنى زيد وحسن ماله ، فكذلك هنا المعنى : لا تقدّموا بين يدى رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وفائدة هذا الأسلوب : الدلالة على قوة الاختصاص ، ولمّا كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الله بالمكان الذي لا يخفى ؛ سلك به هذا المسلك ، وفى هذا تمهيد لما نقم منهم من رفع أصواتهم فوق صوته ؛ لأن من فضّله الله بهذه الأثرة ، واختصه بهذا الاختصاص ، كان أدنى ما يجب له من التهيّب والإجلال : أن لا يرفع صوت بين يديه ، ولا يقطع أمر دونه ، فالتقدم عليه تقدم على الله ؛ لأنه لا ينطق عن الهوى ، فينبغى الاقتداء بالملائكة ؛ حيث قيل فيهم : (لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ ...) إلخ (١).

قال عبد الله بن الزبير : قدم وفد من تميم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. فقال أبو بكر : لو أمّرت عليهم القعقاع بن معبد ، وقال عمر : يا رسول الله ؛ بل أمّر الأقرع بن حابس ؛ فقال أبو بكر : ما أردت إلا خلافى ، وقال عمر : ما أردت خلافك ، وارتفعت أصواتهما ، فنزلت (٢). فعلى هذا يكون المعنى : لا تقدّموا ولاة ، والعموم أحسن كما تقدم. وعبارة البخاري : «وقال مجاهد : (لا تقدموا) ؛ لا تفتاتوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى يقضى الله ـ عزوجل ـ على لسانه» (٣). وعن الحسن : أن ناسا ذبحوا يوم الأضحى قبل الصلاة ، فنزلت ، فأمرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يعيدوا (٤) ، وعن عائشة : أنها نزلت فى النّهى عن صوم يوم الشك (٥).

(وَاتَّقُوا اللهَ) فى كلّ ما تأتون وتذرون من الأحوال والأفعال ، التي من جملتها ما نحن فيه ، (إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ) لأقوالكم (عَلِيمٌ) بأفعالكم ، فمن حقّه أن يتّقى ويراقب.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ) ، شروع فى النّهى عن التجاوز فى كيفية القول عند النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بعد النّهى عن التجاوز فى نفس القول والفعل ، وإعادة النّداء مع قرب العهد ؛ للمبالغة فى الإيقاظ والتنبيه ، والإشعار باستقلال كلّ من الكلامين باستدعاء الاعتناء بشأنه ؛ أي : لا تبلغوا بأصواتكم وراء حدّ يبلغه

__________________

(١) من الآية ٢٧ من سورة الأنبياء.

(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير ، باب (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ح ٤٨٤٧).

(٣) ذكره البخاري فى (التفسير ، سورة الحجرات). وأخرجه الطبري (٢٦ / ١١٦).

(٤) أخرجه الطبري (٢٦ / ١١٧). وعزاه السيوطي فى الدر (٦ / ٨٦) لابن أبى الدنيا فى الأضاحى.

(٥) عزاه السيوطي فى الدر (٦ / ٨٦) لابن النّجار فى تاريخه ، والطبراني فى الأوسط ، وابن مردويه.

هذا ، وما ذكره المفسر عن السيدة عائشة والحسن إنما هو داخل فى عموم الآية ، لا أنه سبب النّزول ؛ لأن ما ذكر عن السيدة عائشة والحسن مخالف للرواية الصحيحة الواردة فى سبب النّزول ، والتي أخرجها البخاري.

٤١٤

صوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، بل يكون كلامه عاليا لكلامكم ، وجهره باهرا لجهركم ، حتى تكون مزيّته عليكم لائحة ، وسابقته لديكم واضحة.

(وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ) إذا كلمتموه (كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي : جهرا كائنا كالجهر الجاري فيما بينكم ، بل اجعلوا أصواتكم أخفض من صوته ، واختاروا فى مخاطبته القول اللين القريب من الهمس ، كما هو الدأب فى مخاطبة المهاب المعظّم ، وحافظوا على مراعاة هيبة النّبوة وجلالة مقدارها. وقيل : معنى : (لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) : لا تقولوا : يا محمد ، يا أحمد ، بل : يا رسول الله. يا نبى الله ، ولمّا نزلت هذه الآية ؛ ما كلم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أبو بكر إلا كأخى السّرار (١).

وعن ابن عباس رضي الله عنه : أنها نزلت فى ثبات بن قيس بن شماس ، وكان فى أذنيه وقر ، وكان جهورىّ الصوت ، وكان إذا تكلم رفع صوته ، وربما كان يكلّم النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيتأذى من صوته. ه. والصحيح ما تقدم. وفى الآية أنهم [لم] (٢) ينهوا عن الجهر مطلقا ، وإنما نهوا عن جهر مخصوص ، أي : الجهر المنعوت بمماثلة ما اعتادوه فيما بينهم ، وهو الخلوّ عن مراعاة هيبة النّبوة ، وجلالة مقدارها.

وقوله : (أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ) ؛ مفعول من أجله ، أي : لا تجهروا خشية أن تحبط أعمالكم ، (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) فإنّ سوء الأدب ربما يؤدى بصاحبه إلى العطب وهو لا يشعر. ولمّا نزلت الآية جلس ثابت بن قيس فى بيته ولم يخرج ، فتفقّده صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فدعاه فسأله ، فقال : يا رسول الله ؛ لقد أنزلت عليك هذه الآية ، وإنى رجل جهير الصوت ، فأخاف أن يكون عملى قد حبط ، فقال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لست هناك ، تعيش بخير ، وتموت بخير ، وإنك من أهل الجنة» (٣).

وأما ما يروى عن الحسن : أنها نزلت فى المنافقين ، الذي كانوا يرفعون أصواتهم فوق صوته صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقد قيل : محمله : أنّ نهيهم مندرج تحت نهى المؤمنين بدليل النّص.

(إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ) أي : يخفضون أصواتهم فى مجلسه ، تعظيما له ، وانتهاء عما نهوا عنه ، (أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي : أخلصها وصفّاها ، من قولهم : امتحن الذهب وفتنه : إذا أذابه ، وفى القاموس : محنه ، كمنعه : اختبره ، كامتحنه ، ثم قال : وامتحن القول : نظر فيه ودبّره ، والله قلوبهم : شرحها ووسّعها ، وفى الأساس : ومن المجاز : محن الأديم : مدّده حتى وسعه ، وبه فسّر قوله تعالى :

__________________

(١) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٦٢) «وصحّحه على شرط مسلم ، وأقره الذهبي» ، والبيهقي فى الشعب (رقم ١٥٢٠ و ١٥٢١) عن أبى هريرة رضي الله عنه.

(٢) فى الأصول : [لن].

(٣) أخرجه بمعناه البخاري فى (المناقب ، باب علامات النّبوة فى الإسلام ح ٣٦١٣) ومسلم فى (الإيمان ، باب مخافة المؤمن أن يحبط عمله ، رقم ١٨٧ ح ١١٩) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

٤١٥

(امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى) أي : شرحها ووسعها ، (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) أي : مغفرة لذنوبهم ، وأجر عظيم : نعيم الجنان.

الإشارة : على هذه الآية والتي بعدها اعتمد الصوفية فيما دوّنوه من آداب المريد مع الشيخ ، وهى كثيرة أفردت بالتأليف ، وقد جمع شيخنا البوزيدى الحسنى رضي الله عنه كتابا جليلا جمع فيه من الآداب ما لم يوجد فى غيره ، فيجب على كلّ مريد طالب للوصول مطالعته والعمل بما فيه.

والذي يؤخذ من الآية : أنه لا يتقدم بين يدى شيخه بالكلام ، لا سيما إذا سأله أحد ، فمن الفضول القبيح أن يسبق شيخه بالجواب ، فإنّ السائل لا يرضى بجواب غير الشيخ ، مع ما فيه من إظهار علمه ، وإشهار شأنه ، والتقدم على شيخه. ومن ذلك أيضا : ألّا يقطع أمرا دون مشورته ، ما دام تحت الحجرية ، وألّا يتقدم أمامه فى المشي إلا بإذنه ، وأن يغضّ صوته عند حضوره ، بل لا يتكلم إلا أن يأذن له فى الكلام ، ويكون بخفض صوت وتعظيم.

قلت : وما زالت أشياخنا تأمرنا بالتكلم عند المذاكرة ؛ إذ بالكلام تعرف أحوال الرّجال ، وسمعت شيخ شيخنا ، مولاى العربي الدرقاوى الحسنى رضي الله عنه يقول : حكّونا فى المذاكرة ؛ ليظهر العلم ، وكونوا معنا كما قال القائل : حك لى نربل لك ، لا كما قال القائل : سفّج لى نعسل لك. ه. لكن يكون بحثه مع الشيخ على وجه الاسترشاد والاستعلام ، من غير معارضة ولا جدال ، وإلا فالسكوت أسلم.

قال القشيري : (لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللهِ وَرَسُولِهِ) : لا تعملوا فى أمر الدين من ذات أنفسكم شيئا ، وقّفوا حيثما وقفتم ، وافعلوا ما به أمرتم ، أي : اعملوا بالشرع لا بالطبع فى طلب الحق ، وكونوا من أصحاب الاقتداء والاتباع ، لا من أرباب الابتداء أو الابتداع.

وقال فى قوله تعالى : (لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ ...) الآية ، يشير إلى أنه من شرط المؤمن : ألا يرى رأيه وعقله واختياره فوق رأى النّبى والشيخ ، ويكون مستسلما لرأيه ، ويحفظ الأدب فى خدمته وصحبته ، (وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) أي : لا تخاطبوه كخطاب بعضكم لبعض ، بل خاطبوه بالتعظيم والتبجيل ، ولا تنظروا إليه بالعين التي تنظرون إلى أمثالكم ، وإنه لحسن خلقه قد يلاعبكم ، فلا تنبسطوا معه ، متجاسرين عليه بما يعاشركم من خلقه ، ولا تبدأوه بحديث حتى يفاتحكم ، أن تحبط أعمالكم بسوء أدبكم ، وأنتم لا تشعرون. إنّ الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله وعند شيخه أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى ، أي : انتزع عنها حبّ الشهوات ، وصفّاها من دنس سوء الأخلاق ، وتخلقت بمكارم الأخلاق ، حتى انسلخت من عادات البشرية (١). ه.

__________________

(١) بالمعنى

٤١٦

وقال فى القوت : الوقاية مقرونة بالنصرة ؛ فإذا تولّاه نصره على أعدائه ، وأعدى عدوه نفسه ، فإذا نصره عليها ، أخرج الشهوة منها ، فامتحن قلبه للتقوى ، ومحّض نفسه ، فخلّصها من الهوى .. ه.

ثم ذكر من لم يستعمل الأدب مع الحضرة النّبوية ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (٤) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٥))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ) ؛ من خارجها ، أو : من خلفها ، أو : من أمامها ، فالوراء : الجهة التي توارى عنك الشخص تظلّله من خلف أو من قدّام ، و «من» لابتداء الغاية ، وأنّ المناداة نشأت من ذلك المكان ، والحجرة : الرقعة من الأرض ، المحجورة بحائط يحوط عليها ، فعلة ، بمعنى مفعولة ، كالقبضة ، والجمع : حجرات ، بضمتين ، وبفتح الجيم ، والمراد : حجرات النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكان لكلّ امرأة حجرة.

نزلت فى وفد بنى تميم ، وكانوا سبعين ، وفيهم عينية بن حصن الفزاري ، والأقرع بن حابس ، وفدوا على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وقت الظهيرة ، وهو راقد ، فنادوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وراء حجراته ، وقالوا : اخرج إلينا يا محمد ؛ فإنّ مدحنا زين ، وذمّنا شين ، فاستيقظ ، وخرج عليه‌السلام وهو يقول : «ذلكم الله الذي مدحه زين ، وذمّه شين» ، فقالوا : نحن قوم من بنى تميم ، جئنا بشاعرنا وخطيبنا ، لنشاعرك ، ونفاخرك ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «ما بالشعر بعثت ، ولا بالفخار أمرت» ، ثم أمر صلى‌الله‌عليه‌وسلم خطيبهم فتكلّم ، ثم قال لثابت بن قيس بن شماس ـ وكان خطيب النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قم ، فقام ، فخطب ، فأقحم خطيبهم ، ثم قام شاب منهم ، فأنشأ يقول :

نحن الكرام فلا حىّ يعادلنا

فينا الرّؤوس وفينا يقسم الرّبع

ونطعم النّاس عند القحط كلّهم

إنّا كذلك عند الفخر نرتفع (١)

__________________

(١) هكذا جاء فى الأصول ، أما فى البحر المحيط (٨ / ١٠٦ ـ ١٠٧) وأسباب النّزول للواحدى (ص ٤٠٥) وغيرهما من المصادر ، فذكروا بعد البيت الأول :

ونطعم النّاس عند القحط كلهم

من السديف إذا لم يؤنس الفزع

إذا أبينا فلا يأبى لنا أحد

إنا كذلك عند الفخر نرتفع.

٤١٧

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم لحسّان : قم فأجبه ، فقال :

إنّ الذوائب من فهر وإخوتهم

قد شرّعوا سنّة للناس تتبع

يرضى بها كلّ من كانت سريرته

تقوى الإله وكلّ الفخر يصطنع (١)

ثم قال الأقرع شعرا افتخر به ، فقال عليه‌السلام ـ لحسّان ، قم فأجبه ، فقال حسّان :

بنى دارم ، لا تفخروا ، إنّ فخركم

يعود وبالا عند ذكر المكارم

هبلتم ، علينا تفخرون وأنتم

لنا خول من بين ظئر وخادم (٢)

فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لقد كنت غنيا عن هذا يا أخا بنى دارم أن يذكر منك ما قد ظننت أن النّاس قد نسوه» ، ثم قال الأقرع : تكلم خطيبنا ، فكان خطيبهم أحسن قيلا ، وتكلم شاعرنا فكان شاعرهم أشعر. ه (٣).

هذا ومناداتهم من وراء الحجرات ؛ إما لأنهم أتوها حجرة حجرة ، فنادوه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من ورائها ، أو : بأنهم تفرقوا على الحجرات متطلبين له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو : نادوه من وراء الحجرة التي كان فيها ، ولكنها جمعت إجلالا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. وقيل : الذي ناداه عيينة بن حصن والأقرع ، وإنما أسند إلى جميعهم لأنهم راضون بذلك وأمروا به. (أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ) ، إذ لو كان لهم عقل لما تجاسروا على هذه العظيمة من سوء الأدب.

(وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا) أي : ولو تحقق صبرهم وانتظارهم ، فمحل (أنهم صبروا) رفع على الفاعلية ؛ لأنّ «أن» تسبك بالمصدر ، لكنها تفيد التحقق والثبوت ، للفرق بين قولك : بلغني قيامك ، وبلغني أنك قائم ، و «حتى» تفيد أن الصبر ينبغى أن يكون مغيّا بخروجه عليه‌السلام ، فإنها مختصة بالغايات. والصبر : حبس النّفس على أن تنازع إلى هواها ، وقيل : «الصبر مرّ ، لا يتجرعه إلا حرّ». أي : لو تأنوا حتى تخرج إليهم بلا مناداة ؛ لكان الصبر خيرا لهم من الاستعجال ، لما فيه من رعاية حسن الأدب ، وتعظيم الرّسول ، الموجبتين للثناء والثواب ، والإسعاف بالمسئول ؛ إذ روى أنهم وفدوا شافعين فى أسارى بنى العنبر ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعث سرية إلى حى بنى العنبر ، وأمّر عليهم عيينة

__________________

(١) انظر ديوان حسان بشرح البرقوقى ص ٣٠١. وفيه :

إن الذوائب من فهر وإخوتهم

قد بينوا سنة للناس تتبع

يرضى بها كلّ من كانت سريرته

تقوى الإله وبالأمر الذي شرعوا

(٢) انظر ديوان حسان ص ٤٣٧.

(٣) أخرجه الواحدي فى أسباب النّزول ص (٤٠٤ ـ ٤٠٦) عن جابر بن عبد الله. وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص ١٥٥ ـ ١٥٦ رقم ١٥) للثعلبى. وأخرج الجزء الأول من القصة ، الترمذي فى (التفسير ، باب ومن سورة الحجرات ، ح ٣٢٦٧) عن البراء بن عازب رضي الله عنه.

٤١٨

ابن حصن ، فهربوا وتركوا عيالهم ، فسباهم عيينة ، ثم قدم رجالهم يفدون الذراري ، فلما رأتهم الذرارىّ أجهشوا إلى آبائهم يبكون ، فعجلوا أن يخرج إليهم النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنادوه حتى أيقظوه من نومه ، فخرج إليهم ، فأطلق النّصف وفادى النصف (١) ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ؛ بليغ المغفرة والرّحمة واسعهما ، فلن يضيق ساحتهما عن هؤلاء إن تابوا وأصلحوا.

الإشارة : من آداب المريد ألّا يوقظ شيخه من نومه ، ولو بقي ألف سنة ينتظره ، وألّا يطلب خروجه إليه حتى يخرج بنفسه ، وألّا يقف قبالة باب حجرته لئلا يرى بعض محارمه. ومن آدابه أيضا : ألا يبيت معه فى مسكن واحد ، وألّا يأكل معه ، إلا أن يعزم عليه ، وألّا يجلس على فراشه أو سجّادته إلا بأمره ، وإذا تعارض الأمر والأدب ، فهل يقدّم الأمر أو الأدب؟ خلاف ، وقد تقدم فى صلح الحديبية : أن سيدنا عليا ـ كرم الله وجهه ـ قدّم الأدب على الأمر ، حين قال له صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «امح اسم رسول الله من الصحيفة» (٢) ، فأبى ، وقال : «والله لا أمحوك أبدا». والله تعالى أعلم.

ومن جملة الأدب : التأنى فى الأمور وعدم العجلة ، كما أبان ذلك بقوله تعالى :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (٦) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (٧) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٨))

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ). نزلت فى الوليد بن عقبة بن أبى معيط ، وكان من فضلاء الصحابة ـ رضي الله عنه ـ بعثه النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى بنى المصطلق ، بعد الوقعة مصدّقا ، وكان بينه وبينهم عداوة فى الجاهلية ، فخرجوا يتلقّونه ، تعظيما لأمر النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فظن أنهم مقاتلوه ؛ فرجع ، وقال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : قد ارتدوا ومنعوا الزكاة ، فهمّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم أن يغزوهم ، ثم أتوا النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأخبروه أنهم إنما خرجوا يتلقّونه تكرمة ؛

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٧ / ٣٣٧).

(٢) راجع تفسير الآية ٢٦ من سورة الفتح.

٤١٩

فاتهمهم النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعث إليهم «خالد بن الوليد» خفية مع عسكر ، وأمره أن يخفى عليهم قدومه ، ويتطلع عليهم ، فإن رأى ما يدلّ على إيمانهم ؛ أخذ زكاتهم ورجع ، وإن رأى غير ذلك ؛ استعمل فيهم ما يستعمل فى الكفار ، فسمع خالد فيهم آذان صلاتى المغرب والعشاء ، فأخذ صدقاتهم ، ولم ير منهم إلا الطاعة ، فنزلت الآية (١).

وسمّى الوليد فاسقا لعدم تثبّته ؛ فخرج بذلك عن كمال الطاعة ، وفى تسميته بذلك زجر لغيره ، وترغيب له فى التوبة ، والله تعالى أعلم بغيبه ، حتى قال بعضهم : إنها من المتشابه ، لما ثبت من تحقق إيمان الوليد. وقال أبو عمر فى الاستيعاب : لا يصح أن الآية نزلت فى قضية الوليد ؛ لأنه كان فى زمن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم من (٢) ثمانية أعوام ، أو من عشرة ، فكيف يبعثه رسولا؟! (٣) ه. قلت : لا غرابة فيه ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يؤمّر أسامة بن زيد على جيش ، فيه أبو بكر وعمر ، مع حداثة سنّه ، كما فى البخاري وغيره.

وفى تنكير (فاسق) و (نبأ) شياع فى الفسّاق والأنباء ، أي : إذا جاءكم فاسق أىّ فاسق كان ، بأيّ خبر (فَتَبَيَّنُوا) أي : فتوقفوا فيه ، وتطلّبوا بيان الأمر وانكشاف الحقيقة ، ولا تعتمدوا قول من لا يتحرى الصدق ، ولا يتحامى الكذب ، الذي هو نوع من الفسوق.

وفى الآية دليل على قبول خبر الواحد العدل ؛ لأنا لو توقفنا فى خبره ؛ لسوّينا بينه وبين الفاسق ، ولخلا التخصيص به عن الفائدة. وقرأ الأخوان : «فتثبتوا» والتثبّت والتبيّن متقاربان ، وهما : طلب الثبات والبيان والتعرّف.

(أَنْ تُصِيبُوا) أي : لئلا تصيبوا (قَوْماً بِجَهالَةٍ) : حال ، أي : جاهلين بحقيقة الأمر وكنه القصة.

(فَتُصْبِحُوا) ؛ فتصيروا (عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ) ؛ مغتمين على ما فعلتم ، متمنين أنه لم يقع ، والنّدم : ضرب من الغم ؛ وهو أن يغتم على ما وقع ، يتمنى أنه لم يقع ، وهو غم يصحب الإنسان صحبة لها دوام فى الجملة.

(وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ) فلا تكذبوا ، فإن الله يخبره ، فيهتك سر الكاذب ، أو : فارجعوا إليه واطلبوا رأيه ، ثم استأنف بقوله : (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) ؛ لوقعتم فى العنت ؛ وهو الجهد والهلاك.

__________________

(١) أخرجه أحمد فى المسند (٤ / ٢٧٩) والطبراني فى الكبير (٣ / ٤٠١) والطبري (٢٦ / ١٢٣) وعبد الرّزاق فى التفسير (٢ / ٢٣١) وقال الهيثمي فى المجمع (٧ / ١١١) : «رواه الطبراني ، وفيه موسى بن عبيدة ، وهو ضعيف ، وانظر : تفسير ابن كثير (٤ / ٢٠٦ ـ ٢١٠) والفتح السماوي مع حاشية المحقق (٣ / ١٠٠١).

(٢) هكذا فى الأصول ، وأظنه : «ابن»

(٣) لم أقف عليه بهذا اللفظ ، ولا على معناه ، وإنما وجدت ما يفيد ترجيح ابن عبد البر بأن الوليد لم يكن غلاما فى هذا الوقت. راجع الاستيعاب (٤ / ١١٤). وهذا أيضا ما رجحه ابن حجر فى الإصابة (٣ / ٦٠١) حيث قال : قلت : ومما يؤيد أنه كان رجلا : أنه كان قدم فى فداء ابن عم أبيه «الحارث بن أبى وجزة بن أبى عمرو بن أمية» ، وكان أسر يوم بدر ، فافتداه بأربعة آلاف. حكاه أصحاب المغازي. ه.

٤٢٠