البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٣) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (٢٤) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (٢٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَاذْكُرْ أَخا عادٍ) وهو هود عليه‌السلام (إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ) : بدل اشتمال أي : وقت إنذاره قومه (بِالْأَحْقافِ) : جمع حقّف ، وهو رمل مستطيل فيه انحناء ، من : احقوقف الشيء إذا اعوجّ ، وكان عاد أصحاب عمد ، يسكنون بين رمال مشرفة على البحر ، بأرض يقال لها : «الشّحر» بأرض اليمن. وعن ابن عباس : الأحقاف : وادّ بين عمان ومهرة ، وقال مقاتل : كانت منازل عاد باليمن ، فى حضرموت ، بموضع يقال له : مهرة ، وإليه تنسب الإبل المهرية ، ويقال لها : المهارى ، وكانوا أهل عمد سيارة فى الرّبيع ، فإذا هاج العود رجعوا إلى منازلهم ، وكانوا من قبيلة إرم (١) ، والمشهور : أن الأحقاف اسم جبل ذا رمل مستطيل ، كانت منازل عاد حوله.

(وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ) : جمع نذير ، بمعنى المنذر ، أي : مضت الرّسل ، (مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ) أي : من قبل هود ومن بعده ، وقوله : (وَقَدْ خَلَتِ ..) إلخ : جملة معترضة بين إنذار قومه وبين قوله : (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ) مؤكدة لوجوب العمل بموجب الإنذار ، وإيذانا باشتراكهم فى العبادة المذكورة ، والمعنى : واذكر لقومك إنذار هود قومه عاقبة الشرك والعذاب العظيم ، وقد أنذر من تقدمه من الرّسل ، ومن تأخر عنه قومهم قبل ذلك. (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن عصيتمونى (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) يوم القيامة.

(قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا) ؛ لتصرفنا (عَنْ آلِهَتِنا) ، عن عبادتها ، (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) من العذاب العظيم (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فى وعدك بنزوله بنا ، (قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ) بوقت نزوله ، أو بجميع الأشياء التي من جملتها ذلك ، (عِنْدَ اللهِ) وحده ، لا علم لى بوقت نزوله ، ولا دخل لى فى إتيانه وحلوله ، وإنما علم ذلك عند الله ، فيأتيكم به فى وقته المقدّر له. (وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ) من التخويف والإنذار من غير وقف على تعيين وقت نزول العذاب ، (وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ) حيث تقترحون علىّ ما ليس من وظائف الرّسل ، من الإتيان بالعذاب وتعيين وقته.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي ٧ / ٢٦٢.

٣٤١

روى : أنهم قحطوا سنين ، ففزعوا إلى الكعبة ، وقد كانت بنتها العمالقة ، ثم خربت ، فطافوا بها ، واستغاثوا ، فعرضت لهم ثلاث سحابات ؛ سوداء وحمراء وبيضاء ، وقيل لهم : اختاروا واحدة ، فاختاروا السوداء ، فمرت إلى بلادهم ، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم ، فرحوا واستبشروا ، وهذا معنى قوله ، تعالى : (فَلَمَّا رَأَوْهُ) أي : العذاب الذي استعجلوه بقولهم : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا) ، وقيل : الضمير مبهم ، يفسره قوله : (عارِضاً) على أنه تمييز ، أي : رأوا عارضا ، والعارض : السحاب ، سمى به لأنه يعرض السحاب فى أفق السماء. قال المفسرون : ساق الله السحابة السوداء التي اختاروها بما فيها من النّقمة ، فخرجت عليهم من واد يقال له : «مغيث» ، فلما رأوها مستقبلة أوديتهم ، أي : متوجهة إليها ، فرحوا ، وقالوا : (هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا) أي : ممطر إيانا ، لأنه صفة النّكرة ، فيقدر انفصاله. قال الله تعالى : (بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ) من العذاب ، وقيل : القائل هود عليه‌السلام ، (رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ) ، فجعلت تحمل الفساطيط ، وتحمل الظعينة فترفعها فى الجو ، فترى كأنها جرادة.

قال ابن عباس : لما دنا العارض ، قاموا فنظروا ، فأول ما عرفوا أنه عذاب رأوا ما كان خارجا من ديارهم من حالهم ومواشيهم ، تطير بهم الرّيح بين السماء والأرض ، مثل الرّيش ، فدخلوا بيوتهم ، وأغلقوا أبوابهم ، فألقت الرّيح أبوابهم ، وصرعتهم ، وأمر الله تعالى الرّيح فأمالت عليهم الرّمال ، فكانوا تحت الرّمل سبع ليال وثمانية أيام حسوما ، لهم أنين ، ثم أمر الله تعالى الرّيح ، فكشفت عنهم الرّمال ، فاحتملتهم ، فرمت منهم فى البحر ، وشدخت الباقي بالحجارة (١).

وقيل : أول من أبصر العذاب امرأة منهم ، قالت : رأيت ريحا فيها كشهب النّار ، وهو معنى قوله : (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ) أي : تهلك من نفوس عاد وأموالهم الجم الكثير ، فعبّر عن الكثرة بالكلية. (بِأَمْرِ رَبِّها) أي : رب الرّيح ، وفى ذكر الأمر والرّب ، والإضافة إلى الرّيح ، من الدلالة على عظيم شأنه ـ تعالى ـ ما لا يخفى ، (فَأَصْبَحُوا لا يُرى) (٢) (إِلَّا مَساكِنُهُمْ) أي : فجاءت الرّيح فدمرتهم ، فصاروا بحيث لا يرى شىء إلا مساكنهم خاوية ، ومن قرأ بتاء الخطاب ، فهو لكلّ من يتأتى منه الرّؤية ، تنبيها على أن حالهم صار بحيث لو نظر كلّ أحد بلادهم لا يرى فيها إلا مساكنهم.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٧ / ٢٦٣).

(٢) قرأ عاصم وحمزة ويعقوب «يرى» بضم الياء ، و «مساكنهم» برفع النّون ، نائب فاعل ، وقرأ الباقون «ترى» بالتاء وفتحها ، و «مساكنهم» بالنصب ، مفعولا به. انظر الإتحاف (٢ / ٤٧٢ ـ ٤٧٣).

٣٤٢

(كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الجزاء الفظيع (نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ) وننجى المؤمنين. روى أن هود عليه‌السلام ومن معه من المؤمنين فى حظيرته ، ما يصيبهم من الرّيح إلا ماتلين على الجلود ، وتلذه الأنفس ، وإنها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء والأرض ، وتدمغهم بالحجارة. سبحان الحكيم القدير ، اللطيف الخبير.

الإشارة : إنما جاءت النّذر من عهد آدم عليه‌السلام إلى قيام الساعة ، تأمر بعبادة الله ، ورفض كلّ ما سواه ، فمن تمسك بذلك نجى ، ومن عبد غير الله ، أو مال إلى سواه ، عاجلته العقوبة فى الظاهر أو الباطن. والله تعالى أعلم.

ثم خوّف هذه الأمة بما جرى على عاد ، فقال :

(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٢٦) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٢٧) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٨))

قلت : (فِيما) : موصولة ، أو موصوفة ، ومفعول (اتَّخَذُوا) الأول : محذوف ، و (آلِهَةً) : مفعول ثان ، أي : اتخذوهم آلهة ، و (قُرْباناً) : حال ، ولا يصح أن يكون مفعولا ثانيا ل «اتخذوا» ، و «آلهة» : بدل ، لفساد المعنى ، وأجازه ابن عطية ، ووجه فساده : أن اتخاذهم آلهة مناف لاتخاذهم قربانا ؛ لأن القربان مقصود لغيره ، والآلهة مقصودة بنفسها ، فتأمله ، و «إن» نافية ، والأصل : فيما ما مكنكم فيه ، ولمّا كان التكرار مستثقلا جىء بأن ، كما قالوا فى مهما ، والأصل : ما ما ، فلبشاعة التكرار قلبوا الألف هاء ، وقيل : «إن» صلة ، أي : فى مثل ما مكنكم فيه ، والأول أحسن.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ) أي : قررنا عاد ومكناهم فى التصرف (فِيما) أي : فى الذي ، أو فى شىء ما (مَكَّنَّاكُمْ) يا معشر قريش (فِيهِ) من السعة والبسطة ، وطول الأعمار ، وسائر مبادئ التصرفات ، فما أغنى عنهم شىء من ذلك ، حين نزل بهم الهلاك ، وهذا كقوله تعالى : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ) ، (١) أو : ولقد مكنهم فى مثل ما مكنكم فيه ، فما جرى عليهم يجرى

__________________

(١) من الآية ٦ من سورة الأنعام.

٣٤٣

عليكم ، حيث خالفتم نبيكم ، والأول أوفق بقوله : (كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ) (١) وقوله : (هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً) (٢).

(وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً) أي : آلات الإدراك والفهم ، ليعرفوا بكلّ واحدة منها ما خلقت له ، وما نيطت به معرفته ، من فنون النّعم ، ويستدلوا بها شئون منعمها ، ويداوموا على شكرها ، ويوحدوا خالقها ، (فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ) حيث لم يستعملوه فى استماع الوحى ومواعظ الرّسل ، (وَلا أَبْصارُهُمْ) حيث لم يبصروا ما نصب من الآيات الدالة على وحدانيته ـ تعالى ـ ووجوب وجوده ، (وَلا أَفْئِدَتُهُمْ) حيث لم يتفكروا بها فى عظمة الله ـ تعالى ـ وأسباب معرفته ، فما أغنت عنهم (مِنْ شَيْءٍ) أي : شيئا من الإغناء. و (مِنْ) : زائدة ؛ للتأكيد ، وقوله : (إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللهِ) : ظرف لقوله : (فَما أَغْنى) جار مجرى التعليل ، لاستواء مؤدّى التعليل والظرف فى قولك : ضربته إذ أساء ، أو : لإساءته ، لأنك إذا ضربته وقت إساءته فإنما ضربته فيه لوجود إساءته فيه ، وكذلك الحال فى «حيث» دون سائر الظروف غالبا ، أي : فما أغنت عنهم آلات الإدراك لأجل جحودهم بآيات الله. (وَحاقَ) أي : نزل (بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) من العذاب الذي كانوا يستعجلونه بطريق الاستهزاء ، ويقولون : (فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ).

(وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى) يا أهل مكة ، كحجر ثمود ، وقرى لوط ، والمراد : أهل القرى ، ولذلك قال : (وَصَرَّفْنَا الْآياتِ) ، كرّرناه ، (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) أي : كرّرنا عليهم الحجج وأنواع العبر لعلهم يرجعون من الطغيان إلى الإيمان ، فلم يرجعوا ، فأنزلنا عليهم العذاب.

(فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً) أي : فهلا منعهم وخلصهم من العذاب الأصنام الذين اتخذوهم آلهة من دون الله ، حال كونها متقربا بها إلى الله ، حيث كانوا يقولون : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٣) ، و (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (٤) (بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ) أي : غابوا عن نصرتهم ، (وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ) ، الإشارة إلى امتناع نصرة آلهتهم وضلالهم ، أي : وذلك أثر إفكهم الذي هو اتخاذها آلهة ، وثمرة شركهم ، وافترائهم على الله الكذب.

__________________

(١) الآية ٢١ من سورة غافر.

(٢) من الآية ٧٤ من سورة مريم.

(٣) من الآية ٣ من سورة الزمر.

(٤) من الآية ١٨ من سورة يونس.

٣٤٤

وقرأ ابن عباس وابن الزبير : (إِفْكُهُمْ) (١) أي : صرفهم عن التوحيد. وقرئ : بتشديد الفاء ، للتكثير (٢).

الإشارة : التمكن من كثرة الحس لا يزيد إلا ضعفا فى المعنى ، وبعدا من الحق ، ولذلك يقول الصوفية : كل ما زاد فى الحس نقص فى المعنى ، وكلّ ما نقص من الحس زاد فى المعنى ، والمراد بالمعنى : كشف أسرار الذات وأنوار الصفات ، وما مكّن الله ـ تعالى ـ عبده من الحواس الخمس إلا ليستعملها فيما يقربه إليه ، ويوصله إلى معرفته ، فإذا صرفها فى غير ذلك ، عوقب عليها. وبالله التوفيق.

ثم ذكر حال من أغنى عنه سمعه ونفعه ، حيث استعمله فيما وصله إلى ربه ، فقال :

(وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (٢٩) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (٣٠) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (٣١) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٣٢))

قلت : «النفر» بالفتح : الجماعة من ثلاثة إلى عشرة ، وقيل : إلى سبعة ، ولا يقال نفر فيما زاد على عشرة ، والرّهط والقوم والعشيرة والمعشر معناهم الجمع ، ولا واحد لهم من لفظه ، وهو للرجال دون النّساء. قاله فى المصباح. و (مِنَ الْجِنِ) : نعت للنفر ، وكذا (يَسْتَمِعُونَ).

يقول الحق جل جلاله : (وَ) اذكر (إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ) أي : أملناهم إليك ، وأقبلنا بهم نحوك ، وهم جن نصيبين ، أو جن نينوى ، قال فى القاموس : «نينوى» بكسر أوله ، موضع بالكوفة ، وقرية بالموصل

__________________

(١) انظر مختصر ابن خالويه (ص ١٤٠) والبحر المحيط (٨ / ٦٦).

(٢) «أفكهم» وبذلك قرأ أبو عياض ، كما فى مختصر ابن خالويه / ١٤٠ والمحتسب (٢ / ٢٦٧) وزاد فى البحر المحيط (٨ / ٦٦) : وعكرمة.

٣٤٥

ليونس عليه‌السلام. ه. (يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) منه عليه‌السلام (فَلَمَّا حَضَرُوهُ) أي : الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو القرآن ، أي : كانوا منه حيث يسمعونه ، (قالُوا) أي : قال بعضهم لبعض : (أَنْصِتُوا) ؛ اسكتوا مستمعين ، (فَلَمَّا قُضِيَ) ، تمّ وفرغ من تلاوته ، (وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ) ، ؛ مقدّرين إنذارهم عند رجوعهم إليهم.

روى : أن الجنّ كانت تسترق السمع ، فلما حرست السماء ، ورموا بالشهب ، قالوا : ما هذا إلا لأمر حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها ، لتعرفوا ما هذا ، فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جن نصيبين أو نينوى ، منهم : «زوبعة» فمضوا نحو تهامة ، ثم انتهوا إلى وادي نخلة ، فوافقوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهو قائم يصلى صلاة الفجر ، فاستمعوا القرآن ، وذلك عند منصرفه من الطائف ، حين ذهب يدعوهم إلى الله ، فكذّبوه ، وردوا عليه ، وأغروا به سفاءهم ، فمضى على وجهه ، حتى وصل إلى نخلة ، فصلى بها الغداة ، فوافاه نفر الجن يصلى ، فاستمعوا لقراءته ، ولم يشعر بهم ، فأخبره الله تعالى باستماعهم (١).

وقيل : أمره الله ـ تعالى ـ أن ينذر الجن ، ويقرأ عليهم ، فصرف الله إليه نفرا منهم ، وجمعهم له ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : إنى أمرت أن أقرأ على الجن ، فمن يتبعنى؟ قالها ثلاثا ، فأطرقوا إلا عبد الله مسعود ، قال : فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة ، فى شعب الحجون ، فخطّ خطا ، فقال : لا تخرج عنه حتى أعود إليك ، ثم افتتح القرآن ، وسمعت لغطا شديدا ، حتى خفت على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فجعلت أرى أمثال النّسور تهوى وتمشى ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بينى وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم تتقطع كقطع؟؟؟ ، ففرغ صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع الفجر ، فقال : أنمت؟ فقلت : لا والله ، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك ، تقول : أجلسوا ، فقال : لو خرجت لم آمن عليك أن يتخطفك بعضهم ، ثم قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «هل رأيت شيئا؟» قلت : نعم ، رجالا سودا ، فى ثياب بيض ، قال : «أولئك جن نصيبن» (٢) وكانوا اثنى عشر ألفا ، والسورة التي قرأ عليهم : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ).

فلمّا رجعوا إلى قومهم (قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى) ، قيل : قالوا ذلك لأنهم كانوا على اليهودية ، وعن ابن عباس : إن الجن لم تكن سمعت بأمر عيسى عليه‌السلام وهو بعيد. حال كون الكتاب (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ) من العقائد الصحيحة ، أو إلى الله ، (وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) يوصل إلى الله ، وهو الشرائع والأعمال الصالحة.

__________________

(١) أخرجه بمعناه البخاري فى (الأذان ، باب الجهر بقراءة صلاة الفجر ح ٧٧٣) وكذا أخرجه فى (التفسير ، سورة الجن) من حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنه.

(٢) انظر تفسير البغوي ٧ / ٢٦٧.

٣٤٦

(يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللهِ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، (وَآمِنُوا بِهِ) أي : بالرسول أو القرآن. وصفوه بالدعوة إلى الله ـ تعالى ـ بعد ما وصفوه بالهداية إلى الحق والطريق المستقيم ؛ لتلازمهما ، دعوهم إلى ذلك بعد بيان حقيقته واستقامته ، ترغيبا فى الإجابة ، ثم أكدوه بقولهم : (يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ) أي : بعض ذنوبكم ، وهو ما كان فى حق خالص لله ـ تعالى ـ فإنّ حقوق العباد لا تغفر بالإيمان ، وقيل : تغفر. (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ؛ موجع.

واختلف فى مؤمنى الجن ، هل يثابون على الطاعة ، ويدخلون الجنة ، أو يجارون من النّار فقط؟ قال الفخر : والصحيح أنهم فى حكم بنى آدم ، يستحقون الثواب على الطاعة ، والعقاب على المعصية ، وهو قول مالك ، وابن أبى ليلى ، وقال الضحاك : يدخلون الجنة ويأكلون ويشربون. ه. ويؤيده قوله تعالى : (وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا) كما تقدم فى الأنعام (١).

(وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أي : لا ينجى منه مهرب ، وإظهار «داعى الله» من غير اكتفاء بضميره ، للمبالغة فى الإيجاب ، بزيادة المهابة والتقرير وتربيته ، وإدخال الرّوعة. وتقييد الإعجاز بكونه فى الأرض ؛ لتوسيع الدائرة ، أي : فليس بمعجز له ـ تعالى ـ وإن هرب فى أقطار الأرض ودخل فى أعماقها. (وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) ينصرونه من عذاب الله ، وهو بيان لاستحالة نجاته بواسطة ، إثر بيان استحالة نجاته بنفسه ، وجمع «الأولياء» مبالغة ، إذا كان لا ينفعه أولياء ، فأولى واحد. (أُولئِكَ) الموصوفون بعدم إجابة داعى الله (فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي : ظاهر ، بحيث لا تخفى ضلالته على أحد ، حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه ، وجمع الإشارة باعتبار معنى «من» ، وأفرد أولا باعتبار لفظها.

الإشارة : قد استعملت الجن الأدب بين يديه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حيث قالوا : أنصتوا ، فالجلوس مع الأكابر يحتاج إلى أدب كبير ، كالصمت ، والوقار ، والهيبة ، والخضوع ، كما كانت حالة الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ مع الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم إذا تكلم أنصتوا كأنما على رؤوسهم الطير. قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : «إذا جالست الكبراء فدع ما تعرف إلى مالا تعرف ، لتفوز بالسر المكنون» فإذا انقضى مجلس التذكير رجع كلّ واحد منذرا وداعيا إلى الله كلّ من لقيه ، وقد كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول لأصحابه : «ليبلغ الشاهد الغائب» (٢) فمن بلغه ذلك واستجاب ربح وغنم ، ومن لا يجب داعى الله

__________________

(١) راجع تفسير الآية ١٣٢ من سورة الأنعام. وانظر فى حكم مؤمنى الجن : تفسير القرطبي (٧ / ٦٢٢٤) و «آكام المرجان فى أحكام الجان» للشبلى النّعمانى.

(٢) جزء من حديث خطبة الرّسول فى حجة الوداع ، أخرجه البخاري فى (الحج ، باب الخطبة أيام منى ح ١٧٤١) ، ومسلم فى (القسامة ، باب تعليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال رقم ١٦٧٩ ، ح ٢٩ ، ٣٠) عن أبى بكرة رضي الله عنه.

٣٤٧

خاب وخسر ، والاستجابة أقسام ، قال القشيري : فمستجيب بنفسه ، ومستجيب بقلبه ، ومستجيب بروحه ، ومستجيب بسرّه ، ومن توقف عند دعاء الداعي إليه ، ولم يبادر إلى الاستجابة هجر فيما كان يخاطب به. ه.

قلت : المستجيب بنفسه هو المستجيب بالقيام بوظائف الإسلام ، والمستجيب بقلبه القائم بوظائف الإيمان ، والمستجيب بروحه القائم بوظائف الإحسان ، والمستجيب بسره هو المتمكن من دوام الشهود والعيان ، وقول : هجر فيما يخاطب به ، أي : كان يخاطب بملاحظة الإحسان ، فإذا لم يبادر قيد بسلاسل الامتحان. والله تعالى أعلم.

ثم برهن على قوله ، فليس بمعجزه فى الأرض ، فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٣٣) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (٣٤))

قلت : (وَلَمْ يَعْيَ) : حال من فاعل «خلق» ، يقال : عى ، كرضى ، وعى بالإدغام ، وهو أكثر. قاله فى الصحاح. وفى القاموس : عىّ بالأمر وعيى كرضى ، وتعايا واستعيا وتعيّا : لم يهتد لوجه مراده ، أو عجز عنه ولم يطق إحكامه. ه. و (بِقادِرٍ) : خبر «أن» ، ودخلت الباء لاشتمال النّفى الذي فى صدر الآية على «أنّ» وما فى حيزّها ، قال الزجاج : لوقلت : ما ظنت أنّ زيدا بقائم ، جاز.

يقول الحق جل جلاله : (أَوَلَمْ يَرَوْا) أي : ألم يتفكروا ولم يعلموا علما جازما (أَنَّ اللهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، ابتداء من غير مثال يحتويه ، ولا قانون يحتذيه ، (وَ) الحال أنه (لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ) أي : لم يتعب ولم ينصب بذلك أصلا ، ولم يعجز عنه ، أليس من فعل ذلك (بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى) : جواب النّفى ، أي : بلى هو قادر على ذلك ، (إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تقرير للقدرة على وجه عام ، ليكون كالبرهان على المقصود.

ثم ذكر عقاب من أنكر البعث المبرهن عليه ، فقال : (وَ) اذكر (يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ) فيقال لهم : (أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِ) ، فالإشارة إلى ما يشاهدونه من فظيع العذاب ، وفيه تهكم بهم ، وتوبيخ لهم ، على استهزائهم بوعد الله تعالى ووعيده ، ونفيه بقولهم : «وما نحن بمعذبين» ، (قالُوا) فى جواب الملائكة : (بَلى

٣٤٨

وَرَبِّنا) إنه لحق ، أكدوا جوابهم بالقسم كأنهم يطمعون فى الخلاص بالاعتراف بحقيقتهما كما فى الدنيا ، وأنّى لهم ذلك؟ (قالَ) تعالى لهم : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ) بها فى الدنيا ، ومعنى الأمر : الإهانة بهم والتوبيخ لهم ، نعوذ بالله من موارد الهوان.

الإشارة : تربية اليقين تطلب فى أمرين ، حتى يكونا كرأى العين : وجود الحق أو شهوده ، وإتيان الساعة وقربها ، حتى تكون نصب العين ، وتقدم حديث حارثة شاهدا على إيمانه ، حيث قال : «وكأنى أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون ...» الحديث.

ثم أمر بالصبر على ما يسمع من الكفرة ، فى إمكان البعث وغيره ، فقال :

(فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (٣٥))

قلت : (لَهُمْ) : متعلق بتستعجل ، وأما تعليقه ببلاغ فضعيف ، لا يليق بإعجاز التنزيل ، خلافا لوقف الهبطى ، و (بَلاغٌ) : خبر عن مضمر ، أي : هذا بلاغ.

يقول الحق جل جلاله : (فَاصْبِرْ) يا محمد على ما يصيبك من جهة الكفرة (كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ) أي : الثبات والحزم (مِنَ الرُّسُلِ) ، فإنك من جملتهم ، بل من أكملهم وأفضلهم ، و «من» للتبعيض ، واختلف فى تعيينهم ، فقيل : هم المذكرون فى الأحزاب (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ) (١) وهم أهل الشرائع ، الذي اجتهدوا فى تأسيسها وتقريرها ، وصبروا على تحمل مشاقها ، وسياسة من تمسك بها ، ومعاداة الطاعنين فيها. وقيل : هم الصابرون على بلاء الله تعالى ، كنوح صبر على إذاية قومه ، كانوا يضربونه حتى يغشى عليه ، وإبراهيم صبر على النّار ، وذبح ولده ، ومفارقة وطنه ، وترك ولده ببلد خالية من العمران ، ويعقوب على فقد ولده ، وذهاب بصره ، ويوسف على الجب والسجن ، وأيوب على الضر ، وموسى قال له قومه : (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ) (٢) وعلى مكابدة التيه مع قومه ، وداود بكى على خطيئته أربعين سنة ، وعيسى لم يضع لبنة على لبنة.

__________________

(١) الآية ٧ من سورة الأحزاب.

(٢) الآيتان ٦١ ، ٦٢ من سورة الشعراء.

٣٤٩

وقيل : هم اثنا عشر نبيا ، أرسلوا إلى بنى إسرائيل ، فعصوهم ، فأوحى الله إلى الأنبياء : إنى مرسل عذابى على عصاة بنى إسرائيل ، فشقّ عليهم ، فأوحى الله إليهم : أن اختاروا لأنفسكم ، إن شئتم أنزلت بكم العذاب ، وأنجيت بنى إسرائيل ، وإن شئتم أنجبتكم وأنزلت ببني إسرائيل ، فتشاوروا بينهم ، فاجتمع رأيهم على أن ينزل بهم العذاب وينجى بنى إسرائيل ، فسلّط عليهم ملوك الأرض ، فمنهم من نشر بالمناشير ، ومنهم من سلخ جلدة رأسه ووجهه ، ومنهم من رفع على الخشب ، ومنهم من أحرق بالنار. نسأل الله العافية ، فإنهم أقوياء ونحن ضعفاء.

وقيل : «من» للتبيين ، كقولك : اشتريت ثيابا من الخز ، فكلهم أولو العزم ، وقيل : إلا يونس ، لقوله : (وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ) (١) وآدم لقوله : (وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً) (٢).

ثم قال تعالى : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ) أي : لكفار مكة نزول العذاب ، فإنه نازل بهم ، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ) من العذاب (لَمْ يَلْبَثُوا) فى الدنيا (إِلَّا ساعَةً) يسيرة (مِنْ نَهارٍ) لما يشاهدونه من شدة العذاب وطول مدته. قال الثعالبي : وإذا علمت أيها الأخ أن الدنيا أضغاث أحلام ، كان من الحزم اشتغالك الآن بتحصيل الزاد للمعاد ، وحفظ الحواس ، ومراعاة الأنفاس ، ومراقبة مولاك ، فاتخذه صاحبا ، ودع النّاس جانبا ، ثم نقل عن الغزالي ما يهيج النّفس إلى النّهوض إلى الله ، والفرار مما سواه ، فانظره.

هذا (بَلاغٌ) أي : هذا الذي وعظتم به كفاية فى الموعظة ، أو تبليغ من الرّسول ، أو منى إليك ، ومنك إلى العالمين. (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) أي : ما يهلك إلا الخارجون عن هذا الاتعاظ ، أو عن هذه المواعظ ، أو عن الطاعة ، أو : فلا يهلك مع هذه المواعظ البالغة ، والأدلة القاطعة إلا من هلك عن بينة ، أو : فلا يهلك مع رحمة الله وتفضله إلا الهالكون ، ونظير ما ختم به هنا ما ختم به سورة الأنبياء : (إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ) الآية (٣).

فائدة : قال ابن عباس : إذا عسر على المرأة ولدها ، فليكتب هاتين الآتين الكريمتين فى صحيفة ، ثم تغسل وجهها منها ، وتسقى منها : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، لا إله إلا الله ، العظيم الحليم ، سبحان الله رب السموات والأرض ، ورب العرش العظيم ، كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها ، (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ). صدق الله العظيم. ه.

__________________

(١) الآية ٤٨ من سورة القلم.

(٢) الآية ١١٥ من سورة طه.

(٣) الآية ١٠٦ من سورة الأنبياء.

٣٥٠

الإشارة : أولو العزم من الأولياء هم أولو الجد والتشمير ، قد خلّصهم البلاء وشحّرهم ، فهم جلاليون الظاهر ، جماليون الباطن ، قد أسسوا منار الطريق ، وأظهروا معالم التحقيق ، قاسوا شدائد المجاهدة ، وأفضوا إلى دوام المشاهدة ، عالجوا سياسة الخلق ، حتى هدى الله على أيديهم الجم الغفير ، فهم خلفاء الرّسل فى تجديد الشرائع ، وإحياء الدين ـ جعلنا الله منهم بمنّه وكرمه. فيقال لكلّ ولىّ من أولى العزم : فاصبر كما صبر أولو العزم من الأولياء قبلك.

قال القشيري : والصبر هو الوقوف لحكم الله تعالى ، والثبات من غير بثّ الاستكراه. ه. أي : من غير إظهار الشكوى والتذكرة. قلت : وأعظم مواطن الصبر عند ورود الفاقات ، وتوالى الأزمات ، وصيانة الوجه عن ذل المخلوقات ، ولله در القائل.

ارض بأدنى العيش واشكر عليه

شكر من القلّ كثير لديه

وجانب الحرص الّذى لم يزل

يحطّ قدر المتراقى إليه

وحام عن عرضك واستبقه

كما يحامى اللّيث عن لبدتيه

واصبر على ماناب من نوب

صبر أولى العزم ، واغمض عليه

ولبدتى الأسد : جانبا كتفيه.

ويقال لأولى العزم ، حين يؤذون من جهة الخلق : (وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ ...) الآية. وقوله تعالى : (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ...) الآية ، قال القشيري : مدة الخلق من مبتدأ خلقتهم إلى منتهى آجالهم ، بالإضافة إلى الأزلية ، كلحظة ، بل هى أقلّ ، إذ الأول لا ابتداء له ولا انتهاء ، وأىّ خطر لما حصل فى لحظة .. خيرا كان أو شرا؟. ه.

قال الورتجبي ، ثم بيّن أن عند معاينة سطوات القهريات ، لا يهلك فيها إلا الخارجون من نعوت استعداد معرفتى ، حين يحتجبون بظلمات نعوتهم (١) بقوله : (فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ) الخارجون بالدعاوى الباطلة. ه. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

__________________

(١) فى الورتجبي : ظنونهم.

٣٥١
٣٥٢

سورة محمّد (١)

مدنية. وهى ثمان وثلاثون آية ، ومناسبتها لما قبلها : قوله : (فهل يهلك إلا القوم الفاسقون) ، فإنهم الكفرة الذين أشار إليهم بقوله :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (١) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (٢) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (٣))

قلت : (الذين) : مبتدأ ، و (أضل) : خبر ، و (من ربهم) : حال من ضمير الحق ، وجملة (وهو ...) إلخ : اعتراضية بين المبتدأ والخبر ، و (ذلك) : مبتدأ ، و (بأن) : خبر.

يقول الحق جل جلاله : (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : أعرضوا وامتنعوا عن الدخول فى الإسلام ، أو صدوا غيرهم عنه. قال الجوهري : صدّ عنه ، يصدّ ، صدودا : أعرض ، وصدّه عن الأمر صدا : منعه ، وصرفه عنه. ه. وهم المطعمون يوم بدر (٢) ، أو : أهل الكتاب ، كانوا يصدون من أراد الدخول فى الإسلام ، منهم ومن غيرهم ، أو عام فى كل من كفر وصدّ. فهؤلاء (أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي : أحبطها وأبطلها ، أي : جعلها ضالة ضائعة ، ليس لها من يتقبلها ويثيب عليها ، كضالة الإبل. وليس المعنى أنه أبطلها بعد أن لم تكن كذلك ، بل بمعنى : أنه حكم ببطلانها وضياعها ، فإنّ ما كانوا يعملونه من أعمال البر ، كصلة الأرحام ، وقرى الضيف ، وفك الأسارى ، وغيرها من المكارم ، ليس لها أثر من أصلها ؛ لعدم الإيمان ، أو : أبطل ما عملوا من الكيد برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والصد عن سبيله ، بنصر رسوله ، وإظهار دينه على الدين كله ، وهو الأوفق بقوله : (فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) (٣).

__________________

(١) فى الأصول : «سورة محمد أو القتال».

(٢) قاله ابن عباس رضي الله عنه ـ فيما ذكره القرطبي فى تفسيره (٧ / ٦٢٣٠). «وهم اثنا عشر رجلا ، وذكر القرطبي أسماءهم.

(٣) الآية ٨ من نفس السورة.

٣٥٣

(وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) قيل : هم ناس من قريش ، وقيل : من الأنصار ، وقيل : من آمن من أهل الكتاب ، والمختار أنه عام ، (وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ) صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وهو القرآن ، وخص بالذكر من بين ما يجب الإيمان به ؛ تنويها بشأنه ، وتنبيها على سمو مكانه من بين ما يجب الإيمان به ، وأنه الأصل فى الكل ؛ ولذلك أكّده بقوله : (وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي : القرآن ، لكونه ناسخا لغيره من الكتب ، وقيل : دين محمد ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ إذ لا يرد عليه النّسخ ، وهو ناسخ لسائر الأديان ، (كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي : ستر بالإيمان والعمل الصالح ما كان منهم من الكفر والمعاصي ؛ لرجوعهم عنها بالتوبة (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) أي : حالهم وشأنهم ، بالتوفيق لأمور الدين ، وبالتسليط على الدنيا ، بما أعطاهم الله من النّصرة والعزة والتمكين فى البلاد.

(ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ) أي : ذلك الأمر ، وهو إضلال أعمال أهل الكفر ، وتكفير سيئات أهل الإيمان ، وإصلاح شأنهم ؛ كائن بسبب اتباع هؤلاء الباطل ؛ وهو الشيطان ، حيث فعلوا ما فعلوا من الكفر والصد ، واتباع هؤلاء الحق ، وهو القرآن ، أو ما جاء به صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو يراد بالباطل : الزائل الذاهب من الدّين الفاسد ، وبالحق : الدين الثابت ، أو يراد بالباطل : نفس الكفر والصد ، وبالحق : نفس الإيمان والأعمال الصالحة.

(كَذلِكَ) أي : مثل الضرب البديع (يَضْرِبُ اللهُ) أي : يبين (لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ) أي : أحوال الفريقين ، وأوصافهما ، الجارية فى الغرابة مجرى الأمثال ، وهو اتباع الأولين الباطل ، وخيبتهم وخسرانهم ، واتباع الآخرين الحقّ ، وفوزهم وفلاحهم ، والضمير راجع إلى النّاس ، أو إلى المذكورين من الفريقين ، على معنى : أنه يضرب أمثالهم لأجل النّاس ليعتبروا بهم ، وقد جعل اتباع الباطل مثلا لعمل الكافرين ، واتباع الحق مثلا لعمل المؤمنين ، أو جعل الإضلال مثلا لخيبة الكفار ، وتكفير السيئات مثلا لفوز الأبرار.

الإشارة : الذين كفروا بوجود الخصوصية ، وصدوا النّاس عنها ؛ أبطل سيرهم إليه ، فكلما ساروا رجعوا ، والذين آمنوا الإيمان الكامل واتبعوا السنة النّبوية ، ستر مساوئهم ، وأصلح شأنهم ، حتى صلحوا لحضرته. قال القشيري : الذين كفروا : امتنعوا ، وصدوا : منعوا (١) ، فلا متناعهم عن الله استوجبوا العقوبة ، ولمنعهم الخلق عن الله استوجبوا الحجبة. ثم قال فى قوله : (وَأَصْلَحَ بالَهُمْ) : فالكفر للأعمال محبط ، والإيمان للخلود مسقط ، ويقال : الذين اشتغلوا بطاعة الله ، ولم يعملوا شيئا مما خالف الله ـ فلا محالة ـ يقوم الله بكفاية أشغالهم. ه.

__________________

(١) فى القشيري : وصدوا فمنعوا.

٣٥٤

وقوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ ...) الآية ، قال الورتجبي : اتبع الكفرة ما وقع فى مخايلهم ، من هواجس النّفس ، ووساوس الشيطان ، ولا يقبلون طرائق الرّشد من حيث الوحى والإلهام ، وأنّ الذين صدقوا فى دين الله ، وشاهدوا الله بالله ، اتبعوا سنة رسوله وخطابه ، وما يقع فى أسرارهم من النّور والبيان ، والإلهام والكلام ، بنعت الإخلاص فى طاعته ، والأدب فى خدمته والإعراض عن غيره. قال ابن عطاء : اتباع الباطل : ارتكاب الشهوات وأمالى النّفس ، واتباع الحق : اتباع الأوامر والسنن. ه. قال القشيري : اتباع الحق بموافقة السنة ، ومتابعة الجد فى رعاية الحق وإيثار رضاه ، والقيام بالطاعة ، واتباع الباطل : الابتداع والعمل بالهوى ، وإيثار الحظوظ وارتكاب المعصية. ه.

ثم أقرّ بجهاد من كفر وصدّ ، فقال :

(فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (٤) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (٥) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (٦) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (٧) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (٨) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (٩))

قلت : (فضرب) : مصدر ، نائب عن فعله ، مضاف إلى مفعوله ، و (منّا) و (فداء) : مصدران لمحذوف ، و (الذين كفروا) : مبتدأ حذف خبره ، وهو العامل فى المصدر ، أي : والذين كفروا فأتعسهم تعسا ، و (أضل أعمالهم) : عطف على الخبر المحذوف.

يقول الحق جل جلاله : (فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) فى المحاربة (فَضَرْبَ الرِّقابِ) ، أصله : فاضربوا الرقاب ضربا ، فحذف الفعل وناب عن مصدره ؛ للاختصار ، مع إعطاء معنى التوكيد ، لدلالة نصبه على مؤكده ، وضرب الرّقاب عبارة عن مطلق القتل ، والتعبير به عن القتل تصوير له بأشنع صورة وتهويل لأمره ، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون ، (حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ) ؛ أكثرتم فيه القتل ، وأغلظتموه ، من : الشيء الثخين ، وهو الغليظ ،

٣٥٥

أو : أثقلتموهم بالجراح وهزمتموهم ، (فَشُدُّوا الْوَثاقَ) أي : فأسروهم ، وشدوا وثاقهم ، لئلا يتفلتوا ، والوثاق بالفتح والكسر : ما يشد به. فإذا أسرتموهم فتخيروا فيهم (فَإِمَّا مَنًّا) أي : فإما أن تمنوا منا بعد الأسر ، (وَإِمَّا فِداءً) : أن تفدوا فداء ، والمعنى : التخير بين الأمرين بعد الأسر ، بين أن يمنّوا عليهم فيطلقوهم ، وبين أن يفادوهم ، ومذهب مالك : أن الإمام مخيّر فى الأسارى بين خمسة ، وهى : المنّ ، والفداء ، والقتل ، والاسترقاق ، وضرب الجزية ، وقيل : لا يجوز المن ولا الفداء ؛ لأن الآية منسوخة بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) (١) فيتعين قتلهم ، والصحيح أنها محكمة. ومذهب الشافعي : أن الإمام مخير بين أربعة : القتل ، والاسترقاق ، والفداء بأسارى المسلمين ، والمنّ. ولعل لجزية عنده خاصة بأهل الكتاب.

ومذهب أبى حنيفة : التخيير بين القتل والاسترقاق فقط ، قال : والآية منسوخة ؛ لأن سورة براءة آخر ما نزل. وعن مجاهد : ليس اليوم منّ ولا فداء ، والمراد بالمنّ فى الآية ؛ أن يمنّ عليهم بترك القتل ، فيسترقوا ، أو يمنّ عليهم بإعطاء الجزية. ه.

والمشهور : مذهب مالك ؛ لأن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قتل عقبة بن أبى معيط ، والنّضر بن الحارث ، يوم بدر صبرا ، وفادى سائر الأسارى ، ومنّ على ثمامة بن أثال الحنفي ، وهو أسير ، واسترق نساء بنى قريظة ، فباعهم ، وضرب الجزية على نصارى نجران ومجوس هاجر.

ثم ذكر غاية الحرب فقال : (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها) أي : اضربوا رقابهم حتى تضع الحرب أثقالها ، وآلاتها ، التي لا تقوم إلا بها ، كالسلاح والكراع ، وذلك حيث لم يبق حرب ، بأن تضع أهل الحرب عدتها. وقيل : (أوزارها) : آثامها ، يعنى : حتى يترك أهل الحرب المشركين شركهم ، بأن يسلموا جميعا. والمختار : أن المعنى : أثخنوا المشركين بالقتل والأسر حتى يظهر الإسلام على سائر الأديان ، ويؤمن أهل الكتاب ، طوعا أو كرها ، ويكون الدين كله لله ، فلا يحتاج إلى قتال. وقال الحسن : معناه : حتى لا يعبد إلا الله. وقال ابن عطية : ظاهر اللفظ : أنها استعارة ، يراد بها التزام الأمر كذلك أبدا ، كما تقول : أنا أفعل ذلك إلى يوم القيامة. ه. فالغاية ب «حتى» ، راجعة إلى الضرب والشد ، وما ترتب عليه من المنّ والفداء.

(ذلِكَ) الأمر ذلك ، أو افعلوا ذلك ، (وَلَوْ يَشاءُ اللهُ لَانْتَصَرَ) ؛ لانتقم (مِنْهُمْ) بغير قتال ؛ بأن ينزل بهم أسباب الهلاك والاستئصال ، كالخسف أو الرّجف أو غير ذلك ، (وَلكِنْ) أمركم بالقتال (لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ)

__________________

(١) الآية ٥ من سورة التوبة.

٣٥٦

أي : المؤمنين بالكافرين ، فأمرهم بالجهاد ليستوجبوا الثواب العظيم ، وليسلم من سبق إسلامه من الكافرين. (وَالَّذِينَ قُتِلُوا) (١) (فِي سَبِيلِ اللهِ) ؛ لإعلاء كلمة التوحيد ، لا لغرض آخر ، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ) ؛ فلن يضيعها.

(سَيَهْدِيهِمْ) فى الدنيا إلى طريق الرّشد والصواب ، وفى الآخرة إلى جزيل الثواب ، وقيل : يهديهم إلى جواب منكر ونكير ، (وَيُصْلِحُ بالَهُمْ) بأن يقبل أعمالهم ويرضى خصماءهم ، (وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ). قال مجاهد : عرفهم مساكنهم فيها ؛ حتى لا يحتاجوا إلى دليل لها (٢) ، أو : طيّبها ، من : العرف ، وهو طيب الرّائحة ، ويمكن الجمع : بأن عرف المحل يهدى صاحبه الى جنته ومحله.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ) بنصر دينه وإظهار شريعه نبيه (يَنْصُرْكُمْ) على عدوكم ، ويفتح لكم ، (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) فى مواطن الحرب ومواقفها ، أو على محجة الإسلام ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) أي : فيقال : تعسا لهم ، والتعس : الهلاك ، أو السقوط والانحطاط ، أو العثار ، أو البعد. وقال ابن السكيت : التعس : أن يجر على وجهه. ه أي : أتعسهم الله تعسا ، أي : أهلكهم وأبعدهم. وقال ابن عباس : «فى الدنيا بالقتل والأسر ، وفى الآخرة بالتردي فى النّار». والمراد بالذين كفروا عام ، وقيل : المراد من يضاد الذين ينصرون دين الله ، كأنه قيل : إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ، ومن لم ينصره فتعسا له ، فوضع «الذين كفروا» موضع من لم ينصره ؛ تغليظا ، فهو وفق لأسلوب السورة من التقابل المعنوي ، فهو عطف جملة على جملة شرطية مثلها ، ولذلك دخلت الفاء فى خبر الموصول ، كما قرره الزجاج. انظر الطيّبى. ه من الحاشية. (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) أي : أحبطها وأبطلها.

(ذلِكَ) التعس والإضلال (بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللهُ) من القرآن ؛ لما فيه من التوحيد ؛ وسائر الأحكام ، المخالفة لما ألفوه واشتهته أنفسهم الأمّارة بالسوء ، (فَأَحْبَطَ) لأجل ذلك (أَعْمالَهُمْ) التي كانوا عملوها ، من صلة الأرحام وغيرها.

الإشارة : نهاية الجهاد الأصغر : وضع الحرب أوزارها بالإسلام أو السّلم ، ونهاية الجهاد الأكبر : استسلام النّفس وانقيادها لما يراد منها ، أو موتها بالغيبة عنها بالكلية. قال بعض العارفين : انتهى سير السائرين إلى الظفر

__________________

(١) قرأ أبو عمرو وحفص (قتلوا) بضم القاف ، وقرأ الباقون (قاتلوا) بفتح القاف ، وتخفيف التاء ، وألف بينهما. انظر : السبعة لابن مجاهد / ٦٠٠ والإتحاف ٢ / ٤٧٥ ـ ٤٧٦.

(٢) هذا معنى ما قاله مجاهد وأكثر المفسرين. وقول مجاهد أخرجه الطبري ، وفى الصحيح ما يدل على صحة هذا القول ، فقد أخرج البخاري فى (الرقاق ، باب القصاص يوم القيامة ح ٦٥٣٥) عن أبى سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يخلص المؤمنون من النّار ، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنّار ، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم فى الدنيا حتى إذا هذّبوا ونقّوا أذن لهم فى دخول الجنة ، فوالذى نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله فى الجنة منه بمنزله كان فى الدنيا».

٣٥٧

بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا. ه. فالإشارة بقوله : (إذا لقيتم الذين كفروا ...) إلخ إلى قتل الهوى والشيطان وسائر القواطع ، حتى إذا أثخنتموهم فشدّوا وثاقهم ، ولا تأمنوا غائلتهم.

قال القشيري ، بعد كلام : وكذلك العبد إذا ظفر بنفسه ؛ فلا ينبغى أن يبقى بعد انتقاش شوكها بقية ، ولا فى قلع شجرها مستطاعا وميسورا ؛ فالحيّة إن بقيت منها بقية من الحياة من وضع عليها إصبعه بثّت سمّها فيه. ه. فإذا تمكنتم من معرفة الله ، فإما أن تمنوا عليها بترك جهادها الأكبر ، وإما أن تفدوها بالغيبة عنها فى حلاوة الشهود ، حتى تضع الحرب أوزارها بالموت ، ولو شاء الله لخلّصكم منها من غير جهاد ، فالقدرة صالحة ، ولكن ليختبركم ، فيظهر السائرون من القاعدين مع حظوظهم «لولا ميادين النّفوس ما تحقق سير السائرين» (١). والذين قاتلوا نفوسهم فى سبيل الله وطلب معرفته ، فلن يضلّ أعمالهم ، سيهديهم إلى معرفته ، ويصلح بالهم بالاستغراق فى شهوده ، ويدخلهم جنة المعارف ، قد عرّفها لهم ، وبيّنها على أيدى الوسائط من الشيوخ العارفين ، أو طيّبها لهم ، فيهتدون بنسيم واردات التوجه ، إلى أنوار المواجهة. وقد أشار تعالى بقوله : (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) إلى طلب الإخلاص ، فلا يوصل الجهاد الأصغر ولا الأكبر إلى رضوان الله ، أو معرفته ، إلا بتحقق الإخلاص ، من غير التفات لغرض نفسانى ، لا عاجلا ولا آجلا.

ذكر الشيخ أبو نعيم الحافظ : أن ميسرة الخادم ، قال : غزونا فى بعض الغزوات ، فإذا بفتى (٢) جانبى ، وهو مقنع بالحديد ، فحمل على الميمنة ، ثم الميسرة ، ثم على القلب ، ثم أنشأ يقول :

أحسن بمولاك سعيد ظنّا

هذا الذي كنت تمنّى (٣)

تنح يا حور الجنان عنّا

ما فيك قاتلنا ولا قتلنا

لكن إلى سيدكنّ اشتقنا

قد علم السر وما أعلنّا

قال : فحمل فقاتل ، فقتل منهم عددا ، ثم رجع إلى موقفه ، فتكالب عليه العدو ، فحمل ، وأنشأ يقول :

قد كنت أرجو ورجائى لم يخب

ألّا يضيع اليوم كدىّ والطّلب

يا من ملأ تلك القصور باللعب

لولاك ما طابت ولا طاب الطّرب

__________________

(١) حكمة عطائية رقم (٢٤٤) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي ص ١٨.

(٢) اسمه «سعيد» كما هو واضح من البيت الأول ، وترجم له أبو نعيم ب «سعيد الشهيد ، المقنع فى الحديد ، المشتاق إلى رؤية المنعم المجيد».

(٣) هكذا فى الأصول ، وفى الحلية : [هذا الذي كنت له تمنى].

٣٥٨

ثم حمل فقاتل ، فقتل عددا كثيرا ، ثم رجع إلى مصافه ، فتكالب عليه العدو ، فحمل ثالثة ، وأنشأ يقول :

يا لعبة الخلد قفى ثمّ اسمعي

مالك قاتلنا فكفّى وارجعي

ثمّ ارجعي إلى الجنان وأسرعى

لا تطمعى لا تطمعى لا تطمعى

فقاتل رضي الله عنه حتى قتل ـ رحمه‌الله. ه (١).

قوله تعالى : (إِنْ تَنْصُرُوا اللهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) ، فيه ترغيب وتنشيط لأهل الوعظ والتذكير ، الداعين إلى الله ، الذين يسعون فى إظهار الدين ، وإرشاد عباد الله إلى محبة الله وطاعته. وفى الحديث عنه ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفس محمد بيده ، لئن شئتم لأقسمن لكم ، إن أحب عباد الله إلى الله الذين يحببون الله إلى عباده ، ويحببون عباد الله إلى الله ، ويمشون فى الأرض بالنصيحة». وقال أيضا : «الخلق عيال الله ، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله» (٢) وأعظم النّفع : إرشادهم إلى الله ، الذي هو سبب سعادتهم السرمدية.

وقال الورتجبي : نصرة العبد لله : أن يجاهد نفسه وهواه وشيطانه ، فإنهم أعداؤه ، فإذا خاصمها يقويه الله وينصره عليهم ، بأن يدفع شرهم عنه ، ويجعله مستقيما فى طاعة الله ، ويجازيه بكشف جماله ، حتى يثبت فى مقام العبودية ، وانكشاف أنوار الرّبوبية. ه.

قال القشيري : ونصرة الله للعبد بإعلاء كلمته ، وقمع أعدائه. ثم قال فى قوله تعالى : (وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ) هو إدامة التوفيق ، لئلا ينهزم من صولة أعداء الدين ، ولا يضعف قلبه فى معاداتهم ، ولا ينكسر باطنه ثقة بالله فى إعزاز دينه. ه. ثم ذكر تعالى أضداد الداعين إلى الله ، الناصرين لدينه ، وهم المنتقدون عليهم ، فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ) أي : خيبة لهم ، (وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ) ، فلا يتوصلون بها إلى معرفته ، لكونها معلولة.

ثم أمر بالتفكر والنّظر ؛ لأنه أقرب الطرق إلى التخلص من غوائل الأعداء ، فقال :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (١٠) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (١١)

__________________

(١) أخرجه أبو نعيم فى الحلية (١٠ / ١٦٥ ـ ١٦٦).

(٢) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٧٤٤٥) والطبراني فى الكبير (ح ١٠٠٣٣) وأبو يعلى فى مسنده (٦ / رقم ٣٣١٥ و ٣٣٧٠) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه ، وأخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٧٤٤٨) وأبو نعيم فى الحلية (٢ / ١٠٢) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.

٣٥٩

إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (١٢))

يقول الحق جل جلاله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي : أقعدوا فلم يسيروا (فِي الْأَرْضِ) ، يعنى كفار مكة ، (فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المكذبة؟ فإنّ آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم ، فقد (دَمَّرَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ، فالجملة : استئناف مبنى على سؤال ، كأنه قيل : كيف كان عاقبتهم؟ فقيل : استأصل الله عليهم ما اختص بهم من أنفسهم وأهليهم وأموالهم ، يقال : دمّره ؛ أهلكه ، ودمّر عليه : أهلك عليه ما يختص به ، قاله أبو السعود. وفى الصحاح : الدمار : الهلاك ، دمّره تدميرا ، ودمّر عليه ، بمعنى. ه. فظاهره : أن معناهما واحد ، وفسره فى الأساس بالهلاك المستأصل ، وقال الطيبي : فى دمّر عليهم تضمين معنى أطبق ، فعدى بعلى ، ولذلك استأصل. ه.

(وَلِلْكافِرِينَ) أي : ولهؤلاء الكافرين السائرين بسيرتهم (أَمْثالُها) أي : أمثال تلك الهلكة المفهومة من التدمير ، أو أمثال عواقبهم أو عقوباتهم ، لكن لا على أنّ لهؤلاء أمثال ما لأولئك وأضعافه ؛ بل مثله ، وإنما جمع باعتبار مماثلته لعواقب متعددة ، حسبما تعدّد الأمم المعذّبة ، ويجوز أن يكون عذابهم أشدّ من عذاب الأولين ؛ فقد قتلوا وأسروا بأيدى من كانوا يستخفونهم ويستضعفونهم ، والقتل بيد المثل أشد ألما من الهلاك بسبب عام. وقيل : دمّر الله عليهم فى الدنيا ، ولهم فى الآخرة أمثالها.

(ذلِكَ) أي : نصر المؤمنين وهلاك الكافرين فى الحال أو المال (بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا) أي : ناصرهم ومعزّهم (وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ) فيدفع عنهم ما حلّ بهم من العقوبة ، ولا يخالف هذا قوله : (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ) (١) ؛ لأن المولى هناك بمعنى المالك.

(إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) ، وهذا بيان لحكم ولاية الله لهم وثمرتها الأخروية ، (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ) فى الدنيا بمتاعها أياما قلائل ، (وَيَأْكُلُونَ) غافلين عن عواقبهم ، غير متفكرين فيها (كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) فى مسارحها ، غافلة عما هى بصدده من النّحر والذبح ، فالتشبيه بالأنعام صادق بالغفلة عن تدبير العاقبة ، وعن شكر المنعم ، وبعدم التمييز للمضرّ من غيره ، كأ كل الحرام وعدم توقيه ، وكذا كونه غير مقصور على الحاجة ، ولا على وقتها ، وسيأتى فى الإشارة إن شاء الله. (وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ) أي : منزل ثواه وإقامته ، والجملة إما حال مقدرة من واو (يأكلون) ، أو استئناف.

__________________

(١) من الآية ٦٢ من سورة الأنعام.

٣٦٠