البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

قال القشيري : والله الغنى لذاته بذاته ، ومن غنائه : تمكنه من تنفيذ مراده ، واستغناؤه عما سواه ، وأنتم الفقراء إلى الله ، فى نعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، فى الابتداء ليخلقكم ، وفى الوسط ليربيكم ، وفى الانتهاء يفنيكم عن أنانيتكم ، ويبقيكم بهويته ، فالله غنى عنكم من الأزل إلى الأبد ، وأنتم الفقراء محتاجون إليه من الأزل إلى الأبد (١). ه. وإن تتولوا عن السير ، وتركنوا إلى الرّخص والشهوات قبل التمكين ، يستبدل قوما غيركم ، يكونوا أحزم منكم ، وأشد مجاهدة ، صادقين فى الطلب ، ثابتين القدم فى آداب العبودية ، قد أدركتهم جذبات العناية ، وهبّت عليهم ريح الهداية ، ثم لا يكونوا أمثالكم فى التولي والضعف ، حتى يصلوا إلى مولاهم. وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد وآله وصحبه وسلم.

__________________

(١) بالمعنى.

٣٨١
٣٨٢

سورة الفتح

مدنية. وهى تسع وعشرون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللهُ مَعَكُمْ) (١) ؛ فإنه بشارة بالفتح الذي أشار إليه سبحانه بقوله :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (١) لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢) وَيَنْصُرَكَ اللهُ نَصْراً عَزِيزاً (٣))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ) ، الفتح عبارة عن الظفر بالبلدة عنوة أو صلحا ، بحرب أو بدون ، فإنه ما لم يقع الظفر منغلق ، مأخوذ من : فتح باب الدار. وإسناده إلى نون العظمة لإسناد الفعل إلى الله تعالى خلقا وإيجادا. قيل : المراد به فتح مكة ، وهو المروي عن أنس رضي الله عنه ، بشّر به صلى‌الله‌عليه‌وسلم عند انصرافه من الحديبية. والتعبير عنه بصيغة الماضي على سنن الأخبار الإلهية المحققة الوقوع ، للإيذان بتحققه ، تأكيدا للتبشير ، وتصدير الكلام بحرف التحقيق لذلك ، وفيه من الفخامة والدلالة على علو شأن المخبر به ـ وهو الفتح ـ ما لا يخفى. وقيل : هو فتح الحديبية ، وهو الذي عند البخاري عن أنس (٢) ، وهو الصحيح عند ابن عطية ، وعليه الجمهور. وفيها أخذت البيعة على الجهاد ، وهو كان سبب إظهار الإسلام وفشوه ، وذلك أنّ المشركين كانوا ممنوعين من مخالطة أهل الإسلام ، للحرب التي كانت بينهم ، فلما وقع الصلح اختلط النّاس بعضهم مع بعض ، وجعل الكفار يرون أنوار الإسلام ، ويسمعون القرآن ، فأسلم حينئذ بشر كثير قبل فتح مكة.

وقد ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين بلغه أن رجلا قال : ما هذا بفتح ، لقد صدّونا عن البيت ، ومنعونا ، قال : «بل هو أعظم الفتوح ، وقد رضي المشركون أن يدفعوكم بالراح ، ويسألوكم القضية ، ويرغبوا إليكم فى الأمان ، وقد رأوا منكم

__________________

(١) الآية ٣٥ من سورة «محمد» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٢) أخرجه البخاري فى (التفسير ـ سورة الفتح ، باب (إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً) ح ٤ ٤٨٣).

٣٨٣

ما يكرهون» (١). وعن الشعبي أنه قال : نزلت سورة الفتح بالحديبية ، وأصاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى تلك الغزوة ما لم يصب فى غزوة ، حيث بويع بيعة الرّضوان ، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وبلغ الهدى محلّه ، وبشروا بخيبر ، وظهرت الرّوم على فارس ، ففرح به المسلمون ، وكان فى فتح الحديبية آية عظيمة ، وهى أنه نزح ماؤها حتى لم يبق فيها قطرة ، فتمضمض رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ثم مجّه فيها ، فدرّت بالماء ، حتى شرب جميع من كان معه (٢) ، وقيل : جاش بالماء حتى امتلأت ولم ينفد ماؤها بعد (٣). وقيل : هو جميع ما فتح له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، من الإسلام ، والدعوة ، والنّبوة ، والحجة ، والسيف ، ولا فتح أبين منه وأعظم ، وهو رأس الفتوح كافة ؛ إذ لا فتح من فتوح الإسلام إلا هو شعبة من شعبه ، وفرع من فروعه. وقيل : الفتح : بمعنى القضاء ، والمعنى : قضينا لك على أهل مكة أن تدخلها من قابل ، وأيّا ما كان فحذف المفعول للقصد إلى نفس الفعل ، والإيذان بأنّ مناط التبشير هو نفس الفتح الصادر عنه سبحانه ، لا خصوصية المفتوح. قاله أبو السعود.

(فَتْحاً مُبِيناً) ؛ ظاهر الأمر ، مكشوف الحال ، فارقا بين الحق والباطل. وقوله تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) غاية للفتح ، من حيث إنه مترتب على سعيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى إعلاء كلمة الله ، بمكابدة مشاق الحروب ، واقتحام موارد الخطوب ، أي : جعلنا الفتح على يديك ، وبسبب سعيك ، ليكون سببا لغفران الله لك (ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) أي : جميع ما فرط منك من ترك الأولى ، وما سيقع ، وتسميته ذنبا بالنظر إلى منصبه الجليل ، وتقدم قريبا تحقيقه (٤). وقول الجلال (٥) : «اللام للعلة الغائية فمدخولها مسبب لا سبب» ، لا يريد التعليل على حقيقته العقلية ، فإنه عليه تعالى محال ، وإنما يريد صورة التعليل ، الذي هو حكمة الشيء ، وفائدته العائدة على خلقه ، فضلا وإحسانا ، فالحكم والمصالح غاية لأفعاله تعالى ، ومنافع راجعة إلى المخلوقات ، وليس شىء منها غرضا وعلة غائية لفعله ، بحيث يكون سببا لإقدامه على الفعل ، وعلة غائية للفعل ؛ لغناه تعالى ، وكماله فى ذاته عن الاستكمال

__________________

(١) ذكره السيوطي مطولا فى الدر (٦ / ٥٨) وعزاه للبيهقى.

(٢) أخرج البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الحديبية ح ٤١٥٠) عن البراء قال : تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحا ، ونحن نعدّ الفتح بيعة الرّضوان ، يوم الحديبية ، كنا مع النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر ، فنزحناها فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فأتانا ، فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء فتوضا ، ثم مضمض ودعا ، ثم صبّه فيها ، فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركابنا».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أصدرتنا» أي : رجعتنا ، يعنى : أنهم رجعوا عنها وقد رووا.

(٣) على هامش النّسخة الأم ما يلى : قلت : هذه القصة تكررت منه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى عدة مرات ، وفى مواطن متعددة ، فلا خصوصية للحديبية بذلك. ه.

(٤) عند الآية ١٩ من سورة «محمد» صلى‌الله‌عليه‌وسلم.

(٥) أي : جلال الدين المحلى فى تفسير الجلالين (٥١١). وقد فسر المحلى من أول سورة الكهف الى آخر سورة النّاس.

٣٨٤

بفعل من الأفعال ، وما ورد فى الآيات والأحاديث مما يوهم الغرض والعلة فإنه يحمل على الغايات المترتبة والحكمة ، فاحتفظ بذلك. قاله صاحب الحاشية الفاسية. واللائق أن المعنى : إنا فتحنا لك وقضينا لك بأمر عاقبته أن جمع الله لك بين سعادة الدنيا والآخرة ، بأن غفر لك ، وأتم نعمته عليك وهداك ، ونصرك. فاللام لام العاقبة لا لام العلة ؛ فإن إفضال الله على رسوله لا يعلل ولا يوازى بعمل. ه.

(وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ) بإعلاء الدين ، وضم الملك إلى النّبوة ، وغيرها مما أفاض عليه من النّعم الدينية والدنيوية ، (وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي : يثبتك على الطريق القويم ، والدين المستقيم ، والاستقامة وإن كانت حاصلة قبل الفتح ، لكن حصل بعد ذلك من اتضاح سبيل الحق ، واستقامة مناهجه ، ما لم يكن حاصلا قبل. (وَيَنْصُرَكَ اللهُ) أي : يظهر دينك ، ويعزّك ، فإظهار الاسم الجليل لكونه خاتمة الغايات ، ولإظهار كمال العناية بشأن النّصر ، كما يعرب عنه تأكيده بقوله : (نَصْراً عَزِيزاً) أي : نصرا فيه عزة ومنعة ، أو : قويا منيعا ، على وصف المصدر بوصف صاحبه ، مجازا ، للمبالغة ، أو : عزيزا صاحبه.

الإشارة : إنّا فتحنا لك فتحا مبينا ، بأن كشفنا لك عن أسرار ذاتنا ، وأنوار صفاتنا ، وجمال أفعالنا ، فشاهدتنا بنا ، ليغفر لك الله ، أي : ليغيبك عن وجودك فى شعور محبوبك ، ويستر عنك حسك ورسمك ، حتى تكون بنا فى كل شىء ، قديما وحديثا ، قال القشيري : وذنب الوجود هو الشرك فى الوجود ، وغفره : ستره بنور الوحدة ، لمحو ظلمة الاثنينية ه. ويتم نعمته عليك بالجمع بين شهود الرّبوبية ، والقيام بآداب العبودية ، ودلالة الخلق على شهود قيام الديمومية ، ويهديك طريقا مستقيما توصل إلى حضرتنا ، فتسلكها وتبينها لمن يكون على قدمك ، وينصرك الله نصرا عزيزا ، بالتمكن فى شهود ذاتنا ، والعكوف فى حضرتنا ، محفوفا بالنصرة والعناية ، محمولا فى محفّة الرّعاية.

ولمّا نزل قوله : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ) قال المؤمنون : هذا لك يا رسول الله ، فمالنا؟ فأنزل الله (١) :

(هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (٤) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللهِ فَوْزاً

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الحديبية ح ٤١٧٢) من حديث أنس ، وفيه : «فنزلت عليه (لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ...) الآية».

٣٨٥

عَظِيماً (٥) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (٦) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (٧))

يقول الحق جل جلاله : (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ) أي : السكون والطمأنينة ، فعلة ، من : السكون ، كالبهيتة من البهتان ، (فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ) حتى لم يتضعضعوا من الشروط التي عقدها صلى‌الله‌عليه‌وسلم مع المشركين ، من ردّ من أسلم منهم ، وعدم ردهم من رجع إليهم ، ومن دخول مكة قابلا بلا سلاح ، وغير ذلك مما فعله صلى‌الله‌عليه‌وسلم معهم بالوحى ، وما صدر عن عمر رضي الله عنه فلشدة قوته وصلابته ، وما زال يعتق ويفعل أمورا كفارة لذلك. وقيل : (السكينة) : الصبر على ما أمر به الله من الشرائع والثقة بوعد الله ، والتعظيم لأمر الله ، (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ) أي : يقينا إلى يقينهم ، أو : إيمانا بالشرائع مع إيمانهم بالعقائد.

وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : بعث الله نبيه بشهادة «ألا إله إلا الله» فلما صدّقوه فيها ، زادهم الصلاة ، فلما صدّقوه ، زادهم الزكاة ، فلما صدّقوه ، زادهم الحج ، فلما صدّقوا زادهم الجهاد ، ثم أكمل لهم دينهم (١) ، فذلك قوله : (لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ ، وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبرها كما يريد ، يسلط بعضها على بعض تارة ، ويوقع الصلح بينهما أخرى ، حسبما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ، (وَكانَ اللهُ عَلِيماً) ؛ مبالغا فى العلم بجميع الأمور ، (حَكِيماً) فى تدبيره وتقديره.

(لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) ، اللام متعلق بما يدل عليه ما ذكر من قوله : (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من معنى التصرف ، أي : دبّر ما دبّر من تسليط المؤمنين ، ليعرفوا نعمة الله ويشكروها ، فيدخلهم (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ، وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) أي : يغطّى عنهم مساوئهم ، فلا يظهرها لهم ولا لغيرهم. وتقديم الإدخال على التكفير ، مع أن الترتيب فى الوجود على العكس ؛ للمسارعة إلى بيان ما هو المطلب الأعلى. (وَكانَ ذلِكَ) أي : ما ذكر من الإدخال والتكفير (عِنْدَ اللهِ فَوْزاً عَظِيماً) لا يقادر قدره ؛ لأنه منتهى

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٦ / ٧٢) وزاد السيوطي فى الدر المنثور (٦ / ٦٢) عزوه لابن المنذر ، والطبراني ، وابن مردويه ، والبيهقي فى الدلائل.

هذا ، وعلى هامش النّسخة الأم ما يلى : قلت : هذا يقتضى أن الحج فرض قبل الجهاد ، وليس كذلك ، بل الجهاد فرض قبل الزكاة ، فينبغى أن لا يكون هذا صحيحا. ه.

٣٨٦

ما امتدت إليه أعناق الهمم من جلب نفع ودفع ضر. و «عند الله» : حال من «فوزا عظيما» لأنه صفته فى الأصل ، فلما قدّم عليه صار حالا ، أي : كائنا عند الله فى علمه وقضائه. والجملة : اعتراض مقرّر لما قبله.

(وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ) لما أغاظهم من ذلك وكرهوه ، وهو عطف على «يدخل» ، وفى تقديم المنافقين على المشركين ما لا يخفى من الدلالة على أنهم أحق منهم بالعذاب. (الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ) أي : ظن الأمر السّوء ، وهو ألا ينصر الله رسوله والمؤمنين ، ولا يرجعهم إلى مكة ، فالسّوء عبارة عن رداءة الشيء وفساده ، يقال : فعل سوء ، أي : مسخوط فاسد. (عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ) أي : ما يظنونه ويتربصونه بالمؤمنين ، وهو دائر عليهم وحائق بهم. وفيه لغتان : فتح السين وضمها ، كالكره والكره ، والضّعف والضّعف ، غير أن المفتوح غلب عليه أن يضاف إليه ما يراد ذمّه من كلّ شىء ، وأما السوء فجار مجرى الشيء الذي هو نقيض الخير ، أي : الدائرة التي يذمونها ويسخطونها دائرة عليهم ، ولا حقة بهم ، (وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً) لهم ، وهو عطف لما استوجبوه فى الآخرة على ما استوجبوه فى الدنيا ، وعطف «ولعنهم» وما بعده بالواو ، مع أن حقهما الفاء المفيدة للسببية ؛ إيذانا باستقلال كلّ واحد منهما بالوعيد ، وأصالته ، من غير اعتبار استتباع بعضها لبعض.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ، إعادة لما سبق ، وفائدتها : التنبيه على أن لله جنود الرّحمة وجنود العذاب ، كما ينبئ عنه التعرض لوصف العزة فى قوله : (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) أي : غالبا ، فلا يردّ بأسه (حَكِيماً) فلا يعترض صنعه. والله تعالى أعلم.

الإشارة : هو الذي أنزل السكينة فى قلوب المتوجهين ، حتى سكنوا لصدمات تجلى الجلال ، وأنوار الجمال ، وسكنوا تحت مجارى الأقدار ، كيفما برزت ، بمرارة أو حلاوة. قال القشيري : والسكينة : ما يسكن إليه القلب من أنوار الإيمان والإيقان ، أو العرفان بمشاهدة العيان ، بل الاستغراق فى بحر العين بلا أين. ه. (١) ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم ، فيترقوا من مقام الإسلام إلى مقام الإيمان ، ومن مقام الإيمان إلى مقام الإحسان ، أو من علم اليقين إلى عين اليقين ، ومن عين اليقين إلى حق اليقين ، أو من المراقبة إلى المشاهدة ، أو من رؤية الأسباب إلى مسبب الأسباب.

(وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) وهى الجنود التي يمد الله بها الرّوح فى محاربتها للنفس ، حتى تغلبها وتستولى عليها ، وهى اليقين ، والعلم ، والذكر ، والفكر ، والواردات الإلهية ، التي تأتى من حضرة القهار ، فتدمغ

__________________

(١) لم أقف على النّص فى مظانه فى تفسير القشيري.

٣٨٧

كل ما تصادمه من الأغيار والأكدار ، وكان الله عليما بمن يستحق هذه الواردات ، حكيما فى ترتيبها وتدبيرها ، ليدخل من تأيد بها جنات المعارف ، تجرى من تحتها أنهار العلوم والحكم ، ويغطى عنهم مساوئهم حتى يصلوا إليه ، بما منه إليهم ، لا بما منهم إليه وهذا هو الفوز العظيم ، يفوز صاحبه بالنعيم المقيم ، فى جوار الكريم. ويعذب أهل النفاق المنتقدين على أولياء الله ، المتوجهين إليه ، الظانين بالله ظن السوء ، وهو أن خصوصية التربية انقطعت. ولله جنود السموات والأرض ، أي : جنود الحجاب ، وهو جند النّفس ، من الهوى والشيطان ، والدنيا والنّاس ، يسلطها على من يشاء من عباده ، إن يبقى فى ظلمة الحجاب ، والله غالب على أمره.

ثم شهد لرسوله بالرسالة ، بعد بشارته بالفتح والعصمة ، فقال :

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٨) لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (١٠))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) تشهد على أمتك يوم القيامة ، كقوله : (وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (١) وهو حال مقدّرة ، (وَمُبَشِّراً) لأهل الطاعة بالجنة ، (وَنَذِيراً) لأهل المعصية بالنار ، (لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ) ، والخطاب للرسول والأمة ، (وَتُعَزِّرُوهُ) ؛ تقوّوه بنصر دينه ، (وَتُوَقِّرُوهُ) أي : تعظّموه بتعظيم رسوله وسائر حرماته ، (وَتُسَبِّحُوهُ) ؛ تنزهوه ، أو تصلوا له ، من : السبحة ، (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) ؛ غدوة وعشية ، قيل : غدوة : صلاة الفجر ، وعشية : الظهر والعصر والمغرب والعشاء. والضمائر لله تعالى. ومن فرّق ؛ فجعل الأولين للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم والأخير لله تعالى ، فقد أبعد. وقرأ المكي والبصري بالغيب فى الأربعة ، والضمائر للناس ، وقرأ ابن السميفع (٢) : «وتعززوه» بزائين (٣) ، أي : تنصروه وتعزوا دينه.

__________________

(١) من الآية ١٤٣ من سورة البقرة.

(٢) فى الأصول : «السميقع».

(٣) وهى قراءة شاذة. انظر المحتسب ٢ / ٢٧٥.

٣٨٨

(إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) على الجهاد ، بيعة الرّضوان (إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ) لأنه خليفة عنه ، فعقد البيعة معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كعقدها مع الله من غير تفاوت بينهما ، كقوله : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (١) ثم أكد ذلك بقوله : (يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ) يعنى : أن يد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذي تعلو أيدى المبايعين هى يد الله ، من باب مبالغة التشبيه ، (فَمَنْ نَكَثَ) ؛ نقض البيعة ، ولم يف بها (فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ) فلا يعود ضرر نكثه إلا عليه ، قال جابر رضي الله عنه : «بايعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم تحت الشجرة على الموت ، وعلى ألّا نفرّ ، فما نكث أحد منا البيعة ، إلا جدّ بن قيس المنافق ، اختبأ تحت إبط بعيره ، ولم يسر مع القوم (٢). (وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللهَ) ، يقال : وفيت بالعهد وأوفيت. وقرأ حفص بضم الهاء من «عليه» توسلا لتفخيم لام الجلالة ، وقيل : هو الأصل ، وإنما كسر لمناسبة الياء. أي : ومن وفّى بعهده بالبيعة (فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً) ؛ الجنة وما فيها.

الإشارة : لكلّ جيل من النّاس يبعث الله من يذكّرهم ، ويدعوهم إلى الله ، بمعرفته ، أو بإقامة دينه ، ليدوم الإيمان بالله ورسوله ، ويحصل النّصر والتعظيم للدين إلى يوم الدين ، ولولا هؤلاء الخلفاء لضاع الدين. وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ) الآية ، قال الورتجبي : ثم صرّح بأنه عليه‌السلام مرآة لظهور ذاته وصفاته ، وهو مقام الاتصاف بأنوار الذات والصفات فى نور الفعل ، فصار هو هو ، إذ غاب الفعل فى الصفة ، وغابت الصفة فى الذات. فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ ...) الآية. وإلى ذلك يشير الحلّاج وغيره. وقال فى القوت : هذه أمدح آية فى كتاب الله عزوجل ، وأبلغ فضيلة فيه لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ لأنه جعله فى اللفظ بدلا عنه ، وفى الحكم مقامه ، ولم يدخل فيه كاف التشبيه ، فيقول : كأنما ، ولا لام الملك ، فيقول : لله ، وليس هذا من الرّبوبية للخلق سوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ه.

وقال الحسن بن منصور الحلاج : لم يظهر الحق تعالى مقام الجمع على أحد بالتصريح إلا على أخص نسمه وأشرفه ، فقال : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللهَ). ه.

قال القشيري : وفى هذه الآية تصريح بعين الجمع ، كما قال : (وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ) (٣) وقال فى مختصره : يشير إلى كمال فنائه وجوده عليه‌السلام فى الله وبقائه بالله. ه. فالآية تشير إلى مقام الجمع ، المنبه عليه فى الحديث : «فإذا أحببته كنت سمعه ، وبصره ، ويده» (٤) وسائر قواه ، الذي هو سر الخلافة والبقاء بالله ، وهذا الأمر حاصل

__________________

(١) من الآية ٨٠ من سورة النّساء.

(٢) أخرجه مسلم فى (الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال ، رقم ١٨٥٦ ، ح ٦٨ ، ٦٩).

(٣) من الآية ١٧ من سورة الأنفال.

(٤) سبق تخريج الحديث.

٣٨٩

لخلفائه صلى‌الله‌عليه‌وسلم من العارفين بالله ، أهل الفناء والبقاء ، وهم أهل التربية النّبوية فى كلّ زمان ، فمن بايعهم فقد بايع الله ، ومن نظر إليهم فقد نظر إلى الله ، فمن نكث العهد بعد عقده معهم فإنما ينكثه على نفسه ، فتيبس شجرة إرادته ، ويطمس نور بصيرته ، فيرجع إلى مقام عامة أهل اليمين ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما شهود ذاته المقدسة على الدوام ، والظفر بمقام المقربين ، ثبتنا الله على منهاجه القويم ، من غير انتكاص ولا رجوع ، آمين.

ثم ذكر من تخلّف عن البيعة ، فقال :

(سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١١) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (١٢) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (١٣) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٤))

يقول الحق جل جلاله : (سَيَقُولُ لَكَ) يا محمد إذا رجعت من الحديبية (الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ) وهم الذين تخلفوا عن الحديبية ، وهم أعراب غفار ، ومزينة ، وجهينة ، وأسلم ، وأشجع ، والديل ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم حين أراد المسير إلى مكة ، عام الحديبية ، معتمرا ، استنفر من حول المدينة من الأعراب وأهل البوادي ، ليخرجوا معه ، حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب ، أو يصدوه عن البيت ، وأحرم صلى‌الله‌عليه‌وسلم وساق معه الهدى ؛ ليعلم أنه لا يريد حربا ، فتثاقل كثير من الأعراب ، وقالوا : نذهب إلى قوم غزوه فى داره بالمدينة ، وقتلوا أصحابه ، فنقاتلهم ، وظنوا أنه لا ينقلب إلى المدينة ، فأوحى الله تعالى إليه ما قالوا (١) ، حيث تعللوا وقالوا : (شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا)

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٧ / ٣٠٠).

٣٩٠

ولم يكن تخلفنا عنك اختيارا ، بل عن اضطرار ، (فَاسْتَغْفِرْ لَنا) ، فأكذبهم الله بقوله : (يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ) ، فليس تخلفهم لأجل ذلك ، وإنما تخلفوا شكا ونفاقا ، وطلبهم الاستغفار أيضا ليس بصادر عن حقيقة.

(قُلْ) لهم : (فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) ؛ فمن يمنعكم من مشيئة الله وقضائه (إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا) أي : ما يضركم من هلاك الأهل والمال وضياعها ، حتى تخلفتم عن الخروج لحفظها ، (أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً) أي : من يقدر على ضرركم إن أراد بكم نزول ما ينفعكم ، من حفظ أموالكم وأهليكم ، فأىّ حاجة إلى التخلف لأجل القيام بحفظهما والأمر كله بيد الله؟ (بَلْ كانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) ، إضراب عما قالوه ، وبيان لكذبه بعد بيان فساده على تقدير صدقه ، أي : ليس الأمر كما يقولون ، بل كان الله خبيرا بجميع الأعمال ، التي من جملتها تخلفكم وما هو سببه ، فلا ينفعكم الكذب مع علم الله بجميع أسراركم.

(بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً) بأن يستأصلهم المشركون بالموت ، فخشيتم إن كنتم معهم أن يصيبكم ذلك ، فتخلفتم لأجل ذلك ، لا لما ذكرتم من المعاذير الباطلة ، (وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ) زيّنه الشيطان وقبلتموه ، واشتغلتم بشأن أنفسكم ، غير مبالين بهم ، (وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ) ، والمراد به الظن الأول ، والتكرير لتشديد التوبيخ والتسجيل عليه بالسوء ، أو ما يعمه وغيره من الظنون الفاسدة ، كعلو الكفر ، وظهور الفساد ، وعدم صحة رسالته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فإن الجازم بصحتها لا يحول حول فكره هذه الظنون الباطلة ، (وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً) ؛ هالكين عند الله ، مستوجبين لسخطه وعقابه ، جمع : بائر ، كعائذ وعوذ ، من بار الشيء : هلك وفسد ، أي : كنتم قوما فاسدين فى أنفسكم وقلوبكم ونيّاتكم.

(وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا) ؛ أعددنا (لِلْكافِرِينَ) أي : لهم ، فأقيم الظاهر مقام المضمر للإيذان بأن من لم يجمع بين الإيمان بالله وبرسوله فهو كافر مستوجب السعير. ونكّر (سَعِيراً) لأنها نار مخصوصة ، كما نكّر (ناراً تَلَظَّى) (١). وهذا كلام وارد من قبله تعالى ، غير داخل فى الكلام المتقدم ، مقرر لبوارهم ، ومبيّن لكيفيته ، أي : ومن لم يؤمن كهؤلاء المتخلفين ، فإنا أعتدنا له سعيرا يحترق بها.

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يدبره تدبير قادر حكيم ، ويتصرف فيهما وفيما بينهما كيف يشاء ، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) بقدرته وحكمته ، من غير دخل لأحد فى شىء ، ومن حكمته : مغفرته

__________________

(١) الآية ١٤ من سورة الليل.

٣٩١

للمؤمنين وتعذيبه للكافرين. (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) ، مبالغا فى المغفرة والرّحمة لمن يشاء ، أي : لمن تقتضى الحكمة مغفرته ممن يؤمن به وبرسوله ، وأما من عداه من الكفر فبمعزل من ذلك قطعا.

الإشارة : هذه الآية تجر ذيلها على من تخلف من المريدين عن زيارة المشايخ من غير عذر بيّن ، واعتذر بأعذار كاذبة ، يقول بلسانه ما ليس فى قلبه ، وما زالت الأشياخ تقول : كل شىء يسمح فيه إلا القدوم (١) ؛ إذ به تحصل التربية والترقية ، وتقول أيضا : من جلس عنا لعذر صحيح عذرناه ، وربما يصل إليه المدد فى موضعه ، ومن جلس لغير عذر لا نسامح له ، بل يحرم من زيادة الإمداد ، ومن الترقي فى المقامات والأسرار ، وما قطع الناس عن الله إلا أموالهم وأهلوهم اشتغلوا بهم ، وحرموا السير والوصول ، ف كل مريد شغله عن زيارة شيخه أهله وماله لا يأتى منه شىء. قل : فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا ، بأن قطعكم عنه بعلة الأهل والمال ، أو : أراد بكم نفعا ، بأن وصلكم إليه ، وغيّب عنكم أهلكم ومالكم ، بل كان الله بما تعملون خبيرا ، يعلم من تحلف لعذر صحيح ، أو لعذر باطل. وبالله التوفيق.

ثم قال :

(سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦))

يقول الحق جل جلاله : (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ) المذكورون آنفا (إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ) أي : مغانم خيبر (تَأْخُذُونَها) حسبما وعدكم الله بها ، وخصّكم بها ، عوض ما فاتكم من مغانم مكة. و (إذا) : ظرف لما قبله ، لا شرط لما بعده ، أي : سيقولون عند انطلاقكم إلى مغانم خيبر : (ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ) إلى خيبر ، ونشهد معكم قتال أهلها (يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللهِ) الذي وعد به أهل الحديبية بأن يخصّهم بغنائم خيبر ولا يشاركهم فيها أحد ، فأراد المخلّفون أن يشاركوهم ويبدلوا وعد الله. وكانت وقعة الحديبية فى ذى الحجة سنة ست ، فلما رجع إلى

__________________

(١) أي : القدوم على مشايخ التربية وزيارتهم.

٣٩٢

المدينة أقام بها بقية ذى الحجة ، ثم غزا فى أول السابعة خيبر ، ففتحها ، وغنم أموالا كثيرة ، فخصصها بأهل الحديبية ، بأمره تعالى ، (قُلْ) لهم إقناطا لهم : (لَنْ تَتَّبِعُونا) إلى خيبر ، وهو نفى بمعنى النّهى ، للمبالغة ، أي : لا تتبعونا ، أو : نفى محض ، إخبار من الله تعالى بعدم اتباعهم وألا يبدّل القول لديه.

(كَذلِكُمْ قالَ اللهُ مِنْ قَبْلُ) أي : من قبل انصرافهم إلى الغنيمة ، وأنّ غنيمة خيبر لمن شهد الحديبية فقط ، (فَسَيَقُولُونَ) للمؤمنين عند سماع هذا النّهى : (بَلْ تَحْسُدُونَنا) أي : ليس ذلك النّهى من عند الله ، بل تحسدوننا أن نشارككم فى الغنائم ، (بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ) كلام الله (إِلَّا قَلِيلاً) ؛ شيئا قليلا ، يعنى : مجرد اللفظ ، أو : لا يفهمون إلا فهما قليلا ؛ وهو فطنتهم لأمور الدنيا دون الدين ، وهو ردّ لقولهم الباطل ، ووصف لهم بسوء الفهم والجهل المفرط. والفرق بين الإضرابين : أن الأول ردّ أنّ يكون حكم الله ألا يتبعوهم وإثبات الحسد ، والثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أعظم منه ، وهو الجهل وقلة الفقه.

(قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ) وهم الذين تخلفوا عن الحديبية : (سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ) يعنى : بنى حنيفة ، قوم مسليمة الكذاب ، وأهل الرّدة الذين حاربهم أبو بكر رضي الله عنه ، لأن المشركين وأهل الرّدة هم الذين لا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف. واستدل بالآية على حقيّة خلافة أبى بكر ، وأخذها من القرآن بقوله : (سَتُدْعَوْنَ) فكان الداعي لهؤلاء الأعراب إلى قتال بنى حنيفة ، وكانوا أولى بأس شديد ، هو أبو بكر ، بلا خلاف ، قاتلوهم ليسلموا لا ليعطوا الجزية بأمر الصدّيق. وقيل : هم فارس ، والداعي لقتالهم «عمر» ، فدلت على صحة إمامته ، وهو يدل على صحة إمامة أبى بكر. (تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ) أي : يكون أحد الأمرين ، إما المقاتلة أو الإسلام ، ومعنى «يسلمون» على هذا التأويل : ينقادون ؛ لأن فارس مجوس ، تقبل منهم الجزية ، (فَإِنْ تُطِيعُوا) من دعاكم إلى قتالهم (يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) هو الغنيمة فى الدنيا ، والجنة فى الآخرة ، (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا) عن الدعوة ، كما توليتم من قبل فى الحديبية ، (يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً) لتضاعف جرمكم. وقد تضمنت الآية إيجاب طاعة الأمراء بالوعد بالثواب عليها ، والوعيد بالعقاب على التولي ، وقد تقدم فى النّساء (١).

الإشارة : سيقول المخلفون عن السير بترك مجاهدة النّفوس ، التي بها يتحقق سير السائرين : ذرونا نتبعكم فى السير إلى الله من غير مجاهدة ولا تجريد ، يريدون أن يبدلوا كلام الله ، وهو قوله : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا) (٢) ، فخص الهداية إلى الوصول بالمجاهدة ، لا بالبقاء مع حظوظ النّفوس ، قل : لن تتبعونا فى

__________________

(١) راجع تفسير الآية ٥٩ من سورة النّساء ، (١ / ٥١٩).

(٢) الآية ٦٩ من سورة العنكبوت.

٣٩٣

السير ، ولو فعلتم ما فعلتم بلا مجاهدة ، كذلك حكم الحكيم العليم ، فإن قالوا : حسدتمونا ، حيث لم تسيرونا على ما نحن عليه ، فقد دلّ ذلك على جهلهم ، وعدم فهمهم ، قل للمخلفين على السير ، بالبقاء مع حظوظهم : ستدعون إلى مجاهدة قوم أولى بأس شديد ، وهو النّفس ، بتحميلها ما يثقل عليها ، كالذل ، والفقر ، والهوى بمخالفته ، والدنيا بالزهد فيها ورميها وراء الظهر ، والنّاس بالفرار منهم جملة ، إلا من يدلّ على الله ، تقاتلوهم ، أو يسلمون ، بأن ينقادوا لكم ، ويصيروا طوع أيديكم ، فإن تطيعوا يؤتكم الله أجرا حسنا ، وهو لذة الشهوة ، ورؤية الملك الودود ، عاجلا وآجلا ، وإن تتولوا كما توليتم فى زمان البطالة ، وبقيتم مع هوى نفوسكم ، يعذّبكم عذابا أليما ، بغم الحجاب وسوء العقاب.

قال القشيري : قوله تعالى : (فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللهُ أَجْراً حَسَناً) دلت الآية على أنه يجوز أن تكون للعبد بداية غير مرضية ، ثم تتغير للصلاح ، وأنشدوا :

إذا فسد الإنسان بعد صلاحه

فرجّ له بعد الفساد صلاحا (١)

قلت : وجه الاستدلال : أن طاعتهم كانت بعد التخلف والعصيان ، فقبلت منهم.

ثم استثنى أهل الأعذار الصحيحة ، فقال :

(لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (١٧))

يقول الحق جل جلاله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ) فى التخلف عن الغزو (وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ ، وَلا عَلَى الْمَرِيضِ) الذي لا يقدر على الحرب (حَرَجٌ) لأن الجهاد منوط بالاستطاعة ونفى الحرج ، وهؤلاء أعذارهم ظاهرة صحيحة ، فلا حرج عليهم فى التخلف. وفى التصريح بنفي الحرج مع كلّ طائفة مزيد اعتناء بأمرهم ، وتوسيع لدائرة الرّخصة. (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما ذكر من الأوامر والنّواهى ، (يُدْخِلْهُ) (٢) (جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ. وَمَنْ يَتَوَلَ) ؛ يعرض عن الطاعة (يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً) لا يقادر قدره. وقرأ نافع والشامي ؛ بنون العظمة ، والباقي بياء الغيبة.

__________________

(١) فى القشيري [فرجّ له عود الصلاح لعلّه].

(٢) أثبت المفسر ـ رحمه‌الله ـ قراءة «ندخله» و «نعذبه» بنون العظمة ، وهى قراءة نافع ، وابن عامر ، وأبى جعفر ، وقرأ الباقون «يدخله» و «يعذبه» بالياء. انظر الإتحاف (٢ / ٤٨٢).

٣٩٤

الإشارة : أصحاب هذه الأعذار إن صحبوا الرّجال ، وحطوا رؤوسهم لهم ، وبذلوا نفوسهم وفلوسهم ، سقط عنهم السفر إلى صحبة أشياخهم ، ووصلت الواردات والأمداد إليهم فى أماكنهم ، ونالوا مراتب الرّجال ، حيث حبسهم العذر من العمى والعرج والمرض المزمن ، والله يرزق العبد على قدر نيته وهمته.

ثم ذكر شأن بيعة الرّضوان ، فقال :

(لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (١٨) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٩) وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (٢٠) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢١))

يقول الحق جل جلاله : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) ، وهم الذين ذكر شأن مبايعتهم بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ ...) الآية ، وبهذه الآية سميت بيعة الرّضوان ، و «إذ» منصوب ب «رضى» ، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة العجيبة ، و (تحت الشجرة) : متعلق به ، أو : بمحذوف ، حال من مفعوله ، أي : رضى عنهم وقت مبايعتهم لك (تَحْتَ الشَّجَرَةِ) أو : حاصلا تحتها.

روى : أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، لمّا نزل الحديبية ، بعث خراش بن أمية الخزاعي ، رسولا إلى أهل مكة ، فهمّوا به ، وأنزلوه عن بعيره ، فمنعته الأحابيش ، فلما رجع دعا بعمر ليبعثه ، فقال : يا رسول الله إنى أخاف قريشا على نفسى ، وليس بمكة من بنى عدى أحد يمنعنى ، ولكن عثمان أعز بمكة منى ، فبعث عثمان إلى أبى سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم جاء زائرا إلى البيت ، معظّما لحرمته ، ولم يرد حربا ، فوقروه ، وقالوا : إن شئت أن تطوف بالبيت فافعل ، فقال : ما كنت لأطوف قبل أن يطوف رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فاحتبس عندهم ، فأرّجف بأنهم قتلوه ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لا نبرح حتى نناجز القوم» ودعا النّاس إلى البيعة ، فبايعوه تحت الشجرة ـ وكانت سمرة (١) وقيل : سدرة ـ على أن يقاتلوا قريشا ، ولا يفروا ، (٢) وأول من بايع «أبو سنان الأسدى» ، واسمه : وهب بن عبد الله بن محصن ، ابن

__________________

(١) السمرة : واحده السّمر ، كرجل : شجرة الطلح. انظر النّهاية (سمر ٢ / ٣٩٩).

(٢) أخرجه البخاري فى (الجهاد والسبر باب البيعة فى الحرب أن لا يفروا ح ٢٩٥٨) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه ، وأخرجه مسلم فى (الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال ح ١٨٥٦) من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه.

٣٩٥

أخى عكاشة بن محصن. وقيل : بايعوه على الموت عنده (١) ، فقال لهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنتم اليوم خير أهل الأرض» (٢) وقال أيضا : «لا يدخل النّار أحد ممن بايع تحت الشجرة» (٣). وكانوا ألفا وخمسمائة وخمسة وعشرين ، وقيل : ألفا وأربعمائة. والحديبية بتخفيف الياء ، قاله فى المصباح ، وهى على عشرة أميال من مكة.

(فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ) من الإخلاص ، وصدق الضمائر فيما بايعوا عليه. وقال القشيري : علم ما فى قلوبهم من الاضطراب والتشكيك. وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم رأى فى منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام آمنين ، فبشّر أصحابه ، فلما صدوا خامر قلوبهم شك (٤) ، (فَأَنْزَلَ) الله (السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) أي : اليقين والطمأنينة ، فذهب عنهم. ثم قال : وفى الآية دليل على أنه قد يخطر ببال الإنسان خواطر مشكّكة ، وفى الرّيب موقعة ، ثم لا عبرة ، فإن الله تعالى إذا أراد بعبده خيرا ألزم التوحيد قلبه ، وقارن التحقيق سرّه ، فلا يضرّه كيد الشيطان. قال تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا ...) الآية (٥).

(فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) أي : الطمأنينة والأمن ، وسكون النّفس ، بالربط على قلوبهم ، (وَأَثابَهُمْ) أي : جازاهم (فَتْحاً قَرِيباً) وهو فتح خيبر عقب انصرافهم من الحديبية كما تقدم. (وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها) وهى مغانم خيبر ، وكانت أرضا ذات عقار وأموال ، فقسمها بينهم ، (وَكانَ اللهُ عَزِيزاً) ؛ منيعا فلا يغالب ، (حَكِيماً) فيما يحكم به فلا يعارض.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الحديبية ح ٤١٦٩) ومسلم فى (الإمارة باب البيعة فى الحرب أن لا يفروا ح ١٨٦٠) عن سلمة بن الأكوع.

وقد بيّن العلماء أنه لا تنافى بين من قال : إنهم بايعوا النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم يومئذ على الموت ، وبين من قال : إنهم بايعوه على عدم الفرار.

قال الحافظ ابن حجر فى الفتح (٧ / ٥١٥ : فحاصل الجمع أنّ من أطلق أن البيعة كانت على الموت أراد لازمها ، لأنه إذا بايع أنه لا يفر لزم من ذلك أن يثبت ، والذي يثبت إما أن يغلب وإما أن يؤسر ، والذي يؤسر إما أن ينجو وإما أن يموت ، ولمّا كان الموت لا يؤمن فى مثل ذلك أطلقه الرّاوى. وحاصله : أن أحدهما حكى صورة البيعة ، والآخر حكى ما تئول إليه ، وجمع الترمذي بأن بعضا بايع على الموت ، وبعضا بايع على أن لا يفر. ه.

(٢) أخرجه البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الحديبية ، ح ٤١٥٤) ومسلم فى (الإمارة ، باب استحباب مبايعة الإمام الجيش عند إرادة القتال ، رقم ١٨٥٦ ، ح ٧١) من حديث جابر عبد الله رضي الله عنه.

(٣) أخرجه أحمد فى المسند (٣ / ٣٥٠). وأبو داود فى (السنة ، باب فى الخلفاء ح ٤٦٥٣) والترمذي فى (المناقب ، باب ما جاء فى فضل من بايع تحت الشجرة ح ٣٨٦٠) وقال : حديث حسن صحيح.

وأخرج مسلم فى (فضائل الصحابة باب من فضائل أصحاب الشجرة ح ٢٤٩٦) من حديث جابر ، عن أم مبشّر ، أنها سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم يقول عند حفصة : «لا يدخل النّار ـ إن شاء الله ـ من أصحاب الشجرة أحد ، الذين بايعوه تحتها».

(٤) فى القشيري : شىء.

(٥) الآية ٢٠١ من سورة الأعراف.

٣٩٦

(وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها) هو ما فتح على المؤمنين ، وغنموه مع النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وبعده إلى يوم القيامة. والالتفات إلى الخطاب لتشريفهم فى مقام الامتنان. (فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ) المغانم ، يعنى مغانم خيبر ، (وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ) أي : أيدى أهل خيبر وحلفاءهم من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرتهم ، فقذف الله فى قلوبهم الرّعب فانصرفوا ، وقيل : أيدى أهل مكة بالصلح ، (وَلِتَكُونَ) هذه الكفّة (آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) وعبرة يعرفون أنهم من الله بمكان ، وأنه ضامن لنصرتهم والفتح عليهم ، أو : لتكون آية يعرفون بها صدق الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم من وعده إياهم عند رجوعه من الحديبية بما ذكر من المغانم ، ودخول مكة ، ودخول المسجد الحرام آمنين. واللام إما متعلقة بمحذوف مؤخر ، أي : وليكون آية لهم فعل ما فعل من التعجيل والكف ، وإما يتعلق بعلة أخرى محذوفة من أحد الفعلين ، أي : فعجّل لكم هذه وكفّ أيدى النّاس عنكم لتغنموها ولتكون ... إلخ ، (وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً) أي : يزيدكم بصيرة ويقينا وثقة بوعد الله حتى تثقوا فى أموركم كلها بوعد الله تعالى.

قال الثعلبي ، ولمّا فتح النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم حصون خيبر سمع أهل فدك ما صنع ـ عليه‌السلام ـ بأهل خيبر ، فأرسلوا له يسألونه أن يسيرهم ويحقن دماءهم ، ويخلوا له الأموال ، ففعل ، ثم صالح أهل خيبر ، على أن يعملوا فى أموالهم على النصف ، على أنه إن شاء أجلاهم متى شاء (١) ، ففعلوا ، فكانت خيبر فيئا للمسلمين ، وكانت فدك خالصة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، إذ لم يوجف عليها بخيل ولا ركاب ، ولما اطمأن صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعد فتح خيبر أهدت له زينب الحارث اليهودية شاة مصليّة مسمومة ، أكثرت فى ذراعها السم ، فأخذ صلى‌الله‌عليه‌وسلم الذراع ، فأ كل منه ، ثم كلمه ، فأمسك ، وأ كل معه بشر بن البراء بن معرور ، فمات من ساعته ، وسلم صلى‌الله‌عليه‌وسلم حتى قام عليه بعد سنتين ، فمات به ، فجمع له بين الشهادة والنّبوة (٢).

ثم قال تعالى : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) أي : وعجّل لكم مغانم أخرى ، وهى مغانم هوازن فى غزوة حنين. ووصفها بعدم القدرة عليها لما كان فيها من الجولة. (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) ؛ قدر عليها واستولى ، وأظهركم عليها ، وهى صفة أخرى ل «أخرى» مفيدة لسهولة بأسها بالنسبة إلى قدرته تعالى ، بعد بيان صعوبة منالها بالنظر إلى حذرهم. ويجوز فى «أخرى» النصب بفعل مضمر ، يفسره (قَدْ أَحاطَ اللهُ بِها) ، أي : وقضى الله أخرى ، ولا ريب فى أن الإخبار بقضاء إياها بعد اندراجها فى جملة الغنائم الموعودة بقوله : (وَعَدَكُمُ اللهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً) فيه مزيد فائدة ، وإنما الفائدة فى بيان تعجيلها وتأخير هذه.

__________________

(١) حديث مصالحة النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم لأهل خيبر ، أخرجه البخاري فى (فرض الخمس ، باب ما كان النّبى ، صلى‌الله‌عليه‌وسلم يعطى المؤلفة قلوبهم وغيرهم من الخمس ونحوه ح ٣١٥٢) ومسلم فى (المساقاة ، باب المساقاة والمعاملة بجزء من الثمر والزرع ، ح ١٥٥١) عن ابن عمر رضي الله عنه.

(٢) انظر سيرة ابن هشام (٢ / ٣٣٧ ـ ٣٣٨) وتفسير البغوي (٧ / ٣١١). وحديث أكلة خيبر أخرجه البخاري فى (الهبة ، باب قبول الهدية من المشركين ، ح ٢٦١٧) ومسلم فى (السّلام ، باب السم ، ح ٢١٩٠) عن أنس رضي الله عنه.

٣٩٧

وقال ابن عباس والحسن ومقاتل : (وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها) هى فارس والرّوم. وقال مجاهد : ما فتحوا حتى اليوم (١). ه. قلت : بل إلى يوم القيامة وهذا أظهر الأقوال. أي : لم تقدروا على أخذها الآن وستأخذونها ، (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) ؛ لأن قدرته تعالى عامة التعلق ، لا تختص بشىء دون شىء.

قال ابن عرفة : مذهبنا أن المستحيل لا يصدق عليه شىء ، فيبقى النّظر : هل يطلق على الواجب شىء ، لقوله تعالى : (قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللهُ) (٢) أم لا يطلق عليه شىء؟ فإن قلنا : يصلح الإطلاق وجب التخصيص فى الآية ، فيكون عاما مخصوصا ، وإن قلنا بعدم صحته ، فيبقى النّظر : هل المراد بالقدرة الإحداث أو الصلاحية ، فإن أريد الإحداث فهى مخصوصة ، وإن أريد الصلاحية فهو عام غير مخصوص. ه.

الإشارة : مشايخ التربية خلفاء الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم فحين بايعهم على عقد الإرادة فكأنما بايع الرّسول ، فيقال على طريق الإشارة : لقد رضي الله عن المؤمنين المتوجهين ، إذ يبايعونك أيها العارف تحت الشجرة ، تحت ظل شجرة همتك ، فعلم ما فى قلوبهم من الصدق ، فأنزل السكينة عليهم ، حتى سكنوا تحت مشاق التربية والرّياضة ، وأثابهم فتحا قريبا ، وهو الوصول إلى حضرة العيان ، ومغانم كثيرة ؛ فتوحات ومكاشفات ، وأسرار ، وترقيات كثيرة ، إلى ما لا نهاية له ، يأخذونها. ووعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها بعد الفتح ، من الرّجوع إلى البقاء وبقاء البقاء ، والتوسع فى المقامات ، والترقي فى معارج المكاشفات ، فعجّل لكم هذه ، هو مقام الفناء ، وكفّ أيدى القواطع عنكم ، لتتوجهوا إلى مولاكم ، لتكون عبرة للمؤمنين المتخلفين عن السير ، يهتدون بهديكم ، ويهديكم صراطا مستقيما : طريق الوصول إلى حضرة القدس ، ومحل الأنس ، وأخرى لم تقدروا عليها فى الدنيا ، ادخرها لكم يوم القيامة ، هو المقام فى مقعد صدق عند مليك مقتدر.

وقال الورتجبي : (لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ) أي : رضى عنهم فى الأزل ، وسابق علم القدم ، ويبقى رضاه إلى الأبد ؛ لأن رضاه صفة الأزلية الباقية الأبدية ، لا تتغير بتغير الحدثان ، ولا بالوقت والزمان ، ولا بالطاعة والعصيان ، فإذا هم فى اصطفائيته باقون إلى الأبد ، لا يسقطون من درجاتهم بالزلات ولا بالبشرية ، ولا بالشهوات ، لأن أهل الرّضا محروسون برعايته ، لا تجرى عليهم نعوت أهل البعد ، وصاروا متصفين بوصف رضاه ، فرضوا عنه كما رضى عنهم ، قال تعالى : (رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (٣) ، وهذا بعد قذف نور الأنس فى قلوبهم بقوله : (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ) فسكنت قلوبهم إليه ، واطمأنت به ؛ لتنزّل اليقين. ه.

__________________

(١) ذكره البغوي فى تفسيره (٧ / ٣١٢).

(٢) من الآية ١٩ من سورة الأنعام.

(٣) من الآية ١١٩ من سورة المائدة.

٣٩٨

قلت : هذا لمن تحققت محبوبيته ممن رسخت قدمه فى شهود الحق ، واطمأن به ، وأما قبل هذا فالأمر مبهم.

قال اللجائى ، فى كتابه «قطب العارفين» : وإياك أن تعتقد أنّ فى النّاس شرا منك ، وإن كان عاصيا وأنت مطيع ، فإنّ الأمر يحدث بعد الأمر ، وسر الله تعالى فى خلقه غامض ، لا يدرى من يبوء بالشقاوة ، ولا من يفوز بالسعادة ، وقد يتلقى العبد رضا الله تعالى بحسنة واحدة ، ويتلقى سخطه بذنب واحد ، فإنّ أمر الله خفى فى غموض المشيئة ... إلخ.

ثم بشّرهم بالنصر ، فقال :

(وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (٢٢) سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً (٢٣) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٢٤) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ ...)

يقول الحق جل جلاله : (وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة ولم يصالحوا ، أو من خلفاء خيبر ، الذين جاءوا لنصرهم (لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ) منهزمين (ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا) يلى أمرهم ، (وَلا نَصِيراً) ينصرهم. (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ) : مصدر مؤكد ، أي : سنّ الله غلبة أنبيائه سنة ماضية ، وهو قوله : (لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (١) (وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلاً) ؛ تغيرا.

(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) أي : أيدى كفار أهل مكة (وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ) ؛ عن أهل مكة (بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ) أي : أقدركم وسلّطكم عليهم ، يعنى : قضى بينهم وبينكم المكافّة والمحاجزة بعد ما خوّلكم الظفر عليهم والغلبة ، وذلك أن عكرمة بن أبى جهل خرج فى خمسمائة إلى الحديبية ، يطلب غرة بالمسلمين ، فبعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم خالد بن الوليد على جند ، فهزمهم ، حتى أدخلهم حيطان مكة ، ثم عاد ثانيا

__________________

(١) من الآية ٢١ من سورة المجادلة.

٣٩٩

فهزمه ، ثم عاد فهزمه (١) ، هكذا نقله الثعلبي وغيره. فانظره مع ما فى الاكتفاء للكلاعى : أن خالدا كان مع المشركين فى الحديبية ، وإنما أسلم بعد الحديبية قبل الفتح ، وكان فى السنة الثامنة ، والحديبية فى السادسة ، والذي ذكر النّسفى أنه عليه‌السلام بعث من هزمهم ، ولم يسمه ، وهزم خالد لبعض قريش إنما كان فى الفتح ، لا فى الحديبية ، فلعل الرّاوى غلط. وقال أنس : إن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأصحابه من جبل التنعيم عند صلاة الفجر ، عام الحديبية ، ليقاتلوا المسلمين ، فأخذهم النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم سلما ، فأعتقهم ، فنزلت الآية (٢).

ووجه المنّة فى كفّ أيدى المؤمنين عن الكافرين : ما ذكر بعد من قوله : (وَلَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ) ... الآية ، أو : ما تطرق بسببه من الصلح وانقيادهم إليه ، فإنهم لما رأوا أصحابهم انهزموا أذعنوا للصلح ، وقال القشيري : بعد أن اضطرهم المسلمون إلى بيوتهم ، أنزل الله هذه الآية يمنّ عليهم ، حيث كفّ أيدى بعضهم عن بعض ، عن قدرة من المسلمين ، لا عن عجز ، فأما الكفار فكفّوا أيديهم رعبا وخوفا ، وأما المسلمون فنهيا من قبل الله ، لما فى أصلابهم من المؤمنين. ه. (وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من مقاتلتهم وهزمهم أولا ، والكفّ عنهم ثانيا ، لتعظيم بيته الحرام ، وقرأ البصري بياء الغيب ، أي : بما يعمل المشركون (بَصِيراً) فيجازى كلّا بما يستحقه.

(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ) صدوا (الْهَدْيَ) حال كونه (مَعْكُوفاً) أي : محبوسا عن (أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ) أي : مكانه الذي يحلّ به نحره ، وهو منى وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم ساق سبعين بدنة ، فلما صدّ ، نحرها بموضعه ، وبه استدل من قال : أنّ المحصر ينحر هداياه بموضعه ، وروى أن خيامه صلى‌الله‌عليه‌وسلم كانت فى الحل ، ومصلّاه فى الحرم ، وهناك نحرت هداياه صلى‌الله‌عليه‌وسلم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : يقال لمن سبقت لهم العناية ، وحفّت بهم الرّعاية : لو قاتلكم الذين كفروا من النّفس الأمارة ، والشيطان ، والهوى ، وسائر القواطع ، لولّوا الأدبار ، ثم لا يجدون تسلطا عليكم أبدا ، سنّة الله التي قد خلت فيمن توجه إليه بصدق الطلب ، ودخل تحت تربية الرّجال ، فإن همتهم دائرة عليه ، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وهو الذي كفّ أيدى الأعداء من القواطع عنكم ، وكفّ أيديكم عنهم ، من بعد أن أظفركم عليهم ، فإنّ النّفس إذا تعذبت واطمأنت وجب الكفّ عن مجاهدتها ، ووجب البرور بها ، وتصديقها فيما تحدثه ، وكذا سائر القواطع تجب الغيبة عنها ، وعدم

__________________

(١) أخرجه ابن جرير (٢٦ / ٩٥) وانظر الكافي الشاف (ح ٤٢٤) فقد قال الحافظ ابن حجر معقبا : «فى صحته نظر ؛ لأن خالدا لم يكن أسلم فى الحديبية. وظاهر السياق أن هذه القصة كانت فى الحديبية». وسيذكر الشيخ بعد قليل حديث أنس. وهو أصح لوروده فى الصحيح.

(٢) أخرجه مسلم فى (الجهاد ، باب قول الله تعالى : (وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) ح ١٨٠٨) من حديث أنس رضي الله عنه.

٤٠٠