البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٢

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٣٩

١
٢

سورة المائدة

مدنية. وهى مائة وعشرون آية ، وألفان وثمان مائة وأربع كلمات ، وقرأها النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى حجة الوداع ، وقال : «يا أيها الناس ، إن سورة المائدة من آخر القرآن نزولا ، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» (١). وقال ابن عمر : (أنزلت سورة المائدة والنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم على راحلته ، فلم تستطع أن تحمله حتى نزل). وهى مكملة لما تضمنته سورة النساء من عقود الأحكام الستة ، ولذلك افتتحها بالتوصية على الوفاء بها ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ...)

أي : بالعهود التي عهدت إليكم أن تحفظوها ، وهى حفظ الأموال ، وحفظ الأنساب ، وحفظ الأديان ، وحفظ الأبدان ، وحفظ اللسان ، وحفظ الأيمان ، ثم مرّ معها على الترتيب ، فما ذكره هناك مستوفى ، لم يعد منه هنا إلا أصله ، وما بقي هناك فى أصل من الأصول الستة كمله هنا ، ولمّا ذكر فيما تقدم فى أول السورة حكم الأموال باعتبار الملك ، ولم يتكلم على ما يحل منها وما يحرم ، تكلم هنا على ذلك ، فقال :

(... أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (١))

قلت : إضافة (بهيمة الأنعام) : للبيان ، كثوب خزّ ، أي : البهيمة من الأنعام ، و (غير محلى الصيد) : حال ، قال الأخفش : من فاعل «أوفوا» ، وفيه معنى النهى ، وقال الكسائي : من ضمير (لكم) ؛ كما تقول : أحل لكم الطعام غير مفسدين فيه ، فإن قلت : الحال قيد لعاملها ، والحلّية غير خاصة بوقت حرمة الصيد؟ قلت : لمّا كانت الحاجة إليها فى ذلك الوقت أكثر ، خص الحلية به ليكون أدعى للشكر ، ويؤخذ عموم الحلّية من سورة الحج (٢).

يقول الحق جل جلاله : (أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ) أي : الأنعام كلها ، وهى الإبل والبقر والغنم ، (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) بعد فى قوله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ...) الآية (٣) ، حال كونكم (غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ)

__________________

(١) أخرجه الحاكم فى المستدرك (التفسير ٢ / ٣١١) موقوفا على (أم المؤمنين عائشة) رضى الله عنها. وصححه ووافقه الذهبي.

وفى الفتح السماوي (٢ / ٥٥٢) نقلا عن الحافظ ابن حجر : لم نقف عليه مرفوعا.

(٢) فى قول الله تعالى : (أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ ..) الآية / ٣٠.

(٣) الآية الثالثة من السورة نفسها.

٣

فى حال الإحرام ، ومعنى الآية فى الجملة : أحلت الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم من الميتة وأخواتها ، لكن الصيد فى حال الإحرام حرام عليكم ، (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ) من تحليل أو تحريم.

الإشارة : يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود التي عقدتموها على نفوسكم فى حال سيركم إلى حضرة ربكم ، من مجاهدة ومكابدة ، فمن عقد عقدة مع ربه فلا يحلها ، فإن النفس إذا استأنست بحل العقود لم ترتبط بحال ، ولعبت بصاحبها كيف شاءت ، وأوفوا بالعقود التي عقدتموها مع أشياخكم بالاستماع والاتباع إلى مماتكم ، وأوفوا بالعقود التي عقدها عليكم الحق تعالى ، من القيام بوظائف العبودية ، ودوام مشاهدة عظمة الربوبية ، فإن أوفيتم بذلك ، فقد أحلت لكم الأشياء كلها تتصرفون فيها بهمتكم ؛ لأنكم إذا كنتم مع المكون كانت الأكوان معكم. إلا ما يتلى عليكم مما ليس من مقدوركم مما أحاطت به أسوار الأقدار ، «فإن سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار» ، غير متعرضين لشهود السّوى وأنتم فى حرم حضرة المولى. والله تعالى أعلم.

ولمّا نهى عن التعرض للصيد فى الحرم ، نهى عن تغيير المناسك والتعرض للحجّاج ؛ لأنه من تعظيم حرمة الحرم ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (٢))

قلت : الشعائر : جمع شعيرة ، وهى اسم ما أشعر ، أي : جعل علامة على مناسك الحج ومواقفه ، و (لا يجرمنكم) أي : يحملنكم ، أو يكسبنكم ، يقال : جرم فلان فلانا هذا الأمر ، إذا أكسبه إياه وحمله عليه. والشنآن : هو البغض والحقد ، يقال : بفتح النون وإسكانها ، و (أن صدوكم) مفعول من أجله ، و (أن تعتدوا) مفعول ثان ليجرمنكم. ومن قرأ : (إن صدوكم) ، بالكسر فشرط ، أغنى عن جوابه : (لا بجرمنكم).

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللهِ) أي : لا تستحلوا شيئا من ترك المناسك ، وذلك أن الأنصار كانوا لا يسعون بين الصفا والعروة ، وكان أهل مكة لا يخرجون إلى عرفات ، وكان أهل اليمن يرجعون من عرفات ، فأمرهم الله ألّا يتركوا شيئا من المناسك ، أي : لا تحلوا ترك شعائر الله (وَلَا) تحلوا

٤

(الشَّهْرَ الْحَرامَ) بالقتال أو السّبى ، وهذا قبل النسخ ، (وَلَا) تحلوا (الْهَدْيَ) ، أي : ما أهدى إلى الكعبة ، فلا تتعرضوا له ولو من كافر ، (وَلَا) تحلوا (الْقَلائِدَ) أي : ذوات القلائد ، وهى الهدى المقلدة ، وعطفها على الهدى للاختصاص ؛ فإنها أشرف الهدى ، أي : لا تتعرضوا للهدى مطلقا. والقلائد جمع قلادة ، وهى : ما قلد به الهدى من نعل أو لحاء الشجر ، أو غيرهما ، ليعلم به أنه هدى فلا يتعرض له ، (وَلَا) تحلوا (آمِّينَ) أي : قاصدين البيت الحرام ، أي : قاصدين لزيارته ، (يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً) أي : يطلبون رزقا بالتجارة التي قصدوها ، ورضوانا بزعمهم ؛ لأنهم كانوا كفارا.

وذلك ، أن الآية نزلت فى الحطم بن ضبيعة ، وذلك أنه أتى المدينة ، فخلّف خيله خارج المدينة ، ودخل وحده إلى النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : إلام تدعو النّاس إليه؟ فقال له : «إلى شهادة أن لا إله إلا الله وإقام الصّلاة وإيتاء الزكاة». فقال : حسن ، إلا أن لى أمراء لا أقطع أمرا دونهم ، ولعلى أسلم ، فخرج وغار على سرح المدينة فاستاقه ، فلما كان فى العام المقبل خرج حاجّا مع أهل اليمامة ، ومعه تجارة عظيمة ، وقد قلّد الهدى ، فقال المسلمون للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : هذا الحطم قد خرج حاجّا فخلّ بيننا وبينه؟ فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنه قلد الهدى» ، فقالوا يا رسول الله : هذا شىء كنا نفعله فى الجاهلية ـ أي : تقية ـ ، فأبى عليهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزلت الآية (١).

وقال ابن عباس : كان المشركون يحجون ويهدون ، فأراد المسلمون أن يغيروا عليهم ، فنهاهم الله تعالى بالآية.

(وَإِذا حَلَلْتُمْ) من الحج والعمرة (فَاصْطادُوا) ، أمر إباحة ؛ لأنه وقع بعد الحظر ، (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي : لا يحملنكم ، أو لا يكسبنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي : شدة بغضكم لهم لأجل (أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) عام الحديبية (أَنْ تَعْتَدُوا) بالانتقام منهم ؛ بأن تحلوا هداياهم وتتعرضوا لهم فى الحرم. قال ابن جزى : نزلت عام الفتح حين ظفر المسلمون بأهل مكة ، فأرادوا أن يستأصلوهم بالقتل ؛ لأنهم كانوا قد صدوهم عن المسجد الحرام عام الحديبية ، فنهاهم الله عن قتلهم ؛ لأن الله علم أنهم يؤمنون. ه. ثم نسخ ذلك بقوله : (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ). (٢)

ثم قال تعالى : (وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى) كالعفو ، والإغضاء ، ومتابعة الأمر ، ومجانبة الهوى. وقال ابن جزى : وصية عامة ، والفرق بين البر والتقوى ؛ أن البر عام فى الواجبات والمندوبات ، فالبر أعم من التقوى ه. (وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ) كالتشفى والانتقام. قال ابن جزى : الإثم : كل ذنب بين الله وعبده ، والعدوان : على الناس. ه. (وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقابِ) ؛ فانتقامه أشد.

الإشارة : قد أمر الحق ـ جل جلاله ـ بتعظيم عباده ، وحفظ حرمتهم كيفما كانوا ، «فالخلق كلهم عيال الله ، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله» ، فيجب على العبد كف أذاه عنهم وحمل الجفا منهم ، وألّا ينتقم لنفسه ممن آذاه

__________________

(١) أخرجه ابن جرير عن عكرمة. وذكره الواحدي فى الأسباب ، عن ابن عباس.

(٢) من الآية ٥ من سورة التوبة.

٥

منهم ، ولا يحمله ما أصابه منهم على أن يعتدى عليهم ولو بالدعاء ، بل إن وسّع الله صدره بالمعرفة قابلهم بالإحسان ، ودعا لعدوه بصلاح حاله ؛ حتى يأخذ الله بيده ، وهذا مقام الصديقية العظمى والولاية الكبرى ، وهذا غاية البر والتقوى الذي أمر الله ـ تعالى ـ بالتعاون عليه ، والاجتماع إليه ، دون الاجتماع على الإثم والعدوان ، وهو الانتصار للنفس والانتقام من الأعداء ، فإن هذا من شأن العوام ، الذين هم فى طرف مقام الإسلام. والله تعالى أعلم.

ثم بيّن ما وعد به فى قوله : (إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ) ، فقال :

(حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ ...)

يقول الحق جل جلاله : (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ) أي : ما ماتت حتف أنفها بلا ذكاة ، (وَالدَّمُ) المسفوح ، أي : المهروق ، وكانت الجاهلية يصبونه فى الأمعاء ، ويشوونها ، ورخص فى الباقي فى العروق بعد التذكية ، (وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ) ، وكذا شحمه وسائر أجزائه المتصلة ، بخلاف الشعر المجزو ، (وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ) أي : رفع الصوت عليه عند ذبحه بغير الله ، كقولهم : باسم اللات والعزى ، وكذا ما ترك عليه اسم الله عمدا ، عند مالك (وَالْمُنْخَنِقَةُ) بحبل وشبهه حتى ماتت ، (وَالْمَوْقُوذَةُ) أي : المضروبة بعصا أو بحجر أو شبهه ، من : وقذته وقذا : ضربته ، (وَالْمُتَرَدِّيَةُ) أي : الساقطة من جبل أو فى بئر وشبهه فماتت ، (وَالنَّطِيحَةُ) التي نطحتها أخرى فماتت ، فإن لم تمت ؛ فإن كان فى العصران الأعلى فكذلك ، لا فى الأسفل أو الكرش.

(وَما أَكَلَ السَّبُعُ) أي : أكل بعضه وأنفذ مقتله ، والسبع : كل حيوان مفترس كالذئب والأسد والنمر والثعلب والنمس والعقاب والنسر (إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ) أي : إلا ما أدركتم ذكاته وفيه حياة مستقرة من ذلك. قاله البيضاوي. وقال ابن جزى : قيل : إنه استثناء منقطع ، وذلك إذا أريد بالمنخنقة وأخواتها : مامات من ذلك بالخنق وما بعده ، أي : حرمت عليكم هذه الأشياء ، لكن ما ذكيتم من غيرها فهو حلال ، وهذا ضعيف ، وقيل : إنه استثناء متصل ، وذلك إن أريد بالمنخنقة وأخواتها ما أصابته تلك الأسباب وأدركت حياته. والمعنى : إلا ما أدركتم حياته من هذه الأشياء ، فهو حلال ، واختلف أهل هذا القول ؛ هل يشترط أن يكون لم تنفذ مقاتله ، أم لا؟ فالأئمة كلهم على عدم الاشتراط إلا مالكا ـ رحمه‌الله ـ ، وأما من لم تشرف على الموت من هذه الأسباب ، فذكاتها جائزة باتفاق. ه.

(وَ) حرم عليكم أيضا : (ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ) ، وهى أحجار كانت منصوبة حول البيت ، يذبحون عليها ويعدون ذلك قربة ، وليست بالأصنام ؛ لأن الأصنام مصورة ، والنصب غير مصورة ، وقيل : (على) بمعنى اللام ، أي : وما ذبح للنصب ، والمراد : كل ما ذبح لغير الله.

٦

(وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ) أي : تطلبوا ما قسم لكم فى الأزل من المقادير بالأزلام ، جمع زلم ـ بضم الزاى وفتحها ـ وهى الأقداح على قدر السهام. وكانت فى الجاهلية ثلاثة ، قد كتب على أحدها : افعل ، وعلى الآخر : لا تفعل ، وعلى الثالث : مهمل ، فإذا أراد الإنسان أن يعمل أمرا جعلها فى خريطة ، وأدخل يده وأخرج أحدها ، فإن خرج له الذي فيه «افعل» ؛ فعل ما أراد ، وإن خرج الذي فيه «لا تفعل» ، تركه ، وإن خرج المهمل أعاد الضرب ، ويقاس عليه كل ما يدخل فى علم الغيب ، كالقريعة والحظ والنصبة والكهانة ، وشبهها.

(ذلِكُمْ فِسْقٌ) ، الإشارة إلى المحرمات المذكورة ، أو إلى الاستقسام بالأزلام ، وإنما كان فسقا ؛ لأنه دخول فى علم الغيب الذي انفرد الله به ، وفيه تجسس على سر الملك ، وهو حرام ، ولا يعارض ما ثبت جوازه من القرعة ، فى أمور مخصوصة كتمييز الأنصبة فى القسمة ، «وقد كان ـ عليه الصلاة والسلام ـ يقترع بين نسائه» ، وغير ذلك مما تفيد تطييب القلوب ، دون الاطلاع على علم الغيوب. والله تعالى أعلم.

الإشارة : حرمت عليكم يا معشر المريدين طلب الحظوظ والشهوات ، وما تموت به قلوبكم من الانهماك فى الغفلات ، وتناول ما أعطيكم لغير وجه الله ، وقبضتموه من غير يد الله ، بأن نظرتم حين قبضه إلى الواسطة ، وغفلتم عن المعطى حقيقة ، فمقتضى شريعة الخواص : إخراجه عن الملك ، وحرمان النفس من الانتفاع به ، كما وقع لبعض الأولياء ، ولا تتناولوا من الطعام إلا ما ذكيتموه بأن شهدتم فيه المنعم دون الوقوف مع النعمة ، ونزلتم إليه بالإذن ، دون قصد الشهوة والمتعة ، وهذا يحتاج إلى تيقظ كبير ومراقبة قوية. والله يتجاوز عن أمثالنا بحلمه وكرمه. آمين.

ولمّا حرّم الله تعالى هذه الأشياء حصل للمشركين الإياس من موافقة المسلمين لهم فى دينهم ، فلذلك ذكره الحق تعالى بإثر تحريمها ، فقال :

(... الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ...)

يقول الحق جل جلاله : (الْيَوْمَ) الذي أنتم فيه ، وهو يوم الجمعة ، ويوم عرفة فى حجة الوداع ، (يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ) أن يبطلوه ، أو يظهروا عليه بحصول المباينة لهم فى أمورهم كلها ، ولظهور الإسلام فيه وكثرة المسلمين ، قيل : إنه وقف معه صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى هذه الحجة : مائة ألف وأربعة عشر ألفا ، ويحتمل أن يريد باليوم الزمان الحاضر ، وما يتصل به من الأزمنة الآتية ، (فَلا تَخْشَوْهُمْ) أن يظهروا عليكم ، (وَاخْشَوْنِ) وحدي ؛ فأمرهم بيدي.

(الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) بالنصر والإظهار على الأديان كلها ، أو بالتنصيص على قواعد العقائد ، والتوقيف على أحوال الشرائع وقوانين الاجتهاد ، (وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي) بالهداية والتوفيق ، أو بإكمال الدين ، وبالفتح والتمكين ، بهدم منار الكفر ، ومحو علل الملحدين ، (وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً) أي : اخترته لكم من بين الأديان ، الذي لا نرتضى غيره ولا نقبل سواه.

٧

الإشارة : إذا حصل المريد على أسرار التوحيد ، وخاض بحار التفريد ، وذاق حلاوة أسرار المعاني ، وغاب عن شهود حس الأوانى ، وحصل له الرسوخ والتمكين فى ذلك ، أيس منه الشيطان وسائر القواطع ، فلا يخشى أحدا إلا الله ، ولا يركن إلى شىء سواه ، وأمن من الرجوع فى الغالب ، إلا لأمر غالب ، (وَاللهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ). ولذلك قال بعضهم : (والله ما رجع من رجع إلا من الطريق ، وأما من وصل فلا يرجع).

والوصول هو التمكين فيما ذكرنا ، فإذا حصل على كمال المعرفة ، ووقف على عرفة المعارف ، فقد كمل دينه واستقام أمره ، وظهرت أنواره ، وتحققت أسراره ، وما بقي إلا الترقي فى الأسرار أبدا سرمدا ، والسير فى المقامات كسير الشمس فى المنازل ، ينتقل فيها من مقام إلى مقام ، بحسب ما يبرز من عنصر القدرة ، فتارة يبرز معه ما يوجب الخوف ، وتارة ما يوجب الرجاء ، وتارة ما يوجب الرضا والتسليم ، وتارة ما يوجب التوكل ، وهكذا يتلون مع كل مقام ويقوم بحقه ، ولا يقف مع مقام ولا مع حال ، لأنه خليفة الله فى أرضه ، وقد قال تعالى : (كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) (١) ، وهذا هو التلوين بعد التمكين. والله تعالى أعلم.

ثم استثنى من تلك المحرمات حالة المضطر ، فقال :

(... فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)

قال البيضاوي : هو متصل بذكر المحرمات ، وما بينهما اعتراض مما يوجب التجنب عنها ، وهو أن تناولها فسوق ، وحرمتها من جملة الدين الكامل والنعمة التامة والإسلام المرضى. ه.

يقول الحق جل جلاله : (فَمَنِ اضْطُرَّ) إلى تناول شىء من هذه المحرمات (فِي مَخْمَصَةٍ) أي : مجاعة ، حال كونه (غَيْرَ مُتَجانِفٍ) أي : مائل للإثم وقاصد له ، بأن يأكلها تلذذا أو متجاوزا حد الرخصة ، قيل : هو سد الرمق ، وقال ابن أبى زيد : يأكل منها ويتزود ، فإن استغنى عنها طرحها. ه. فإن تناولها للضرورة (فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ) له (رَحِيمٌ) به ؛ حيث أباحها له فى تلك الحالة.

الإشارة : قال بعض الحكماء : الدنيا كلها كالميتة ، لا يحل منها للذاكر إلا قدر الضرورة أكلا وشربا ، وملبسا ومركبا ، حتى يتحقق له الوصول ، فما بقي لأحد حينئذ ما يقول ، وعلامة الوصول : هو الاكتفاء بالله دون الاحتياج لشىء سواه ، إن افتقر اغتنى فى فقره ، وإن ذل عز فى ذله ، وإن فقد وجد فى فقده ، وهكذا فى تقلبات الأحوال لا يتضعضع ولا يتزلزل ، ولو سقطت السماء على الأرض. والله تعالى أعلم.

ولمّا ذكر ما حرّم عليهم ؛ ذكر ما أحل لهم ، فقال :

__________________

(١) من الآية / ٢٩ من سورة الرحمن.

٨

(يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (٤) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ ...)

قلت : لم يقل ماذا أحل لنا ؛ لأن «يسألونك» بلفظ الغيبة ، وكلا الوجهين شائع فى أمثاله. قاله البيضاوي.

يقول الحق جل جلاله : (يَسْئَلُونَكَ) يا محمد عن الذي (أُحِلَّ لَهُمْ) من المآكل ، بعد الذي حرم عليهم من الخبائث ، فقل لهم. (أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ) وهو عند مالك : ما لم يدل دليل على تحريمه من كتاب ولا سنة ، وعند الشافعي : ما يستلذه الطبع السليم ولم يفرّ عنه ، فحرم الخنافس وشبهها ، (وَ) أحل لكم صيد (ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ) أي : الكواسب ، وهى الكلاب ونحوها ، مما يصطاد به ويكسب الصيد على أهله ، من سباع وذوات أربع ، وطير ، ونحوها ، حال كونكم (مُكَلِّبِينَ) أي : معلمين لها الاصطياد ، أي : مؤدبين لها ، (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللهُ) من الحيل وصدق التأديب ، فإن العلم بها إلهام من الله ، أو مكتسب بالعقل الذي هو منحة من الله لابن آدم. وحد التعليم عند ابن القاسم : أن يفهم الجارح الإشلاء والزجر ، وقيل : الإشلاء ؛ أي : التسلط ـ فقط ، وقيل : الزجر فقط ، وقيل : أن يجيب إذا دعى.

(فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ) ولم يأكل منه ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وإن أكل ، فلا تأكل ؛ فإنّما أمسك على نفسه» (١). وهو مذهب الشافعي ، وقال مالك : يؤكل مطلقا لما فى بعض الأحاديث : «وإن أكل فكل» (٢) ، وقال بعضهم : لا يشترط ذلك فى سباع الطير ؛ لأن تأديبها إلى هذا الحد متعذر.

(وَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهِ) أي : على ما علمتم عند إرساله ، ولو لم ير المرسل عليه ، وكذا عند الرمي بالمحدد ونحوه ، فإن سمى على شىء معين ووجد غيره لم يؤكل ، أو التبس مع غيره ، وإن سمى على ما وجد أكل الجميع ، ولا بد من نية الذكاة عند الإرسال أو الرمي ، واختلف فى حكم التسمية ، فقال الظاهرية : إنها واجبة مطلقا ، فإن تركت عمدا أو سهوا لم تؤكل عندهم ، وقال الشافعي : مستحبة ، حملا للأمر على الندب ، فإن تركت عمدا أو سهوا أكلت عنده.

__________________

(١) بعض حديث أخرجه البخاري في (الذبائح والصيد ، باب إذا أكل الكلب) ومسلم فى (الصيد والذبائح ، باب الصيد بالكلاب المعلمة) من حديث عدى بن حاتم.

(٢) أخرجه ابو داود فى (الصيد ، باب فى الصيد) عن أبى ثعلبه الخشني.

وفى التوفيق بين الحديثين قال الخطابي فى معالم السنن : يجعل حديث أبى ثعلبه أصلا فى الإباحة ، وأن يكون النهى فى حديث عدى على معنى التنزيه دون التحريم. ويحتمل أن يكون الأصل فى ذلك : حديث عدى بن حاتم ، ويكون النهى على التحريم البات ، ويكون المراد بقوله : وإن أكل ، فيما مضى من الزمان وتقدم منه ، لا فى هذه الحال ، فكأنه قال : كل منه وإن كان قد أكل فيما تقدم ، إذا لم يكن قد أكل فى هذه الحالة. انظر معالم السنن على هامش سنن أبى داود ٣ / ٢٧٢ ، وانظر أيضا : فتح الباري ٩ / ٤٩٤.

٩

وجعل بعضهم الضمير فى (عَلَيْهِ) ، عائدا على الأكل ، فليس فيها على هذا أمر بالتسمية على الصيد ، ومذهب مالك : أنه إن تركت التسمية عمدا لم تؤكل ، وإن تركت سهوا أكلت ، فهى عنده واجبة بالذكر ساقطة بالنسيان ، وهذا الخلاف جار فى الذكاة كلها.

(وَاتَّقُوا اللهَ) فى اجتناب محرماته ، (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) ، فيؤاخذكم على ما جلّ ودق.

(الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ) فيتناول الذبائح وغيرها ، ويعم أهل الكتاب اليهود والنصارى ، واستثنى علىّ ـ كرم الله وجهه ـ نصارى بنى تغلب ، وقال : (ليسوا على النصرانية ، ولم يأخذوا منها إلا شرب الخمر). ولا يلحق بهم المجوس فى ذلك ، وإن ألحقوا بهم فى الجزية ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، غير ألا تنكحوا نساءهم ، ولا تأكلوا ذبائحهم» (١) وكذلك المرتد مطلقا لا تؤكل ذكاته.

قال ابن جزى : وأما الطعام ، فهو على ثلاثة أقسام : أحدها : الذبائح ، وقد اتفق العلماء على أنها مرادة فى الآية ، فأجازوا أكل ذبائح اليهود والنصارى ، واختلفوا فيما هو محرم عليهم فى دينهم ، على ثلاثة أقوال : الجواز ، والمنع ، والكراهة ، وهو مبنى على : هل هو من طعامهم أم لا؟ فإن أريد بطعامهم ما ذبحوه ، جازت ، وإن أريد ما يحل لهم ، منع ، والكراهة توسط بين القولين. الثاني : ما لا محاولة لهم فيه ، كالقمح والفاكهة ، فهو جائز لنا اتفاقا. والثالث : ما فيه محاولة كالخبز وتعصير الزيت وعقد الجبن ، وشبه ذلك مما يمكن استعمال النجاسة فيه ، فمنعه ابن عباس ؛ لأنه رأى أن طعامهم هو الذبائح خاصة ، وأجازه الجمهور ، لأنه رأوه داخلا فى طعامهم ، وهذا إذا كان استعمال النجاسة فيه محتملا ، أما إذا تحققنا استعمال النجاسة فيه ؛ كالخمر والخنزير والميتة ، فلا يجوز أصلا ، وقد صنف الطرطوشى فى تحريم جبن النصارى ، وقال : إنه ينجس البائع والمشترى والآلة ؛ لأنهم يعقدونه على إنفحة الميتة. ه.

(وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ) ، فلا بأس أن تطعموهم من طعامكم ، وتبيعوه لهم ، وأما ما حرم عليهم ، فلا يجوز بيعه منهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : يسألونك أيها العارف الرباني ماذا أحل للفقراء من الأعمال والأحوال ، قل لهم : أحل لكم الطيبات ، أي : الخالص من الأعمال ، والصافي من الأحوال ، والتلذذ بحلاوة المشاهدة والمكالمة ، وما اصطادت لكم أنفسكم من العلوم اللدنية والأسرار القدسية ، بقدر تزكيتها وتربيتها ، فكلوا مما أمسكن عليكم ، أي : تمتعوا بما أتت به لكم من

__________________

(١) أخرجه مالك فى الموطأ (الزكاة ، باب جزية أهل الكتاب والمجوس) من حديث عبد الرحمن بن عوف ، بدون ذكر : (غير ألا تنكحوا نساءهم ولا تأكلوا ذبائحهم) وجاءت هذه العبارة بنحوها فى حديث أخرجه عبد الرزاق فى المصنف (٦ / ٦٩ ح ١٠٠٢٨) والبيهقي فى الكبرى (٩ / ١٩٢) عن الحسن بن محمد بن على قال : (كتب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى مجوس هجر يعرض عليهم الإسلام ، فمن أسلم قبل ، ومن أصر ضربت عليهم الجزية ، على أن لا تؤكل لهم ذبيحة ، ولا ينكح لهم امرأة).

١٠

أبكار الحكم وعرائس الحقائق ، فإن أتت بشىء من علوم الحس ، فاذكروا اسم الله عليه ينقلب معانى ، واتقوا الله أن تقفوا مع شىء سواه ، (إن الله سريع الحساب) ؛ فيحاسبكم على الخواطر والطوارق إن لم تعرفوا فيها. اليوم أحل لكم الطيبات ، أي : حين دخلتم بلاد المعاني ورسختم فيها ، أحل لكم التمتع بالمشاهدات والمناجاة ، وطعام العلوم الظاهرة حلّ لكم تتوسعون بها ، وطعامكم حل لهم ، أي : وتذكيركم بما يقدرون عليه حلّ لهم ؛ لأن العارف الكامل يسير كل واحد على سيره ، ويتلون معه بلونه ، يقره فى بلده ويحوشه إلى ربه. نفعنا الله بذكره. آمين.

ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأنساب ، وهو جواز نكاح الكتابية ؛ إذ لم يتكلم عليه فى سورة النساء ، فقال :

(... وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ)

يقول الحق جل جلاله : وأحل لكم (الْمُحْصَناتُ) أي : الحرائر (مِنَ الْمُؤْمِناتِ) دون الإماء ، إلا لخوف العنت ، أو العفيفات دون البغايا ، فإن نكاحها مكروه ، (وَ) أحل لكم (الْمُحْصَناتُ) أي : الحرائر (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) ، فأحل الله نكاح اليهودية والنصرانية الحرتين دون إمائهم ، (إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ) أي : أعطيتموهن مهورهن. فلا يجوز نكاح الكتابية إلا بصداق شرعى. حال كونكم (مُحْصِنِينَ) ، أي : متعففين عن الزنى بنكاحها ، (غَيْرَ مُسافِحِينَ) أي : مجاهرين بالزنى ، (وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ) أي : أصحاب تسرون معهن بالزنى ، والخدن : الصاحب ، يقع على الذكر والأنثى. والمعنى : أحللنا لكم نكاح الكتابيات ، توسعة عليكم لتتعففوا عن الزنى سرا وجهرا.

ولما نزل إباحة الكتابيات قال بعض الناس : كيف أتزوج من ليس على دينى؟ فأنزل الله : (وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ) أي : بشرائع الإيمان (فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) ، ومن الكفر به إنكاره والامتناع منه.

الإشارة : قد تقدم أن علوم الحقائق أبكار ، لأنها عرائس مخدّرة ، مهرها النفوس ، وما سواها من العلوم ثيبات وإماء ؛ لرخص مهرها ، فإذا اتصل العارف بعلوم الحقائق ورسخ فيها ؛ أحل له أن ينكح المحصنات من علوم الطريقة ـ وهى مبادئ التصوف ، أي : التفنن فيها مع أهلها على وجه التركيز أو التعليم ، والمحصنات من علوم الشريعة إذا أعطاها مهرها ؛ من الإخلاص وقصد التوسع بها وتعليمها لأهلها ، وهذه العلوم كلها مشروعة ، والمشتغل بها متوجه إلى الله تعالى ، (قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ) ، فمن كفر بها فقد حبط عمله ، وهو عند الله من الخاسرين.

١١

ثم تكلم على ما بقي من حفظ الأديان ، وهو الوضوء ؛ إذ لم يتكلم عليه فى النساء ، فقال:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٦))

قلت : (إِذا قُمْتُمْ) : أردتم القيام ، كقوله : (فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) (١) ، حذف الإرادة للإيجاز ، وللتنبيه على أن من أراد العبادة ينبغى أن يبادر إليها ، بحيث لا ينفك الفعل عن الإرادة ، وقوله : (بِرُؤُسِكُمْ) الباء للإلصاق ، تقول : أمسكت بثوب زيد ، أي : ألصقت يدى به ، أي : ألصقوا المسح برؤوسكم ، أو للتبعيض ، وهذا سبب الخلاف فى مسحه كله أو بعضه ، فقال مالك : واجب كله ، وقال الشافعي : أقل ما يقع عليه اسم الرأس ، ولو قلّ. وقال أبو حنيفة : الربع.

(وَأَرْجُلَكُمْ) ، من نصب عطف على الوجه ، ومن خفض فعلى الجوار ، وفائدته : التنبيه على قلة صبّ الماء ، حتى يكون غسلا يقرب من المسح. قاله البيضاوي. وردّه فى المغني فقال : الجوار يكون فى النعت قليلا ، وفى التوكيد نادرا ، ولا يكون فى النسق ؛ لأن العاطف يمنع من التجاور ، وقال الزمخشري : لمّا كانت الأرجل بين الأعضاء الثلاثة مغسولات ، تغسل بصب الماء عليها ، كان مظنة الإسراف المذموم شرعا ، فعطف على الممسوح لا لتمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصار فى صب الماء عليها ، وجىء فيهما بالغاية إماطة لظن من يظن أنها ممسوحة ؛ لأن المسح لم يضرب له غاية فى الشريعة. ه.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) إذا أردتم القيام (إِلَى الصَّلاةِ) ، وأنتم محدثون (فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ) من منابت شعر الرأس المعتاد إلى الذقن ، ومن الأذن إلى الأذن ، (وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ) أي : معها ، (وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ) أي : جميعها أو بعضها على الخلاف ، (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) العظمين الناتئين فى مفصلى الساقين ، فهذه أربعة فرائض ، وبقيت النية لقوله : (وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ) (٢) ، ولقوله

__________________

(١) من الآية : ٩٨ من سورة النحل.

(٢) من الآية : ٥ من سورة البينة.

١٢

عليه الصلاة السّلام ـ : «إنما الأعمال بالنيات». والدلك ؛ إذا لا يسمى غسلا إلا به ، وإلا كان غمسا ، والفور ؛ لأن العبادة إذا لم تتصل كانت عبثا. ولمّا عطفت بالواو ، وهى لا ترتب ، علمنا أن الترتيب سنة.

(وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى) لم تقدروا على الماء (أَوْ عَلى سَفَرٍ) ولم تجدوه ، أو فى الحضر ؛ و (جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ) بالجماع أو غيره (فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ) أي : جميعه (وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ) ، وقيد الحضر بفقد الماء دون السفر ؛ لأن السفر مظنة إعوازه ، فالآية نص فى تيمم الحاضر الصحيح للصلوات كلها. قال البيضاوي : وإنما كرره ، ـ يعنى مع ما فى النساء ـ ليتصل الكلام فى بيان أنواع الطهارة. ه.

ثم قال تعالى : (ما يُرِيدُ اللهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ) حتى يكلفكم بالطهارة فى المرض أو الفقد من غير انتقال للتيمم ، (وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) أي : ينظفكم بالماء أو بدله ، أو يطهركم من الذنوب ، فإن الذنوب تذهب مع صب الماء فى كل عضو ، كما فى الحديث ، (وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ) بشرعه ، ما هو مطهرة لأبدانكم ، ومكفرة لذنوبكم ، (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) نعمه فيزيدكم من فضله.

الإشارة : كما أمر الحق جل جلاله بتطهير الظاهر لدخول حضرة الصلاة ، التي هل محل المناجاة ومعدن المصافاة ، أمر أيضا بتطهير الباطن من لوث السهو والغفلات ، فمن طهر ظاهره من الأوساخ والنجاسات ، ولوّث باطنه بالوساوس والغفلات ، كان بعيدا من حضرة الصلاة ؛ إذ لا عبرة بحركة الأبدان ، وإنما المطلوب حضور الجنان. قال القشيري : وكما أن للظاهر طهارة فللسرائر طهارة ، فطهارة الظاهر بماء السماء ، أي : المطر ، وطهارة القلوب بماء الندم والخجل ، ثم بماء الحياء والوجل ، ويجب غسل الوجه عند القيام إلى الصلاة ، ويجب ـ فى بيان الإشارة ـ صيانة الوجه عن التبذل للأشكال عند طلب خسائس الأغراض ، وكما يجب مسح الرأس ، يجب صونه عن التواضع لكل أحد ـ أي : فى طلب الحظوظ والأغراض ـ وكما يجب غسل الرجلين فى الطهارة الظاهرة ، يجب صونها ـ فى الطهارة الباطنة ـ عن التنقل فيما لا يجوز ه.

وقال عند قوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا) : وكما يجب طهارة الأعلى ، أي : الظاهر ، فيقتضى غسل جميع البدن ، فقد يقع للمريد فترة ـ توجب عليه الاستقصاء فى الطهارة الباطنية ـ فذلك تجديد عقد وتأكيد عهد ، وكما أنه إذا لم يجد المتطهر الماء ففرضه التيمم ، فكذلك إذا لم يجد المريد من يفيض عليه صوب همته ، ويغسله ببركات إشارته ، اشتغل بما ينشر له من اقتفاء آثارهم ، والاسترواح إلى ما يجد من سالف سيرتهم ، ومأثور حكايتهم. ه.

قلت : محصل كلامه أن من سقط على شيخ التربية ، كان كمن وجد الماء فاستعمل الطهارة الأصلية الحقيقية ، ومن لم يسقط على شيخ التربية ، كان كالمستعمل للطهارة الفرعية المجازية ؛ وهى التيمم ، وإلى ذلك أشار الغزالي ، لما سقط على الشيخ ، ولامه ابن العربي الفقيه على التجريد ، فقال :

قد تيممت بالصّعيد زمانا

والآن قد ظفرت بالماء

من سرى مطبق الجفون وأضحى

فاتحا لا يردّها للعماء

١٣

ثم قال ، لمّا طلع قمر السّعادة فى ملك الإرادة وأشرقت شمس الوصول على أفق الأصول :

تركت هوى ليلى وسعدى بمعزل

وملت إلى علياء أول منزل

فنادتنى الأوطان أهلا ومرحبا

ألا أيها السّارى رويدك فانزل

غزلت لهم غزلا رقيقا فلم أجد

لغزلى نسّاجا فكسّرت مغزلى

ثم ذكّرهم الحق جل جلاله العهد الذي أخذه عليهم فى الجهاد والطاعة ، حين بايعوا نبيه ـ عليه الصلاة السّلام ـ فى العقبة وغيرها ، فقال :

(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

يقول الحق جل جلاله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالهداية والعز والنصر ، (وَ) اذكروا (مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ) حين بايعتم نبيه فى بيعة العقبة وبيعة الرضوان على الجهاد وإظهار الدين ، وعلى السمع والطاعة فى المنشط والمكره ، حين (قُلْتُمْ) له : (سَمِعْنا وَأَطَعْنا) فيما تأمرنا به فى عسرنا ويسرنا ، فى منشطنا ومكر هنا ، (وَاتَّقُوا اللهَ) فى نقض العهود ، (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي : خفياتها ، فيجازيكم عليها ، فضلا عن جليات أعمالكم ، والمقصود : الترغيب فى الجهاد الذي هو من كمال الدين.

الإشارة : يقال للفقراء الذين منّ الله عليهم بصحبة شيوخ التربية ، وأخذوا عنهم العهد ألا يخالفوهم : اذكروا نعمة الله عليكم ، حيث يسّر لكم من يسيركم إلى حضرة ربكم ، ويعرفكم به ، وغيركم يقول : إنه معدوم ، أو خفى لا يعرفه أحد ، وهذا الكنز الذي سقطتم عليه ، قلّ من وجده ، واذكروا أيضا ميثاقه الذي واثقه عليكم ألا تخالفوهم ، ولو أدى الأمر إلى حتف أنفكم.

كان شيخ شيوخنا ـ سيدى العربي بن عبد الله ، يقول : الفقير الصادق ، هو الذي إذا قال له شيخه : ادخل فى عين الإبرة ، يقوم مبادرا يحاول ذلك ، ولا يتردد. وقال أيضا : (صاحبى هو الذي نقتله بشعرة) ، وقد تقرر أن من قال لشيخه : لم ، لا يفلح ، وهذا أمر مقرر فى علم التربية ؛ كما فى قضية الخضر مع سيدنا موسى ـ عليه‌السلام ـ. واتقوا الله فى اعتقاد مخالفتهم سرا ؛ (إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) فإن الاعتراض سرا أقبح ؛ لأنه خيانة ، فليبادر المريد بالتوبة منه ويغسله من قلبه. والله تعالى أعلم.

١٤

ولما كان الجهاد لا يقوم إلا بنصب الإمام ، ذكر ما يتعلق به من العدل فى الأحكام ، فقال:

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (٨) وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٩) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (١٠))

قلت : (وعد) : يتعدى إلى مفعولين ، وحذف هنا الثاني ، أي : وعدهم أجرا عظيما ، دل عليه الجملة بعده.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) ؛ عامّ أريد به خاص ، وهم أولوا الأمر منهم ، الذين يلون الحكم بين الناس ، وما تقدم فى سورة النساء (١) باق على عمومه ، أي : (كُونُوا قَوَّامِينَ) على من تحت حكمكم ، راعين لهم ؛ فإنكم مسئولون عن رعيتكم ، وكونوا مخلصين (لِلَّهِ) فى قيامكم وولايتكم ، (شُهَداءَ) على أنفسكم بالعدل ، تشهدون عليها بالحق إن توجه عليها ، ولا تمنعكم الرئاسة من الإنصاف فى الحق ، إن توجه عليكم ، أو على أقاربكم وأصدقائكم ، ولا على عدوكم (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ) أي : ولا يحملنكم (شَنَآنُ قَوْمٍ) أي : شدة بغضهم لكم ، (عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا) فيهم ، فتمنعوهم من حقهم ، أو تزيدوا فى نكالهم ، تشفيا وغيظا.

(اعْدِلُوا هُوَ) أي : العدل (أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) ، قال البيضاوي : صرح لهم بالأمر بالعدل ، وبيّن أنه بمكان من التقوى بعد ما نهاهم عن الجور ، وبين أنه مقتضى الهوى. فإذا كان هذا العدل مع الكفار ، فما بالك مع المؤمنين؟. ه (وَاتَّقُوا اللهَ) ؛ ولا تراقبوا سواه ، (إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فيجازى كلّا على عمله ، من عدل أو جور.

ثم ذكر ثواب من امتثل ، فقال : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ، وأفضل الأعمال : العدل فى الأحكام. قال عليه الصلاة السّلام : «المقسطون على منابر من نور يوم القيامة» (٢) ... الحديث ، وهو من السبعة الذين يظلهم الله فى ظله.

ثم ذكر وعيد ضدهم ، فقال : (وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) كما هو عادته تعالى ، يشفع بضد الفريق الذي يذكر أولا ، وفاء لحق الدعوة ، وفيه مزيد وعد للمؤمنين وتطييب لقلوبهم. وهذه الآية فى مقابلة قوله تعالى : (إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) (٣) وتكميل لها. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) فى قوله تعالى : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ...) الآية ١٣٥.

(٢) أخرجه مسلم فى (الإمارة ، باب فضيلة الإمام العادل ..) من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

(٣) من الآية ٥٨ من سورة النساء.

١٥

الإشارة : أمر الحق جل جلاله شيوخ التربية أن يعدلوا بين الفقراء فى النظرة والإمداد ، ولا يحملهم سوء أدب أحدهم ، أو قلة محبته وصدقه ، أن يبعده أو يمقته ؛ لأن قلوبهم صافية ، لا تحمل الكدر ، فهم يحسنون إلى من أساء إليهم من العوام ، فضلا عن أصحابهم ؛ فهم مأمورون بالتسوية بينهم فى التذكير والإمداد. والله تعالى يقسم بينهم على قدر صدقهم ومحبتهم ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إنما أنا قاسم والله معطى» أي : إنما أنا أبين كيفية التوصل إلى الحق ، والله ـ تعالى ـ يتولى إعطاء ذلك لمن يشاء من خلقه ، فالأنبياء والأولياء مثلهم فى بيان الطريق بالوعظ والتذكير ، كمن يبين قسمة التركة بالقلم ، والحاكم هو الذي يوصل إلى كل واحد من الورثة ما كان ينوبه فى التركة ، كذلك المذكّر والمربى ، يبين المقامات ، والله يعطى ذلك بحكمته وفضله. والله تعالى أعلم.

ثم أمر نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم بشكر نعمة حفظه ورعايته ، وتنسحب على الأمراء من بعده ، إذ لا يخلو أحد منهم من عدو أو حاسد ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١))

يقول الحق جل جلاله : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بحفظه إياكم من عدوكم ؛ (إِذْ هَمَّ قَوْمٌ) أي : حين همّ الكفار (أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ) بالقتل ، (فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ) ، ولما كانت مصيبة قتل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ لو قتل ـ تعمّ المؤمنين كلهم ، خاطبهم جميعا ، وهى إشارة إلى ما همت به بنو قريظة ، من قتله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وذلك أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم أتى بنى قريظة ، ومعه الخلفاء الأربعة ؛ يستعينهم فى دية رجلين مسلمين ، قتلهما عمرو بن أمية الضمري ، خطأ ، يظنهما مشركين ، فقالوا : نعم يا أبا القاسم ، قد آن لنا أن نعينك فاجلس حتى تطعم ، فأجلسوه ، وهموا بقتله ، فعمد عمرو بن جحاش إلى رحى عظيمة ليطرحها عليه ، فأمسك الله يده ، ونزل جبريل فأخبره ، فخرج النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى المدينة ولحقه أصحابه ، وهذا كان سبب قتلهم فى غزوة بنى قريظة.

وقيل : نزلت فى قضية غورث ، وذلك أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان ببطن نخلة حاصرا لغطفان ، فقال رجل منهم : هل لكم فى أن أقتل محمدا فأفتك به؟ قالوا : وددنا ذلك. فأتى النبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم متقلدا سيفه ، فوجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نازلا تحت شجرة قد تفرق أصحابه عنه ، وقد علق سيفه فى الشجرة ، فسله الأعرابى وقال : من يمنعك منى؟ وفى رواية : وجد النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم نائما فاستل السيف ، فما استيقظ النبي إلا والسيف فى يد الأعرابى ، فقال : من يمنعك منى يا محمد؟ فقال : «الله» ، فأسقطه جبريل من يده ، وأخذه النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : «وأنت ، من يمنعك منى؟» فقال : كن خير آخذ ، فعفى عنه ـ عليه الصلاة السّلام (١) ـ. زاد البيضاوي : أنه أسلم.

__________________

(١) أخرجه القصة : البخاري فى (الجهاد ، باب من علق سيفه بالشجر) وفى مواضع أخرى ، ومسلم فى (الفضائل ، باب توكله صلى‌الله‌عليه‌وسلم على الله) عن جابر رضي الله عنه.

١٦

وقيل نزلت فى صلاة الخوف حين همّ المشركون أن يغيروا على المسلمين فى الصلاة. فالله تعالى أعلم.

ثم قال تعالى : (وَاتَّقُوا اللهَ) فلا تشهدوا معه سواه ، وتوكلوا عليه يكفكم أمر عدوكم ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فإنه يكفيكم أمرهم جلبا ودفعا ، من توكل على الله كفاه.

الإشارة : ما جرى على النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم من قصد القتل والإذاية يجرى على خواص ورثته ، وهم الأولياء ـ رضى الله عنهم ـ والعلماء الأتقياء ، فقد همّ قوم بقتلهم وسجنهم وضربهم ، وإجلائهم من أوطانهم ، فكف الله أيديهم عنهم ، وكفاهم شرهم ، لمّا صححوا التوكل عليه ، وأخلصوا الوجهة إليه ، ومنهم من لحقه شىء من ذلك ، كما لحق بعض الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ زيادة فى شرفهم وكرامتهم ، جمع الله لهم بين مقام الشهادة والصديقية ، (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ).

ثم ذكر وبال من نقض العهد ترهيبا وترغيبا ، فقال :

(وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (١٢) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣))

قلت : النقيب : هو كبير القوم والمقدّم عليهم ، ينقب عن أحوالهم ويفتش عليها. والخائنة : إما مصدر ؛ كالعاقبة واللاغية ، أو اسم فاعل ، والتاء للمبالغة ، مثل : راوية ونسّابة وعلّامة.

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ) على أن يجاهدوا مع موسى ـ عليه‌السلام ـ وينصروه ، ويلتزموا أحكام التوراة ، (وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً) اخترناهم وقدمناهم ، على كل سبط نقيبا ينقب عن أحوال قومه ، ويقوم بأمرهم ، ويتكفل بهم فيما أمروا به.

روى أن بنى إسرائيل لمّا خرجوا عن فرعون ، واستقروا بأوائل الشام ، أمرهم الله تعالى بالمسير إلى بيت المقدس ، وهى فى الأرض المقدسة ، وكان يسكنها الجبابرة الكنعانيون ، وقال : إنى كتبتها لكم دارا وقرارا ، فاخرجوا إليها ، وجاهدوا من فيها من العدو ، فإنى ناصركم. وقال لموسى عليه‌السلام : خذ من قومك اثنى عشر نقيبا ، من كل

١٧

سبط نقيبا ، يكون أمينا وكفيلا على قومه بالوفاء على ما أمروا به. فاختار موسى النقباء ، فسار بهم حتى إذا دنوا من أرض كنعان ، وهى أريحا ، بعث هؤلاء النقباء يتجسسون الأخبار ، ونهاهم أن يحدثوا قومهم بما يرون ، فلما قربوا من الأرض المقدسة رأوا أجراما عظاما وبأسا شديدا ، فهابوا ورجعوا وحدثوا قومهم ، إلا كالب بن يوقنا ـ من سبط يهوذا ـ ويوشع بن نون ـ من سبط إفرائيم بن يوسف ـ ثم (قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ) إلى آخر ما يأتى من قصتهم. وأما ما ذكره الثعلبي هنا ، وغيره ، من قصة عوج بن عناق ، فقال القسطلاني : هى باطلة من وضع الزنادقة ، فلا يجوز ذكرها فى تفسير كتاب الله الصادق المصدوق.

(وَقالَ اللهُ) لبنى إسرائيل : (إِنِّي مَعَكُمْ) بالنصر والمعونة ؛ (لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي) التي أرسلت بعد موسى (وَعَزَّرْتُمُوهُمْ) أي : نصرتموهم وقويتموهم ، (وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) بالإنفاق فى سبل الخير ، (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ) أي : أستر عنكم ذنوبكم فلا نفضحكم بها ، (وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ، فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ) العهد المؤكد ، المعلق عليه هذا الوعد العظيم ، (فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ) أي : تلف عن وسط الطريق ، تلفا لا شبهة فيه ولا عذر معه ، بخلاف من كفر قبل أخذ العهد ؛ فيمكن أن تكون له شبهة ، ويتوهم له معذرة.

ثم إن بنى إسرائيل نقضوا المواثيق التي أخذت عليهم ، فكفروا وقتلوا الأنبياء ، قال تعالى : (فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ) أي : طردناهم وأبعدناهم ، أو مسخناهم ، (وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً) أي : يابسة صلبة لا ينفع فيها الوعظ والتذكير ، أو رديّة مغشوشة بمرض الذنوب والكفر.

ثم بيّن نتيجة قسوة قلوبهم فقال : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) لفظا أو تأويلا. ولا قسوة أعظم من الجرأة على تغيير كتاب الله وتحريفه ، (وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي : تركوا نصيبا واجبا مما ذكروا به من التوراة. فلو عملوا بما ذكّرهم الله فى التوراة ما نقضوا العهود وحرّفوا كلام الله من بعد ما علموه ، لكن رين الذنوب والانهماك فى المعاصي ، غطت قلوبهم فقست ويبست ، (وَلا تَزالُ) يا محمد (تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ) أي : خيانة (مِنْهُمْ) أو على طائفة خائنة منهم ، لأن الخيانة والغدر من عادتهم وعادة أسلافهم ، فلا تزال ترى ذلك منهم (إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) لم يخونوا ، وهم الذين أسلموا منهم ، (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ) حتى يأتيك أمر الله فيهم ، أو إن تابوا وآمنوا ، أو إن عاهدوا والتزموا الجزية ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) إلى عباده كيفما كانوا. ومن الإحسان إليهم : جبرهم على الإيمان بالسيف وسوقهم إلى الجنة بسلاسل الامتحان.

الإشارة : قد أخذ الله على هذه الأمة أن يلتزموا أحكام القرآن ، ويحافظوا على مراسم الإسلام والإيمان ، ويجاهدوا نفوسهم فى تحصيل مقام الإحسان ، وبعث من يقوم ببيان شرائع الإسلام والإيمان ، ومن يعرف الطريق إلى مقام الإحسان ، وقال الله لهم : (إنى معكم) بالنصر والتأييد ، لئن أقمتم شرائع الإسلام ، وحققتم قواعد الإيمان ، وعظمتم من يعرفكم بطريق الإحسان ، لأغطين مساوئكم ، ولأمحقن دعاويكم ، فأوصلكم بما منى إليكم من الكرم

١٨

والجود ، ولأدخلنكم جنة المعارف تجرى من تحتها أنهار العلوم وأنواع الحكم ، فمن لم يقم بهذا ، أو جحده فقد ضل عن طريق الرشاد ، ومن نقض عهد الشيوخ المعرفين بمقام الإحسان ، فقد طرد وأبعد غاية الإبعاد ، وقسا قلبه بعد اللين. وقد ذكرنا فى تفسير الفاتحة الكبير معنى النقباء والنجباء وسائر مراتب الأولياء ، وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق.

ولما ذكر نقض اليهود ذكر نقض النصارى ، فقال :

(وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (١٤))

يقول الحق جل جلاله : وأخذنا أيضا عهدا وميثاقا من النصارى ، الذين سموا أنفسهم نصارى ؛ ادعاء لنصرة عيسى عليه‌السلام ولم يقوموا بواجب ذلك عملا واعتقادا ، أخذناه عليهم بالتزام أحكام الإنجيل ، وأن يؤمنوا بالله وحده لا شريك له ، ولا صاحبة ولا ولد ، وأن يؤمنوا بمحمد ـ عليه الصلاة والسّلام ـ إن أدركوه ويتبعوه ، (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ) أي : نسوا ما ذكرناهم به ، وتركوا حظا واجبا مما كلفوا به ، (فَأَغْرَيْنا) أي : سلطنا (بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) ، فهم يقتتلون فى البر والبحر ، ويتحاربون إلى يوم القيامة ، فكل فرقة تلعن أختها وتكفرها ، أو بينهم وبين اليهود ، فالعداوة بينهم دائمة ، (وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ) بالجزاء والعقاب.

الإشارة : يؤخذ من الآية أن من نقض العهد مع الله ؛ بمخالفة ما أمره به أو نهاه عنه ، أو مع أولياء الله ، بالانتقاد عليهم وعدم موالاتهم ، ألقى الله فى قلب عباده العداوة والبغضاء له ، فيبغضه الله ، ويبغضه عباد الله ، ومن أوفى بما أخذه الله عليه من العهد بوفاء ما كلفه به ، واجتناب ما نهاه عنه ، وتودد إلى أوليائه ، ألقى الله فى قلب عباده المحبة والوداد ، فيحبه الله ، ويحبه عباد الله ، ويتعطف عليه أولياء الله ، كما فى الحديث : «إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل ، إنّ الله يحبّ فلانا فأحبّه ، فيحبّه جبريل. ثم ينادى فى الملائكة : إن الله يحبّ فلانا فأحبّوه. فيحّبه أهل السّماء ، ثم يلقى له القبول فى الأرض» (١) ... الحديث.

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب المقة «المحبه» من الله) ومسلم فى (البر والصلة ، باب إذا أحب الله عبدا حببه إلى عباده) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.

١٩

ثم دعا أهل الكتابين إلى الإيمان برسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال :

(يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (١٥) يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٦))

قلت : الضمير فى : (به) ، يعود إلى النور والكتاب ، ووحّده ؛ لأن المراد به شىء واحد ، لأن النور هو الكتاب المبين ، أو لأنهما جنس واحد.

يقول الحق جل جلاله : (يا أَهْلَ الْكِتابِ) اليهود والنصارى (قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا) محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ) كصفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وآية الرجم التي فى التوراة ، وكبشارة عيسى بأحمد التي فى الإنجيل ، (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ) مما تخفونه وتحرفونه ، فلم يخبر به ، ولم يفضحكم ، حيث لم يؤمر به ، أو عن كثير منكم ، فلا يؤاخذه بجرمه وسوء أدبه معه.

(قَدْ جاءَكُمْ) يا أهل الكتاب (مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ) ، عطف تفسير ، فالنور هو الكتاب المبين ، أو النور : محمد ـ عليه الصلاة السّلام ـ والكتاب المبين : القرآن ؛ لأنه الكاشف لظلمات الشك والضلال ، والواضح الإعجاز والبيان ، (يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ) أي : من اتبع رضى الله بالإيمان به ، والعمل بما فيه ، (سُبُلَ السَّلامِ) أي : طرق السلامة من العذاب ، أو طرق الله الموصلة إليه ، (وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) من ظلمات الكفر ، إلى نور الإسلام (بِإِذْنِهِ) أي : بإرادته وتوفيقه ، (وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : طريق توصلهم إليه لاعوج فيها.

الإشارة : قد أطلع الله علماء الباطن على مقامات علماء الظاهر وأحوالهم وجل مساوئهم ، ولا سيما من كان عالما بالظاهر ثم انتقل إلى علم الباطن ، كالغزالى وابن عباد وغيرهما. فقد تكلم الغزالي فى صدر الإحياء مع علماء الظاهر ، ففضح كثيرا من مساوئهم. وكذلك ابن عباد فى شرح الحكم ، وعفوا عن كثير ـ فهم على قدم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخواص ورثته ، لأنهم حازوا الوراثة كلها ، كما فى المباحث :

تبعة العالم فى الأقوال

والعابد الزّاهد فى الأفعال

وفيهما الصّوفىّ فى السباق

لكنّه قد زاد بالأخلاق

٢٠