البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ١

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٣

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله على آلائه ، والصلاة والسلام على خاتم أنبيائه ، وعلى آله وصحبه وأوليائه. وبعد ، ، ، فهذا كتاب «البحر المديد فى تفسير القرآن المجيد» للإمام البارع ، والعالم المتقن ، شيخ الطريقين وعمدة الفريقين «أبى العباس أحمد بن عجيبة الحسنى المغربي» المتوفى فى عام ١٢٢٤ ه‍.

وهو كتاب فريد فى بابه ، ولم ينسج أحد على منواله ، تشوف له أرباب القلوب والأحوال طويلا ، سلك فيه صاحبه مسلك العلماء الراسخين فى تفاسيرهم ، وزاد عليهم بما يذكره من معان إشارية دقيقة ، استشفها من آيات القرآن ، الذي لا تنقضى عجائبه ولا يخلق على كثرة الرد.

حفل هذا التفسير بالأحاديث والآثار ، وتناول القراءات القرآنية وتوجيهها ، واشتمل على مسائل الفقه والأصول ، وجمع الكثير من القضايا اللغوية واللطائف الأدبية. وتميز بحسن الترتيب ، وحلاوة العبارة ، ودقة التصوير ، وسهولة الأسلوب.

ومن أهم ما يميز هذا التفسير هو هذه المعاني الإشارية ، التي بسط المفسر الحديث فيها عن آداب السلوك ، والمقامات ؛ كالإخلاص ، والصدق ، والصبر ، والورع ، والزهد ، والرضا ، والتوكل ، والشكر ، والحب ، والكشف ، والإلهام ، والكرامات ... وغير ذلك مما يطول ذكره ، وقدّم لنا ابن عجيبة من خلال هذه الإشارات منهجا تربويا صوفيا إسلاميا متكاملا ، يسلكه من أراد أن تصفو روحه وتزكو نفسه ويحيا قلبه ، ويحظى بنور معرفة الحق تعالى.

وعلى الجملة فنحن أمام موسوعة قرآنية تفسيرية صوفية كبيرة وقيّمة ، تعد دليلا واضحا للحائرين ، ومنهجا كريما للسالكين.

ولا غرابة فى ذلك ، فابن عجيبة عالم تضلع من علوم الشريعة واللغة ، ورسخت قدمه فيها ، وخاض فى علوم التصوف ذوقا وحالا ومقاما ، وصحب أهل الأذواق والقلوب ، وسلك مسلكهم ، حتى انجلت عين بصيرته ، وتفجرت ينابيع الحكمة فى قلبه ، وكان له فى هذا المقام مدد واسع وفيض لا ينقطع.

ولأهمية هذا الكتاب ، وتفرده فى بابه ، فقد توفرت على استخراجه من أصوله ، وتحقيقه تحقيقا علميا ، وإظهاره فى صورة تكشف روائعه وتبرز كنوزه ، ومكثت فى هذا العمل خمس سنوات ، مواصلا الليل والنهار ، كنت سعيدا خلالها بما حبانى الله من شغل فى هذا العمل الشريف ، رغم أن التحقيق عمل شاق جدا ، ولا يعرف ذلك إلا من مارسه وقام به. والواقع أن كل جهد يبذل فى خدمة هذا التفسير يهون بالنسبة لقيمته العظيمة.

٥

فالحمد لله الذي يسر وأعان على إتمام هذا العمل وإخراجه فى هذه الصورة الطيبة ، وأرجو الله جلت قدرته أن يجعل جزائى عنده على ما بذلت من جهد فيه ، جزاء من بذل الوسع وأفرغ الطاقة ، ولم يدخر شيئا كان فى مكنته أن يبذله ، إنه سبحانه ولى الجزاء وهو حسبنا ونعم الوكيل.

ومن أوجب الواجبات علىّ أن أشكر هنا هذه المأثرة ، التي تفضل بإسدائها فرع الدوحة النبوية ، الأستاذ الدكتور / حسن عباس زكى ، وزير الاقتصاد الأسبق ، والداعية الإسلامى الكبير ، والعلم الصوفي الشهير. فقد تفضل ـ حفظه الله ـ بتحمل نفقات طبع هذا الكتاب ، كدأبه فى سائر المشروعات العلمية ، حرصا من سعادته على العلم ، ورغبة فى نشر الآثار الدينية القيمة ، وغيرة على ذخائر العلماء من أن تأتى عليها يد الضياع أو الإهمال. شكر الله له ، وكتب له هذه اليد الكريمة فى سجل الباقيات الصالحات ـ آمين.

وأثنّى بشكر عظيم وتقدير صادق لكل من قدّم لى عونا ومساعدة ، وأخص بالذكر أستاذى الكبير والعالم القرآنى ، الأستاذ الدكتور / جودة محمد المهدى ، عميد كلية القرآن الكريم» فقد لازم العمل من بدايته حتى نهايته ، بكل ما عرف عنه من النشاط والدأب وتحرى الدقة ، وكذلك أستاذى الكريم ، الأستاذ الدكتور / على جمعه ، أستاذ أصول الفقه بجامعة الأزهر ، فقد كانت له نظرات واعية فى التقويم والتوجيه ، كما ذلل الله على يديه كثيرا من الصعاب ، متّع الله الأمة بهذين الرجلين العلّامتين العارفين البركتين ، وجزاهما الله عن العلم وأهله خير الجزاء.

كما أرفع أسمى آيات الشكر والتقدير لوالدى ، السيد الشريف ، والعالم العارف ، الأستاذ الشيخ / عبد الله القرشي ، لقاء ما أسدى من نصح وبذل من توجيهات ، وما عملى فى هذا الكتاب إلا أثر من آثار فضله وعلمه منحه الله العافية ورضى عنه. كما أشكر الأخ الكريم الدكتور / عثمان رسلان ، على ما بذله من جهد ، وما أبداه من ملاحظات وإشارات ، فبارك الله فيه وأثابه.

وبعد فإننى أقدم هذا الكنز الثمين ، داعيا الله العلى القدير أن يجعله عملا خالصا لوجهه الكريم ، وأن ينفع به.

ربّ إنى أبرأ إليك من الحول إلا بك ، وأسألك المزيد من فضلك ومعونتك ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم ، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين ،،،

أحمد عبد الله القرشي رسلان

٦

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

بقلم الأستاذ الدكتور / حسن عباس زكى

نحمدك اللهم ، فاتح كنوز الغيب للصفوة من عبادك ، مانح فيض علمك للخلاصة من خلقك ، فاستودعت قلوبهم خفىّ سرك ، وأشهدت أرواحهم حقيقة أمرك ، فكانوا أعرف عبادك بمضمرات إشاراتك ، وأفهمهم لمعانى كلامك ، فإن نطقوا فهم تراجمة لوحيك ، وإن عبّروا فهم ألسنتك تخبر بمرادك ، وإن فاهوا فإنما يفصحون عن بديع حكمك. أعززتهم بما توجتهم من العلم والعرفان ، فعزّوا على الناس بما خصوا به من أسرار معجم القرآن ، وحلّهم لطلاسم ورموز الفرقان.

ولمّا لم يسعف العقل بعض الناس بفهم تلك الإشارات ، ولم يحيطوا بإدراك تلك المذاقات ، أنكروا مقالهم ، وجحدوا حالهم ، وغاب عنهم اختصاصهم ، وفاتهم أن الحق هو المتكلم فيهم ، وأنهم مشيرون به ، أو هو المشير بهم ، «فاذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ، ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشى بها ، وإن سألنى أعطيته ، ولئن استعاذنى لأعيذنّه» (١) ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ، (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢).

ونصلى ونسلم عليك يا عين الحقائق ، ويا قرآن جمع العلم والمعلوم ، ويا فرقان الشرائع والعلوم ، أنزل عليك ربك كتابا فى عالم الظهور ، أنت سره وحقيقته ، فكنت تعاجل جبريل به قبل النزول ، كتابا منه آيات محكمات ، هن أم الكتاب ، يفهمها الخصوص والعموم ، وأخر متشابهات ، يختص بفهمها أولو العلم الراسخون. صلى الله عليك وعلى آلك وأحبابك مشارق شموس العرفان ، ومطالع كواكب الحقائق. المتبرءون من الأوهام والظنون ، ما كرّت الأيام ومرت الدهور والسنون.

(أما بعد) : فإن القرآن كلام الله ، وكلام الله صفته النفسية ، والصفة تدل دلالة واضحة على الموصوف ، وكما أن الموصوف ـ وهو الحق سبحانه ـ لا تدرك حقيقته فكذلك صفته .. لهذا وقفنا أمام كلام الله حائرين ، لا نجزم بتحديد مراميه ، ولا نقطع بأن ذلك التفسير عين مراد الحق منه ؛ لأن كلام الله القديم ، إنما يفسره المفسرون بلغتنا

__________________

(١) الحديث أخرجه بطوله البخاري فى (الرقاق ، باب التواضع) من حديث أبى هريرة رضى الله عنه.

(٢) من الآية ٢٦٩ من سورة البقرة.

٧

العربية المحدثة ، بناء على مدركات عقولهم البشرية. واللغة العربية من صنع المخلوق ، وكلام المخلوق محدود ؛ لأنه يعبّر عن محدود ، ومحال أن يحيط بالتعبير صنع المخلوق المحدود عن كلام الله وصفته ، التي لا تحدها الحدود.

وإذا كان أساطين اللغة والأدب يرون أن اللغة العربية على كثرة مترادفاتها ، وضخامة معاجمها ، وغزارة ما تحتويه من ألفاظ ، واحتشاد تراثها بالمجازات والكنايات ، عاجزة عن التعبير عن مشاعر الإنسان وأحاسيس البشر ، فإنها ـ والقياس غير جائز ـ لعن تحديد المراد من كلام الله وقرآنه أعيى وأعجز.

ومن هنا كان القرآن حمالا لوجوه عدة من المعاني ، وكان أمرا طبيعيا ما يتجدد فيه كل يوم من فهوم ، وستظل تلك المعاني تتجدد إلى ما شاء الله ، وسيبقى القرآن معها كما هو ، لا تبلى جدته ، ولا يكشف عن حقيقة مراده.

وليس غريبا بعد ذلك أن يذهب المسلمون مذاهب شتى فى تأويله ، فالمفسرون من علماء الشريعة يقفون عند ظاهر اللفظ ، وما دل عليه الكلام من الأمر والنهي ، والقصص والأخبار ، والتوحيد وغير ذلك. وأهل التحقيق ، أو الصوفية ، يقرون تفسيرهم هذا ، ويرونه الأصل الذي نزل فيه القرآن. ولكن لهم فى كلام الله ـ مع الأخذ بهذا التفسير الظاهري ـ مذاقات لا يمكنهم إغفالها ؛ لأنها بمثابة واردات ، أو هواتف من الحق لهم.

فلا ينبغى أن نقف القرآن على تفسير معين على أنه المراد ، فلا نقول كما يقول البعض : إن التفسير الظاهري وحده هو المقصود ، كما لا يرى أهل التحقيق أن تفسيرهم وحده هو المراد ، لأن القول بالتفسير الظاهري وحسب ، تحديد (لكلام الله) غير المحدود ، وإخضاع القرآن للغة التي مقياسها العقل المحدود ، والوقوف فى تفسير كلام الله عند العقل المحدود عقال عن الانطلاق فيما وراء الغيوب ، وإغلاق الباب لمذاقات ليس العقل مجالها ، لأنها لا تخضع لمقاييسه وإنما تخضع لشىء آخر فوقه ، وتدرك بلطيفة أخرى سواه.

إذن فهناك ما فوق العقل ، ألا وهو القلب.

وليس المقصود بالقلب قطعة اللحم الصنوبرية ، وإنما المراد به تلك اللطيفة النورانية الربانية.

إنه القلب الذي لا تحده الحدود ، لأنه عرش استواء تجليات الرب على مملكة الجسم. قال رب العزة فى حديثه القدسي : «ما وسعني سمائى ولا أرضى ولكن وسعنى قلب عبدى المؤمن» (١) وهو القلب الذي اختصه الله

__________________

(١) أخرجه الديلمي (الفردوس ٣ / ١٧٤ ح ٤٤٦٦) من حديث أنس بن مالك ، بلفظ : «لا يسعنى شىء ، ووسعني قلب عبدى المؤمن اللين ...» الحديث ، وانظر : إتحاف السادة المتقين ، للزبيدى (٧ / ٢٣٤) وكشف الخفاء للعجلونى : (٢ / ١٩٥ ح ٢٢٥٧).

٨

بالأسرار ، والذي يجب أن يستفتيه الإنسان إذا حار. سأل وابصة بن معبد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن البر والإثم ، فقال : «يا وابصة استفت قلبلك ، البر ما اطمأنت إليه النفس ، واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك فى القلب وتردد فى الصدر ، وإن أفتاك الناس وأفتوك» (١).

ذلك هو القلب المراد ، وله لغته ، كما أن للعقل لغته. وإذا كانت لغة العقل تدرك بالألفاظ ، ويعبّر عنها بالكلمات ، فلغة القلب تدرك بالذوق ؛ لأنه لا يحيط بالتعبير عنها اللفظ. ولنقرب إلى الفهم ؛ فلغة القلب مثل التفاحة .. فلن يستطيع من أكلها وأحس حلاوتها أن يترجم باللفظ أو يعبّر بالوصف لمن لم يأكلها قبل عن طعمها ومذاقها. وهكذا لا تدرك لغة القلب بوصف أو بلفظ ، وإنما يدركها ذو قلب متذوق. ولذلك لا تحيط بالتعبير عن لغة القلب العبارة ، وإنما يعبّر عنها بالإشارة. فالإشارة ترجمان لما يقع فى القلوب من تجليات ومشاهدات ، وتلويح لما يفيض به الله على صفوته وأحبابه ، من أسرار فى كلام الله وكلام رسوله.

ومن هنا كانت مذاقات الصوفية وأهل التحقيق فى قرآن الله الكريم وكلامه القديم .. وهم لا يرون أن تلك المذاقات وحدها هى المرادة ، وإنما يأخذونها إشارات من الله لهم ، بعد إقرار ما قاله أهل الظاهر من تفسير باعتباره أصل التشريع.

وجلى بعد ذلك أنه لا مجال لمعترض ممن ينكر عليهم مذاقاتهم ، ويراها ميلا بكلام الله عن مجراه ، ماداموا لا يأخذون بمذاقاتهم وحدها ، وإنما يأخذون بها مع إقرارهم لتفسير أهل الشرع. فلا يعنينا من ذى جدل أن يقول عن هذه الإشارات : إنها إحالة لكلام الله عزوجل ، وتغيير لسياقه ومجراه ؛ لأن ذلك يصدق لو قالوا : إنه لا معنى للآية إلا هذا ، وهم لا يقولون ذلك ، بل يقرون الظواهر على ظواهرها ، ويفهمون عن الله ما أفهمهم.

وذلك مصداق الحديث الشريف : «لكل آية ظاهر وباطن وحدّ ومطلّع» (٢) فالباطن لا يعارض الظاهر ، والظاهر لا يعارض الباطن ... وذلك النهج بعيد كل البعد عما نادى به (الباطنية) من الأخذ بباطن القرآن لا ظاهره ، وقصرهم معانى القرآن على ما ادعوه من تفسيراتهم دون غيره ، لأنهم بذلك لا يقرون الشريعة ويبطلون العمل بها. وهم لا يخضعون دعواهم للنص القرآنى ، بل يخضعون النص القرآنى لدعواهم.

وهنا يزول ما التبس على البعض من أن مذاقات الصوفية فى القرآن الكريم نزعة باطنية ، فبينهم وبينها آماد وأبعاد ، بل إنهم لبريئون منها ، وينكرونها كل الإنكار ، وواضح ذلك من أنهم يأخذون بالباطن بعد الأخذ بالظاهر ،

__________________

(١) أخرج حديث وابصة ، الإمام أحمد فى المسند (٤ / ٢٢٨).

(٢) أخرجه الطبري فى تفسيره (١ / ٢٢) وابن حبان (الإحسان ١ / ١٤٦ ح ٧٥) والبزار (كشف الأستار ، باب كم أنزل القرآن فى حرف ٣ / ٩٠ ح ١٣١٢) من حديث عبد الله بن مسعود. وعزاه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ٢٧٢٧) للطبرانى فى الكبير.

وأخرجه البغوي فى شرح السنة (ح ١٢٢) عن الحسن البصري مرسلا.

٩

ويقرون الحقيقة بعد الأخذ بالشريعة. ويرون أن الحقيقة نفسها أساسها الشريعة ، فالفرق ثمة كبير ، والبون شاسع وعظيم.

ولا مجال بعد هذا الإيضاح لإنكار من ينكر على الصوفية مذهبهم فى الإشارات ، وما يختصهم الله به فى كلامه وكلام رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الأسرار والفيوضات.

على أن تلك الإشارات أمر مشروع ، أقره الحديث المذكور آنفا : «لكل آية ظاهر وباطن وحد ومطلع» ، فأربابها متبعون لا مبتدعون ، اختصهم الله بأسراره فى آياته ، ليكونوا مصابيح الهدى فى غسق الدجى ، كما أقره عمد الدين ، وذوو العلم من المؤلفين.

قال سعد الدين فى شرح العقائد النسفية : «وأما ما يذهب إليه بعض المحققين من أن النصوص على ظواهرها ، ومع ذلك فهى إشارات خفية إلى حقائق تنكشف لأرباب السلوك ، يمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة فهو من كمال الإيمان ومحض العرفان». وقال الشيخ زروق رضى الله تعالى عنه : «نظر الصوفي أخص من نظر المفسر وصاحب فقه الحديث ، لأن كلا منهما يعتبر الحكم والمعنى ، ليس إلا ، وهو يزيد بطلب الإشارة بعد إثبات ما أثبتاه».

فإذا دار المفسرون فى حدود اللفظ القرآنى ، واستنبط منه الفقهاء ما استنبطوا من أحكام ، فلأولى الألباب وذوى البصائر فيه بعد ذلك من الأسرار والحقائق ، ما لا ينكشف لسواهم ، ولا يدركه غيرهم. وذلك لتجدد واردات الحق عليهم ، ودوام تنزل الفيوضات على قلوبهم ، لأنهم أهله ومحبوه.

ثم إن فيض الله المتجدد فى كلامه لهم لمما يزيد فى كمال إعجاز القرآن ، ويؤكد أن إعجازه أسمى من أن يكون فى فصاحة لفظه ، وقوة أسره ، وبلاغة أسلوبه ، وإنما إعجازه فوق ذلك ؛ فى أسراره ومعانيه ، ومراده ومراميه. وأهل الله أولى الناس بتفهم مراده ومعرفة مرامى كلامه ، ومن ثمّ كان ما ينكشف لهم فى كلام الله من أسرار بمثابة إشارات لهم ـ وحدهم ؛ لأن الإشارة لغة المحب مع المحبوب ، والإشارة بعد ذلك تلويح للمراد ، لا إفصاح عنه ، لعدم قدرة الألفاظ على تحمل المراد؟ لأن العبارة تحدد ما يشيرون إليه ، وما يشيرون إليه إنما يكون عن مشاهدة. وما يشاهدونه ليس بمحدود ؛ إذ هو من عالم الغيوب ، فلا اللفظ قادر على تحديد المراد ، ولا قابليات العقول تطيق ذلك. ومن ثمّ سميت مذاقاتهم فى القرآن إشارات ، ولم تسم تفسيرا.

وقد تحلى القرآن الكريم بمثل تلك الإشارات من رموز الحواميم و «الم» و «طسم» ... إلخ ، وهى إشارات بين الحق ورسوله ، أو «شفرات» ـ بالتعبير الحديث ـ بين المحبوب وحبيبه ، ولا يعرف حلها إلا من لديه مفتاحها.

ومفتاح تلك «الشفرات» وفهم تلك الإشارات فى حوزة من لديه الفهم لمراد المشير ، وهم ـ بعد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ورثته

١٠

من العلماء بالله وأوليائه. نقل عن الصالحين أن الله تعالى لمّا أنزل على سيد العالمين صلى‌الله‌عليه‌وسلم قوله تعالى : (كهيعص) قال جبريل عليه‌السلام : (ك) قال النبي ـ اللهم صلى عليه ـ : عرفت قال جبريل عليه‌السلام : (ه) ، قال : ـ اللهم صلى عليه وآله ـ عرفت ، قال جبريل : (ى) ، قال : عرفت ، قال : جبريل : (ع) قال : عرفت ، قال جبريل : (ص) ، قال النبي : عرفت ، قال جبريل : عرفت وأنا لم أعرف ، سبحان من أعطاك. ومن هنا فهم أبو بكر الصديق رضى الله عنه وحده مقالة الرسول ـ عليه الصلاة والسلام ـ حين نظر إليه ، وقال : (أتذكر يوم لا يوم)؟ فقال نعم ، ولم يفهمها غيره من الصحابة الحاضرين. ولما سئل الصديق رضى الله عنه عن ذلك ، قال : «إنه يوم الميثاق».

ولا عجب فيما ينكشف لأرباب الإشارات من فيوض فى قرآن الله ، أو حديث رسوله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ، فمازال المفسرون يتجدد لهم فى كلام الله كل يوم معان لم تسبق ، لا ينكرها الناس ، بل إليها يستريحون ، ففيم الإنكار على أرباب الإشارات ، وهم عن الله مشاهدون ، ولهم منازلات ومقامات ، فيتكلمون بما يشاهدون فى منازلاتهم ، وينطقون عما يرون فى مقاماتهم؟

أجل : معذور من ينكر عليهم ، لأنه لم يذق ما ذاقوا ، فلو ذاق لعرف ، وينبغى ألا يغيب عنه أن تلك الإشارات بمثابة اصطلاح يفهمه أهل التحقيق ، ولا يجدر أن يعارضهم فى اصطلاحهم اصطلاح جماعة أخرى مادام لكلّ اصطلاحه.

فالحق أن كلام الله نور يرسل إلى القلوب ، وهى أوعية يتلون ذلك النور بلونها .. وكلّ يرسل بتفسيره شعاعا حسب استعداده وقابليته وما استودع فيه.

على أن أهل التحقيق لا يدعون أنه محال على غيرهم ما يفاض به عليهم ، ولكنهم يعتقدون أن كل إنسان لديه الاستعداد لما عندهم ، غير أنهم فتحوا عيون قلوبهم ، فاطلعوا على ما اطلعوا من أسرار ، وغيرهم فتحوا نوافذ تفكيرهم فوقعوا فى الحيرة والوهم ، وقاسوا بعقولهم مذاقات تلك القلوب فأنكروها ، ولو أن عيون قلوبهم كأهل الله ، لكان ما استغربوه أمرا عاديا ، بل لاعتقدوا اعتقادا جازما ما أنكروه.

فليع كلّ ذى لب قدر هؤلاء الصفوة من أهل التحقيق ، وليدرك أنهم ملهمون إن نطقوا ؛ فلا ينطقون بأنفسهم ، وإن أشاروا فمحرّك الإشارة فيهم مولاهم. وارجع إلى الصدر الأول من عصر المسلمين الزاهر ، تجد أن من أئمة هؤلاء الملهمين سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه ، والذي قال فيه رسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ : «إن من أمتى مكلمين ومحدثين ، وإن عمر منهم».

ومنهم الإمام على بن أبى طالب رضى الله عنه ، الذي أشار إلى صدره بعد أن تأوه مرتين ، ثم قال : «إن هاهنا علوما جمة .. لو وجدت لها حملة!!». ويروى عنه أنه قال : (لو شئت لأوقرت من تفسير الفاتحة سبعين بعيرا) ، أولئك هم

١١

علماء الله بحق ، الذين عناهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إن من العلم كهيئة المكنون ، لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى ، فإذا نطقوا به لا ينكره إلا أهل الغرة بالله عزوجل».

ذلك نذر يسير مما عليه أهل الإشارات من مكانة ، وقدر ضئيل مما شرفهم الله به من منزلة. ونستطيع بعد ذلك أن نعرض من مميزات وخصائص علم الإشارات ما يأتى :

١ ـ علم الإشارات لا ينظر إلى قصص الأنبياء فى القرآن الكريم على أنها قصص انتهت بانتهاء أممهم ، وأن تلاوتها الآن للعظة والاعتبار ، فحسب ، وإنما يرون مع ذلك أن الخطاب بها مازال قائما ، يوجه إلى الإنسان فى كل عصر وأوان ، باعتباره مملكة الله الصغرى ، التي انطوى فيها العالم كله ، فمثلا يرمزون لموسى بالقلب أو الروح ، وإلى فرعون بالنفس.

وبذلك يكون القرآن فى حالة تجدد نزول ، لم ينته الخطاب بانتهاء زمانه ، باعتباره كلام الله وصفته القائمة بذاته ، وتظل بذلك صفة الكلام قائمة غير معطلة ، لم تنته بنزول الكتب السماوية ، فمازال الحق سبحانه متكلما أبدا.

٢ ـ علم الإشارات يكشف عن صدق أهله مع ربهم ، وأمانتهم عند الحديث عن كلامه ، فكل ما قاله القرآن وما تناولته ألفاظه من أداء ، هو فى مذهبهم حقيقة ، لا يعرفون مجازا ، ولا يلجئون إلى كناية ، لأنهم بما شاهدوا وذاقوا يدركون هذه الحقائق. ولمّا كانت تلك مواجيد وأذواق لا يمكن نقلها إلى الغير بعبارة رمزوا لها وأشاروا ، ومن هنا أنكر عليهم من أنكر ، أمّا من شاهد مثلهم فقد عرف ما عرفوا ، بل ربما تجدد له من ذلك مشهد أو حقيقة أو مذاق.

وهكذا نرى أن أهل الله أمناء على كلامه ؛ دفعتهم غيرتهم على محبوبهم ، وعظيم احترامهم لجنابه ، وإكبارهم لكلامه ، ألا يميلوا عن منطوق ألفاظه إلى مجاز أو كناية ، خشية البعد عن مراده. ولم اللجوء إلى المجاز مادام للحقيقة عندهم مخلص؟ فهم لا يرون فى قوله سبحانه : (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) (١) أن السؤال لأهلها فحسب ، بتقدير مضاف ، كما قيل ، أي : واسأل أهل القرية ، وإنما السؤال للقرية بكل ما فيها ، ومن فيها ، ماداموا يشاهدون تسبيح الجماد ونطق الحيوان. واقرأ إن شئت قوله تعالى : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ) (٢) وقوله : (يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ) (٣) وقوله فى حق السماء والأرض : (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) (٤) (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) (٥) إلى غير ذلك من الآيات والأحاديث. وعلى ذلك فلا يكون سؤال القرية قاصرا على أهلها ، لأنه سؤال لما فيها ومن فيها. والمخاطب بذلك لو كانت لديه الخصوصية لخاطب القرية بكل ما تحتويه من كائنات.

__________________

(١) من الآية ٨٢ من سورة يوسف.

(٢) من الآية ٤٢ من سورة الإسراء.

(٣) من الآية ١٠ من سورة سبأ.

(٤) من الآية ١١ من سورة فصلت.

(٥) من الآية ٢٩ من سورة الدخان.

١٢

وثمة مثال ثان : فهم لا يعترفون بأن كلمة فى القرآن وضعت مكان كلمة أخرى أو بمعناها ؛ ففى قوله جل شأنه : (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ) (١) لا يرون أن «عن» بمعنى «من» تمشيا مع إنابة حروف الجر بعضها عن بعض ، وإنما ينظرون إلى منطوق اللفظ نفسه ، وهو «عن ،» ففى اللغة تفيد معنى المجاوزة ، ويكون المراد ـ والله أعلم ـ : أن الحق يقبل التوبة متجاوزا عن عباده فى توبتهم لعدم خلوصها ، رحمة منه بهم ، وذلك المعنى لا شك أبلغ وأفصح.

على أن فى مذهب أهل الإشارات حلا لكل العقد ، وحسما للخلافات ، وزوالا للشبه والريب من مسائل الكسب والاكتساب ، والجبر والاختيار ، والنعيم والعذاب للجسم أو للروح .. إلخ.

كل هذا وغيره من خلافات أهل علم الكلام والعقائد لا ظل له عندهم ، لأنهم اطلعوا على سر الله فى أقضيته ومقدراته ، وتحققوا بذلك ، فاستراحوا ، وملأت قلوبهم السكينة ، وأفئدتهم الطمأنينة ، فاستشعروا فى حياتهم من السعادة ما لم يذقه غيرهم. ذلك لأنهم فتحوا عيون قلوبهم ، ولم يقيسوا بعقولهم ، لأن العقل مجاله محدود ، لا يكشف مهما كانت قدرته عما وراء الغيوب ، وإلا فبم يعلل العقل رؤية نبينا لموسى ـ عليهما الصلاة والسلام ـ مرتين فى قصة الإسراء والمعراج ؛ مرة ببيت المقدس ، وهو يصلى وراءه ، وأخرى فى السماء ، وهو يراجعه فى أمر الصلاة ، مع أن موسى لم يترك قبره ، ولم يفارق مثواه. والعقل يحار أيضا أمام حديث سجود الشمس تحت العرش كل يوم ، وأنها لا تطلع حتى يؤذن لها بالطلوع ، مع أنها لا تغيب عن الكون لحظة. وشبه ذلك كثير من الأمثلة.

هذا وفى سوق الواقعة الآتية ما يجعلك تلمس أن أهل التحقيق هم الذين يفهمون عن الله ورسوله ما لا يفهمه غيرهم ، وأنّ من رحمة الله بعباده أن يكونوا بينهم ، وإليك الواقعة :

اشتكى رجل مرضا حار فيه «نطس» الأطباء ، فرأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم يرشده إلى أن يأخذ من ثمرة شجرة (لا ولا) ويستعملها ففيها شفاؤه. وحار الرجل فى تفسير رؤياه ، وحار معه فى حل رمزها علماء العصر ، حتى شاء الله له الخير ، فالتقى برجل من أهل التحقيق ، فأجابه على الفور : أمرك يسير ، علاجك فى شجرة الزيتون فهى التي يقول الله فيها : (لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ) (٢).

تلك ـ أيها القارئ ـ ومضة خاطفة من قبس أنوار أهل التحقيق ، ومكانتهم عند ربهم ، وجولة سريعة فى علم الإشارات ، ومذهب أهله ، عرضناها عليك. ألمعنا بها إليك كتمهيد للسفر الجليل والكنز الثمين الذي نحن بصدد الحديث عنه ، والذي ظل طىّ الكتمان ودفين النسيان ، حتى قيّض الله له باحثنا أمينا ، له فى هذا العمل ، من الشباب القوة ، ومن الشيوخ الخبرة ، فأخرجه إلى النور ، وهيأه للنشر والظهور.

والآن يسعدنى أن أقدم للمسلمين فى مشارق الأرض ومغاربها عامة ، ولذوى الألباب والبصائر خاصة ، ولكل باحث متصوف : تفسير القرآن ، للعالم والداعية الكبير «ابن عجيبة» وهو نموذج من نماذج فيوضات أهل التحقيق ،

__________________

(١) من الآية ٢٥ من سورة الشورى.

(٢) من الآية ٣٥ من سورة النور.

١٣

ومذاق من مذاقات أولى الإشارات ، وأرباب السلوك ، وأصحاب الطريق. ففيه تذكير بأن ما عزب عن الأفهام دركه من أسرار التفاسير الصوفية الأخرى الدسمة ، لا يمسها بالعيب والطعن ؛ لقصور العقل عن النهوض باستشراق ما أطلع عليه أهلها من أسرار ، فكم من مذاقات تناولها بالعقل متناولوها فمسخوها ، ووصلوا بأهلها إلى الحلول والإلحاد ، وهم بعقائدهم النقية أبعد الناس عن ذلك ، ومن الجور الفادح أن نلبسهم بذلك ثياب الملحدين ، ونرميهم بالكفر أو الانحراف عن سواء السبيل.

ومن مميزات ذلك التفسير أنه يكشف عن مشارب القوم ، ونهج الصوفية فى استمدادهم من الحق تعالى ، فى كل ما يأتون من مواجيد ، فهو يدلّل خلال قراءته ـ فى وعى ـ على أن كل صغيرة وكبيرة من مفاهيم الصوفية لها أصل من القرآن أو سند من السنّة ؛ لأن قلوبهم مرايا صافية ، يسطع عليها نور الحق ، ومحال أن تعكس ما لا يرضى الحق. فليس الصوفية فى الواقع إلا روافد تستقى من ينبوع الشريعة ومعينها الطيب ، غاية الأمر أنهم ملهمون بتجلى الله عليهم فى كلامه ، بالجديد من أسرار ، وتجليات الله لا تتناهى. ووقف غيرهم عند المسطور المتوارث ، فداروا فى نطاقه ، ولم يتجاوزوا حدوده.

هذه نبذة عاجلة عن الكتاب وبعض مميزاته. أما عن المؤلف فقد تناول محقق التفسير ما فيه الكفاية والغنى عن البيان. وأبرز استعداده الفطري وحافظته الواعية ، وذكاءه النادر ، ما كان سبيلا إلى أن يحصل من دراسته الأدب والعلوم العقلية والنقلية ، دينية وغير دينية ، ما جعله كنزا للعلوم والآداب ، عدا موهبة سخية فى نظم الشعر ، وتذوق الأسلوب العربي ، وعقيدة نقية فى تمسكه بمذهب أهل السنة ، لم يشبها ما خاض فيه من علم الكلام وخلافات أهله.

فالمؤلف ـ رحمه‌الله كان مؤهلا أن يدرس الأسلوب القرآنى ، ويستخرج منه ما يستخرج من إشاراته. والحق أن تلك الإشارات ليست وليدة دراسة العقول ، وإنما هى وليدة الإلهامات بعد فتح عيون القلوب. وفيما سبق من توضيح ذلك ما يغنى عن تكرار التبيان.

فإن كان لإمامنا ابن عجيبة ما سبق من شهرة علمية ودينية وأدبية ولغوية وعقيدية ، فذلك سمة من السمات الدالة على أن رجال الله يعدّهم قبل أن يختارهم لحضرته ، ليعزهم بعزته ، ويكونوا خلفاءه ـ بحق ـ فى أرضه ، يخاطبون كلّا حسب استعداده ، فتملأ هيبتهم كلّ فراغ ، ويكونون فرسان الحلبة فى كل ميدان ومجال.

على أن تلك الكنوز العلمية المكتسبة التي اشتهر بها إمامنا «ابن عجيبة» ليست شرطا فيمن يختارهم الله من رجاله ، فمن شاءه وليا ، وأراده له حبيبا علّمه من علمه اللدني ، حتى ولو كان أميا. وسيدى «عبد العزيز التباغ» صاحب الإبريز المشهور ، وسيدى «على الخواص» شيخ الإمام الشعراني وغيرهما من فحول الصوفية ، خير مثال لذلك ، وبذلك تصدق المقولة المشهورة : (ما اتخذ الله من ولى جاهل ، ولو اتخذه لعلمه).

والآن أعدك أيها القارئ الكريم لذلك الكتاب العظيم لتدرك بنفسك نفائسه ... وأختم حديثى تيمنا ـ بترديد الكلمة المباركة التي كانت أول خطاب من الله لرسوله ـ عليه الصلاة السلام ـ أول بعثته فأقول لك : (اقْرَأْ).

د. حسن عباس زكى

١٤

كلمة

أ. د. / جودة محمد أبو اليزيد المهدى

عميد كلية القرآن الكريم بطنطا

الحمد لله الذي أنزل من حضرة ربوبيته على قلب أعظم رسله هذا القرآن العظيم ، هدى ونورا ، وجعله معجزة المعجزات ، وجامع حقائق حضرات الذات والصفات والأسماء والأفعال ، فسطرت فيه أسرار الوجود تسطيرا.

والصلاة والسلام على أكمل خلق الله ، سيدنا محمد ، الذي تجلى عليه مولاه باسم (الرحمن) ، فعلّمه القرآن ، وأرسله بالحق بشيرا ونذيرا ، وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا. اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد ، وعلى آله وأصحابه ، وورثته القرآنيّين ، الذين أشربوا حب القرآن ، وتدبروا آياته ، وغاصوا فى بحار معانيه ، واستخرجوا جواهر حقائقه ، ودرر أسراره ، فنالوا فضلا كبيرا. رضى الله عنهم ، وسلك بنا مسلكهم ، وحشرنا فى زمرتهم ، ولقّانا بهم نضرة وسرورا.

أما بعد :

فقد أدرك الفقهون عن الله تعالى أن ذروة الفضل ، وذؤابة الشرف ، وجوهر السعادة فى التعلق بكتاب الله تعالى ، الذي هو حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وهو مأدبة الله تعالى ، ودستوره الخالد ، والمحيط الجامع لأنواع العلوم والمعارف ، والمنهاج الأعظم للتربية والتحقق ، ومن ثمّ تبتلت قلوبهم فى محراب التنزيل ، وعكفوا على تدبر آياته واستكناه أسراره لاستخلاص حقائق الوجود من مشكاة عرفانه.

لقد أذعنوا لقول الحق تعالى : (ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ) (١). ولقوله عز من قائل : (وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ) (٢). وأيقنوا بمقولة حبر الأمة ، سيدنا عبد الله بن عباس ـ رضى الله تعالى عنهما ـ : «جمع الله فى هذا الكتاب علوم الأولين وعلوم الآخرين ، وعلم ما كان وعلم ما يكون ، والعلم بالخالق ـ جل جلاله ـ فى أمره وخلقه» (٣).

وقد تعددت وتنوعت منازع ومناهج المشتغلين بتفسير كتاب الله تعالى.

__________________

(١) سورة الأنعام / ٣٨.

(٢) سورة النحل / ٨٩.

(٣) انظر : جامع الأصول لابن الأثير : ٨ / ٤٦٤ : حديث رقم / ٦٢٣٣.

١٥

فمنهم من توفرت هممهم على جمع المأثور فى تفسيره من السنة النبوية ، وأقوال السلف الصالح ، من الصحابة والتابعين وتابعيهم ، دون إعمال للرأى ، أو مع إعماله بضوابطه. ومنهم من صرف وكده فى تفسيره إلى الجانب اللغوي ، فبرزت إلى الصعيد التفسيري مدارس التفسير اللغوي ، والنحوي ، والبلاغى ، والبياني بألوانها الشائعة المعطاءة. ومنهم من آثر المتجه الكلامى العقدى ، فحفل تفسيره بخوض عباب المباحث العقدية ، ونصرة مذهبه على المذاهب الأخرى ، فى شتى القضايا الكلامية ، فكانت موسوعات تفسيرية فى هذا الجانب. ومنهم من جنح فى تفسيره إلى الجانب الفقهي المذهبى ، فكان اللون المعروف بتفاسير الأحكام ، وكل منها فى مذهب بعينه ، وقد استخدمت فيه القواعد الأصولية. ومنهم من غلب عليه الطابع القصصى ، فتوسع فى الروايات والآثار فى معالجة قصص القرآن الكريم ، ما بين صحيح ودخيل.

وهكذا اتخذ المشتغلون بالتفسير طرائق قددا ، ومنازع شتى ، ومناهج متنوعة ، ما بين تحليلي ، وموضوعى ، ومقارن ، وتاريخى ، واستقرائى. وكلها حقق للمكتبة التفسيرية ثراء حافلا فى تناول كتاب الله الخاتم ، لم ينله ولم يدن منه فى تاريخ الوجود توفر على كتاب سواه ، وذاك من لوازم حقيّته ومصداقيته وإعجازه.

* بيد أنه ـ مع كل ذلك ـ لا يبلغ البناء التفسيري كماله وتمام مصداقيته فى تحقيق وفاء معانى التنزيل بتفسير حقائق الوجود بأسرها إلا بإعمال المنهج الصوفي الإشارى فى التفسير ، وإحراز نتاج (علم الموهبة) الذي اعتده أساطين علوم القرآن الكريم وتفسيره علما أساسيا ومصدرا رئيسا للمفسر ، ضمن العلوم الخمسة عشر التي يحتاج إليها المفسر ، حيث ذكره الإمام السيوطي ـ رضى الله تعالى عنه ـ فى ختامها ـ بالإتقان ـ قائلا : (الخامس عشر : علم الموهبة : وهو علم يورثه الله تعالى لمن عمل بما علم ، وإليه الإشارة بحديث (١) : «من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يعلم» ـ ثم قال : قال ابن أبى الدنيا : وعلوم القرآن وما يستنبط منه : بحر لا ساحل له.

قال : فهذه العلوم ـ التي كالآلة للمفسر ـ لا يكون مفسرا إلا بتحصيلها ، فمن فسر بدونها : كان مفسرا بالرأى المنهي عنه ، وإذا فسر مع حصولها لم يكن مفسرا بالرأى المنهي عنه) (٢).

أجل : إن التفسير القرآنى بدون الوقوف على الجانب الإشارى ، الذي يسبر باطن العبارة القرآنية بالكشف الذوقى العرفانى ، ليفتقد تلك الثمرة اليانعة ، والروعة الرائعة ، التي يمتن بها الحق تعالى على أوليائه العارفين ، الذين طهرت قلوبهم وأرواحهم ، بعد إماتة نفوسهم بسيف الجهاد الأكبر ، فعلمهم الحق من لدنه علما ، وأتاح لطلاب

__________________

(١) أخرجه الحافظ أبو نعيم ، عن سيدنا أنس رضى الله عنه ، وخرّجه عنه العجلونى فى كشف الخفاء ص ٣٦٥.

(٢) الإمام الحافظ : سيدى جلال الدين السيوطي ـ رضى الله تعالى عنه : الإتقان فى علوم القرآن. بتحقيق : محمد أبى الفضل إبراهيم : (٤ / ١٨٨) ط / المشهد الحسيني.

١٦

المعرفة وعشاق الحقيقة أن ينهلوا من رحيقه ، بالمثول فى رحابهم ، واقتطاف الأزاهير من بساتينهم ، فيكتمل المفاد التفسيري بإحراز التعرف إلى الباطن القرآنى ـ بالمفهوم السنّى لا الشيعي للباطن ـ إلى جانب معرفة الظاهر والحد والمطلع ، فتلك روافد العطاء المعرفى للقرآن الكريم ، كما بيّنها الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وسلم بقوله : «إن للقرآن ظهرا وبطنا وحدا ومطلعا» (١).

فالمراد بالظهر : ما يظهر من معانى التنزيل لأهل العلم بالظاهر. والمراد بالباطن : ما يتضمنه من الأسرار التي اطلع الله تعالى عليها أرباب الحقائق. فالبطن روح الألفاظ ، أي : الكلام المعتلى على المدارك الآلية بجواهر الروح القدسية. والحد : مراد به : أن لكل حرف من القرآن منتهى فيما أراده الله تعالى من معناه. والحد : إما بين الظهر والبطن ، وإما بين البطن والمطلع ، فيرتقى به من البطن إليه عند إدراك الرابطة بين الصفة والاسم ، واستهلاك صفة العبد تحت تجليات صفة المتكلم جل شأنه. والمطّلع ـ بضم الميم وفتح الطاء المشددة واللام ـ : هو مكان الاطلاع من الكلام النفسي إلى الاسم المتكلم ، المشار إليه بقول الصادق : «لقد تجلى الله تعالى فى كتابه لعباده ولكن لا يبصرون» ومن ثمّ فالمطلع : ما يصعد إليه منه فيطلع على شهود الملك العلام (٢). جعلنا الله تعالى من أهل ذاك المقام ، بجاه سيد الأنام ، عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام.

وهكذا نجد أن السنة النبوية الشريفة ـ بحديث : «إن للقرآن ظهرا وبطنا» ونظائره (٣) ـ تعاضد القرآن العظيم فى تأصيل التفسير الفيضي ، أو الإشارى فى نحو قوله تعالى : (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها) (٤) وقوله سبحانه : (فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً) (٥) ، ففيهما الإشارة الثاقبة إلى التفسير الإشارى. ومن ثمّ روى عن باب مدينة العلم. سيدنا على كرم الله وجهه أنه قال : «لو شئت لأوقرت سبعين بعيرا من فاتحة الكتاب» وقال : «من فهم القرآن فسر به جمل العلم» (٦).

ولتجسّد أصالة التفسير الصوفي الإشارى وحتمية وجوده لتجلية حقائق القرآن المستنبطة منه بفهم أهل الله تعالى : فقد اعتد أساطين علماء التنزيل به ، وضمنوه تفاسيرهم ، ووضعوا له التعريف العلمي بضوابطه التي تخرج عنه ما يلتبس به عند غير ذوى العلم ، مما يعرف بالتفسير الباطني الذي يقصر دلالة النص القرآنى على تأويلات الباطنية من الشيعة المنحرفة ، فهذا لا علاقة له بالتفسير الصوفي على الحقيقة.

من ثمّ عرف التفسير الصوفي الفيضي الإشارى بأنه : تأويل آيات القرآن الكريم على خلاف ما يظهر منها بمقتضى إشارات خفية ، تظهر لأهل السلوك ، ويمكن التطبيق بينها وبين الظواهر المرادة (٧).

__________________

(١) أخرجه ابن حبان ، فى صحيحه ، عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضى الله عنه ، وأخرجه عنه الحافظ العراقي فى (المغني عن حمل الأسفار. بتحقيق ما فى الإحياء من الأخبار) بحاشية الإحياء (١ / ٨٨).

(٢) انظر روح المعاني لشيخنا الإمام الآلوسى النقشبندي ، عليه رضوان الله تعالى (١ / ٧).

(٣) من نظائر هذا الحديث الشريف : ما أخرجه الديلمي عن سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضى الله عنه مرفوعا إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : (القرآن تحت العرش له ظهر وبطن يحاج العباد).

(٤) سورة (محمد) صلى‌الله‌عليه‌وسلم : الآية / ٢٤.

(٥) سورة النساء / ٧٨.

(٦) انظر إحياء علوم الدين ، للإمام الغزالي رضى الله عنه ، (١ / ٢٦٠) ط / العثمانية.

(٧) انظر ـ مع الإتقان للإمام السيوطي ٤ / ١٩٨ ـ : التفسير والمفسرون للدكتور محمد حسين الذهبي ٣ / ١٨.

١٧

وعلى ذلك : فقد اعتمد علماء القرآن الكريم التفسير الصوفي الإشارى بشروط أربعة لقبوله:

أولها : عدم منافاته لمقتضى اللغة ولظاهر النظم القرآنى الكريم.

وثانيها : أن يكون له شاهد شرعى يؤيده من الكتاب أو السنّة أو سائر الأصول المعتمدة.

وثالثها : ألّا يكون له معارض شرعى قطعى.

ورابعها : ألّا يدعى أن هذا التفسير الإشارى هو وحده المراد دون الظاهر ، بل لا بد من إقرار التفسير العبارى الظاهر أولا ثم الأخذ بالمعنى الإشارى (١).

* هذا : ومن المفسرين الأعلام من جرد همته للتفسير الظاهر ـ كالزمخشرى مثلا ـ ولم يعن بالتفسير الإشارى ، وليس كذلك البيضاوي ، خلافا لما ذكره الدكتور الذهبي ، حيث قرنه بالزمخشرى فى الاقتصار على الظاهر. وقد حققنا الاتجاه الصوفي عند القاضي البيضاوي فى بحث مستقل (٢).

* ومن أعلام المفسرين من صرف جل وكده للتفسير الظاهر ، مع تعرضه للجانب الإشارى بقدر ، كما نراه فى تفاسير الإمام الفخر الرازي والإمامين النيسابورى والآلوسى ـ رضى الله تعالى عنهم أجمعين.

* ومنهم من غلب عليه الطابع الإشارى ، ولم يحفل بالتفسير إلا قليلا ، كالإمام سهل بن عبد الله التستري (ت سنة ٢٠٠ ه‍) رضى الله تعالى عنه ، وتفسيره وجيز جليل القدر.

* ومنهم من اقتصر على الجانب الإشارى تماما كالإمام أبى عبد الرحمن السلمى (ت ٤١٢ ه‍) ـ رضوان الله عليه ـ فى كتابه : (حقائق التفسير).

* ومنهم من جمع بين التفسير الظاهر وبين التفسير الإشارى ، فى توازن بينهما ، وإشباع علمى فى كلا الجانبين ، فجاء تفسيره متكاملا بالجواهر والدرر ، كالعلامة إسماعيل حقى الإسلامبولى الحنفي (ت ١١٣٧ ه‍) رضى الله عنه فى تفسيره (روح البيان) ، وكالإمام العلامة العارف بالله تعالى الشيخ أحمد بن عجيبة الحسنى (١١٦٠ ـ ١٢٢٤ ه‍) رضى الله عنه صاحب هذا التفسير الفريد المسمى (البحر المديد في تفسير القرآن المجيد) ، وهو الذي نقدم له بهذه السطور ، فقد جاء هذا التفسير آية رائعة فى التفسير القرآنى ، الجامع بين تفسير أهل الظاهر بمعطياته وملكاته وأدواته ، وإشارة أهل الباطن ـ بالمدلول السنّى للباطن ـ مستوفيا ضوابطه وشروطه ، حافلا بأزهاره وثماره ، حتى إنه ليعد موسوعة قرآنية فى الحقائق وعلم السلوك.

وأسأل الله ـ عزوجل ـ أن يتقبل هذا العمل ، وأن يحشرنا به فى زمرة أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته. وصلى الله تعالى على أعظم رسله سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

أ. د. جودة محمد أبو اليزيد المهدى

عميد كلية القرآن الكريم بطنطا

وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية

__________________

(١) انظر : المرجع الأخير مع زيادة تحرير فى العبارة : ٣ / ٤٣.

(٢) حوليه كلية أصول الدين والدعوة الاسلامية بطنطا : العدد الثالث سنة ١٤١٢ ه‍ سنة ١٩٩١ م ص ٧ ـ ٥٧.

١٨

ترجمة الإمام ابن عجيبة (١)

اسمه :

هو الإمام العلامة المفسر «أحمد بن محمد بن المهدى بن الحسين بن محمد» المعروف بابن عجيبة ، والمكنى بأبى عباس ، الحسنى نسبا ، التطوانى دارا ، الفاسى تعلما ، المالكي مذهبا ، الشاذلى طريقة ، أعجوبة زمانه ، وعديم النظير فى أمثاله ، مؤلف التآليف العديدة ، ومفيد العلوم المفيدة. العالم العلامة ، والصوفي الفهامة ، والعارف المحقق ، الشيخ الكامل الجليل ، الشريف البركة.

مولده

ولد الإمام ابن عجيبة فى قرية (أعجبيش) ، من قبيلة (أنجرة) ، التي تسكن الجبال المحيطة بمدينة تطوان (٢) ، الواقعة فى أقصى شمال المغرب ، على مسافة عشرة كيلومترات ، من ساحل البحر الأبيض المتوسط. وكان مولده رحمه‌الله ، حسبما أورد فى فهرسته ـ سنة ستين أو إحدى وستين ومائة وألف هجرية (٣) ولا خلاف بين المصادر الأخرى التي أوردت تاريخ ولادته ، وإن كانت قد اقتصرت على ذكر إحدى السنتين. ويرجع عدم جزم شيخنا بإحدى السنتين إلى أن مولده لم يؤرخ بالسنين ، بل أرخ بحادث حصار (المستضيء بن إسماعيل) لتطوان ، وكان ذلك بين سنتى ستين وإحدى وستين (٤).

أسرته : ولد الشيخ من أبوين صالحين ، كلاهما من آل بيت النبوة ، يرجع نسبهما إلى الإمام الحسن بن على رضى الله عنه والسيدة فاطمة ـ رضى الله عنها ـ بنت سيد الكونين ، وصخرة العالمين ، حبيب الرحمن ، من قدمه فوق رؤوسنا شرف لنا ، ومن إذا انتسب إليه أحد نسبا فاز بالمنى.

والمستطلع لتاريخ آبائه يدرك صلاحهم وتقواهم ، ومدى ما كانوا عليه من خشية لله وشرف هاشمى. فجد جده «عبد الله بن عجيبة» ولى مشهور ، وقبره مزار بقبيلة أنجرة ، كما أن جد والده «الحسين الحجوجى» صاحب كرامات عديدة ومآثر حميدة ، أما جده «المهدى» فكان كما يقول شيخنا : (رجلا صالحا صموتا خلويا ـ أي : يحب الخلوة ـ مغفلا عن أمور الدنيا ، ولا نجده إلا وحده ، تاليا ، أو مصليا ، أو مشتغلا بما يعنيه) (٥) وأبوه

__________________

(١) أخذت ترجمة الشيخ ابن عجيبة عن (العسكري ، مخطوط طبقات أصحاب الدرقاوى) ورقة ١٤٢ وما بعدها ، عبد القادر الكوهن مخطوط : (إمداد ذوى الاستعداد) ورقة ٢٠ ، مخلوف : شجرة النور الزكية ص ٤٠٠ ، الأزهرى اليواقيت الثمنية ج ١ / ص ٧٠ ، الكتاني : فهرس الفهارس ج ٢ / ص ٨٥٤ ، الحسن الكوهن : طبقات الشاذلية ص ١٦٤ وما بعدها ، سركيس : معجم المطبوعات ١ / ١٦٩ الزركلى : الأعلام ج ١ / ص ٢٤٥ ، رضا كحالة : معجم المؤلفين ١ / ٦٣ ، تيمور : فهرس التيمورية ٣ / ١٩٧ ، د / درنيقة : الطريقة الشاذلية وأعلامها / ٩٢ ـ ٩٤ وذلك فضلا عن الفهرسة للشيخ المفسر.

(٢) عبد المجيد الصغير ، إشكالية إصلاح الفكر الصوفي ١ / ١٢٦.

(٣) ابن عجيبة : الفهرسة ص ١٦.

(٤) انظر المصدرين السابقين.

(٥) الفهرسة ص ٢٧.

١٩

«محمد بن المهدى» كان رجلا صالحا ، لا يجلس فى الغالب إلا وحده ، فقيرا من الدنيا ، يبت يقرأ القرآن. توفى رحمه‌الله سنة «١١٩٦ ه‍» ـ (١).

نشأته العلمية :

نشأ الشيخ ابن عجيبة فى بيت صلاح وتقوى ، وأقبل على حفظ القرآن وهو فى سن مبكرة ، وقد تميز الشيخ بالقدرة على التركيز العلمي ، وتوقد القريحة ، ورحل إلى مدينة القصر الكبير ، وأقام فيها نحوا من عامين ، اجتهد خلالهما فى تحصيل العلم ، حتى قال عن نفسه : (أهملت نفسى ، ونسيت أمرها ، وكنت أقرأ سبعة مجالس ، بين الليل والنهار) (٢).

ولم يقنع الطالب بما حصّل فى مدينة القصر الكبير ، بل زاده شغفا فى القدوم إلى تطوان ، وهى موئلا للعلم والحكمة ، ومهبط كثير من العلماء ، فقدمها ابن عجيبة وهو ابن العشرين ، وأقام فيها ، وأقبل على تحصيل العلم فى شتى الأبواب بكل جد ، وتنوعت مجالسه بين أئمة الفقه ، والتفسير ، والحديث ، واللغة ، والنحو ، والصرف ، والمنطق ، أقبل على هؤلاء وهؤلاء ، يستمع منهم ، ويقرأ عليهم ، ويأخذ عنهم ، وأقبلوا عليه يعطونه كل ما عندهم ؛ لما وجدوا فيه من حسن الإعداد والاستعداد ، فواصل الليل بالنهار.

وسرعان ما ظهرت ثمار هذا الجد والاجتهاد ، فلم يبلغ شيخنا تسعا وعشرين سنة ، حتى بزغ نجمه وعلا شأنه ، وجلس للتدريس فى مساجد تطوان ومدارسها ، ولكن ذلك لم يمنعه من مواصلة العلم فى مظانه ، فالظمآن إلى المعارف لا يرتوى مهما نهل ، ولعله كلما نهل استطاب العلم فازداد إليه ظمأ ، والعلم ليس له نهاية له وليس له حدود. يقول شيخنا بعد جلوسه للتدريس : (فكنت فى العلم الظاهر نتعلم ونعلّم فما تركت العلم قط بعد التصدر للتعليم ، نعلم من تحتنا ونأخذ عمن فوقنا) (٣).

ولهذا شدّ الرحال إلى فاس ، وهو فى سن الأربعين ، فسمع من علمائها ، وأخذ عنهم ، وقد توفر له فيها أساطين العلم فى مختلف الفروع ، فأخذ علم الحديث عن محدث عصره (التاودى بن سودة) ، ودرس التفسير والفرائض واللغة ، ومكث كذلك سنتين ، عاد بعدهما إلى تطوان ليتابع تدريسه وتأليفه.

يتحدث رضى الله عنه عما حصّله من علوم ، فيقول : و (الذي حصّلناه من علوم الأذهان (العقلية) : علم المنطق ، والكلام على مذهب أهل السنة ، والمهم من علم الهيأة (الفلك) ، ومن علم الأديان : علوم القرآن ، خصوصا التفسير .. وحصّلنا الفقه بأنواعه ، وأصول الفقه ، وأصول الدين ، وحصّلت أيضا علم الحديث ، وعلم السير ، وعلم المغازي ، والتاريخ ، والشمائل ، ومن علم اللسان : علم اللغة والتصريف ، والنحو ، والبيان ، بأنواعه ، أما التصوف ؛ فهو علمى ومحط رحلى ، فلى فيه القدم الفالج ، واليد الطولى) (٤) وهكذا كان حظه من ثقافة عصره حظا وافرا ، فقد أحاط بسائر علوم وقته ، وانعكس ذلك على تفسيره ، فجاء بحره مرآة لثقافته الواسعة.

__________________

(١) المصدر السابق ص ٢٣.

(٢) الفهرسة / ٢٩.

(٣) الفهرسة ٧٦.

(٤) الفهرسة / ١٠١

٢٠