البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

١

٢

٣
٤

سورة ص

مكية ، أو : سورة داود. وآيها : ست أو ثمان وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله تعالى : (لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ) (١) مع قوله : (وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) ، فأخبر عنهم أولا أنهم لو نزل عليهم الذكر لأخلصوا فى الإيمان ، فلما نزل كفروا به ، وتعززوا عنه ، قال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (٢) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (٣))

يقول الحق جل جلاله : (ص) أي : أيها الصادق المصدوق. وقال القشيري : معناه : مفتاح اسمه الصادق ، والصبور ، والصمد. أقسم بهذه الأسماء ، وبالقرآن (ذِي الذِّكْرِ) أي : ذى الشرف التام ، الباقي ، المخلد لمن تمسك به ، أو : ذى الوعظ البليغ لمن اتعظ به ، أو : الذكر للأمم والقصص والغيوب. أو : يراد به الجميع. وجواب القسم : محذوف ، أي : إنه لكلام معجز ، أو : إنه لمن عند الله ، أو : إن محمدا لصادق ، أو : ما الأمر كما يزعمون ، أو : (إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) وقيل : (إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) أو : (إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ) ، وهو بعيد.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا) من قريش (فِي عِزَّةٍ) ؛ تكبّر عن الإذعان لذلك ، والاعتراف بالحق ، (وَشِقاقٍ) ؛ خلاف لله ولرسوله. والإضراب عن كلام محذوف يدل عليه جواب القسم ، أي : إن كفرهم ليس عليه برهان ، بل هو بسبب العزة ، والعداوة ، والشقاق ، وقصد المخالفة. والتنكير فى «عزة وشقاق» للدلالة على شدتهما وتفاقمهما. وقرىء «فى غرة» (٢) أي : فى غفلة عما يجب عليهم من النّظر واتباع الحق.

ثم هددهم بقوله : (كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ) ؛ من قبل قومك (مِنْ قَرْنٍ) ؛ من أمّة أو جيل ، (فَنادَوْا) أي : فدعوا واستغاثوا حين رأوا العذاب : (وَلاتَ حِينَ مَناصٍ) أي : وليس الوقت وقت خلاص ونجاة وفرار ،

__________________

(١) الآية ١٦٨ من سورة الصافات.

(٢) هى قراءة حماد بن الزبرقان. انظر مختصر ابن خالويه ص ١٣٠.

٥

والمعنى : أنهم استغاثوا حين لم ينفعهم ذلك. (وَلاتَ) هى «لا» المشبّهة ب «ليس» ، زيدت عليها تاء التأنيث ، كما زيدت على «ربّ» و «ثمّ» للتوكيد ، وتغيّر بذلك حكمها ، حيث لم تدخل إلا على الأحيان ، ولم يبرز إلا أحد معموليها ، إما الاسم أو الخبر ، وامتنع بروزهما بنفي الأحيان ، وهذا مذهب الخليل وسيبويه ، وعند الأخفش أنها النافية للجنس ، زيدت عليها الهاء ، وخصّت بنفي الأحيان. وقال أبو محمد مكى : الوقف عليها عند سيبويه ، والفراء ، وأبى إسحاق ، وابن كيسان ، بالتاء ، وعليه جماعة القراء ، وبه أتى خط المصحف. وعند المبرد والكسائي بالهاء ، بمنزلة «رب». ه.

الإشارة : افتتح الحق جل جلاله هذه السورة ، التي ذكر فيها أكابر أصفيائه ، بحرف الصاد ، إشارة إلى مادة الصبر ، والصدق ، والصمدانية ، والصفاء ؛ إذ بهذه المقامات ارتفع من ارتفع ، وبالإخلال بها سقط من سقط. فبالصبر على المجاهدات تتحقق الإمامة والقدوة ، وبالصدق فى الطلب يقع الظفر بكلّ مطلب ، وبالصمدانية تقع الحرية من رقّ الأشياء ، وبالصفاء تحصل المشاهدة والمكالمة ، فكأن الحق تعالى أقسم بهذه الأشياء وبكتابه العزيز ؛ إن المتكبرين على أهل الخصوصية ما أنكروا إلا جحودا وعنادا ، وتعززا واستكبارا ، لا لخلل فيهم ، ثم أوعدهم بالهلاك ، كما أهلك من قبلهم ، فاستغاثوا حين لم ينفعهم الغياث.

ثم ذكر تعجبهم من كون المنذر منهم ، فقال :

(وَعَجِبُوا أَن جَاءَهُم مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (٤) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (٥) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (٦) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (٧) أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا ...)

يقول الحق جل جلاله : (وَعَجِبُوا) أي : كفار قريش من (أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ؛ رسول من أنفسهم ، استبعدوا أن يكون الرّسول من البشر. قال القشيري : وعجبوا أن جاءهم منذر منهم ، ولم يعجبوا أن يكون المنحوت إلها لهم ، وهذه مناقضة ظاهرة. ه. يعنى : لأن المستحق للإعجاب إلهية المنحوت من الحجر ، لا وجود منذر من البشر ، وهم عكسوا القضية. (وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ) أي : ساحر فيما يظهر من المعجزات ، كذّاب فيما يدعيه من الرّسالة. وضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا عليهم بالكفر ، وغضبا عليهم ، وإشعارا بأن كفرهم هو الذي جسرهم على هذه المقالة الشنعاء.

٦

ثم قالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً) بأن نفى الألوهية التي كانت لآلهتهم وقصرها على واحد ، (إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) ؛ بليغ فى العجب ، وذلك لأنه خلاف ما ألفوا عليه آباءهم ، الذين أطبقوا على عبادة آلهتهم ، كابرا عن كابر ، فإنّ مدار كلّ ما يأتون ويذرون ، من أمور دينهم ، هو التقليد والاعتياد ، فيعدون ما يخالف ما اعتادوه عجبا من العجاب ، بل محالا ، وأما جعل مدار تعجبهم عدم وفاء علم الواحد ، وقدرته بالأشياء الكثيرة ، فلا وجه له ؛ لأنهم لا يدّعون أن لآلهتهم علما وقدرة ومدخلا فى حدوق شىء من الأشياء ، حتى يلزم من ألوهيتهم بقاء الأثر بلا مؤثر ، قاله أبو السعود منتقدا على البيضاوي.

قال القشيري : لم تباشر خلاصة التوحيد قلوبهم ، وبعدوا عن ذلك تجويزا ، فضلا عن أن يكون إثباتا وحكما ، فلا عرفوا أولا معنى الإلهية ؛ فإن الإلهية هى القدرة على الاختراع. وتقدير قادرين على ذلك غير صحيح ؛ لما يجب من وجود التمانع بينهما وجوازه ، وذلك يمنع من كمالها ، ولو لم يكونا كاملى الوصف لم يكونا إلهين ، وكلّ من جرّ ثبوته لسقوطه فهو مطرح باطل. ه.

روى أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه فرح به المؤمنون ، وشقّ على قريش ، فاجتمع خمسة وعشرون نفسا من صناديدهم ، ومشوا إلى أبى طالب ، وقالوا : أنت كبيرنا ، وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء ـ أي : الذين دخلوا فى الإسلام ـ وجئناك لتقضى بيننا وبين ابن أخيك ، فاستحضر أبو طالب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا ابن أخى ؛ هؤلاء قومك يسألونك السواء ، فلا تمل كلّ الميل على قومك ، فقال ـ عليه الصلاة والسّلام ـ «ما ذا يسألوننى»؟ فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا ، وندعك وإلهك ، فقال ـ عليه الصلاة والسّلام : «أعطوني كلمة واحدة تملكون بها العرب ، وتدين لكم العجم» ، قالوا : نعم ، وعشرا (١). قال : «قولوا : لا إله إلا الله» فقاموا ، وقالوا : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً ، إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ) (٢). قيل : العجب : ما له مثل ، والعجاب : لا مثل له.

(وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ) أي : وانطلق الأشراف من قريش عن مجلس أبى طالب ، بعد ما بكّتهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بالجواب ، وشاهدوا تصلبه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ فى الدين ، وعزيمته على إظهاره ، ويئسوا مما كانوا يرجونه ، بتوسط أبى طالب ، من المصالحة على الوجه المذكور ، قائلين (أَنِ امْشُوا) و «أن» تفسيرية ؛ لأن المنطلقين عن

__________________

(١) أي : نعطيكها وعشر كلمات معها.

(٢) أخرجه بنحوه أحمد فى المسند (١ / ٢٢٧ ، ٣٦٢) والترمذي وحسّنه فى (التفسير ـ سورة ص ، ح ٣٢٣٢) والنّسائى فى الكبرى (التفسير ٤ / ٤٥٦) وابن حبان (الموارد ح ١٧٥٧) والطبري فى التفسير (٢٣ / ١٢٥) والبيهقي فى السنن (٩ / ١٨٨). والواحدي فى الأسباب (ص ٣٨٠) وصحّحه الحاكم (٢ / ٤٣٢) ووافقه الذهبي. عن ابن عباس رضي الله عنه.

٧

مجلس التقاول لا بد لهم من أن يتكلموا ، أو يتفاوضوا فيما جرى لهم ، فكان انطلاقهم مضمنا معنى القول ، وقيل : ليس المراد بالانطلاق المشي ، بل انطلاق ألسنتهم بهذا الكلام ، كما أنه ليس المراد بالمشي المتعارف ، بل الاستمرار على المشي ، يعنى أنه على هذا القول : عبارة عن تفرقهم فى طرق مكة ، وإشاعتهم للكفر. ه. أي : امشوا (وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ) أي : اثبتوا على عبادتها ، متحملين لما تسمعون فى حقها من القدح.

قال القشيري : إذا [تواصى] (١) الكفار فيما بينهم بالصبر على آلهتهم ، فالمأمنون أولى بالصبر على عبادة معبودهم ، والاستقامة فى دينهم. ه.

(إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ) أي : هذا الذي شاهدناه من محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم من أمر التوحيد ، وإبطال أمر آلهتنا ، لشىء يراد إمضاؤه وتنفيذه ، من جهته ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لا محالة ، من غير صارف يلويه ، ولا عاطف يثنيه ، لا قول يقال من طرف اللسان ، وأمر ترجى فيه المسامحة بشفاعة أو امتنان ، فاقطعوا أطماعكم عن استنزاله عن رأيه ، بواسطة أبى طالب وشفاعته ، وحسبكم ألا تمنعوا من عباده ألهتكم بالكلية ، فاصبروا عليها ، وتحملوا ما تسمعون فى حقها من القدح وسوء المقالة ، أو : إنّ هذا الأمر لشىء يريده الله تعالى ، ويحكم بإمضائه ، فلا مرد له ، ولا ينفع فيه إلا الصبر ، أو : إنّ هذا الأمر لشىء من نوائب الدهر ، يراد بنا ، فلا انفكاك لنا منه ، أو : إن دينكم لشىء يراد ، أي : يطلب ليؤخذ منكم وتغلبوا عليه ، أو : إن هذا الذي يدعيه من التوحيد ، ويقصده من الرّئاسة ، والترفع على العرب والعجم ، لشىء يتمنى ، ويريده كلّ أحد. فتأمل هذه الأقاويل ، واختر منها ما يساعده النّظم الجليل.

(ما سَمِعْنا بِهذا) الذي يقوله من أمر التوحيد (فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) أي : فى ملة عيسى ، التي هى آخر الملل ؛ لأن النّصارى مثلثة غير موحدة ، أو : فى ملة قريش التي أدركنا عليها آباءنا ، ويجوز أن يكون الجار والمجرور حالا من «هذا» ، أي : ما سمعنا بهذا من أهل الكتاب ولا الكهان كائنا فى الملة المترقبة. ولقد كذبوا فى ذلك أقبح كذب ؛ فإن حديث البعثة والتوحيد ، وإبطال عبادة الأصنام ، كان أشهر الأمور قبل الظهور. (إِنْ هذا) أي : ما هذا (إِلَّا اخْتِلاقٌ) أي : كذب ، اختلقه من تلقاء نفسه.

(أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) أي : القرآن : (مِنْ بَيْنِنا) ونحن رؤساء النّاس وأشرافهم. أنكروا أن يختص بالشرف من بين أشرافهم ، وينزل عليه الكتاب من بينهم ، حسدا من عند أنفسهم ، كقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٢). وأمثال هذه المقالات الباطلة دليل على أن مناط تكذيبهم ليس إلا الحسد ، وقصر النّظر على الحطام الدنيوية ، والعياذ بالله.

__________________

(١) فى الأصول [توصوا].

(٢) الآية ٣١ من سورة الزخرف.

٨

قال الورتجبي : كانوا منطمسة العيون عما ألبسه الحق من أنوار ربوبيته ، وسنا جلاله وجماله ، لم يروا إلا الصورة الإنسانية ، التي هى ميراث آدم من ظاهر الخلقة. وهذا كقوله : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (١) ، استبعدوا اصطفائيته بالوحى ، ولم يعرفوا أنه أثر الله فى العالم ، ومشكاة تجليه ، حتى قالوا مثل ما قالوا : (وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ، رأوا أنفسهم خالية عن مشاهدة الغيوب ، وإدراك نور صفات الحق ، فقاسوا نفس محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأنفسهم ، ولم يعلموا أنه كان نفس النّفوس ، وروح الأرواح ، وأصل الخليقة ، وباكورة من بساتين الرّبوبية. يا ليتهم لو رأوه فى مشاهدة الملكوت ، ومناصب الجبروت ، إذ خاطبه الحق بلولاك ما خلقت الأفلاك. ه.

الإشارة : هذه عادة الله تعالى فى خلقه ، كل من يأمر النّاس بالتجريد ، وخرق العوائد ، وصريح التوحيد ، وترك ما عليه النّاس من جمع الدنيا ، وحب الرّئاسة ، والجاه ، أنكروه ، وسفّهوا رأيه ، وقالوا فيه : ساحر كذّاب. ويقول بعضهم لبعض : امشوا واصبروا على ما أنتم عليه ، من جمع الدنيا ، والخدمة على العيال ، وعلى ما وجدتم عليه أسلافكم ، من الوقوف مع العوائد ، ما سمعنا بهذا الذي يدلّ عليه هذا الرّجل من ترك الأسباب والانقطاع إلى الله فى هذا الزمان ، إن هذا الا اختلاق ، أأنزلت عليه الخصوصية من بيننا ، ولم يعلموا أن الله يختص برحمته من يشاء ، ويبعث فى كلّ زمان من يجدد الدين بتربية مخصوصة. والله تعالى أعلم.

ثم ردّ عليهم بقوله :

(بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّن ذِكْرِي بَل لَّمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (٨) أَمْ عِندَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (٩) أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (١٠) جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّنَ الْأَحْزَابِ (١١))

يقول الحق جل جلاله : (بَلْ هُمْ) أي : كفار قريش (فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي) ؛ من القرآن ، أو الوحى ، لميلهم إلى التقليد ، وإعراضهم عن النّظر فى الأدلة المؤدية إلى علم حقيقته ، (بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ) أي : بل لما يذوقوا عذابى الموعود فى القرآن ، ولذلك شكّوا فيه ، فإذا ذاقوه زال ما بهم من الشك والحسد حينئذ ، أي : إنهم لا يصدّقون به إلا أن يمسّهم العذاب ، فحينئذ يصدّقون ، ولات حين تصديق.

__________________

(١) الآية ١٩٨ من سورة الأعراف.

٩

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ) أي : ما هم بمالكى خزائن الرّحمة حتى يصيبوا بها من شاءوا ، ويصرفوها عمن شاءوا ، ويختاروا للنبوة بعض صناديدهم ، ويترفّعوا بها عن محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وإنما يملك الرحمة وخزائنها العزيز القاهر على خلقه ، الوهّاب الكثير المواهب ، المصيب بها من يشاء. والمعنى : أن النّبوة عطية من الله تعالى ، يتفضل بها على من يشاء من عباده المصطفين ، لا مانع له ، فإنه الغالب ، الذي له أن يهب كل ما يشاء لكلّ من يشاء.

وفى إضافة اسم الرّب المنبئ عن التربية والتبليغ إلى الكمال إلى ضميرة ـ عليه الصلاة والسّلام ـ من تشريفه واللطف به ما لا يخفى.

(أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما) أي : بل ألهم ملك هذه العوالم العلوية والسفلية حتى يتكلموا فى الأمور الرّبانية ، ويتحكموا فى التدابير الإلهية ، التي اختصّ بها رب العزّة والكبرياء؟ ثم تهكّم بهم غاية التهكم فقال : (فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ) ، وهو جواب عن شرط مقدر ، أي : إن كان لهم ما ذكر من الملك ، ويملكون التصرف فى قسمة الرّحمة ، فليصعدوا فى المعارج والطرق التي يتوصّل بها إلى السماء ، حتى يدبروا أمر العالم وملكوت الله ، فينزلون الوحى إلى من يختارون ويستصوبون. والسبب ، فى الأصل : ما يتوصل به إلى المطلوب.

ثم وعد نبيه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بالنصر عليهم بقوله : (جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ) أي : هم جند ما من الكفار المتحزبين على الرّسل (مَهْزُومٌ) ؛ مكسور عما قريب ، فلا تبال بما يقولون ، ولا تكترث بما يهذون. و «جند» : خبر ، أو : مبتدأ ، و «مهزوم» : خبره و «ما» : صلة مقوّية للنكرة. أو : للتقليل والتحقير.

و «من الأحزاب» : متعلق بجند ، أو : بمهزوم ، و «هنالك» : إشارة إلى بدر ومصارعهم ، أو : إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل ذلك القول العظيم ، من قولهم لمن ينتدب لأمر وليس من أهله : لست هنالك.

الإشارة : يقال فى جانب أهل الغفلة : بل فى شك من حلاوة ذكرى ومعرفتى ، حيث لم يذوقوا. قال إبراهيم ابن أدهم رضي الله عنه : (خرج النّاس من الدنيا ولم يذوقوا شيئا ، قيل : ومافاتهم؟ قال : حلاوة المعرفة). بل لمّا يذوقوا عذابى ، هو وبال القطيعة والبعد ، والانحطاط عن درجات المقربين ، وسيذوقونه إذا تحققت الحقائق ، حيث لا ينفع مال ولا بنون ، إلا من أتى الله بقلب سليم. ويقال فى جانب من حسد أهل الخصوصية : (أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ ...) الآية.

١٠

ثم هدد كفار قريش بقوله :

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (١٢) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (١٣) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (١٤) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (١٥))

يقول الحق جل جلاله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي : قبل أهل مكة (قَوْمُ نُوحٍ) نوحا ، (وَعادٌ) هودا (وَفِرْعَوْنُ) موسى ، (ذُو الْأَوْتادِ) ، قيل : كانت له أربعة أوتاد وحبال يلعب بها أو عليها بين يديه ، وقيل : كان يوتّد من يعذب بأربعة أوتاد فى يديه ورجليه ، ويتركه حتى يموت. وقيل : كان يرسل عليه عقارب وحيات. وقيل : معناه : ذو الملك الثابت ، من : ثبات البيت المطنّب (١) بأوتاده ، فاستعير لرسوخ السلطنة ، واستقامة الأمر ، كقول الشاعر :

ولقد غنوا فيها بأنعم عيشة

فى ظلّ ملك ثابت الأوتاد (٢)

(وَثَمُودُ) وهم قوم صالح ، (وَقَوْمُ لُوطٍ) كذّبوا لوطا ، (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) ؛ أصحاب [الغيضة] (٣) كذّبوا شعيبا عليه‌السلام ، (أُولئِكَ الْأَحْزابُ) : بدل من الطوائف المذكورة. وفيه فضل تأكيد وتمهيد لما يعقبه ، وأراد بهذه الإشارة الإعلام بأن الأحزاب الذين جعل الجند المهزوم منهم هم هؤلاء الطوائف ، وأنهم الذين وجد منهم التكذيب ، ولذلك قال :

(إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ) أي : ما كلّ أحد من آحاد أولئك الأحزاب ، أو : ما كلّ حزب منهم إلا كذّب الرسل ؛ لأن تكذيب واحد منهم تكذيب لجميعهم ؛ لاتفاق الكلّ على الحق ، أو : ما كلّ حزب إلا كذّب رسوله ، على نهج مقابل الجمع بالجمع. وأيّا ما كان فالاستثناء مفرغ من أعم [العلل] فى خبر المبتدأ ، أي : ما كلّ أحد منهم محكوم عليه بحكم إلا أنه كذب الرّسل ، (فَحَقَّ عِقابِ) أي : فوجب لذلك أن أعاقبهم حق العقاب ، التي كانت توجبه جناياتهم من أصناف العقوبات.

__________________

(١) خباء مطنب ، أي : مشدود بالأطناب ، والأطناب : ما يشد به البيت من الحبال بين الأرض والطرائق ، وقيل : هى الأوتاد ، واحدتها : طنب. انظر اللسان (٤ / ٢٧٠٨).

(٢) البيت للأسود بن يعفر. انظر غريب القرآن لابن قتيبة (٢ / ١٠٠) ومعانى القرآن للنحاس (٦ / ٨٥).

(٣) فى الأصول الخطية [الغيظة].

١١

(وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ) أي : وما ينتظر أهل مكة. وفى الإشارة إليهم بهؤلاء ؛ تحقير لشأنهم ، وتهوين لأمرهم ، أي : وما ينتظر هؤلاء الكفرة الذين هم أمثال أولئك الطوائف المهلكة فى الكفر والتكذيب ، (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) وهى النّفخة الثانية ؛ لما فيها من الشدة والهول ، فإنها داهية ، يعم هولها جميع الأمم ، برها وفاجرها. والمعنى : أنه ليس بينهم وبين حلول ما أعد الله لهم من العقاب إلا نفخة البعث ، أخرت عقوبتهم إلى الآخرة ؛ لأن حلولها بهم فى الدنيا يوجب الاستئصال ، وقد قال تعالى : (وَما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ) (١) ، فأخرت ليوم القيامة. وأما ما قيل من أنها النّفخة الأولى فمما لا وجه له ؛ لأنه لا يشاهد هولها ، ولا يصعق بها إلا من كان حيّا عند وقوعها. قاله أبو السعود.

(ما لَها مِنْ فَواقٍ) أي : من توقّف مقدار فواق ، هو ما بين حلبتى الحالب ، أي : إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان. وعن ابن عباس : ما لها من رجوع وترداد ، من أفاق المريض : إذا رجع إلى الصحّة ، وفواق الناقة : ساعة يرجع الدرّ إلى ضرعها. يريد : أنها نفخة واحدة ، لا تثنى ، ولا تردد. والفواق بمعنى التأخر ، فيه لغتان : الفتح والضم ، وأما ما بين حلبتى النّاقة ، فبالضم فقط.

الإشارة : ما جرى على مكذبى الرّسل يجرى فى مكذّبى الأولياء ، إلّا أن عذابهم البعد والطرد ، وحرمان معرفة العيان. وبالله التوفيق.

ثم ذكر استعجالهم العذاب ، فقال :

(وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (١٦) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (١٧) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (١٨) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (١٩) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (٢٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَقالُوا) أي : كفار مكة لمّا سمعوا بتأخير عقابهم إلى الآخرة : (رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا) أي : حظّنا من العذاب الذي وعدتنا به ، (قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ) ولا تؤخره إلى الصيحة المذكورة. وفى القاموس : القط ـ بالكسر : النصيب ، والصّك ، وكتاب المحاسبة. ه. أو : عجّل لنا صحيفة أعمالنا لننظر فيها ، أو :

__________________

(١) من الآية ٣٣ من سورة الأنفال.

١٢

حظنا من الجنة ؛ لأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكر وعد الله المؤمنين بالجنة ، فقالوا على سبيل الهزء : عجّل لنا نصيبنا منها (١). وتصدير دعائهم بالنداء للإمعان فى الاستهزاء ، كأنهم يدعون ذلك بكمال الرّغبة.

(اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) من أمثال هذه المقالات الباطلة. ثم سلّاه بما يقص عليه من خبر الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ الذين كانت بدايتهم أيام المحن ، ثم جاءتهم أيام المنن ، وبدأ بنبيه داود عليه‌السلام ، فقال : (وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ) ، فإنه كان فى أول أمره ضعيفا ، يرعى الغنم ، ثم صار نبيا ملكا ، ذا الأيادى العظام. وقوله : (ذَا الْأَيْدِ) أي : ذا القوة فى الدين ، والملك ، والنّبوة. يقال : فلان ذو يد وأيد وأياد ، بمعنى القوة ، وأياد كلّ شىء : ما يتقوى به. (إِنَّهُ أَوَّابٌ) : رجّاع إلى الله فى كلّ شىء ، أو : إلى مرضاة الله تعالى. وهو تعليل لكونه ذا الأيد ، ودليل على القوة فى الدين ؛ فإنه كان عليه‌السلام يصوم يوما ويفطر يوما ، وهو أشدّ الصوم ، ويقوم نصف الليل (٢) ، مع مكابدة سياسة النّبوة والملك والشهود ، فقد أعطى القوة فى الجهتين.

(إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ) أي : ذللناها له ، تسير معه حيث يريد. ولم يقل «له» ؛ لأن تسخير الجبال له عليه‌السلام لم يكن بطريق التفويض الكلى ، كتسخير الرّياح وغيرها لابنه ، بل بطريق التبعية ، والاقتداء به فى عبادة الله تعالى. وقيل : (مَعَهُ) متعلق ب (يُسَبِّحْنَ) ، أي : سخرناها تسبّح معه ، إما بلسان المقال ، يخلق الله لها صوتا ، أو : بلسان الحال ، أي : يقدس الله تعالى وينزهه عما لا يليق به. والجملة : حال ، أي : مسبّحات ، واختيار الفعل ليدل على حدوث التسبيح من الجبال ، وتجدده شيئا بعد شىء ، وحالا بعد حال ، (بِالْعَشِيِ) فى طرفى النّهار ، والعشىّ : وقت العصر إلى الليل (وَالْإِشْراقِ) ، وهو حين تشرق الشمس ، أي : تضىء ، وهو وقت الضحى ، وأما شروقها ـ الثلاثي : فطلوعها ، تقول : شرقت الشمس ولمّا تشرق ، أي : طلعت ولم تضيء. وعن ابن عباس رضي الله عنه : ما عرفت صلاة الضحى إلا بهذه الآية (٣). وعنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أنه صلّى عند أم هانىء صلاة الضحى ، وقال : «هذه صلاة الإشراق» (٤).

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٧ / ٧٥).

(٢) أخرج البخاري فى (التهجد ، باب من نام عند السحر ، ح ١١٣١) ومسلم فى (الصيام ، باب النّهى عن صوم الدهر ٢ / ٨١٦ ، ح ١٨٩) عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أحب الصلاة إلى الله صلاة داود عليه‌السلام وأحبّ الصيام إلى الله صيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه ، وينام سدسه ، وكان يصوم يوما ويفطر يوما».

(٣) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ٥٦٢) لسعيد بن منصور ، بلفظ : طلبت صلاة الضحى فى القرآن ، فوجدتها (بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ). وانظر روايات أخرى تفيد هذا المعنى ذكرها السيوطي فى الدر.

(٤) أخرجه البغوي فى التفسير (٧ / ٧٦) عن ابن عباس بلفظ : قال ـ أي ابن عباس ـ : كنت أمرّ بهذه الآية لا أدرى ما هى حتى حدثتنى أم هانى بنت أبى طالب : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم دخل عليها فدعا بوضوء فتوضأ ، ثم صلّى الضحى ، فقال : «يا أم هانىء هذه صلاة الإشراق».

١٣

(وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً) أي : وسخّرنا الطير مجموعة من كلّ ناحية. عن ابن عباس رضي الله عنه : كان إذا سبّح ، جاوبته الجبال بالتسبيح ، واجتمعت إليه الطير ، فسبّحت ، فذلك حشرها. (كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ) أي : كل واحد من الجبال والطير لأجل تسبيح داود. ووضع الأوّاب موضع المسبّح ؛ لأن الأوّاب : الكثير الرّجوع إلى الله تعالى ، من عادته أن يكثر ذكر الله ، ويدير تسبيحه وتقديسه على لسانه. وقيل : الضمير لله ، أي : كل من داود والجبال والطير أواب ، أي : مسبّح لله تعالى ومرجّع للتسبيح ، وقيل : لداود ، أي : يرجع لأمره.

(وَشَدَدْنا مُلْكَهُ) أي : قوّيناه بالهيبة والنّصرة وكثرة الجنود. قيل : كان بيت المقدس حول محرابه ثلاثة وثلاثون ألف رجل. قال القشيري : ويقال : وشددنا ملكه بالعدل فى القضية ، وحسن السيرة فى الرّعية ، أو : بدعاء المستضعفين ، أو : بقوم مناصحين ، كانوا يدلونه على ما فيه صلاح ملكه ، أو : بقبوله الحق من كلّ أحد ، أو : برجوعه إلينا فى عموم الأوقات. ه. وقال ابن عباس : أن رجلا من بنى إسرائيل استعدى على رجل من عظمائهم إلى داود ، فقال المستعدى : إن هذا غصبنى بقرتي ، فجحد الآخر ، ولم تكن له بينة ، فقال داود : قوما حتى أنظر فى أمركما ، فأوحى الله تعالى إلى داود فى منامه : أن اقتل الرّجل الذي استعدى عليه ، فتثبت داود حتى أوحى الله إليه ثلاثا أن يقتله ، أو تأتيه العقوبة من الله ، فأرسل داود إلى الرّجل : أن الله قد أوحى إلىّ أن أقتلك ، فقال : تقتلنى بغير بينة؟ فقال : نعم ، والله لأنفذنّ أمر الله فيك ، فلما عرف الرّجل أنه قاتله ، فقال : لا تعجل علىّ حتى أخبرك أن الله تعالى لم يأخذنى بهذا الذنب ، الذي هو السرقة ، ولكنى كنت قتلت أبا هذا غيلة ، وأخذت البقرة ، فقتله داود ، فقال الناس : إذا أذنب أحد ذنبا أظهره الله عليه ؛ فقتله ، فهابوه ، وعظمت هيبته فى القلوب ه. (١).

(وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ) ؛ النبوة ، وكمال العلم ، وإتقان العمل ، والإصابة فى الأمور ، أو : الزبور وعلم الشرائع. وكلّ كلام وافق الحق فهو حكمه. (وَفَصْلَ الْخِطابِ) ؛ علم القضاء وقطع الخصام ، فكان لا يتتعتع فى القضاء بين الناس ، أو : الفصل بين الحق والباطل. والفصل : هو [التمييز] (٢) بين الشيئين ، وقيل : الكلام البيّن ، بحيث يفهمه المخاطب بلا التباس ، فصل بمعنى مفصول ، أو : الكلام البيّن الذي يبين المراد بسرعة ، فيكون بمعنى فاصل ، والمراد : ما أعطاه الله من فصاحة الكلام ، الذي كان يفصل به بين الحق والباطل ، والصحيح والفاسد ، فى قضاياه

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٣ / ١٣٨ ـ ١٣٩) والبغوي فى التفسير (٧ / ٧٧). وعزاه فى الدر المنثور (٥ / ٥٦٣) لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم ، عن ابن عباس رضي الله عنه.

(٢) فى الأصول [التحيز].

١٤

وحكوماته ، وتدابير الملك ، والمشورات. وعن علىّ رضي الله عنه : «هو البينة على المدّعى ، واليمين على من أنكر» وعن الشعبي : «هو : أما بعد» (١) فهو أول من تكلم بها ، فإنّ من تكلم فى الذي له شأن يفتتح بذكر الله وتحميده ، فإذا أراد أن يخرج إلى الغرض المسوق له الكلام ، فصل بينه وبين ذكر الله بقوله : أما بعد.

الإشارة : فاصبر أيها الفقير على ما يقولون فيك ، وتسلّ بمن قبلك من أهل الخصوصية الكبرى والصغرى ، ففيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الوصول إلى الله تعالى. وقوله تعالى : (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ ...) إلخ. قال القشيري : كل من تحقق بحالة ساعده كلّ شىء. ه. قلت : وفى الحكم : «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكوّن ، فإذا شهدت المكوّن كانت الأكوان معك» وبالله التوفيق.

ثم ذكر امتحان داود عليه‌السلام ، فقال :

(وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (٢١) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (٢٢) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (٢٣) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (٢٤) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ) ؛ استفهام ، معناه التعجب والتشويق إلى استماع ما فى حيزه ؛ لأنه من الأنباء البديعة ، والأخبار العجيبة. والخصم ـ فى الأصل : مصدر ، ولذلك يطلق على الواحد والجمع ، كالضيف والزور. وأريد هنا اثنان ، وإنما جمع الضمير بناء على أن أقل الجمع اثنان. (إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ) أي : تصعّدوا سوره ونزلوا إليه. والسور : الحائط المرتفع ، ونظيره : تسنمه : إذا علا سنمه. والمحراب :

__________________

(١) انظر هذه الأقوال فى تفسير الطبري (٣ / ١٤٠) والبغوي (٧ / ٧٧ ـ ٧٨) والدر المنثور (٥ / ٥٦٤).

١٥

الغرفة ، أو : المسجد ، سمى محرابا لتحارب الشيطان فيه والخواطر الرّدية. و «إذ» : متعلق بمحذوف ، أي : نبأ تحاكم الخصمين ، أو : بالخصم ؛ لما فيه من معنى الخصومة ، (إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ) : بدل مما قبله ، أو : ظرف لتسوروا ، (فَفَزِعَ مِنْهُمْ) : تروع منهم.

روى أن الله تعالى بعث إليه ملكين فى صورة إنسانين ، قيل : جبريل وميكائيل ، فطلبا أن يدخلا عليه ، فوجداه فى عبادته ، فمنعهما الحرس ، فتسوّروا عليه المحراب ، فلم يشعر إلا وهما بين يديه ، جالسان ، ففزع منهم ؛ لأنهم دخلوا عليه فى غير يوم القضاء ، ولأنهم نزلوا من فوق ، وفى يوم الاحتجاب ، والحرس حوله لا يتركون من يدخل عليه. قال الحسن : جزأ داود عليه‌السلام الدهر أربعة أجزاء ؛ يوما لنسائه ، ويوما للعبادة ، ويوما للقضاء ، ويوما للمذاكرة مع بنى إسرائيل. فدخلوا عليه يوم عبادته.

فلما فزع (قالُوا لا تَخَفْ) ، نحن (خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ) أي : ظلم وتطاول عليه ، (فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ) ؛ لا تجر ، من : الشطط ، وهو مجاوزة الحدّ وتخطى الحق ، (وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ) ؛ وأرشدنا إلى وسط الطريق ومحجته ، والمراد : عين الحق وصريحه.

روى : أن أهل زمان داود عليه‌السلام كان يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته ، فيتزوجها إذا أعجبته ، وكان لهم عادة فى المواساة بذلك. وكان فى أول الإسلام شىء من ذلك بين المهاجرين والأنصار ، فاتفق أنّ عين داود عليه‌السلام وقعت عل امرأة أوريا ، وكانت جميلة ، فأحبّها ، فسأله النّزول له عنها ، فاستحيا أن يردّه ، ففعل ، فتزوجها ، وهى أم سليمان ؛ فعوتب فى ذلك ، وقيل له : إنك مع عظيم منزلتك ، وكثرة نسائك ، لم يكن ينبغى لك أن تسأل رجلا ليس له إلا امرأة واحدة ، كان الواجب عليك مغالبة هواك ، وقهر نفسك ، والصبر على ما امتحنت به. وقيل : خطبها أوريا ، وخطبها داود ، فآثره أهلها ، فكانت زلته أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه (١). ه. ولعلم لم يكن محرما فى شرعهم ، وإنما كان خلاف الأولى.

وقال شيخ شيوخنا فى حاشيته : لا يصح هذا فى حق الأنبياء ، وما يحكى أنه بعث أوريا إلى الغزو مرة بعد مرة ، وأحب أن يقتل ليتزوجها ، فلا يليق من المتسمين بالصلاح من أبناء النّاس ، فضلا عن بعض أعلام الأنبياء. وقال علىّ ـ كرم الله وجهه ـ : من حدثكم بحديث داود عليه‌السلام على ما يرويه القصّاص جلدته مائة وستين (٢) ، وهو

__________________

(١) قال القاضي عياض فى الشفاء (٢ / ٨٢٧) : لا تلتفت إلى ما سطره الأخباريون من أهل الكتاب ، الذين بدّلوا وغيّروا ، ونقله المفسرون ، ولم ينص الله تعالى على شىء من ذلك فى كتابه ، ولا ورد فى حديث صحيح ، والذي نصّ الله عليه فى قصة داود : قوله : (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) وليس فى قصة داود وأوريا خبر ثابت.

وقال الحافظ ابن كثير فى تفسيره (٤ / ٣١) : قد ذكر المفسرون هاهنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه .... فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة ، وأن يرد علمها إلى الله عزوجل ، فإن القرآن حق ، وما تضمن فهو حق أيضا. وانظر : الإسرائيليات والموضوعات لأبى شهبة (٢٦٤ ـ ٢٧٠).

(٢) قال الحافظ ابن حجر ، فى الكافي الشاف : (رقم ٣٠٦) : لم أجده.

١٦

حدّ الفرية على الأنبياء ـ يعنى الحدّ مرتين ـ وروى : أن رجلا حدّث بها عند عمر بن عبد العزيز ، وعنده رجل من أهل الحق ، فكذّب المحدّث ، وقال : إن كانت القصة على ما فى كتاب الله ، فما ينبغى أن يلتمس خلافها ، ولا أن يقال غير ذلك ، وإن كانت على ما ذكرت ، وقد سترها الله على نبيه ، فما ينبغى إظهارها عليه ، فقال عمر : لسماعى لهذا الكلام أحبّ إلىّ مما طلعت عليه الشمس (١).

والذي يدلّ عليه المثل الذي ضربه الله لقصته عليه‌السلام ليس إلا أنه طلب من زوج المرأة أن ينزل عنها فحسب ، فتزوجها ، وإنما جاءت على طريق التمثيل والتعريض ، دون التصريح ؛ لكونها أبلغ فى التوبيخ ، من قبل أنّ المتأمل إذا أدّاه إلى الشعور بالمعرّض به كان أوقع فى نفسه ، وأشدّ تمكّنا من قلبه ، وأعظم أثرا فيه ، مع مراعاة حسن الأدب ، بترك المجاهرة بالعتاب. قاله النّسفى.

ثم ذكر التعريض بقوله : (إِنَّ هذا أَخِي) فى الدين ، أو : فى الصداقة ، أو : الشركة. والتعبير به لبيان كمال قبح ما فعل به صاحبه ، (لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً) ؛ النعجة : الأنثى من الضأن ، وقد يكنى بها عن المرأة ، والكناية والتعريض أبلغ من التصريح (٢). (وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ) لا أملك غيرها ، (فَقالَ أَكْفِلْنِيها) أي : ملّكنيها ، واجعلنى أكفلها كما أكفل ما تحت يدى ، (وَعَزَّنِي) ؛ غلبنى (فِي الْخِطابِ) ؛ فى الخصومة ، أي : كان أقدر منى على الاحتجاج والمجادلة ، أو : غلبنى فى الخطبة ، حيث خطبت وخطب ، فأخذها ، وهذا منهما تعريض وتمثيل ، كأنهما قالا : نحن كخصمين هذه حالهما ، فمثّلت قصة أوريا مع داود بقصة رجل له نعجة واحدة ، وخليطه له تسع وتسعون ، فأراد صاحبه تتمة المائة ، فطمع فى نعجة خليطه ، وحاجّه فى أخذها ، محاججة حريص على بلوغ مراده. وإنما كان ذلك على وجه التحاكم إليه ، ليحكم بما حكم به من قوله :

(قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ) ، حتى يكون محجوجا بحكمه. وهو جواب عن قسم محذوف ، قصد به عليه‌السلام المبالغة فى إنكار فعل صاحبه به ، وتهجين طمعه فى نعجة من ليس له غيرها ، مع أنّ له قطيعا منها. ولعله عليه‌السلام قال ذلك بعد اعتراف صاحبه بما ادعاه عليه ، أو : بناه على تقدير صدق المدعى ، أي : إن كنت صدقت فقد ظلمك ، والسؤال : مصدر مضاف إلى المفعول ، وتعديته إلى مفعول آخر لتضمينه معنى الضم.

__________________

(١) ذكره النّسفى فى تفسيره (٣ / ١٥٠).

(٢) الظاهر : إبقاء لفظ النّعجة على الحقيقة ، من كونها أنثى الضأن ، ولا يكنى بها عن المرأة ، ولا ضرورة تدعو إلى ذلك. انظر البحر المحيط (٧ / ٣٧٦).

١٧

(وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ) ؛ الشركاء الذين خلطوا أموالهم ، (لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ) ؛ غير مراع لحق الصحبة والشركة ، (إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) منهم ، فإنهم يتحامون عن البغي والعدوان ، (وَقَلِيلٌ ما هُمْ) أي : وهم قليل. و «ما» : مزيدة للإبهام ، والتعجب من قلتهم. والجملة : اعتراض. (وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ) ، الظن مستعار للعلم الاستدلالي ؛ لما بينهما من المشابهة الظاهرة ، أي : علم بما جرى فى مجلس الحكومة ؛ وقيل : لمّا قضى بينهما نظر أحدهما إلى الآخر ، فضحك ، ثم صعدا إلى السماء فعلم عليه‌السلام أنه تعالى ابتلاه. والقصر منصّب على الفتنة ، أي : علم أنما فعلناه به فتنة وامتحان.

واختلف فى سبب امتحانه ، قيل : لأنه تمنى منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، وقال : يا رب أرى الخير كله ذهب به آبائي ، فأوحى إليه : إنى ابتليتهم ، فصبروا فابتلى إبراهيم بنمرود وبذبح ولده ، وإسحاق بالذبح (١). ويعقوب بالحزن على يوسف وذهاب بصره ، وأنت لم تبتل بشىء ، فقال : يا رب ابتلنى بمثل ما ابتليتهم به ، فابتلى بالمرأة (٢). وقيل : إنه ادعى القوة ، وقال : إنه لا يخاف من نفسه قط ، فامتحن ، (فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ) إثر ما علم أن ما صدر منه ذنب ؛ (وَخَرَّ راكِعاً) أي : ساجدا ، على تسمية السجود ركوعا ، أو : خرّ راكعا مصليا صلاة التوبة ، (وَأَنابَ) أي : رجع إلى الله بالتوبة ، روى : أنه بقي ساجدا أربعين يوما يبكى ، حتى نبت البقل من دموعه ، ولم يشرب ماء إلا وثلثاه دموع ، واشتغل بذلك عن الملك ، حتى وثب ابن له ، يقال له : «إيشا» على ملكه ودعا إلى نفسه ، واجتمع إليه أهل الزيغ من بنى إسرائيل ، فلما غفر له حاربه فهزمه. ه.

وهذا الموضع فيه سجدة عند مالك ، خلافا للشافعى ، إلا أنه اختلف فى مذهب مالك ؛ هل سجد عند قوله : (وَأَنابَ) أو عند قوله : (وَحُسْنَ مَآبٍ). وروى الترمذي عن أبى سعيد الخدري : أنه رأى فى المنام شجرة تقرأ سورة «ص» ، فلما بلغت : «وأناب» سجدت ، وقالت : اللهم اكتب لى بها أجرا ، وحط عنى بها وزرا ، وارزقني بها شكرا ، وتقبلها منى كما تقبلتها من عبدك داود ، فقال له ـ عليه الصلاة والسّلام ـ «وسجدت أنت يا أبا سعيد؟» قلت : لا. قال : «كنت أحق بالسجود من الشجرة» ، ثم تلى نبى الله الآيات ، حتى بلغ : (وَأَنابَ) فسجد ، وقال كما قالت الشجرة (٣).

__________________

(١) تقدم أن الذبيح هو إسماعيل عليه‌السلام ، راجع التعليق على تفسير الآيات : ٩٩ ـ ١١١ من سورة الصافات.

(٢) انظر تفسير الطبري (٢٣ / ١٤٦) والبغوي (٧ / ٧٨).

(٣) أخرجه ، عن ابن عباس ، الترمذي فى (أبواب السفر ، باب ما يقول فى سجود القرآن ٣ / ٤٧٢ ـ ٤٧٣ ـ ح ٥٧٩) ، وابن ماجه فى (إقامة الصلاة والسنة ، باب : سجود القرآن ١ / ٣٣٤ ، ح ١٠٥٣) والحاكم وصحّحه ووافقه الذهبي ، (١ / ٢١٩ ـ ٢٢٠) والبغوي فى تفسيره (٧ / ٨٦) قال ـ أي : ابن عباس ـ : جاء رجل إلى النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال : يا رسول الله ، إنى رأيتى الليلة وأنا نائم كأنى أصلى خلف شجرة ، فسجدت ، فسجدت الشجرة لسجودى .. إلخ الحديث. قال الترمذي : (وفى الباب عن أبى سعيد) قلت : حديث أبى سعيد الخدري عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ٥٧٢) لأبى يعلى.

١٨

(فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) أي : ما استغفر منه. قال القشيري : ولمّا أوحى الله بالمغفرة ، قال : يا رب كيف بحديث الخصم؟ ـ أي : الرجل الذي ظلمته ـ فقال : قد استوهبتك منه. ه. وفى رواية : إنى أعطيه يوم القيامة ما لم تر عيناه ، فاستوهبك منه فيهبك لى ، قال : يا رب الآن قد عرفت أنك غفرت لى (١). ه. قال تعالى (وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى) ؛ لقربى وكرامة بعد المغفرة ، (وَحُسْنَ مَآبٍ) ؛ مرجع فى الجنة.

الإشارة : إنما عوتب داود عليه‌السلام لأنه التفت إلى الجمال الحسى الفرقى ، دون الجمال المعنوي الجمعى ، ولو سبته المعاني بجمالها ما التفت إلى الجمال الفرقى ، فلما نبّهه الحق تعالى استغفر ورجع إلى الجمال المعنوي ، الذي هو جمال الحضرة القدسية ، وعبارة شيخ شيوخنا سيدى عبد الرّحمن الفاسى رضي الله عنه : عدّ عليه التفاته عن الجمال المطلق عن الأشكال والصور إلى المقيد بهما ، وهى مقام تفرقة ، لا مقام جمع ، فاستغفر ورجع إلى شهود الفاعل جمعا ، عن شهود فعله فرقا ، فخلع عليه خلعة الخلافة والله أعلم. ه. قال القشيري : قال داود عليه‌السلام : يا رب إنى أجد فى التوراة أنك أعطيت الأنبياء الرّتب العالية ، فأعطينها؟ فقال : إنهم صبروا لمّا ابتليتهم ، فوعد من نفسه الصبر إذا ابتلاه ، طمعا فى مثل تلك الرّتب ، فأخبر أنه يبتليه يوم كذا ، فلما جاء ذلك اليوم دخل خلوته ، وأغلق أبوابه ، ولم يمكنه غلق باب السماء. وقد قال الحكماء : الهارب مما هو كائن فى كف الطالب يتقلب. ثم إنه كان فى البيت كوة ، يدخل منها النّور ، فدخل منها طير صغير ، كأنه من ذهب ، وكان لداود ولد صغير ، فهمّ أن يقبضه لابنه ، فمازال يحاوله ويتبعه حتى وقع بصره على المرأة ، فامتحن بها ، فلم يدع به الاهتمام بولده حتى فعل ما فعل ، وفى ذلك لأولى الأبصار عبرة. ه.

وقال عند قوله : (فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ) : التجأ داود عليه‌السلام فى أوائل البلاء إلى التوبة ، والبكاء ، والتضرع ، والاستكانة ، فوجد المغفرة والتجاوز. وهكذا من رجع فى أوائل الشدائد إلى الله ، فالله يكفيه ويتوب عليه ، و [كذلك] (٢) من صبر إلى حين طالت عليه المحنة. ويقال : إن زلة قدّرها عليك ، توصلك إليه بندمك ، أحرى بك من طاعة ، إعجابك بها يقصيك عن ربك. ه. وفى الحكم : «معصية أورثت ذلا وافتقارا ، خير من طاعة أورثت عزا واستكبارا» وقال الشيخ أبو العباس المرسى رضي الله عنه : كل سوء أدب يثمر لك حسن أدب ؛ فهو أدب. ه.

__________________

(١) انظر تفسير البغوي (٧ / ٨٤).

(٢) ما بين المعقوفتين مستدرك من لطائف الإشارات.

١٩

ولمّا تحققت إنابته ، جعله الله خليفة ، كما قال :

(يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (٢٦) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (٢٧) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (٢٨))

يقول الحق جل جلاله : (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) أي : استخلفناك على الملك فيها ، والحكم فيما بين أهلها ، أو : جعلناك خليفة عمّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحق ، وفيه دليل على أن حاله عليه‌السلام بعد التوبة ، كما كان قبلها ، لم يتغير قط ، خلاف ما نقله الثعلبي من تغير حاله وصوته ، ومنع الطيور من إجابته ، فانظره.

(فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ) ؛ بحكم الله تعالى ، إذ كنت خليفته ، أو : بالعدل ، (وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى) أي : هوى النفس فى الحكومات ، وغيرها من أمور الدين والدنيا ، بل قف عند ما حدّ لك. وفيه تنبيه على أن أقبح جنايات العبد متابعة هواه ، (فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي : فيكون الهوى ، أو اتباعه ، سببا لضلالك عن دلائله اللاتي نصبها على الحق ، تكوينا وتشريعا. و «يضلك» : منصوب فى جواب النّهى ، أو : مجزوم ، فتح ؛ لالتقاء الساكنين. (إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) ؛ عن طريقه الموصلة إليه. وأظهر «سبيل الله» فى موضع الإضمار للإيذان بكمال شناعة الضلال عنه ، (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا) ؛ بسبب نسيانهم (يَوْمَ الْحِسابِ) ؛ فإنّ تذكره وترداده على القلب يقتضى ملازمة الحق ومباعدة الهوى.

(وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من المخلوقات على هذا النّظام البديع (باطِلاً) أي : خلقا باطلا ، عاريا عن الحكمة ، أو : مبطلين عابثين ، بل لحكم بالغة ، وأسرار باهرة ، حيث خلقنا من بينها نفوسا ، أودعناها العقل ؛ لتميز بين الحق والباطل ، والنّافع والضار ، ومكنّاها من التصرفات العلمية والعملية ، فى استجلاب

٢٠