البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

(وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ) أي : ما أنتم بفائتين ما قضى عليكم من المصائب ، وإن هجرتم فى أقطارها كل مهرب ، (وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍ) متول يحميكم منها (وَلا نَصِيرٍ) يدفعها عنكم ، أو يدفع عذابه إن حلّ.

الإشارة : إذا كان العبد عند الله فى عين العناية أدّبه فى الدنيا ، ويبقى فى حال قربه ، وإذا كان عنده فى عين الإهمال ؛ أمهل عقوبته إلى دار البقاء ، وربما استدرجه بالنعم فى حال إساءته ، والعياذ بالله من مكره. وإذا علم العبد أن ما يصيبه فى هذه الدار من الأكدار كلها تخليص وتمحيص ؛ لم يستوحش منها ، بل يفرح بها ؛ إذ هى علامة العناية ، وإذا كانت على أيدى النّاس ، لم يقابلهم بالانتصار ، بل يعفو ويصفح ؛ لعلمه أن ذلك زيارة وترقية. وقوله تعالى : (وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ.) هذا ـ والله أعلم ـ فى حق العامة ، وأما الخاصة ؛ فيشدد عليهم المحاسبة والتأديب ؛ ليرفع مقامهم ، ويكرم مثواهم.

ثم ذكر برهانا آخر على قدرته تعالى ، فقال :

(وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (٣٢) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٣٣) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (٣٤) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَمِنْ آياتِهِ) للدلالة على قدرته ووحدانيته (الْجَوارِ) (١) السفن الجارية (فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ) ؛ كالجبال (إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ) (٢) التي تجريها. وقرئ بالإفراد. (فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ) ؛ فيبقين ثوابت على ظهر البحر ، أي : غير جاريات لا غير متحركات أصلا ، (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) عظيمة فى أنفسها ، كثيرة فى العدد ، دلالة على باهر قدرته (لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) ؛ لكلّ من حبس نفسه عن الهوى ، وصرف همته إلى النّظر فى آلائه ، أو : لكلّ صبّار على بلائه ، شكور لنعمائه ، أي : لكلّ مؤمن كامل ؛ فإن الإيمان نصفان : نصف شكر ، ونصف صبر ؛ لأن الإنسان لا يخلو من ضر يمسه ، أو نفع يناله ، فآداب

__________________

(١) هكذا فى الأصول ، وقد أثبت الياء فى (الجوار) وصلا ؛ نافع ، وأبو عمرو ، وأبو جعفر ، وفى الحالين ابن كثير ويعقوب. وقرأ الباقون بغير ياء. انظر الإتحاف (٢ / ٤٥٠)

(٢) قرأ نافع وأبو جعفر «الرياح» بالجمع. وقرأ الجمهور (الريح) إفرادا.

٢٢١

الضر : الصبر ، وآداب النّفع : الشكر ، وأيضا : راكب السفن ملزوم ، إما للمشقة أو السلامة ، فالصبر والشكر لا زمان له. ولم يعطف إحدى الصفتين على الأخرى ؛ لأنهما لموصوف واحد.

(أَوْ يُوبِقْهُنَ) أي : يهلكهن ، عطف على قوله : (يُسْكِنِ) أي : إن يشأ يسكن الرّيح فيركدن ، أو يعصفها فيغرقن [بعصفها] (١) (بِما كَسَبُوا) من الذنوب. وإيقاع الإيباق عليهن مع أنه حال [أهلهن] (٢) ؛ للمبالغة والتّهويل ، (وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ) منها ، فلا يجازى عليها ، وإنما أدخل العفو فى حكم الإيباق ، حيث جزم جزمه ؛ لأن المعنى : أو إن يشأ يهلك ناسا وينج ناسا ، على طريق العفو عنهم. وقرئ : «ويعفو» (٣) على الاستئناف. (وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا) أي : فى إبطالها وردها (ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ) ؛ من مهرب من العذاب. والجملة معلقة بالنفي ، ومن نصب «يعلم» عطفه على علة محذوفة ، أي : لينتقم منهم وليعلم ، كما فى قوله : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) (٤). وقيل غير ذلك. ومن رفعه (٥) فعلى الاستئناف. وقرئ بالجزم ، عطفا على : «يعف» ، فيكون المعنى : أو إن يشأ يجمع بين إهلاك قوم وإنجاء آخرين وتحذير قوم.

الإشارة : ومن آياته الأفكار الجارية فى بحر التوحيد ، كالأعلام ، أي : أصحابها كالجبال الرّواسى ، لا يهزهم شىء من الواردات ولا غيرها ، إن يشأ يسكن رياح الواردات عن أسرارهم ، فيبقين رواكد على ظهر بحر الأحدية ، مستغرقين فى شهود الذات العلية ، أو يوبقهن بما كسبوا من سوء الأدب ، فيغرقن فى الزندقة أو الحلول والاتحاد ، ويعف عن كثير ، ويعلم الذين يطعنون فى آياتنا الدالة علينا ما لهم من مهرب.

ثم زهّد فى الدنيا ؛ لأنها العائقة للأفكار ، عن الجري فى بحار الأسرار ، فقال :

(فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٣٦) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (٣٧) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٣٨) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (٣٩) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ

__________________

(١) فى الأصول [بعضها] والمناسب ما أثبته ، وهو الذي فى تفسير النّسفى وأبى السعود.

(٢) فى الأصول [أهلها].

(٣) قرأ بها الأعمش ، انظر البحر المحيط ٧ / ٤٩٧.

(٤) من الآية ٢١ من سورة مريم.

(٥) وهى قراءة نافع وابن عامر ، وأبى جعفر. وقرأ الجمهور (ويعلم) بالنصب. انظر الإتحاف (٢ / ٤٥٠).

٢٢٢

عَلَى اللهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (٤١) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٤٢) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (٤٣))

يقول الحق جل جلاله : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) مما ترجون وتتنافسون فيه (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : فهو متاعها ، تتمتعون به مدة حياتكم ، ثم يفنى ، (وَما عِنْدَ اللهِ) من ثواب الآخرة (خَيْرٌ) ذاتا ؛ لخلوص نفعه ، (وَأَبْقى) زمانا ؛ لدوام بقائه. (لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) ، و «ما» الأولى ضمّنت معنى الشرط ، فدخلت فى جوابها الفاء ، بخلاف الثانية. وعن علىّ رضي الله عنه : أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ تصدّق بماله كله ، فلامه النّاس ، فنزلت الآية.

ثم قال تعالى : (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) أي : الكبائر من هذا الجنس. وقرأ الأخوان : (كبير الإثم). قال ابن عباس : هو الشرك ، (وَ) يجتنبون (الْفَواحِشَ) وهى ما عظم قبحها ، كالزنى ونحوه ، (وَإِذا ما غَضِبُوا) من أمر دنياهم (هُمْ يَغْفِرُونَ) أي : هم الأخصّاء بالغفران فى حال الغضب ، فيحلمون ، ويتجاوزون. وفى الحديث : «من كظم غيظه فى الدنيا ردّ الله عنه غضبه يوم القيامة» (١).

(وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ؛ أتقنوا الصلوات الخمس ، (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي : ذو شورى ، يعنى : لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعون عليه. وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هدوا لأرشد أمورهم. والشورى : مصدر ، كالفتيا ، بمعنى التشاور. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ؛ يتصدقون.

(وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) ؛ الظلم (هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ؛ ينتقمون ممن ظلمهم ، أي : يقتصرون فى الانتصار على ما حدّ لهم ، ولا يعتدون ، وكانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم فيجترئ عليهم الفسّاق ، فإذا قدروا عفوا ، وإنما حمدوا على الانتصار ؛ لأن من انتصر ، وأخذ حقه ، ولم يجاوز فى ذلك حدّ الله ، فلم يسرف فى القتل ، إن كان ولىّ دم ، فهو مطيع لله. وقال ابن العربي : قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ ...) الآية ، ذكر الانتصار فى معرض

__________________

(١) أخرج الطبراني فى الأوسط (ح ١٣٢٠) عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من دفع غضبه دفع الله عنه عذابه» قال الهيثمي فى مجمع الزوائد (٨ / ٧٠) : فيه عبد السّلام بن هلال ، وهو ضعيف».

وأخرج أبو داود فى (الأدب ، باب فى كظم الغيظ ح ٤٧٧٧) والترمذي وحسّنه فى (البر والصلة ، باب فى كظم الغيظ ، ح ٢٠٢١) وابن ماجه فى (الزهد ، باب الحلم ، ح ٤١٨٦) عن معاذ بن أنس الجهني رضي الله عنه عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «من كظم غيظا هو قادر على أن ينفذه ، دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة ، حتى يخيره فى أىّ الحور شاء».

٢٢٣

المدح ، ثم ذكر العفو فى معرض المدح ، فاحتمل أن يكون أحدهما رافعا للآخر ، واحتمل أن يكون ذلك راجعا إلى حالين ، أحدهما : أن يكون الباغي معلنا بالفجور وقحا فى الجمهور ، ومؤذيا للصغير والكبير ، فيكون الانتقام منه أفضل ، وفى مثله قال إبراهيم النّخعى : يكره للمؤمنين أن يذلّوا أنفسهم ، فيجترئ عليهم الفسّاق. وإما أن تكون الفلتة ، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ، ويسأل المغفرة ، فالعفو هاهنا أفضل ، وفى مثله نزل : (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى) (١) ، (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا) الآية (٢). ه.

ثم بيّن حدّ الانتصار ، فقال : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) ، فالأولى سيئة حقيقة ، والثانية مجازا للمشاكلة ، وفى تسميتها سيئة نكتة ، وهى الإشارة إلى أن العفو أولى ، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو ، ولذلك عقبه بقوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ) بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) ، وهى عدة مبهمة لا يقادر قدرها ، (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) الذين يبدؤون بالظلم ، أو : يتجاوزون حدّ الانتصار. وفى الحديث : «ينادى مناد يوم القيامة : من كان له أجر على الله فليقم ، فلا يقوم إلا من عفا» (٣).

(وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ) أي : أخذ حقه بعد ما ظلم ـ على إضافة المصدر إلى المفعول ـ (فَأُولئِكَ) جمع الإشارة مراعاة لمعنى «من» (ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) للمعاقب ولا للمعاتب (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) ؛ يبتدئونهم بالظلم ، (وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ) ؛ يتكبرون فيها ، ويعلون ، ويفسدون (بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) بسبب بغيهم وظلمهم. وفسّر السبيل بالتبعة والحجة.

(وَلَمَنْ صَبَرَ) على الظلم والأذى ، (وَغَفَرَ) ولم ينتصر ، أو : ولمن صبر على البلاء من غير شكوى ، وغفر بالتجاوز عن الخصم ، ولا يبقى لنفسه عليه دعوى ، بل يبرى خصمه من جهته من كلّ دعوى فى الدنيا والعقبى ، (إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) أي : إن ذلك الصبر والغفران منه لمن عزم الأمور ، أي : من الأمور التي ندب إليها ، وعزم على فعلها ، أو : مما ينبغى للعاقل أن يوجبه على نفسه ، ولا يترخّص فى تركه. وحذف الرّاجع ـ أي : منه ـ كما حذف فى قولهم : السمن منوان بدرهم. وقال أبو سعيد القرشي : الصبر على المكاره من علامات الانتباه ، فمن صبر على مكروه أصابه ، ولم يجزع ، أورثه الله تعالى حال الرّضا ، وهو أصل الأحوال ؛ ومن جزع من المصيبات ، وشكى ، وكله إلى نفسه ، ثم لم تنفعه شكواه. ه. وانظر تحصيل الآية فى الإشارة ، إن شاء الله.

قال ابن جزى : ويظهر لى أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الرّاشدين ـ رضي الله عنهم ـ لأنه بدأ أولا بصفات أبى بكر الصدّيق ، ثم صفات عمر ، ثم صفات عثمان ، ثم صفات علىّ بن أبى طالب ، فأما صفات

__________________

(١) من الآية ٢٧٧ من سورة البقرة.

(٢) من الآية ٢٢ من سورة النّور.

(٣) عزاه فى اتحاف السادة المتقين ٧ / ٥٦١ لابن عساكر فى التاريخ ، من حديث علىّ رضي الله عنه.

٢٢٤

أبى بكر ، فقوله : (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) وإنما جعلنا هذه صفات أبى بكر ، وإن كان جميعهم متصفا بها ، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لو وزن إيمان أبى بكر بإيمان الأمة لرجح» (١) وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا مدينة الإيمان ، وأبو بكر بابها». وقال أبو بكر : «لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا». والتوكّل إنما يقوى بقوة الإيمان.

وأما صفات عمر : فقوله (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ) ؛ لأن ذلك هو التقوى ، وقد قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا مدينة التقوى وعمر بابها» وقوله : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) ، وقوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ) نزلت فى عمر. وأما صفات عثمان ؛ فقوله : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) ؛ لأن عثمان لمّا دعاه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم إلى الإسلام بادر إليه ، وقوله : (وَأَقامُوا الصَّلاةَ) ؛ لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل ، وفيه نزلت : (أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ...) الآية. (٢) وروى أنه كان يحيى الليل بركعة ، يقرأ فيها القرآن كله. وقوله : (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) ؛ لأن عثمان ولى الخلافة بالشورى ، وقوله : (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) ؛ لأن عثمان كان كثير النّفقة فى سبيل الله ، ويكفيك أنه جهز جيش العسرة.

وأما صفات علىّ ؛ فقوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ؛ لأنه لمّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها ، انتصارا للحق ، وانظر كيف سمى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم المقاتلين لعلىّ الفئة الباغية ، حسبما ورد فى الحديث الصحيح ، أنه قال لعمّار : «ويح عمّار ، تقتله الفئة الباغية» (٣) وذلك هو البغي الذي أصابه. وقوله : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) إشارة إلى فعل الحسن بن علىّ ، حين بايع معاوية ، وأسقط حق نفسه ، ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى الحسن : «إنّ ابني هذا سيّد ، وسيصلح الله به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» (٤). وقوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ) إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت

__________________

(١) أخرجه البيهقي فى الشعب (ح ٣٦) وابن أبى شيبة فى الإيمان (١٠٨) عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفا.

وقال فى كشف الخفاء (٢ / ٢٣٤) : (أخرجه ابن عدى والديلمي ، كلاهما عن ابن عمر ، مرفوعا ، بلفظ : «لو وضع إيمان أبى بكر على إيمان هذه الأمة لرجح بها». وفى سنده «عيسى بن عبد الله» ضعيف ، لكن يقويه ما أخرجه ابن عدى أيضا من طريق أخرى بلفظ : «لوزن إيمان أبى بكر بإيمان أهل الأرض لرجحهم» وله شاهد أيضا فى السنن عن أبى بكرة ، مرفوعا : أن رجلا قال : رأيت يا رسول الله! كأنّ ميزانا نزل من السماء فوزنت أنت وأبو بكر ، فرجحت أنت ، ثم وزن أبو بكر بمن بقي فرجح ..» الحديث.

قلت : حديث أبى بكرة ، أخرجه أبو داود فى (السنة ، باب فى الخلفاء ، ح ٤٦٣٤) والترمذي فى (الرؤيا ، باب ما جاء فى رؤيا النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم الميزان والدلو ، ح ٢٢٨٧) وقال : «حسن صحيح» وعندهما : «ووزن عمر وأبو بكر ، فرجح أبو بكر ...».

(٢) الآية ٩ من سورة الزمر.

(٣) أخرج البخاري فى (الصلاة ، باب التعاون فى بناء المسجد ، ح ٤٤٧) عن أبى سعيد ، قال ـ وهو يحدث عن بناء المسجد ـ : كنا نحمل لبنة لبنة ، وعمار لبنتين لبنتين ، فرآه النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فينفض التراب عنه ، ويقول : «ويح عمار ، تقتله الفئة الباغية ، يدعوهم إلى الجنة ، ويدعونه إلى النّار» قال : يقول عمار : أعوذ بالله من الفتن.

(٤) أخرجه البخاري فى (الصلح ، باب قول النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم للحسن بن علىّ رضي الله عنهما : إن هذا سيد ، ح ٢٧٠٤) من حديث أبى بكرة رضي الله عنه.

٢٢٥

أخيه ، وطلبه للخلافة ، وانتصاره من بنى أمية. وقوله : (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ) إشارة إلى بنى أمية ، فإنهم استطالوا على النّاس ، كما فى الحديث : «إنهم جعلوا عباد الله خولا ، ومال الله دولا ، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون علىّ بن أبى طالب على منابرهم. وقوله : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ) إشارة إلى صبر أهل بيت النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدة بنى أمية. (١) ه.

الإشارة : قوله تعالى : (فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا) أي : وينقص من درجاتكم فى الآخرة بقدر ما تمتعتم به ، كما فى الخبر ، ولذلك زهّد فيه بقوله : (وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى ..) الآية ، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود. (وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ) هى أمراض القلوب ، كالحسد والكبر والرّياء وغيرها ، (وَالْفَواحِشَ) هى معاصى الجوارح كالزنا وغيره. وقوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا ؛ لأن الغضب وصف بشرى ، لا ينفك عنه مخلوق ، فالمطلوب المجاهدة فى دفعه ، وردّ ما ينشأ عنه ، لا زواله من أصله ، فعدم وجوده فى البشر أصلا نقص ، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه : «من استغضب ولم يغضب فهو حمار» فالشرف هو كظمه بعد ظهوره ، لا زواله بالكلية.

وقوله تعالى : (وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ) قال القشيري : المستجيب لربه هو الذي لا يبقى له نفس إلا على موافقة رضاه ، ولا يبقى لهم منه بقية ، (وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ) أي : لا يستبدّ [أحدهم] (٢) برأى ، ويتّهم رأيه وأمره ، ثم إذا أراد القطع توكّل على الله. ه.

وحاصل ما اشتملت عليه الآية فى رد الغضب : أربع مقامات ؛ الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقا ، قدروا أو عجزوا ، لا يتحركون فى الانتصار قط ، وهو قوله تعالى : (وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ) والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب ، فتحركوا فى الانتصار ، ثم عفوا بعد الاقتدار ، وهذا قوله : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ) ، ثم قال : (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ). والثالث : قوم قدروا وانتصروا ، وأخذوا حقهم ، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم ، وهو قوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ ..) الآية. والرّابع : قوم ظلموا ، فعفوا ، وزادوا الإحسان إلى من أساء إليهم ، والدعاء له بالمغفرة ، حتى يصير مرحوما بهم ، وهى رتبة الصدّيقية ، أن ينتفع بهم أعداؤهم ، وهو قوله تعالى : (وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ) ، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور.

__________________

(١) على هامش النّسخة الأم مايلى : قلت : هذا التفسير الذي نقله عن ابن جزى باطل ، يجل كلام الله تعالى عنه ، والأحاديث التي ذكرها كلها موضوعة ، ما عدا : «لو وزن إيمان أبى بكر ..» وما عدا حديث : أنا مدينة العلم ، وعلىّ بابها.

(٢) ما بين المعقوفتين مستدرك من لطائف الإشارات.

٢٢٦

وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون ، والخاصة لا ينتصرون ، لكن يرفعون أمرهم إلى الله فى أخذ حقهم من ظالمهم ، وخاصة الخاصة يحسنون لمن أساء إليهم ، كما تقدم. وقال القشيري : (وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ) وهو الظلم ، ينتصرون ؛ لعلمهم أن الظلم أصابهم من قبل أنفسهم ، فينتصرون من الظالم ، وهو النّفس ، ويكبحون عنانها من الرّكض فى ميدان المخالفة. ثم قال : قوله : (وَلَمَنِ انْتَصَرَ ..) الآية ، علم الله أنّ من عباده من لا يجد الحرية من أحكام النّفس ، ولا يستمكن من محاسن الخلق ، فرخّص لهم فى المكافأة على سبيل العدل والقسط ، وإن كان الأولى بهم الصفح والعفو. ه.

ثم ذكر وبال الظلم وعقوبته ، فقال :

(وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (٤٤) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (٤٥) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (٤٧) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (٤٨))

يقول الحق جل جلاله : (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ) أي : فما له من أحد يلى هدايته من بعد إضلال الله إياه ، ويمنعه من عذابه. (وَتَرَى الظَّالِمِينَ) يوم القيامة ، وهم الذين أضلهم الله ، (لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ) ؛ حين يرون العذاب ، وأتى بصيغة الماضي للدلالة على تحقيق الوقوع ، (يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ) ؛ رجعة إلى الدنيا (مِنْ سَبِيلٍ) حتى نؤمن ونعمل صالحا.

٢٢٧

(وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها) ؛ على النّار ، يدلّ عليها ذكر العذاب. والخطاب لكلّ من يتأتى منه الرّؤية (خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِ) ؛ متذللين متضائلين مما دهاهم ، فالخشوع : خفض البصر وإظهار الذل ، (يَنْظُرُونَ) إلى النار (مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ) ضعيف بمسارقة ، كما ترى المصبور ينظر إلى السيف عند إرادة قتله. (وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ) بالتعرض للعذاب الخالد (يَوْمَ الْقِيامَةِ) ، و «يوم» : متعلق بخسروا. وقول المؤمنين واقع فى الدنيا. ويقال ، أي : يقولونه يوم القيامة ، إذا رأوهم على تلك الصفة : (أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ) ؛ دائم ، (وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ) برفع العذاب عنهم (مِنْ دُونِ اللهِ) حسبما كانوا يرجون ذلك فى الدنيا ، (وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ) إلى النّجاة.

(اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) إلى ما دعاكم إليه على لسان نبيه ، (مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ) أي : يوم القيامة (لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ) أي : لا يرده الله بعد ما حكم بمجيئه ، ف «من» متعلق ب «لا مرد» ، أو : ب «يأتى» أي : من قبل أن يأتى من الله يوم لا يقدر أحد على رده ، (ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ) أي : مفر تلتجئون إليه ، (وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) أي : وليس لكم إنكار لما اقترفتموه ؛ لأنه مدون فى صحائف أعمالكم ، وتشهد عليكم جوارحكم.

(فَإِنْ أَعْرَضُوا) عن الإيمان (فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً) ؛ رقيبا ، تحفظ أعمالهم ، وتحاسبهم ، (إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ) ؛ ما عليك إلا تبليغ الرّسالة ، وقد بلغت ، وليس المانع لهم من الإيمان عدم التبليغ ، وإنما المانع : الطغيان وبطر النّعمة ، كما قال تعالى : (وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً) أي : نعمة من الصحة ، والغنى ، والأمن ، (فَرِحَ بِها) وقابلها بالبطر ، وتوصل بها إلى المخالفة والعصيان. وأريد بالإنسان الجنس ، لقوله تعالى : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) ، بلاء ، من مرض ، وفقر ، وخوف ، (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ) ؛ بليغ الكفر ، ينسى النّعمة رأسا ، ويذكر البلية ، ويستعظمها ، بل يزعم أنها أصابته من غير استحقاق.

وأفرد الضمير فى (فرح) مراعاة للفظ ، وجمعه فى «تصبهم» مراعاة للمعنى. وإسناد هذه الخصلة إلى الجنس مع كونها من خواص الجنس ، لغلبتها فيهم. وتصدير الشرطية الأولى بإذا ، مع إسناد الإذاقة إلى نون العظمة ؛ للتنبيه على أن إيصال الرّحمة محقق الوجود ، كثير الوقوع ، وأنه مراد بالذات ، كما أن تصدير الثانية بأن ، وإسناد الإصابة إلى السيئة ، وتعليلها بأعمالهم ؛ للإيذان بندرة وقوعها ، وأنها غير مرادة بالذات ، «إن رحمتى سبقت غضبى». ووضع الظاهر موضع الضمير للتسجيل على أن هذا الجنس موسوم بكفران النّعم. قاله أبو السعود.

الإشارة : من تنكبته العناية السابقة ، وأدركته الغواية اللاحقة ، لم ينفع فيه وعظ ولا تذكير ، وليس له من عذاب الله ولىّ ولا نصير ، فإذا تحققت الحقائق ، وطلب الرّجوع ، لم يجد له سبيلا ، وبقي فى الهوان خاشعا ذليلا ، فيعيرهم

٢٢٨

من سبقت لهم العناية ، من أهل الجد والتشمير ، ويقولون : هؤلاء الذين خسروا أنفسهم ، حيث لم يتعبوها فى مرضاة الله ، وأهليهم ، حيث لم يذكّروهم الله.

قال القشيري : قوله تعالى : (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ) بالوفاء بعهده ، والقيام بحقّه ، والرّجوع من مخالفته إلى موافقته ، والاستسلام فى كلّ وقت لحكمه والطريق اليوم إلى الاستجابة مفتوح ، وعن قريب سيغلق الباب على القلب بغتة ، ويؤخذ فلتة. ه. ويقال لكلّ واعظ وداع : (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً ...) الآية.

ثم بيّن وجه ما تقدم ، من أن الأمور كلها بيده ، هداية وإضلالا ، وإنعاما وابتلاء ، فقال :

(لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (٤٩) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (٥٠))

يقول الحق جل جلاله : (لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : يملك التصرف فيهما ، وفى كلّ ما فيهما ، كيف يشاء ، ومن جملته : أن يقسم النّعمة والبلية ، حسبما يريده. (يَخْلُقُ ما يَشاءُ) مما يعلمه الخلق ومما لا يعلمونه ، (يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً) من الأولاد (وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ) منهم ، من غير أن يكون لأحد فى ذلك مدخل ، (أَوْ يُزَوِّجُهُمْ) أي : يقرن بين الصنفين ، ويهبهما جميعا (ذُكْراناً وَإِناثاً) ، بأن تلد غلاما ثم جارية ، أو تلدهما معا. (وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً) لا نسل له. والعقيم : الذي لا يولد له ، رجل أو امرأة.

وقدّم الإناث أولا على الذكور ؛ لأن سياق الكلام أنه فاعل ما يشاء ، لا ما يشاؤه الإنسان ، فكان ذكر الإناث اللاتي من جملة ما لا يشاؤه الإنسان أهمّ ، أو : لأن الكلام فى البلاء ، والعرب تعدهن عظيم البلايا ، أو : تطييب قلوب آبائهم ، ولمّا أخّر الذكور ـ وهم أحقاء بالتقديم ـ تدارك ذلك بتعريفهم ؛ لأن التعريف تنويه وتشريف ، ثم أعطى بعد ذلك كلا الجنسين ما يستحقه من التقديم والتأخير ، فقال : (ذُكْراناً وَإِناثاً). وقيل المراد : أحوال الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ حيث وهب لشعيب ولوط إناثا ، ولإبراهيم ذكورا ، وللنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ذكورا وإناثا ، وجعل يحيى وعيسى عقيمين. (إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) مبالغ فى العلم والقدرة ، فيفعل ما فيه حكمة ومصلحة.

الإشارة : يهب لمن يشاء إناثا ، علوما وحسنات ، ويهب لمن يشاء الذكور ، أذواقا وواردات ، ويجعل من يشاء عقيما ، لا علم ولا ذوق ، وانظر لطائف المنن (١). أو تقول : يهب لمن يشاء إناثا ؛ من ورّث علم الرّسوم الظاهر ،

__________________

(١) للشيخ أحمد بن عطاء السكندرى. باب تبيان معنى آيات كتاب الله تعالى ص ١٦٦.

٢٢٩

وأقيمت بعده ، ويهب لمن يشاء الذكور ؛ من ورّث علم الأذواق والوجدان ، وعمّر رجالا ، أو يزوجهم ؛ من ورثهما ، ويجعل من يشاء عقيما لم يترك وارثا ، لا من الظاهر ، ولا من الباطن ، وقد يكون كاملا وهو عقيم ، وقد يكون غير كامل وله أولاد كثيرة ، لكن الغالب على من له أولاد أن يتسع بهم ، بخلاف العقيم. والله تعالى أعلم.

ثم قرر عظمة ملكه ، فقال :

(وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (٥١) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (٥٢) صِراطِ اللهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (٥٣))

يقول الحق جل جلاله : (وَما كانَ لِبَشَرٍ) أي : ما صحّ لأحد من البشر (أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ) بوجه من الوجوه (إِلَّا وَحْياً) ؛ إلهاما ، كقوله عليه الصلاة والسّلام : «ألقى فى روعى» (١) أو : رؤيا فى المنام لقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «رؤيا الأنبياء وحي» (٢) كأمر إبراهيم عليه‌السلام بذبح الولد ، وكما أوحى إلى أم موسى ، روى عن مجاهد : «أوحى الله الزبور إلى داود عليه‌السلام ـ فى صدره». (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) بأن يسمع كلاما من الله ، من غير رؤية السامع من يكلّمه ، كما سمع موسى عليه‌السلام من الشجرة ، ومن الفضاء فى جبل الطور ، وليس المراد به حجاب الله تعالى على عبده حسا ؛ إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حسا ، وإنما المراد : المنع من رؤية الذات بلا واسطة.

(أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً) أو : بأن يرسل ملكا (فَيُوحِيَ) الملك (بِإِذْنِهِ) ؛ بإذن الله تعالى وتيسيره (ما يَشاءُ) من الوحى. وهذا هو الذي يجرى بينه تعالى وبين أنبيائه فى عامة الأوقات. روى : أن اليهود قالت للنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ألا تلكم الله ، وتنظر إليه إن كنت نبيا ، كما كلمه موسى ، ونظر إليه؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «لم ينظر موسى إلى الله تعالى» فنزلت (٣).

__________________

(١) ورد : «إن روح القدس نفث فى روعى أنّ نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ، وتستوعب رزقها ...» الحديث. أخرجه أبو نعيم فى الحلية (١٠ / ٢٧) من حديث أبى أمامة رضي الله عنه. وجاءت كلمة «ألقى فى روعى» بنصها عن أبى سعيد الخدري فى حديث الرّقية بالفاتحة ، ذلك عند ما قال الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «وما يدريك أنها رقية»؟ فقال أبو سعيد : ألقى فى روعى». الحديث أخرجه أحمد (٣ / ٥٠).

(٢) أخرجه البخاري فى (الوضوء ، باب التخفيف فى الوضوء ، ١٣٨) عن عبيد بن عمير (تابعي) موقوفا ، وقال الحافظ ابن حجر فى فتح الباري (١ / ٢٨٩) : «رواه مسلم مرفوعا».

(٣) قال الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص ١٤٦) : «لم أجده».

٢٣٠

والذي عليه جمهور المحققين أن نبينا عليه الصلاة والسّلام رأى ربه ليلة المعراج ، وكلّمه مشافهة ، وعليه حمل البيضاوي قوله تعالى : (إِلَّا وَحْياً) ؛ لأن الوحى هو : الكلام الخفي ، المدرك بسرعة ، أعم من أن يكون مشافهة أو غيرها.

قال الطيبي : وإذا حمل الوحى على ما قاله البيضاوي ، وأنه المشافهة ، المعنى بقوله : (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) (١) اتجه ترتيب الآية ، وأنه ذكر أولا الكلام بلا واسطة ، بل مشافهة ، وهو حال نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم ذكر ما كان بغير واسطة ، ولكن لا بمشافهة ، بل من وراء الغيب ، ثم ذكر الكلام بواسطة الإرسال (٢). ه. بالمعنى.

(إِنَّهُ عَلِيٌ) ؛ متعال عن صفات المخلوقين ، لا يتأتى جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة ، ولا تكون المكافحة إلا بالغيبة عن حس البشرية ، (حَكِيمٌ) يجرى أفعاله على سنن الحكمة ، فيكلم تارة بواسطة ، وأخرى بدونها ، مكافحة ، أو غيرها.

(وَكَذلِكَ) أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع ـ كما وصفنا (أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وهو القرآن ، الذي هو للقلوب بمنزلة الرّوح للأبدان ، فحييت الحياة الأبدية. (ما كُنْتَ تَدْرِي) قبل الوحى (مَا الْكِتابُ) أىّ شىء هو ، (وَلَا الْإِيمانُ) بما فى تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدى إليها العقول ، لا الإيمان بما يستقل به العقل والنّظر ، فإنّ درايته صلى‌الله‌عليه‌وسلم مما لا ريب فيه قطعا. قال القشيري : ما كنت تدرى قبل هذا ما القرآن ولا الإيمان بتفصيل هذه الشرائع. وقال الشيخ البكري : أي الإيمان على الوجه الأخص ، المرتب على تنزلات الآيات ، وتلاوة البينات ، واستكشاف وجه الحق بأنوار العلم المنزل على قلبه من حضرة ربه. ه.

وقال ابن المنير : الإيمان برسالة نفسه ، وهو المنفي عنه قبل الوحى ؛ لأن حقيقة الإيمان ؛ التصديق بالله وبرسوله. ه.

(وَلكِنْ جَعَلْناهُ) أي : الروح الذي أوحيناه إليك (نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ) هدايته (مِنْ عِبادِنا) ، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به. (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي) بذلك النّور من نشاء هدايته ، أو : وإنك لتدعو (إِلى

__________________

(١) الآية : ١٠ من سورة النّجم.

(٢) على هامش النّسخة الأساسية مايلى :

وعلى كلام البيضاوى يختل نظام القرآن المعجز ببلاغته ، إذ معناه : وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا كلاما مواجهة أو من وراء حجاب .. إلخ ، وهذا غير معقول صدوره من بلغاء البشر ، فضلا عن كلام الله ، فأعجب للطيبى وللمؤلف ، ولكلّ من أمره على هذا المعنى المختل. ه.

٢٣١

صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام ، (صِراطِ اللهِ) ؛ بدل من الأول ، وإضافته إلى الاسم الجليل ، ثم وصفه بقوله تعالى : (الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) لتفخيم شأنه ، وتقرير استقامته ، وتأكيد وجوب سلوكه ؛ فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى ، خلقا ، وملكا ، وتصرفا ، مما يوجب ذلك أتم الإيجاب. (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) أي : الأمور قاطبة راجعة إليه ، لا إلى غيره ، فيتصرف فيها على وفق حكمته ومشيئته.

الإشارة : قد تحصل للأولياء المكالمة مع الحق تعالى بواسطة تجلياته ، فيسمعون خطابه تعالى من البشر والحجر ، أو بلا واسطة ، بحيث يسمعون الكلام من الفضاء ، وإليه أشار الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه بقوله : «وهب لنا مشاهدة تصحبها مكالمة» ، ولا تكون هذه الحالة إلا للأكابر من أهل الفناء والبقاء. وأما مكالمة الحق من النّور الأقدس ، بلا واسطة ، فهو خاص نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليلة الإسراء. قال شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرّحمن الفاسى رضي الله عنه : والذي عندى أن التكلم على المكافحة والمشافهة إنما يكون بالانخلاع عن البشرية ، ومحوها ، والبقاء بصفات الربوبية ، وذلك إشارة إلى أنه ـ عليه‌السلام ـ إنما شوفه وكلّم بعد العروج عن أرض الطبيعة إلى سماء الحقيقة ، وكان بالأرض يكلم بالواسطة ، وموسى كلّم بغير واسطة ، ولكن بغير مشافهة ، ولذلك كان كلامه بالأرض ، ولم يعط الرؤية ؛ لأنها لا تكون فى الأرض ، أي : فى أرض البشرية ؛ بل لا بد من الغيبة عنها. وذهب الورتجبي إلى أن الحصر فيما ذكر فى الآية إنما هو لمن كان فى حجاب البشرية ، فأما من خرج عنها إلى الغيب ، وألبس نور القرب وكحّل عينه بنوره تعالى ، ومدّ سمعه بقوة الرّبوبية ، فإنه يخاطب كفاحا وعيانا. ونقل مثل ذلك عن الواسطي ، فراجع بسطه فيه. والفرق بينه وبين ما ذكرنا : أن خطاب المكافحة عنده خارجة من الثلاثة المذكورة فى الآية ، وعندنا داخلة فى قوله : (إِلَّا وَحْياً) ؛ لأنه أعم من المشافهة ، والله أعلم.

وقوله تعالى : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي : طريق الوصول والترقي أبدا ، فيؤخذ منه : أن وساطته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا تنقطع عن المريد أبدا ؛ لأن الترقي يكون باستعمال أدب العبودية ، وهى مأخوذه عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكما أن الترقي لا ينقطع ؛ فالأدب ـ الذي هو سلوك طريقته صلى‌الله‌عليه‌وسلم لا ينقطع. والله تعالى أعلم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.

٢٣٢

سورة الزّخرف

مكية. وهى تسع وثمانون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله : (ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ ...) (١) إلخ ، مع قوله : (وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) ، فإنه تتميم له.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (٢) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٣) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (٤) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥))

يقول الحق جل جلاله : (حم) ؛ يا محمد ، (وَ) حق (الْكِتابِ الْمُبِينِ) أي : المبين لما أنزل عليهم ، لكونه بلغتهم ، وعلى أساليبهم ، أو : الموضّح لطريق الهدى من الضلالة ، أو : المبيّن لكلّ ما تحتاج إليه الأمة فى أبواب الديانة. وجواب القسم : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) بلغتكم (لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) أي : جعلنا ذلك الكتاب قرآنا عربيا لكى تفهموه ، وتحيطوا بما فيه من النّظم الرّائق ، والمعنى الفائق ، وتقفوا على ما تضمنه من الشواهد القاطعة بخروجه عن طوق البشر ، وتعرفوا حق النّعمة فى ذلك ، فتنقطع أعذاركم بالكلية.

(وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا) أي : وإن القرآن العظيم مثبت عند الله فى اللوح المحفوظ ، دليله قوله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) (٢). وسمّى أمّ الكتاب ؛ لأنه أصل الكتب السماوية ، منه تنقل وتنسخ. وقوله تعالى : (لَعَلِيٌ) خبر" إن" أي : إنه رفيع القدر بين الكتب ، شريف المنزلة ؛ لكونه معجزا من بينها. أو : فى أعلى طبقات البلاغة. (حَكِيمٌ) ؛ ذو حكمة بالغة ،. أو : محكم ، لا ينسخه كتاب.

وبعد ما بيّن علو شأنه ، وبيّن أنه أنزله بلغتهم ؛ ليعلموه ، ويؤمنوا به ، ويعملوا بما فيه ، عقّب ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه ، فقال : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) أي : ننحيه ونبعده. والضرب : مجاز ، من قولهم : ضرب الغرائب

__________________

(١) الآية ٥٢ من سورة الشورى.

(٢) الآيتان : ٢١ ـ ٢٢ من سورة البروج.

٢٣٣

عن الحوض (١). وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجيه الذكر إليهم ، وملازمته لهم ، كأنه يتهافت عليهم ثم يضربه عنهم. والفاء : للعطف على محذوف ، أي : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر (صَفْحاً) أي : إعراضا ، مصدر ، من : صفح عنه : إذا أعرض ، منصوب على أنه مفعول له ، على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن ، وإلزام الحجة به إعراضا عنكم. ويجوز أن يكون مصدرا مؤكدا لما دلّ عليه «نضرب» ؛ لأنه فى معنى الصفح ، كأنه قيل : أفنفصح صفحا (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) ، أي : لأن كنتم منهمكين فى الإسراف ، مصرّين عليه ؛ لأن حالكم اقتضى تخيلتكم وشأنكم ، حتى تموتوا على الكفر والضلالة ، فتبقوا فى العذاب الخالد ، لكن بسعة رحمتنا لا نفعل ذلك ، بل نهديكم إلى الحق ، بإرسال الرّسول الأمين ، وإنزال الكتاب المبين.

ومن قرأ بالكسر (٢) فشرط حذف جوابه ؛ لدلالة ما قبله عليه ، وهو من الشرط الذي يصدر عن الجازم بصحة الأمر ، كما يقول الأجير : إن كنت عملت لك فوفّنى حقى ، وهو عالم بذلك. وعبّر ب «أن» ؛ إخراجا للمحقق مخرج المشكوك ؛ لاستهجالهم (٣) ، كأن الإسراف من حقه ألا يقع.

الإشارة : (حم) أي : حببناك ، ومجدناك ، وملكناك ، وحق الكتاب المبين. ثم استأنف فقال : (إنا جعلناه) أي : ما شرفناك به أنت وقومك (قرآنا عربيا) يفهمه من يسمعه (لعلكم تعقلون) عن الله ، فتشكروا نعمه. (وإنه فى أمّ الكتاب) أي : وإن الذي شرفناكم به فى أمّ الكتاب. قال الورتجبي : أي : إنه صفتى ، كان فى ذاته (٤) منزها عن النقائص والافتراق ـ أي : منزها عن الحروف والأصوات ، التي من شأنها التغير ، وعن التقديم والتأخير ، وهو افتراق كلماته. إذ هما من صفات الحدث. وأم الكتاب عبارة عن [ذاته القديم ، لأنها] (٥) أصل جميع الصفات ، (لدينا) معناه : ما ذكرنا أنه فى أمّ الكتاب عندنا (لعلىّ) علا عن أن يدركه أحد بالحقيقة ، ممتنع من انتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، (حكيم) محكم مبين. وقال جعفر : علىّ عن درك العباد وتوهمهم ، حكيم فيما دبّر وأنشأ وقدّر. ه. فانظره ، فإنّ هذه من صفات الحق ، والكلام فى أوصاف القرآن.

وقوله تعالى : (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ...) الآية ، قال القشيري : وفى هذه إشارة لطيفة ، وهو : ألا يقطع الكلام عمّن تمادى فى عصيانه ، وأسرف فى أكثر شأنه ، [فأحرى] (٦) أن من لم يقصّر فى إيمانه ، أو تلطّخ

__________________

(١) الغرائب : جمع غريبة ، وهى الإبل الغريبة عن إبل صاحب الحوض.

(٢) قرأ نافع ، وحمزة ، والكسائي ، وأبو جعفر «إن كنتم» بكسر الهمزة ، على أنها شرطية. وقرأ الباقون بالفتح على العلة. انظر الإتحاف (٢ / ٤٥٣).

(٣) فى الأصول (لاستهجانهم) والمثبت من تفسير أبى السعود.

(٤) فى الورتجبي [ذاتى].

(٥) فى الورتجبي : [ذات القدم لأنه].

(٦) فى الأصول [أرجو].

٢٣٤

بعصيانه ، ولم يدخل خلل فى عرفانه ، فإنه لا يمنع عنه رؤية لطائف غفرانه. ه. يعنى : أن الحق جل جلاله لم يقطع كلامه عمن تمادى فى ضلاله ، فكيف يقطع إحسانه عمن تمسك بإيمانه ، ولو أكثر من عصيانه. وكذلك أهل النّسبة التصوفية ، إذا اعوجّ أخوهم ، لا يقطعون عنه كلامهم وإحسانهم ، بل يلاطفونه ، حتى يرجع ، وهذا مذهب الجمهور.

ثم سلّى نبيه بمن قبله ، فقال :

(وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨))

يقول الحق جل جلاله : (وَكَمْ أَرْسَلْنا) أي : كثيرا أرسلنا قبلك (مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) ؛ فى الأمم الماضية ؛ فكذّبوهم واستهزءوا بهم. (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) ، فاصبر كما صبروا. ويحتمل أن يكون تقريرا لما قبله ؛ لبيان أن إسراف الأمم السابقة لم يمنعه تعالى من إرسال الرّسل إليهم ، وكونها تسلية للرسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم أظهر. (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أي : فأهلكنا من الأمم السالفة من كان أكثر منهم طغيانا وإسرافا ، (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أي : سلف فى القرآن غير مرة ذكر قصة الأولين ، وهى عدة له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ووعيد لقومه ، بطريق الأولوية. فمثل ما جرى على الأولين يجرى على هؤلاء ؛ لاشتراكهم فى الوصف. وظاهر الآية : أن النبي والرّسول واحد ، والمشهور : أن النّبى أعم ، ف كل رسول نبى ، ولا عكس ، فالنبى مقصور فى الحكم على نفسه ، والرّسول نبىّ مكلف بالتبليغ.

الإشارة : ما سليت به الأنبياء والرّسل يسلّى به الأولياء ؛ لأنهم خلفاؤهم ، ف كل من أوذى واستهزئ به يتذكر ما جرى على من كان أفضل منه من الأنبياء وأكابر الأولياء ، فيخف عليه الأذى. وبالله التوفيق.

ثم ذكر إقرارهم بوجود الصانع ، فقال :

(وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ

٢٣٥

تُخْرَجُونَ (١١) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (١٢) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (١٣) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (١٤))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ) أي : المشركين (مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أي : ينسبون خلقها إلى من هذا وصفه فى نفس الأمر ؛ لا أنهم يعبّرون عنه بهذا العنوان. واختار هذين الوصفين للإيذان بانفراده بالإبداع والاختراع والتدبير ؛ لأن العزة تؤذن بالغلبة والاقتدار ، والعلم يؤذن بالتدبر والاختيار ، وليرتب عليه ما يناسبه من الأوصاف ، وهو قوله : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) (١) أي : موضع قرار كالمهد المعلق فى الهواء ، (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) تسلكونها فى أسفاركم (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي : لكى تهتدوا بسلوكها إلى مقاصدكم ، أو : بالتدبر فيها إلى توحيد ربكم ، الذي هو المقصد الأصلى.

(وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ) ؛ بمقدار يسلم معه العباد ، وتحتاج إليه البلاد ، على ما تقتضيه مشيئته المبنية على الحكم والمصالح ، (فَأَنْشَرْنا بِهِ) أي : أحيينا بذلك الماء (بَلْدَةً مَيْتاً) خاليا عنه الماء والنّبات. وقرئ : «ميّتا» بالتشديد (٢). وتذكيره ؛ لأن البلدة بمعنى البلد. والالتفات إلى نون العظمة ؛ لإظهار كمال العناية بأمر الإحياء والإشعار بعظيم خطره ، (كَذلِكَ تُخْرَجُونَ) أي : مثل ذلك الإحياء ، الذي هو فى الحقيقة : إخراج النّبات من الأرض ، تخرجون من قبوركم أحياء. وفى التعبير عن إخراج النّبات بالإنشاء ، الذي هو إحياء الموتى ، وعن إحيائهم بالإخراج ؛ تفخيم لشأن الإنبات ، وتهوين لأمر البعث ، لتقويم سنن الاستدلال ، وتوضيح منهاج القياس.

وهذه الجمل ، من قوله (الَّذِي جَعَلَ ...) : استئناف منه تعالى ، وليست من مقول الكفار ؛ لأنهم ينكرون الإخراج من القبور ، بل الآية حجة عليهم فى إنكار البعث ، وكذا قوله : (وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) ، أي : أصناف المخلوقات بحذافيرها ، على اختلاف أنواعها وألوانها. وقيل : الأزواج : ما كان مزدوجا ، كالذكر والأنثى ، والفوق والتحت ، والأبيض والأسود ، والحلو والحامض ، وقيل : كل ما ظهر من الغيب فهو مزدوج. والفرد هو الله.

__________________

(١) أثبت المفسر قراءة : «مهادا» بكسر الميم وفتح الهاء ، وألف بعدها ، وهى قراءة نافع وابن كثير وأبى عمرو ، وابن عامر. وقرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي : «مهدا» بفتح الميم وسكون الهاء ، مع القصر.

(٢) وبذلك قرأ أبو جعفر .. انظر الإتحاف (٢ / ٤٥٤).

٢٣٦

(وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ) أي : ما تركبونه ، يقال : ركبوا فى الفلك ، وركبوا الأنعام ، فغلب المتعدّى بغير واسطة ؛ لقوته [على] (١) المتعدى بواسطة ، فقيل : تركبونه.

(لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ) : ولتستعلوا على ظهور ما تركبونه من الفلك والأنعام ، (ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ) ؛ تذكروها بقلوبكم ، معترفين بها بألسنتكم ، مستعظمين لها ، ثم تحمدوا عليها بألسنتكم ، (وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا) أي : ذلّل لنا هذا المركوب ، متعجبين من ذلك (وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ) ؛ مطيقين. يقال : أقرن الشيء : إذا أطاقه ، وأصله : وجده قرينه ؛ لأن الصعب لا يكون قرينا للضعيف إلا إذا ذلله الله وسهّله ، (وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ) أي : راجعون. وفيه إيذان بأن حق الرّاكب أن يذكر عند ركوبه مركب الدنيا ، آخر مركبه منها ، وهو : الجنازة ؛ فيبنى أموره فى مسيره على تلك الملاحظة ، حتى لا يخطر بباله شىء من زينة الدنيا ، وملاهيها وأشغالها.

وعن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم «أنه كان إذا وضع رجله فى الرّكاب ، قال : «بسم الله» فإذا استوى على الدابة قال : الحمد لله الذى سخر لنا هذا ... إلى : (لَمُنْقَلِبُونَ) ، ثم كبّر «ثلاثا ، وهلل ثلاثا ، ثم قال : «اللهم اغفر لى ..» (٢) ، وحكى أن قوما ركبوا ، وقالوا : («سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا ...) الآية ، وفيهم رجل على ناقة لا تتحرك هزالا ، فقال : إنى مقرن لهذه ـ أي مطيق ـ فسقط منها لوثبتها ، واندقت عنقه (٣). وينبغى ألا يكون ركوب العاقل للشهرة والتلذذ ، بل للاعتبار ، فيحمد الله ويشكره على ما أولاه من نعمه ، وسخّر له من أنعامه.

الإشارة : قد اتفقت الملل كلها على وجود الصانع ، إلا من لا عبرة به من الفلاسفة ، وإنما كفر من كفر بالإشراك ، أو : بوصف الحق على غير ما هو عليه ، أو : بجحد الرّسول. وقد تواطأت الأدلة العقلية والسمعية على وجود الحق وظهوره ، بظهور آثار قدرته ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فدلّ بوجود آثاره على وجود أسمائه ، وبوجود أسمائه ، على وجود أوصافه ، وبثبوت أوصافه على وجود ذاته. فأهل السلوك يكشف لهم أولا عن وجود آثاره ، ثم عن أسمائه ، ثم عن صفاته ، ثم عن شهود ذاته. وأهل الجذب يكشف لهم أولا عن ذاته ، ثم عن أوصافه ، ثم عن أسمائه ، ثم عن آثاره ، فربما التقيا فى الطريق ، هذا فى ترقيه ، وهذا فى تدليه ، كما فى الحكم.

__________________

(١) فى الأصول (فى) والمثبت من تفسير النّسفى.

(٢) أخرجه ، مطولا ، أبو داود فى (الجهاد ، باب ما يقول الرّجل إذا ركب ٣ / ٧٧ ، ح ٢٦٠٢) والترمذي فى (الدعوات ، باب ما يقول إذا ركب دابة ٥ / ٤٦٧ ح ٣٤٤٦). وقال : [حديث حسن صحيح]. وابن حبان (الأذكار ، باب ما يقول إذا ركب الدابة ح ٢٣٧٠ ـ ٢٣٨١. ص ٥٩١ موارد) والحاكم (٢ / ٩١) وصحّحه على شرط مسلم. من حديث سيدنا على رضي الله عنه وكرم وجهه.

(٣) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ٧١٧) لعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن سليمان بن يسار.

٢٣٧

وقوله تعالى : (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ...) (١) إلخ ، قال القشيري : كما جعلها قرارا لأشباحهم ، جعل الأشباح قرارا لأرواحهم ؛ فهى سكّان النّفوس ، كما أن الخلق سكّان الأرض ، فإذا انتهت مدة كون النّفوس ، حكم الله بخرابها .. كذلك إذا فارقت الأرواح الأشباح بالكليّة ، قضى الله بخرابها.

ثم قال فى قوله : (فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً) : وكما يحيى الأرض بالمطر يحيى القلوب بحسن النّظر. والذي خلق من الأزواج أصناف الخلق ، كذلك حبس عليكم الأحوال كلها ، فمن رغبة فى الخيرات ، وخوف يحملكم على ترك الزلات ، ورجاء يبعثكم على فعل الطاعات ، طمعا فى المثوبات ، وغير ذلك من فنون الصفات ، وكما سخّر الأنعام ، وأعظم المنّة بذلك ، سخّر للمؤمنين مركب التوفيق ، يحملهم عليه إلى بساط الطاعة ، وسهّل للمريدين مركب الإرادة ، وحملهم عليه إلى عرصات الجود ، وفضاء الشهود ، وسهّل للعارفين مركب الهمّة ، فأناخوا بالحضرة القدسية ، وعند ذلك محط الكافة ؛ ثم لا تخرق سرادقات العزة همّة مخلوق ، سواء كان ملكا مقرّبا ، أو نبيّا مرسلا ، أو وليّا مكرّما. فعند سطوات العزّ يتلاشى كلّ مخلوق ، ويقف وراءها كلّ محدث مسبوق. ه. ببعض المعنى. وسرادقات العز : حجاب الكبرياء ، فلا تحصل الإحاطة بكنه الرّبوبية لأحد من الخلق. ولهذا يبقى الترقي أبدا للعارفين ، فى هذه الدار ، وفى تلك الدار ، ولا يحصل على غاية أسرار الرّبوبية أحد ، ولو بقي يترقى أبدا سرمدا. والله تعالى أعلم.

ثم أبطل مذهب أهل الشرك ، فقال :

(وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (١٥) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (١٨) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (١٩))

يقول الحق جل جلاله : (وَجَعَلُوا) أي : المشركين (لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً) حيث قالوا : الملائكة بنات الله ، فجعلوهم جزءا له ، وبعضا منه ، كما يكون الولد لوالده جزءا. وهذا متصل بقوله : (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ ...) إلخ ، أي :

__________________

(١) راجع التعليق على هذه القراءة فى موضعها أثناء التفسير.

٢٣٨

ولئن سألتهم عن خالق السموات والأرض ليعترفن به ، وقد جعلوا له سبحانه بألسنتهم ، واعتقادهم مع ذلك الاعتراف ، من عباده جزءا. وعبّر بالجزء لمزيد استحالته فى حق الواحد الأحد ، من جميع الجهات. وقرأ أبو بكر وحمد بضمتين. (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) ؛ لجحود للنعمة ، ظاهر الكفران ، مبالغ فيه ؛ لأن نسبة الولد إليه أشنع الكفر. والكفر أصل الكفران كله.

ثم ردّ عليهم بقوله : (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ) ، الهمزة للإنكار ، تجهيلا [وتعجيبا] (١) من شأنهم ، حيث ادّعوا أنه اختار لنفسه أخس الأشياء ، ولهم الأعلى ، أي : بل أتخذ لنفسه أخس الصنفين ، واختار لكم أفضلهما؟ على معنى : هبوا أنكم اجترأتم إضافة جنس الولد إليه سبحانه ، مع استحالته وامتناعه ، أما كان لكم شىء من العقل ، ونبذة من الحياء ، حتى اجترأتم على التفوّه بهذه العظيمة ، الخارقة للمعقول ، من ادعاء أنه تعالى آثركم على نفسه بخير الصنفين وأعلاهما ، وترك له شرهما وأدناهما؟. وتنكير «بنات» ، وتعريف «البنين» لما اعتبر فيهما من الحقارة والفخامة.

وجملة : (وَأَصْفاكُمْ) : إما عطف على (اتَّخَذَ) ، داخل فى حكم [التعجيب] (٢) والإنكار ، أو : حال من فاعله ، بإضمار قد ، أو : بدونه ، على الخلاف. والالتفات إلى الخطاب لتأكيد الإجرام وتشديد التوبيخ.

ثم قرره بقوله : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً) أي : وإذا أخبر أحدهم بولادة ما جعل مثلا له سبحانه ، وهى الأنثى ، لأنهم جعلوا الملائكة بنات الله ، وجزءا منه ؛ إذ الولد لا بد أن يجانس الوالد ويشابهه. (ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ) يعنى : أنهم نسبوا إليه هذا الجنس ، ومن حالهم : أن أحدهم إذا قيل له : قد ولدت لك بنت ، اغتم ، واربدّ وجهه غيظا وتأسفا ، وهو مملوء من الكرب. والظلول : بمعنى الصيرورة ، أي : صار أسود فى الغاية من سوء ما بشر به.

(أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا) (٣) (فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ) أي : أو يجعل للرحمن من الولد من هذه الصفة المذمومة صفته ، وهو أنه ينشأ فى الحلية ، أي : يتربّى فى الزينة والتخنث ، وإذا احتاج إلى مجاثاة الخصوم ، ومجاراة الرّجال ، كان غير مبين ، ليس عنده بيان ، ولا يأتى ببرهان ؛ لضعف عقولهن. قال مقاتل : لا تتكلم المرأة إلا وتأتى بالحجة عليها ـ أي : فى الغالب ـ وفيه : أنه جعل النّشأ فى الزينة من المعايب. فعلى الرّجل أن يجتنب ذلك ، له ولأولاده ، ويتزين بلباس التقوى. و «من» منصوب المحل ، أي : أو جعلوا من يربى فى الحلية ـ يعنى البنات ـ لله ـ عزوجل. وقرأ الأخوان وحفص ؛ «ينشأ» ، أي : يربّى.

__________________

(١) فى الأصول [وتعجبا].

(٢) فى الأصول [التعجب].

(٣) قرأ حفص وحمزة والكسائي : «ينشأ» بضم الياء ، وفتح النّون ، وتشديد الشين ، مضارع «نشّأ» معدّى بالتضعيف ، مبنيا للمفعول.

وقرأ الباقون : بفتح الياء ، وسكون النّون : وتخفيف الشين من «نشأ» لازم ، مبنى للفاعل. انظر الإتحاف (٢ / ٤٥٤).

٢٣٩

(وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ) (١) (الرَّحْمنِ إِناثاً) أي : اعتقدوا الملائكة وسموهم إناثا. وهو بيان لتضمن كفرهم كفرا آخر ، وتقريع لهم بذلك ؛ وهو جعلهم أكمل العباد وأكرمهم على الله ـ عزوجل ـ أنقصهم رأيا. والعندية عندية منزلة ومكانة ، لا مكان. ومن قرأ «عباد» فجمع «عبد» ، وهو ألزم فى الاحتجاج مع أهل العناد لتضاد العبودية والولادة. (أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ) أي : أحضروا خلقهم ، فشاهدوا الله حين خلقهم إناثا حتى يحكموا بأنوثتهم ، فإنّ ذلك لا يعلم إلا بالمشاهدة ، وهو تجهيل لهم ، وتهكم بهم. وقرأ نافع بهمزتين ، أي : أحضروا خلقهم. (سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ) التي شهدوا بها على الملائكة من أنهم إناث ، فى ديوان أعمالهم. (وَيُسْئَلُونَ) عنها يوم القيامة ، وقرئ : شهاداتهم وهى قولهم : إن لله جزءا من خلقه ، وإن لله بنات ، وأنها الملائكة.

الإشارة : وجعلوا له من عباده جزءا ، أشركوا فى المحبة معه غيره ، والمطلوب : إفراد المحبة للمحبوب ، فلا يجب معه شيئا. إن الإنسان لكفور مبين ، حيث علم أن الحبيب الذي أنعم عليه واحد ، وأنه غيور ، لا يرضى لعبده أن يحب معه غيره.

قال القشيري : جعلوا الملائكة جزءا على التخصيص من جملة مخلوقاته. ه. أي : جعلوا له جزءا من عين الفرق ، ولو نظروا بعين الجمع لرأوا الأشياء كلها متدفقة من بحر الجبروت. وفى الآية تحذير من كراهية البنات ، حيث جعله من نعت أهل الكفر.

ثم أبطل شبهتهم ، فقال :

(وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (٢٠) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (٢١) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (٢٢) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (٢٣) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (٢٤) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (٢٥))

__________________

(١) أثبت المفسر قراءة «عند» بالنون الساكنة وفتح الدال بلا ألف ، ظرفا ، وتصديقه (إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ ....) الأعراف / ٢٠٦. وهى قراءة ابن كثير ونافع ، وقرأ أبو عمرو ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي «عباد» بالألف. انظر الإتحاف (٢ / ٤٥٤ ـ ٤٥٥).

٢٤٠