البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

(قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ) أي : لا تعدوا إسلامكم منة علىّ ، فإنّ نفعه قاصر عليكم إن صح ، (بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ) أي : المنة إنما هى لله عليكم (أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ) أي : لأن هداكم ، أو : بأن هداكم للإيمان على زعمكم (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى ادّعاء الإيمان ، إلّا أنكم تزعمون وتدعون ما الله عليم بخلافه. وجواب الشرط محذوف ؛ لدلالة ما قبله عليه ؛ أي : إن كنتم صادقين فى ادعائكم الإيمان فلله المنّة عليكم.

وفى سياق النّظم الكريم من اللطف ما لا يخفى ؛ فإنهم لمّا سموا ما فى صدورهم إيمانا ، ومنّوا به ، نفى تعالى كونه إيمانا ، وسمّاه إسلاما ، كأنه قيل : يمنون عليك بما هو فى الحقيقة إسلام وليس بإيمان ، بل لو صح ادّعاؤهم للإيمان فلله المنّة عليهم بالهداية إليه لا لهم.

(إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : ما غاب فيهما ، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فى سركم وعلانيتكم ، وهذا بيان لكونهم غير صادقين فى دعواهم ، يعنى : الله تعالى يعلم كلّ مستتر فى العالم ، ويبصر كل عمل تعملونه فى سركم وعلانيتكم ، لا يخفى عليه منه شىء ، فكيف يخفى عليه ما فى ضمائركم. قال الورتجبي : ليس لله غيب ، إذ الغيب شىء مستور ، وجميع الغيوب عيان لله ـ تعالى ـ وكيف يغيب عنه وهو موجده؟! يبصر ببصره القديم ما كان وما لم يكن ، وهناك العلم والبصر واحد. ه. قوله : «العلم والبصر واحد» هذا على مذهب الصوفية فى أن بصره يتعلق بالمعدوم ، كما يتعلق به العلم ، ومذهب علماء الكلام : أن متعلق البصر خاص بالموجودات ، فمتعلق العلم أوسع. وانظر حاشية الفاسى على الصغرى.

الإشارة : كل من تمنى أن يعلم النّاس ما عنده من العلم والسر ؛ يقال له : أتعلّمون الله بدينكم ، والله يعلم ما فى سموات القلوب والأرواح من السر واليقين ، وما فى أرض النّفوس من عدم القناعة بعلم الله ، والله بكلّ شىء عليم.

وفى الحكم : «استشرافك أن يعلم النّاس بخصوصيتك دليل على عدم صدقك فى عبوديتك» (١). وكلّ من غلب عليه الجهل حتى منّ على شيخه بصحبته له ، أو بما أعطاه ، يقال فى حقه : (يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا ..) الآية. وقوله تعالى : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) قال القشيري : فمن لاحظ شيئا من أعماله وأحواله ؛ فإن رآها من نفسه كان شركا ، وإن رآها لنفسه كان مكرا ، وإن رآها من ربه بربه كان توحيدا. وفقنا الله لذلك بمنّه وجوده. ه.

وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

__________________

(١) حكمة رقم ١٦١ انظر تبويب الحكم للمتقى الهندي (ص ١١).

٤٤١
٤٤٢

سورة ق

مكية. وهى خمس وأربعون آية. ووجه مناسبتها : أن السورة قبلها واردة فى الترغيب فى الأدب ، والترهيب من سوء الأدب ، ولا يتحقق ذلك إلا لمن صحت عنده رسالة الرّسول ونبوته ، فأقسم فى هذه السورة على تحقيق رسالته وإنذاره بقوله :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (١) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (٢) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (٣) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (٤) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (٥) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (٦) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (٧) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (٨) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (٩) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (١٠) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (١١))

يقول الحق جل جلاله : (ق) ؛ أيها القريب المقرب من حضرتنا (وَ) حق (الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) إنك لرسول مجيد ، أو : (ق) أي : وحق القوىّ القريب ، والقادر القاهر. وقال مجاهد : هو جبل محيط بالأرض من زمردة خضراء ، وعليه طغى الماء ، وخضرة السماء منه ، والسماء مقبّبة عليه ، وما أصاب النّاس من زمرد فمما تساقط من ذلك الجبل. وروى أن ذا القرنين وصل إليه ، فخاطبه (١) ، وقال : يا قاف أخبرنى بشىء من عظمة الله ، قال : إن

__________________

(١) قال ابن كثير فى تفسيره (٤ / ٢٢٢) : «وقد روى عن بعض السلف أنهم قالوا : «ق» جبل محيط بجميع الأرض ، يقال له : جبل قاف ، وكأن هذا ـ والله أعلم ـ من خرافات بنى إسرائيل التي أخذها عنهم بعض النّاس ، لما رأوا من جواز الرّواية عنهم ، مما لا يصدّق ولا يكذب ، وعندى : أن هذا وأشباهه من اختلاق بعض زنادقتهم ، يلبسون به على النّاس أمر دينهم».

٤٤٣

شأن ربنا لعظيم ، وإن ورائي أرضا ميسرة خمسمائة عام ، فى عرض خمسمائة عام ، من ثلج يحطم بعضه بعضا ، لولا ذلك الثلج لاحترقت من نار جهنم. ه.

(وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ) أي : ذى المجد والشرف على سائر الكتب ، أو : لأنه كلام مجيد ، من علم معانيه وعمل بما فيه مجد عند الله وعند النّاس. وجواب القسم محذوف ، أي : إنك لرسول نذير ، أو : لتبعثن ، بدليل قوله : (أَإِذا مِتْنا ..) إلخ ، أو : إنا أنزلناه إليك لتنذر به فلم يؤمنوا ، (بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ) أي : لأن جاءهم (مُنْذِرٌ مِنْهُمْ) ؛ من جنسهم ، لا من جنس الملائكة ، أو : من جلدتهم ، وهو إنكار لتعجّبهم مما ليس بعجب ، وهو أن يخوفهم من غضب الله رجل منهم قد عرفوا عدالته وأمانته ، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحا لقومه ، خائفا أن ينالهم مكروه وإذا علم أن مخوفا أظلهم لزمه أن ينذرهم ، فكيف بما هو غاية المخاوف؟ أو إنكار لتعجّبهم مما أنذرهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله تعالى على خلق السموات والأرض وما بينهما ، وإقرارهم بالنشأة الأولى ، مع شهادة العقل بأنه لا بدّ من الجزاء ، وإلا كان إنشاء الخلق عبثا. ثم بيّن تعجبهم بقوله : (فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ) أي : هذا الذي يقوله محمد من البعث بعد الموت شىء عجيب ، أو : كون محمد منذرا بالقرآن شىء يتعجب منه. ووضع «الكافرون» موضع الضمير للدلالة على أنهم فى قولهم هذا مقدمون على كفر عظيم.

ثم قالوا : (أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً) أي : أنبعث حين نموت ونصير ترابا كما يقوله هذا النّذير؟ (ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ) أي : ذلك البعث بعد هذه الحالة رجوع مستبعد ، منكر ، بعيد من الوهم والعادة. فالعامل فى «إذا» محذوف مفهوم من الكلام كما قدرنا. قال تعالى : (قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ) ، وهو ردّ لاستبعادهم ؛ فإنّ من عمّ علمه ولطفه حتى ينتهى إلى حيث علم ما تنقص الأرض من أجساد الموتى ، وتأكل من لحومهم وعظمهم ، كيف يستبعد رجعه إياهم أحياء كما كانوا؟! عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كل ابن آدم يأكله التراب إلا عجب الذّنب ، ومنه خلق ، وفيه يركّب» (١) وهو العصعص ، وقال فى المصباح : العجب (٢) ـ كفلس ـ من كلّ دابة : ما انضم عليه الورك من أصل الذّنب. ه. وهو عظم صغير قدر الحمصة ، لا تأكله الأرض ، كما لا تأكل أجساد الأنبياء والأولياء والشهداء. قال ابن عطية : حفظ ما تنقص الأرض إنما هو ليعود بعينه يوم القيامة ، وهذا هو الحق. وذهب بعض الأصوليين إلى أن الأجساد المبعوثة يجوز أن تكون غير هذه ، هذا عندى خلاف ظاهر كتاب الله ، ولو كانت غيرها كيف كانت تشهد الجلود والأيدى والأرجل على الكفرة؟ إلى غير ذلك مما يقتضى أن أجساد الدنيا هى التي تعود. ه.

__________________

(١) أخرجه مسلم فى (الفتن ، باب ما بين النّفختين ح ٢٩٥٥) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه ، وأخرجه البخاري مطولا وبنحوه فى (التفسير ـ سورة الزمر ، باب (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ..) ح ٤٨١٤).

(٢) بسكون الجيم.

٤٤٤

(وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ) لتفاصيل الأشياء ، أو : محفوظ من التغيير ، وهو اللوح المحفوظ ، أو : حافظا لما أودعه وكتب فيه ، أو : يريد علمه تعالى ، فيكون تمثيلا لعلمه تعالى بكليات الأشياء وجزئياتها ، بعلم من عنده كتاب حفيظ يتلقى منه كلّ شىء.

(بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ) ، إضراب وانتقال من بيان شناعتهم السابقة ، وتكذيب البعث ، الى ما هو أشنع منه وأفظع ، وهو تكذيبهم للنبوة الثابتة بالمعجزات الباهرة ، (لَمَّا جاءَهُمْ) من غير تأمل وتفكر ، وقيل : الحق : القرآن ، أو : الإخبار بالبعث ، (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) ؛ مضطرب ، لا قرار له ، يقال : مرج الخاتم فى إصبعه إذا اضطرب من سعته ، فيقولون تارة : مجنون ، وطورا : ساحر ، ومرة : كاهن ، ولا يثبتون على قول. أو : مختلط ، يقال : مرج أمر الناس : اختلط. أو : ملبس ، قال قتادة : من ترك الحق مرج عليه أمره ، وألبس عليه دينه.

(أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ) بحيث يشاهدونها كلّ وقت (كَيْفَ بَنَيْناها) ؛ رفعناها بغير عمد (وَزَيَّنَّاها) بما فيها من الكواكب المترتبة على نظام عجيب ، (وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ) ؛ من فنوق لملاستها وسلامتها من كلّ عيب وخلل ، (وَالْأَرْضَ مَدَدْناها) ؛ بسطناها (وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ) ؛ جبالا ثوابت ، من : رسى الشيء ؛ ثبت ، والتعبير عنها بهذا الوصف للإيذان بأن إلقاءها إنما هو للإرساء ، (وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ) ؛ صنف (بَهِيجٍ) ؛ حسن. (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) علتان للأفعال المذكورة ، أي : فعلنا ما فعلنا تبصرا وتذكيرا (لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ) أي : راجع إلى ربه ، متفكر فى بدائع صنائعه.

(وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً) ؛ كثير المنافع (فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ) ؛ بساتين كثيرة (وَحَبَّ الْحَصِيدِ) أي : حب الزرع الذي شأنه أن يحصد من البرّ والشعير وأمثالهما ، وتخصيص حب الحصيد بالذكر لأنه المقصود بالذات ؛ إذ به جل القوام.

(وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ) ؛ طوالا فى السماء ، أو : حوامل ، من : بسقت الشاة : إذا حملت. وتخصيصها بالذكر مع اندراجها فى «جنات» لبيان فضلها على سائر الأشجار ، (لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ) ؛ منضود ، بعضه فوق بعض ، والمراد : تراكم الطلع ، أو : كثرة ما فيه من الثمر ، (رِزْقاً لِلْعِبادِ) أي : لرزق أشباحهم ، كما أن قوله : (تَبْصِرَةً وَذِكْرى) لرزق أرواحهم. وفيه تنبيه على أن الواجب على العبد أن يكون انتفاعه بما ذكر من حيث التذكر والتبصر الذي هو رزق الرّوح أهم وأقدم من تمتعه من حيث الرّزق الحسى ، (وَأَحْيَيْنا بِهِ) ؛ بذلك الماء (بَلْدَةً مَيْتاً) ؛ أرضا جدبة ، لا نماء فيها أصلا ، فلما أنزلنا عليها الماء ربت واهتزت بالنبات والأزهار ، بعد ما كانت جامدة. وضمّن البلدة معنى

٤٤٥

البلد فذكّر الوصف. (كَذلِكَ الْخُرُوجُ) من القبور ، فكما حييت هذه البلدة الميتة كذلك تخرجون أحياء بعد موتكم ، لأن إحياء الموات كإحياء الأموات. وقدّم الخبر للقصد إلى القصر. والإشارة فى «كذلك» إلى الحياة المستفادة من الإحياء ، وما فيه من معنى البعد للإشعار ببعد رتبها ، أي : مثل ذلك الحياة البديعة حياتكم بالبعث من القبور ، لا شىء مخالف لها. وفى التعبير عن إخراج النّبات من الأرض بالإحياء ، وعن حياة الأموات بالخروج ؛ تفخيم لشأن النّبات ، وتهوين لأمر البعث ، وتحقيق للمماثلة ؛ لتوضيح منهاج القياس ، وتقريبه إلى أفهام النّاس.

الإشارة : (ق) أيها القريب المقرب ، وحق القرآن المجيد ، إنك لحبيب مجيد ، رسول من عند الملك المجيد ، وإن كنت بشرا فنسبتك من البشر كياقوتة بين الحجر ، فالبشرية لا تنافى الخصوصية ، بل تجامعها منّة منه تعالى وفضلا ، على من شاء من عباده ، فاستبعاد الكفار مجامعة الخصوصية للبشرية كاستبعاد إبليس تفضيل آدم لكونه بشرا من طين ، وذلك قياس فاسد ، مضاد للنص ، وكما استبعدت الكفرة وجود خصوصية النّبوة فى البشر ، استبعدت الجهلة خصوصية التربية بالاصطلاح فى البشر ، بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم ، يدل على الله ، ويبين الطريق إليه ، قالوا : هذا شىء عجيب ، أئذا متنا ؛ بأن ماتت قلوبنا بالغفلة ، وكنا ترابا أرضيين بشريين ، تحيى أرواحنا بمعرفة العيان؟! ذلك رجع بعيد.

قال تعالى : (قد علمنا ما تنقص الأرض منهم) أرض النّفوس من أرواحهم ، وتهوى بها إلى الحضيض الأسفل ، فيجذبها إلى أعلى عليين ، إن سبقت عنايتنا ، وعندنا كتاب حفيظ يحفظ المراتب والمقامات ، فيلتحق كل واحد بما سبق له. بل كذّبوا بالحق ، وهو الداعي إلى الحق ، لمّا جاءهم فى كلّ زمان ، فهم فى أمر مريج ، تارة يقرون وجود التربية بالهمة والحال ، وينكرون الاصطلاح ، وتارة يقرون بالجميع ، وينكرون تعيينه ، أفلم ينظروا إلى سماء القلوب والأرواح ، كيف بنيناها ، أي : رفعنا قدرها بالعلوم والمعارف ، وزيّناها بأنوار الإيمان والإحسان ، وليس فيها خلل ، وأرض النّفوس مددناها : جعلناها بساطا للعبودية ، وألقينا فيها رواسى أرسيناها بالعقول الصافية الثابتة ، لئلا تضطرب عند زلزلات الامتحان ، وأنبتنا فيها من كلّ صنف بهيج ، من فنون علم الحكمة والتشريع ، تبصرة وتذكيرا لكلّ عبد منيب ، راجع إلى مولاه ، قاصد لمعرفته.

قال القشيري : تبصرة وذكرى لمن رجع إلينا فى شهود أفعالنا الى رؤية صفاتنا ، ومن شهود صفاتنا إلى شهود ذاتنا. ه. ونزّلنا من السماء ماء العلوم اللدنية ، كثير البركة والنّفع ، فأنبتنا به جنات المعارف وحب الحصيد ، وهو حب المحبة ؛ لأنه يحصد من القلب محبة ما سوى الله. والنّخل باسقات ، أي : شجرة المعرفة الكاملة لها طلع نضيد :

٤٤٦

ثمرة المعرفة وحلاوة الشهود ، رزقا لأرواح العباد ، وأحيينا به نفسا ميتة بالغفلة والجهل ، كذلك الخروج من ظلمة الجهل إلى نور العلم ، أي : مثل هذا الخروج البديع يكون الخروج ، وإلا فلا.

ثم هدّدهم بما جرى على من قبلهم ، فقال

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (١٢) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (١٣) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (١٤) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (١٥))

يقول الحق جل جلاله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ) أي : قبل قريش (قَوْمُ نُوحٍ) نوحا ، حيث أنذرهم بالبعث ، (وَأَصْحابُ الرَّسِ) ، قيل : هم من بعث إليهم شعيب عليه‌السلام كما مرّ فى سورة الفرقان بيانه (١) وقيل : قوم باليمامة ، وقيل : أصحاب الأخدود. والرّس : بئر لم تطو ، (وَثَمُودُ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ) ، أراد بفرعون قومه ؛ ليلائم ما قبله ؛ لأن المعطوف عليه جماعات ، (وَإِخْوانُ لُوطٍ) ، قيل : كان قومه من أصهاره عليه‌السلام ، فسماهم إخوانه ، (وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ) هم ممن بعث إليهم شعيب عليه‌السلام غير أهل مدين ، (وَقَوْمُ تُبَّعٍ) هو ملك باليمن ، دعا قومه إلى الإسلام وهم حمير ، فكذّبوه ، وسمّى تبعا ؛ لكثرة تبعه.

قال ابن إسحاق : كان تبع الآخر هو أسعد بن كرب ، حين أقبل من المشرق ، ومرّ على المدينة ، ولم يهج أهلها ، وخلف عندهم ابنا له ، فقتل غيلة ، فجاء مجمعا على حربهم ، وخراب المدينة ، فأجمع هذا الحي من الأنصار على قتاله ، وسيدهم عمرو بن طلحة ، أخو بنى النجار ، فتزعم الأنصار : أنهم كانوا يقاتلونه بالنهار ، ويقرونه بالليل ، فيعجبه ذلك ، ويقول : إن قومنا هؤلاء لكرام ، فبينما هو كذلك إذ جاءه حبران من أحبار بنى قريظة ، من علماء أهل زمانهما ، فقالا : أيها الملك لا تقاتلهم ، فإنا لا نأمن عليك العقوبة ؛ لأنها مهاجر نبىّ يخرج من هذا الحي ، من قريش ، فى آخر الزمان ، هى داره وقراره ، فكفّ عنهم ، ثم دعواه إلى دينهما ، فاتبعهما ، ثم رجع إلى اليمن ، فقالت له حمير : لا تدخلها وقد فارقت ديننا ، فحاكمنا إلى النار ، وقد كانت باليمن نار أسفل جبل يتحاكمون إليها ، فتأكل الظالم ولا تضر المظلوم ، فخرجوا بأصنامهم ، وخرج الحبران بمصاحفهما ، فأكلت النار الأوثان ، وما قرّبوا معها ، ومن دخل ذلك من رجال حمير ، وخرج الحبران بمصاحفهما فى أعناقهما ، يتلوان التوراة ، ولم تضرهما ، فأطبق

__________________

(١) راجع تفسير الآية ٣٨ من سورة الفرقان.

٤٤٧

أهل حمير على دين الحبرين ، فمن هنالك كان أصل اليهودية باليمن. قال الرياشي : كان أبو كرب أسعد الحميرى من التبابعة ، آمن بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبل أن يبعث بسبعمائة سنة. وتقدم شعره فى الدخان (١).

(كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ) فيما أرسلوا به من الشرائع ، التي من جملتها : البعث الذي أجمعوا عليه قاطبة ، أي : كل قوم من الأقوام المذكورين كذّبوا رسولهم (فَحَقَّ وَعِيدِ) أي : فوجب وحلّ عليهم وعيدى ، وهى كلمة العذاب. وفيه تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وتهديد لهم.

(أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ) ، استئناف مقرر لصحة البعث ، الذي حكيت أحوال المنكرين له من الأمم المهلكة. والعىّ بالأمر : العجز عنه ، يقال : عيى بالأمر : إذا لم يهتد لوجه عمله. والهمزة للإنكار ، والفاء : عطف على مقدر ، ينبئ عنه المقام ، كأنه قيل : أقصدنا الخلق الأول فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟ (بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : بل هم فى لبس وخلط وشبهة ، قد لبس عليهم الشيطان وحيّرهم ، حيث سوّل لهم أن إحياء الموتى خارج عن العادة ، فتركوا لذلك الاستدلال الصحيح ، وهو : أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر.

وهو معطوف على مقدر يدل عليه ما قبله ، كأنه قيل : هم غير منكرين لقدرتنا على الخلق الأول ، بل هم فى خلط وشبهة من خلق مستأنف جديد. وتنكير «خلق» لتفخيم شأنه ، والإشعار بخروجه عن حدود العادة ، والإيذان بأنه حقيق بأن يبحث عنه ويهتم بمعرفته.

الإشارة : قال القشيري : الإشارة فى الآية إلى أنّ الغالب فى كلّ زمان غلبة الهوى والطبيعة الحيوانية واستيلاء الحس على النّاس ، نفوسهم متمردة ، بعيدة من الحق ، قريبة من الباطل ، كلما جاء إليهم رسول كذّبوه ، وعلى ما جاء به قاتلوه ، فحقّ عليهم عذاب ربهم ، لمّا كفروا نعمه ، فما أعياه إهلاكهم. ه. قلت : وكذلك جرى فى كل زمان ، كل من أمر النّاس بإخراجهم عن عوائدهم ، ومخالفة أهوائهم ، رفضوه وعادوه ، فقلّ بسبب ذلك المخلصون ، وكثر المخلطون ، فإذا قالوا : لا يمكن الإخراج عن العوائد ، قلنا : القدرة صالحة ، قال تعالى : (أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ) ، وهو إحياء القلب الميت ، فيجدّد إيمانه ، وتحيا روحه حياة سرمدية. وبالله التوفيق.

ثم إنّ عادته تعالى فى التنزيل : أنه مهما ذكر دلائل قدرته ذكر بإثره شأن علمه ، أو بالعكس ، إشارة إلى إسناد كل المقدورات إليه تعالى ، ردا على الطبائعيين ؛ لأنّ الفاعل بالطبيعة لا يتوقف على العلم ، ولذلك قال تعالى :

__________________

(١) راجع تفسير الآيات : ٣٤ ـ ٣٩.

٤٤٨

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (١٦) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (١٧) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (١٨) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (١٩) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (٢٠) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (٢١) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (٢٢))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ) أي : ما تحدّثه نفسه ويهجس فى ضميره من خير وشر. والوسوسة : الصوت الخفي ، ووسوسة النّفس : ما يخطر بالبال. والضمير فى «به» ل «ما» إن جعلتها موصولة ، والباء كما فى : صوّت بكذا ، أو : للإنسان ، إن جعلتها مصدرية. والباء حينئذ للتعددية. (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ) أي : أعلم بحاله مما كان أقرب إليه (مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ). والحبل : العرق ، وإضافته بيانية والوريدان : عرقان مكتفان بصفحتى العنق فى مقدمه متصلان بالوتين ، والوتين : عرق فى القلب إذا انقطع مات صاحبه. قاله فى القاموس ، يردان من الرّأس إليه ، وقيل : سمى وريد ؛ لأن الماء يرده.

(إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ) أي : الملكان الحافظان لأعمال العبد. والظرف : منصوب بما فى «أقرب» من معنى الفعل ، أي : يتقرب إذ يتلقى. والمعنى : أنه تعالى لطيف يتوصل علمه إلى ما لا شىء أخفى منه ، وهو أقرب للإنسان من كل قريب ، حين يتلقى الحافظان ما يتلفظ به ، وفيه إيذان بأنه تعالى غنىّ عن استحفاظها ؛ لإحاطة علمه بما يخفى عليهم ، وإنما ذلك لما فى كتبهما وحفظهما لأعمال العباد ، وعرض صحائفها يوم يقوم الأشهاد ، وعلم العبد بذلك مع علمه بإحاطته بتفاصيل أحواله من زيادة لطف به فى الكف عن السيئات ، والرّغبة فى الحسنات. ثم ذكر مكانهما بقوله : (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ) أي : عن اليمين قعيد وعن الشمال قعيد ، وحذف الأول للدلالة الثاني عليه. وقعيد : بمعنى مقاعد ، كالجليس بمعنى المجالس ، أو : بمعنى قاعد ، كالسميع والعليم. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «إن مقعد ملكيك على ثنّيتيك ، ولسانك قلمهما ، وريقك مدادهما ، وأنت تجرى فيما لا يعنيك لا تستحيى من الله ولا منهما!» (١) وقال الضحاك : مجلسهما تحت الثغر من الحنك ، ورواه عن الحسن (٢) ، وكان يعجبه أن ينظف عنفقته (٣).

__________________

(١) ذكره بلفظه القرطبي فى التفسير (٧ / ٦٣٦٥) عن سيدنا علىّ رضي الله عنه ، مرفوعا ، وقال السيوطي فى الدر المنثور (٦ / ١١٨) : أخرج أبو نعيم والديلمي ، عن معاذ بن جبل رضي الله عنه. مرفوعا : إن الله لطّف الملكين الحافظين حتى أجلسهما على النّاجذين ، وجعل لسانه قلمهما ، وريقه مدادهما».

(٢) العبارة فى القرطبي : ورواه عوف عن الحسن قال : وكان يعجبه. إلخ.

(٣) العنفقة : شعيرات بين الشفة السفلى والذقن. انظر : النهاية (عنفق ٣ / ٣٠٩).

٤٤٩

(ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ) أي : ما يتكلم به وما يرمى به من فيه (إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ) ؛ حافظ (عَتِيدٌ) ؛ حاضر لازم ، أو معد مهيأ لكتابة ما أمر به من الخير والشر. وقال أبو أمامه عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «كاتب الحسنات عن يمين الرجل وكاتب السيئات عن يساره ، وكاتب الحسنات أمين على كاتب السيئات ، فإذا عمل حسنة كتبها صاحب اليمين عشرا ، وإذا عمل سيئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال : دعه سبع ساعات ، لعله يسبّح أو يستغفر» (١).

قال الحسن : إنّ الملكين يجتنبان العبد عند غائطه ، وعند جماعه ، ويكتبان عليه كل شىء ، حتى أنينه فى مرضه. وقال عكرمة : لا يكتبان عليه إلا ما يؤجر عليه أو يؤزر (٢). وعنه عليه‌السلام : «ما من حافظين يرفعان إلى الله ما حفظا ، فيرى الله تعالى فى أول الصحيفة خيرا وفى أخرها خيرا ، إلا قال للملائكة : اشهدوا أنى قد غفرت لعبدى ما بين طرفى الصحيفة» (٣). والحفظه أربعة ، اثنان بالليل ، واثنان بالنهار ، فإذا مات العبد قاموا على قبره يكبران ويهللان ويكتب ذلك للعبد المؤمن.

ولمّا ذكر إنكارهم للبعث ، واحتج عليهم بعموم قدرته وعلمه ، أعلمهم أن ما أنكروه هم لا قوة بعد الموت ، ونبّه على اقتراب ذلك بأن عبّر عنه بلفظ الماضي فقال : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ..) إلخ. وقال ابن عطية : هو عندى عطف على «إذ يتلقى» والتقدير : وإذ تجىء سكرة الموت ، يعنى فهو كقوله : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ) الآية (٤) ه. وحاصل الآية حينئذ : ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ظاهره وباطنه ، ونحن أقرب إليه فى جميع أحواله ، فى حياته ، ووقت مجىء سكرة الموت ، أي : شدته الذاهبة بالعقل ، ملتبسة (بِالْحَقِ) أي : بحقيقة الأمر ، وجلاء الحال ، من سعادة الميت أو شقاوته ، (ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ) أي : تنفر وتهرب وتميل عنه طبعا. والإشارة إلى الموت. والخطاب للإنسان فى قوله : (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ) على طريقة الالتفات.

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) نفخة البعث (ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) أي : وقت ذلك النفخ هو يوم الوعيد ، أي : يوم إنجاز الوعد ووقوع الوعيد. وتخصيص الوعيد بالذكر ؛ لتهويله ، ولذلك بدأ ببيان حال الكفرة بقوله : (وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ) من النفوس البرة والفاجرة (مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ) أي : ملكان ، أحدهما يسوقه إلى المحشر ، والآخر يشهد

__________________

(١) أخرجه البغوي فى التفسير (٧ / ٣٥٩) والبيهقي فى الشعب (الباب السابع والأربعون ، ح ٧٠٤٩) والطبراني فى الكبير (٨ / ٢٢٥ ، ح ٧٧٨٧) وأيضا (٨ / ٢٩٥ ـ ٢٩٦ ، ح ٧٩٧١) وأبو نعيم فى الحلية (٦ / ١٢٤) من حديث أبى أمامة رضي الله عنه ، وقال الهيثمي فى المجمع (١٠ / ٢٠٨) : «رواه الطبراني بأسانيد ، ورجال أحدها وثقوا».

(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٦ / ١١٩) لابن المنذر.

(٣) ذكره القرطبي (٧ / ٦٣٦٦) عن أبى هريرة وأنس ـ رضى الله عنهما.

(٤) الآية ٨٥ من سورة الواقعة.

٤٥٠

عليه بعمله. قيل : السائق : كاتب الحسنات ، والشاهد : كاتب السيئات ، ويقال لها : (لقد كنت فى غفلة من هذا) النازل بك اليوم ، (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) فأزلنا غفلتك ، وهو الوقوف مع المحسوسات والإلف ، والانهماك فى الحظوظ ، وقصر النظر عليها ، فشاهدت اليوم ما كنت غافلا عنه (فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ؛ نافذ ؛ لزوال المانع. جعلت الغفلة كأنها غطاء غطى به جسده ، أو غشاوة غطى بها عينيه فهو لا يبصر شيئا ، فإذا كان يوم القيامة سقط ، وزالت عنه الغفلة ، وكشف غطاؤه ، فبصر ما يبصره من الحق ، ورجع بصره الكليل حديدا ، لتيقظه حين لم ينفع التى قظ. وبالله التوفيق.

الإشارة : هذه الآية وأشباهها أصل فى مقام المراقبة القلبية ، فينبغى للعبد أن يستحيى من الله أن يحدّث فى نفسه بشىء يستحيى أن يظهره ، يعنى الاسترسال معه ، وإلا فالخواطر العارضة لا قدرة على دفعها. قال القشيري : (ما توسوس به نفسه) من شهوة تطلب استيفاءها ، أو تصنّع مع الخلق ، أو سوء خلق ، أو اعتقاد فاسد ، أو غير ذلك من أوصاف النّفس ، توسوس بذلك لتشّوش عليه قلبه ووقته ، وكيف لا نعلم ذلك وكلّ ذلك مما خلقناه وقدرناه. ه.

وقوله تعالى : (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ) أي : أنا أقرب إلى كلّ أحد من عروق قلبه ، وهذا لأن قيام الفعل بالصفات ، والصفات لا تفارق الذات ، فالقرب بالعلم والقدرة ، وتستلزم القرب بالذات ، وقرب الحق من خلقه هو قرب المعاني من الأوانى ، إذ هى كليتها وقائمة بها ، فافهم. قال القشيري : وفى هذه الآية هيبة وفزع لقوم ، وروح وأنس وسكون قلب لقوم. ه. وقوله تعالى : (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ ..) إلخ ، كأنه تعالى يقول : من لم يعرف قدر قربى منه ، بأن يعده وهمه وجهله ، فإنى أوكّل عليه رقيبين يحفظان أعماله لعله ينزجز.

وقوله تعالى : (ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ..) إلخ ، وأما عمل القلوب فاختص الله تعالى بعلمها ، وهى محض الإخلاص. قال بعضهم : الإخلاص : إخفاء العمل بحيث لم يطلع عليه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيفسده ، فالعارفون جلّ أعمالهم قلبية ، نظرة أو فكرة. روى أن بعض العارفين قال له حفظته : يا سيدى أظهر لنا شيئا من أعمالك نفرح به عند الله ، فقال لهم : يكفيكم الصلوات الخمس. ه. قال القشيري : وفيه أيضا إشارة إلى كمال عنايته فى حق عباده ، إذ جعل على كلّ واحد رقيبين من الملائكة ليحفظوه بالليل والنهار ، إذا كان قاعدا فواحد عن يمينه وواحد عن شماله ، وإذا قام فواحد عند رأسه ، وواحد عند قدمه ، وإذا كان ماشيا فواحد بين يديه وواحد خلفه. انظر بقيته. ه. وهذان غير الملكين الموكلين بحفظ الأعمال. والله أعلم.

وقال فى قوله : (وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ) : إذا أشرفت النفس على الخروج من الدنيا ، فأحوالهم تختلف ، فمنهم من يزداد فى ذلك الوقت خوفه ، ولا يتبيّن حاله إلا عند ذهاب الروح ، ومنهم من يكاشف قبل خروجه

٤٥١

فتسكن روحه (١) ، ويحفظ عليه عقله ، ويتم له حضوره وتمييزه ، فسلّم الروح على مهل من غير استكراه وعبوس منهم. وفى معناه يقول بعضهم :

أنا إن متّ فالهوى حشو قلبى

وبداء الهوى تموت الكرام (٢).

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ) لكلّ نفس ما وعدها الله ، بحسب سيرها من أول العمر إلى يوم البعث ، (وجاءت كلّ نفس معها سائق) وهو الذي ساقها فى مبدأ الوجود ، إما سوقا باللطف ، أو سوقا بالعنف عند قوله : «هؤلاء إلى الجنة ولا أبالى وهؤلاء الى النار ولا أبالى» (٣) ، وشهيد يشهد عليها بما جرى لها من الأحكام الأزلية (لقد كنت فى غفلة من هذا) قال القشيري : يشير إلى أن الإنسان ، وإن خلق من عالم الغيب والشهادة ، فالغالب عليه فى البداية الشهادة ، وهو العالم الحسى ، فيرى بالحواس الظاهرة العالم المحسوس مع اختلاف أجناسه ، وهو بمعزل عن إدراك عالم الغيب ، فمن الناس يكشف له غطاؤه عن بصر بصيرته ، فيجعل حديدا ، يبصر رشده ، ويحذر شره ، وهم المؤمنون من أهل السعادة ، ومنهم من يكشف له غطاء عن بصر بصيرته يوم القيامة يوم لا ينفع نفسا إيمانها .. الآية (٤) ، وهم الكفار من أهل الشقاوة. ه.

ثم ذكر أحوالهم بعد البعث ، فقال

(وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (٢٣) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (٢٤) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (٢٥) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (٢٦) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (٢٧) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (٢٨) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٢٩))

__________________

(١) فى القشيري : فيسكن روعه.

(٢) فى الرسالة القشيرية (٣٠٨) : قال على المزين : كنت بمكة ، فخرجت أريد المدينة المنورة ، وإذا أنا بشاب ينزع ، فقلت له : قل «لا إلا إلا الله» ففتح عينيه وأنشأ يقول : [.....] البيت. فشهق شهقة ، ثم مات.

(٣) أخرجه أحمد (٤ / ١٨٦) وابن سعد فى الطبقات (١ / ٣٠) و (٧ / ٤١٧) وابن حبان فى صحيحه (١٨٠٦) والحاكم (١ / ٣١) «وصحّحه وأقره الذهبي» عن عبد الرحمن بن قتادة السلمى ـ وكان من أصحاب النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ مرفوعا : «إن الله ـ عزوجل ـ خلق آدم ، ثم أخذ الخلق من ظهره ، وقال : هؤلاء إلى الجنة ولا أبالى ، وهؤلاء إلى النار ولا أبالى. فقال قائل : يا رسول الله! فعلى ما ذا نعمل؟ قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «على مواقع القدر». قال الزبيدي فى اتحاف السادة المتقين (٩ / ٢٠٧) عن العراقي : «رجاله ثقات» والحديث صحّحه الألبانى (سلسلة الأحاديث الصحيحة ح ٤٨).

(٤) نص الآية (.. يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً ..) الآية ١٥٨ من سورة الأنعام.

٤٥٢

يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ قَرِينُهُ) أي : الشيطان المقيض له ، أو : الملك الكاتب الشاهد عليه : (هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ) أي : هذا ما عندى وفى ملكى عتيد لجهنم ، قد هيأته بإغوائى وإضلالى ، أو : هذا ديوان عمله عندى عتيد مهيأ للعرض ، ف «ما» موصولة ، إما بدل من «هذا» أو صفة ، و «عتيد» : خبر ، أو : خبر ، و «عتيد» : خبر آخر ، أو : موصوفة خبر «هذا» ، و «لدىّ» : صفته ، وكذا «عتيد» أي : هذا شىء ثابت لدىّ عتيد.

ثم يقول الله تعالى للسائق والشهيد : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ) ، أو : لملكين من خزنة جهنم ، أو : يكون الخطاب لواحد ، وكان الأصل : ألق ألق ، فناب «ألقيا» عن التكرار ؛ لأن الفاعل كالجزء من الفعل ، فكان تثنية الفاعل نائبا عن تكرار الفعل ، أو : أصله : ألقين ، والألف بدل من نون التوكيد ، إجراء للموصول مجرى الوقف ، دليله : قراءة الحسن : (ألقين) (١) والأحسن : أن يراد جنس قرينه ، فيصدق بالسائق والشهيد ، فيقال لهما : (أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ) بالنعم والمنعم (عَنِيدٍ) : مجانب للحق ، معاد لأهله ، (مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ) ؛ كثير المنع للمال عن حقوقه ، أو : منّاع لجنس الخير أن يصل إلى أهله ، أو : يراد بالخير الإسلام ، لأن الآية نزلت فى الوليد بن المغيرة ، لمّا منع بنى أخيه من الإسلام. (مُعْتَدٍ) ؛ ظالم متخطّ للحق (مُرِيبٍ) : شاك فى الله تعالى وفى دينه.

(الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) : بدل من «كل كفّار» ولا يجوز أن يكون صفة ؛ لأن النكرة لا توصف بالموصول ، خلافا لابن عطية ، أو : مبتدأ مضمن معنى الشرط ، خبره : (فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ) ، وعلى الأول يكون «فألقياه» تكريرا للتوكيد ، أو مفعولا بمضمر ، يفسره «فألقياه» أي : ألق الذي جعل مع الله إلها آخر ألقياه. (قالَ قَرِينُهُ) أي : شيطانه الذي قرن به ، وهذا يؤيد أن المراد بالمتقدم جنس القرين ، وإنما أخليت هذه الجملة من الواو دون الأولى ؛ لأن الأولى واجب عطفها ؛ للدلالة على الجمع بين معناها ومعنى ما قبلها فى الحصول ، أي : مجىء كلّ نفس مع ملكين ، وقول قرينه ما قال له ، وأما هذه فهى مستأنفة ، كما تستأنف الجمل الواقعة فى حكاية التقاول ، كما فى مقاولة موسى وفرعون فى قوله : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ قالَ ...) إلى آخر الآيات (٢) ، فكأن الكافر قال : هو أطغانى ، فأجابه قرينه بتكذيبه فقال : (رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ) عن الحق ، أي : ما أوقعته فى الطغيان بالقهر ، ولكن طغى واختار الضلالة على الهدى ، وهذا كقوله : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ) (٣) ، فالوسوسة والتزيين حاصل منه ، والاختيار من الكافر ، والفعل لله ، لا يسأل عما يفعل.

(قالَ) تعالى : (لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ) أي : فى موقف الحساب والجزاء ، إذ لا فائدة فى ذلك ، والجملة استئناف جواب عن سؤال ، كأن قائلا قال : فما ذا قال الله تعالى لهم؟ قال : لا تختصموا عندى (وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ

__________________

(١) بنون التوكيد الخفيفة ، نحو قوله : «لنسفعا». وانظر مختصر ابن خالويه / ص ١٤٥ والمحتسب (٢ / ٢٨٤) وإعراب شواذ القراآت للعكبرى (٢ / ٥٠٧) والقرطبى (٧ / ٦٣٧١).

(٢) الآيات : ٢٣ ـ ٣١ من سورة الشعراء.

(٣) الآية ٢٢ من سورة إبراهيم.

٤٥٣

بِالْوَعِيدِ) فى دار الكسب على ألسنة رسلى ، فلا تطمعوا فى الخلاص منه بما أنتم فيه من التعلل بالمعاذير الباطلة. والجملة فيها تعليل للنهى ، على معنى : لا تختصموا وقد صح عندكم أنى قدمت إليكم بالوعيد حيث قلت : «لأملان جهنم ..» إلخ ، فاتبعتموه معرضين عن الحق ، فلا وجه للاختصام فى هذا الوقت. والباء إما مزيدة كما فى قوله : (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ) (١) أو معدية على أن «قدّم» مضارع تقدم.

(ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) أي : لا تطمعوا أن يبدل قولى ووعيدي بإدخال الكفار فى النار ، (وَما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) فلا أعذب عبدا بغير ذنب من قبله ، بل بما صدر منه من الجنايات ، حسبما أشير إليه آنفا. والتعبير عنه بالظلم مع أن تعذيبهم بغير ذنب ليس بظلم على ما تقرر من قاعدة أهل السنة ، فضلا عن كونه ظلما مفرطا لتأكيد هذا المعنى ، بإبراز ما ذكر من التعذيب بغير ذنب فى معرض المبالغة فى الظلم ، وقيل : هو لرعاية جمعية العبيد ، من قولهم : فلان ظالم لعبده وظلّام لعبيده ، وقيل : ظلّام بمعنى : ذى ظلم ، كلبّان لذى اللبن. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قرين الإنسان نفسه الأمّارة وروحه المطمئنة ، فإذا غلبت النفس على الروح وصرّفت صاحبها فى الهوى ، تقول يوم القيامة : هذا ما لدىّ عتيد ، مهيأ للعتاب ، فيقال لهما : ألقيا فى نار القطيعة كلّ كفّار للنعم ، جحود لوجود الطبيب ، منّاع للخير ، فلم يصرفه فيما يخلصه من نفسه ، معتد على الله بتكبره ، وعدم حط رأسه للداعى إلى الله ، مريب ، قد لعبت به الشكوك والأوهام والخواطر ، أو : شاك فى وجود الطبيب ، الذي جعل مع الله إلها آخر ، يحبه ويخضع له ، من الهوى والدنيا ، وكلّ ما أشركه مع الله فى المحبة ، فألقياه فى العذاب الشديد : الحجب عن الله ، وعدم اللحوق بأولياء الله ، أو العذاب الحسى. قال قرينه ـ روحه التي كانت سماوية ، فصيرها أرضية ، بمتابعة هواه : ربنا ما أطغيته ، فإنه ليس الإغواء والإطغاء من شأنى ، ولكن كان فى ضلال بعيد ، حيث أطاع نفسه وهواه ، ورمانى فى مزابل الشهوات والغفلة ، قال تعالى : (لا تختصموا لدىّ) اليوم ، قد قدمت إليكم بالوعيد ، حيث قلت : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) (٢) (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) (٣) وقلت فى شأن من جاهد نفسه ، وردها لأصلها : (يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) (٤) الآية ، (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ) فإنى وعدت أهل المجاهدة بالوصول إلى حضرتى ، والتنعم برؤيتى بقولي : (وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا ...) (٥) الآية ، وأهل الغفلة بالحجاب ، بقولي : (كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ ، كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) (٦) ، وما ظلمت أحدا قط ، لأن الظلم ليس من شأنى ، ولا يليق بملكي.

__________________

(١) من الآية ١٩٥ من سورة البقرة.

(٢) من الآية ٥٣ من سورة يوسف.

(٣) الآيتان ٩ ـ ١٠ من سورة الشمس.

(٤) من الآية ٢٧ من سورة الفجر.

(٥) الآية ٦٩ من سورة العنكبوت.

(٦) الآيتان ١٤ ـ ١٥ من سورة المطففين.

٤٥٤

ثم ذكر اليوم الذي يظهر الوعد والوعيد ، فقال

(يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (٣٠) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (٣١) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (٣٢) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (٣٣) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (٣٤) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (٣٥))

يقول الحق جل جلاله : واذكر (يَوْمَ نَقُولُ) (١) (لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ)؟ وقرأ غير نافع وشعبة : بنون العظمة. فالعامل فى الظرف : اذكر أو : «بظلّام» أو محذوف مؤخر ، أي : يكون من الأحوال والأهوال ما يقصر عنه المقال ، (وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ)؟ أي : من زيادة ، مصدر كالمجيد ، أو : مفعول ، كالمنيع ، أي : هل بقي ما يزاد ، يعنى : أنها مع اتساعها وتباعد أقطارها يطرح فيها النّاس والجنة فوجا بعد فوج حتى تملأ (وَتَقُولُ) بعد امتلائها : (هَلْ مِنْ مَزِيدٍ) أي : هل بقي فىّ موضع لم يمتلىء؟! يعنى : قد امتلأت. أو : أنها من السعة يدخل من يدخلها ولم تمتلىء فتطلب المزيد ، وهذا أولى (٢).

قال ابن جزى : واختلف هل تتكلم جهنم حقيقة ، أو مجازا بلسان الحال ، والأظهر : أنه حقيقة ، وذلك على الله يسير ، ومعنى قولها : هل من مزيد : أنها تطلب الزيادة ، وكانت لم تمتلئ ، وقيل : معناه : لا مزيد ، أي : ليس عندى موضع للزيادة ، فهى على هذا قد امتلأت ، والأول أرجح ، لما ورد فى الحديث : «لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول : هل من مزيد؟ حتى يضع الجبار فيها قدمه ، فتنزوى ، وتقول : قط قط» (٣) وفى هذا الحديث كلام ليس هذا موضعه. ه.

قال فى الحاشية : ووضع القدم مثل للردع والقمع ، أي : يأتيها أمر يكفها عن طلب المزيد وقال ابن حجر : واختلف فى المراد بالقدم ، فطريق السلف فى هذا وغيره مشهورة. ثم قال : وقال كثير من أهل العلم بتأويل ذلك ،

__________________

(١) هكذا بالياء ، وهى قراءة نافع ، وقرأ الباقون «نقول» بالنون. انظر الإتحاف (٢ / ٤٨٩).

(٢) على هامش النّسخة الأم ما يلى : بل هذا هو الواجب ، وما قبله باطل بداهة ونصا عن الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فكان الواجب عدم ذكر القول الباطل المقطوع ببطلانه ، لا سيما مع عدم رده والمبالغة فى إبطاله ، ففى الحديث الصحيح : «أنها لا تزال تطلب المزيد حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول : قط قط». ه.

(٣) أخرجه البخاري فى (الأيمان والنّذور ، باب الحلف بعزة الله ، ح ٦٦٦١) ومسلم فى (الجنة ، باب النّار يدخلها الجبارون ، ح ٢٨٤٨) من حديث أنس بن مالك. رضي الله عنه.

٤٥٥

فقيل : المراد إذلال جهنم ، فإنها إذا بلغت فى الطغيان ، وطلبت المزيد ، أذلها الله ، كوضعها تحت القدم ، وليس المراد حقيقة القدم ، والعرب تستعمل ألفاظ الأعضاء ظرفا للأمثال ، ولا تريد أعيانها ، كقولهم : رغم أنفه ، وسقط فى يده. ه. قلت : من دخل بحار الأحدية لم يصعب عليه حلّ أمثال هذه الشّبه ، فإن تجليات الحق لا تنحصر ، فيتجلى سبحانه كيف شاء ، وبما شاء ، ولا حصر ولا تحييز ، ولا يفهم هذه إلا أهل الفناء والبقاء بصحبة الرّجال.

ثم قال تعالى : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، وهو شروع فى بيان أحوال المؤمنين بعد النّفخ ومجىء النّفوس إلى موقف الحساب. وتقديم الكفرة فى أمثال هذا ؛ إما لتقديم الترهيب على الترغيب ، أو لكثرة أهل الكفر ، فإن المؤمنين بينهم كالشعرة البيضاء فى جلد أسود (١) ، أي : قربت الجنة للمتقين الكفر والمعاصي ، بحيث يشاهدونها من الموقف ، ويقفون على ما فيها من فنون المحاسن ، فيبتهجون بأنهم محشورون إليها ، فائزون بها ، ويأتى فى الإشارة بقية بيان ، إن شاء الله. وقوله : (غَيْرَ بَعِيدٍ) تأكيد للإزلاف ، أي : مكانا غير بعيد ، ويجوز أن يكون التذكير لكونه على زنة المصدر ، الذي يستوى فى الوصف به المذكر والمؤنث ، أو لتأوّل الجنة بالبستان.

(هذا ما تُوعَدُونَ) أي : هذا الثواب ، أو الإزلاف ، ما كنتم توعدون به فى الدنيا ، وهو حاصل (لِكُلِّ أَوَّابٍ) أي : رجّاع إلى الله تعالى (حَفِيظٍ) لأوامر الله ، أو لما استودعه الله من حقوقه ، (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) : بدل من «أواب» أو مبتدأ ، خبره : أدخلوها ، على تقدير : يقال لهم : ادخلوها ؛ لأن «من» فى معنى الجمع ، والخشية : انزعاج القلب عند ذكر الخطيئة أو التقصير أو الهيبة. وقوله تعالى : (بالغيب) حال من فاعل «خشى» ، أو من مفعوله ، أو صفة لمصدره ، أي : خشية ملتبسة بالغيب ، حيث خشى عقابه وهو غائب عنه ، وخشى الرّحمن وهو غائب عن الأعين فى رداء الكبرياء ، لا تراه الأعين الحسية الحادثة. والتعرض لعنوان الرّحمن للثناء البليغ على الخاشى ، حيث خشيه مع علمه بسعة رحمته ، فلم يصدهم علمهم بسعة رحمته عن خوفه تعالى ، أو : للإشعار بأنهم مع خشيتهم عقابه راجون رحمته. (وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ) ؛ راجع إلى الله ، أو سريرة مرضية ، وعقيدة صحيحة.

يقال لهم : (ادْخُلُوها بِسَلامٍ) أي : سالمين من زوال النّعم وحلول النّقم ، أو : ملتبسين بسلام من الله تعالى وملائكته عليكم ، (ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ) ، الإشارة إلى الزمان الممتد الواقع فى بعض منه ما ذكر من الأحوال ، أي :

__________________

(١) كما جاء فى الصحيح ، فقد أخرج البخاري فى مواضع منها (الرقاق باب كيف الحشر ، ح ٦٥٢٨) ومسلم فى (الإيمان ، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة رقم ٣٧٦ ، ح ٢٢١) عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : كنا مع النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى قبة ، فقال : «أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة» قلنا : نعم ، قال «أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة» قلنا : نعم ، قال : «أترضون أن تكونوا شطر أهل الجنة» قلنا : نعم ، قال : «والذي نفسى محمد بيده ، إنى لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة ، وذلك أن الجنة لا يدخلها إلا نفس مسلمة ، وما أنتم فى أهل الشرك إلا كالشعرة البيضاء فى جلد الثور الأسود ، أو كالشعرة السوداء فى جلد الثور الأحمر».

٤٥٦

نهاية ذلك اليوم هو يوم الخلود ، الذي لا انتهاء له ، (لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها) من فنون المطالب ومنتهى الرّغائب (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) هو النّظر إلى وجهه الكريم ، على قدر حضورهم اليوم ، أو : هو ما لا يخطر ببالهم ، ولا يندرج تحت مشيئتهم من الكرامات ، التي لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. وقيل : إن السحاب تمر بأهل الجنة فتمطر عليهم الحور ، فتقول ، نحن المزيد الذي قال تعالى : (وَلَدَيْنا مَزِيدٌ) قلت : مزيد كلّ واحد على قدر همته وشهوته. والله تعالى أعلم.

الإشارة : يوم يقول لجهنم : هل امتلأت؟ وتقول : هل من مزيد ، كذلك النّفس ، نار شهواتها مشتعلة كلما أعطيتها شيئا من حظوظها طلبت المزيد ، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب ، ويتوب الله على من تاب ، وفى الحديث : «اثنان لا يشبعان ، طالب الدنيا وطالب علم ، طالب الدنيا يزداد من الله بعدا ، وطالب العلم يزداد من الله رضا وقربا» أو كما قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم (١).

واعلم أن الرّوح إذا عشقت شيئا فإن كان من الدنيا يسمى حرصا ، وإن كان فى جانب الحق سمى محبة وشوقا ، وفى الحقيقة ما هى إلا محبة واحدة ، إلا أنها لما تاهت انقلبت محبتها للفروقات الحسية ، وغابت عن المعاني الأزلية ، وكلما زاد فى الحرص نقص من المحبة ، وما نقص من الحرص زاد فى المحبة. ويقال : كلما زادت محبة الحس نقصت المعنى ، وبالعكس ، وإذا اشتعلت نار المحبة فلا تسكن بما يلقى فيها من الأمور الحسية ، كانت حظوظا أو حقوقا ، بل كلما ألقى فيها تقول : هل من مزيد ، حتى يضع الجبار قدمه ، وهو قذف نور معرفته فى القلب ، فحينئذ يحصل الفناء وتقول : قط قط.

ثم أخبر عن حال المؤمنين بقوله : (وأزلفت الجنة للمتقين) أي : قربت جنة المعارف إلى قلوب خواص المتقين ، الذين اتقوا ما سوى الله ، فقربت منهم ، ودخلوها فى الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قربت إليهم الجنة الحسية فى المحشر ، فيركبون فى قصورها وغرفها ، وتطير بهم إلى الجنة ، فلا يحسون بالصراط ولا بالنار ، وفيهم قال تعالى : (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) الآية (٢). والنّاس على ثلاثة أصناف ؛ قوم يحشرون إلى الجنة مشاة ، وهم الذين قال الله فيهم : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) (٣) وهم عوام المؤمنين ، وقوم يحشرون إلى الجنة ركبانا

__________________

(١) أخرجه الدارمي فى (المقدمة ، باب فى فضل العلم والعالم ، ح ٣٣٢) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. ولفظه : «منهومان لا يشبعان : صاحب العلم وصاحب الدنيا ، ولا يستويان ، أما صاحب العلم فيزداد رضي الرّحمن ، وأما صاحب الدنيا ، فيتمادى فى الطغيان ، ثم قرأ عبد الله. (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) قال : وقال الآخر : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ). وسند الحديث فيه انقطاع. انظر المشكاة (١ / ٨٧).

(٢) الآية ١٠٢ من سورة الأنبياء.

(٣) الآية ٧٣ من سورة الزمر.

٤٥٧

على طاعتهم ، المصورة لهم على صورة المراكب ، وهؤلاء الخواص من العباد والزهاد والعلماء والصالحين ، وأما خواص الخواص ، وهم العارفون ومن تعلق بهم ، فهم الذين قال الله فيهم : (وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ) تقرب منهم ، فيركبون فيها ، ويسرحون إلى الجنة. انظر القشيري.

وقوله تعالى : (هذا ما تُوعَدُونَ) الإشارة إلى مقعد صدق ، ولو كان إلى الجنة لقال «هذه». قاله القشيري. ثم وصف أهل هذا المقام بقوله : (لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ) أي : راجع إلى الله فى جميع أموره ، لا يعرف غيره ، ولا يلتجىء إلا إليه ، حفيظ لأنفاسه مع الله ، لا يصرفها إلا فى طلب الله ، من خشى الرّحمن بالغيب ، أي : بنور الغيب يشاهد شواهد الحق ، فيخشى بعده أو حجبه. قال القشيري : والخشية تكون مقرونة بالأنس ، ولذلك لم يقل : من خشى الجبار. ثم قال : والخشية من الرّحمن خشية الفراق ، ويقال : هو مقتضى علمه بأنه يفعل ما يشاء ، لا يسأل عما يفعل ، ويقال : الخشية ألطف من الخوف ، فكأنها قريبة من الهيبة. ه. (وجاء بقلب منيب) مقبل على الله بكليته ، معرض عما سواه ، (ادخلوها) جنة المعارف (بسلام) من العيوب ، آمنين من السلب والرّجوع ، وهذا قوله (ذلك يوم الخلود) فيها ، لهم ما يشاءون من فنون المكاشفات ، ولذيذ المشاهدات ، ولدينا مزيد ، زيادة ترقى أبدا سرمدا ، جعلنا الله من هذا القبيل فى الرّعيل الأول ، آمين.

ثم رجع إلى تهديد الكفرة ، فقال

(وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (٣٦) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (٣٧) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (٣٨))

يقول الحق جل جلاله : (وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ) ؛ قبل قومك (مِنْ قَرْنٍ) من القرون الذين كذّبوا رسلهم (هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ) ؛ من قومك (بَطْشاً) ؛ قوة وسطوة ، (فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ) أي : خرّبوا وطافوا وتصرفوا فى أقطارها ، وجالوا فى أكناف الأرض كلّ مجال حذار من الموت (هَلْ) وجدوا (مِنْ مَحِيصٍ) أي : مهرب منها؟ بل لحقتهم ودقت أعناقهم ، أو : هل وجدوا من مهرب من أمر الله وقضائه؟ وأصل التنقيب والنّقب : البحث والطلب ، قال امرؤ القيس:

لقد نقّبت فى الآفاق حتّى

رضيت من الغنيمة بالإياب (١)

__________________

(١) فى الديوان : [وقد طوّفت فى الآفاق حتى ...] انظر الديوان (٧٢).

٤٥٨

ودخلت الفاء للتسبب عن قوله : (هم أشد منهم بطشا) أي : شدة بطشهم ، أي : قدرتهم على التنقيب فى البلاد ، ويجوز أن يعود الضمير إلى أهل مكة ، أي : ساروا فى أسفارهم ومسايرهم فى بلد القرون ، فهل رأوا لهم محيصا حتى يؤملوا مثله أنفسهم؟ ويؤيده قراءة من قرأ (فنقّبوا) على صيغة الأمر.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) أي : فيما ذكر من قصصهم ، أو : فيما ذكر فى السورة (لَذِكْرى) ؛ لتذكرة وعظة (لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ) سليم واع يدرك كنه ما يشاهده من الأمور ، ويتفكر فيها ، ليعلم أن مدار دمارهم هو الكفر ، فيرتدع عنه بمجرد مشاهدة الآثار من غير تذكير ، (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي : أصغى بقلبه إلى ما يتلى عليه من الوحى النّاطق بما جرى عليهم ، فإن من فعله يقف على كنه الأمر ، فينزجر عما يؤدى إليه من الكفر والمعاصي ، يقال : ألق إلىّ سمعك ، أي : استمع ، ف «أو» لمنع الخلو ، لا لمنع الجمع ، فإن إلقاء السمع لا يجدى بدون سلامة القلب عما ذكر من الصفات ، للإيذان بأن من عرى قلبه عنهما كمن لا قلب له أصلا : وقوله تعالى : (وَهُوَ شَهِيدٌ) : حال ، أي : والحال أنه حاضر القلب لا يغفل أو : شاهد على ما يقرأ من كتاب الله.

(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من أصناف المخلوقات ، وهذا أيضا احتجاج على القدرة على البعث بما هو أكبر ، كقوله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) (١) وقوله تعالى : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) إنما خلقها فى تلك المدة تعليما لخلقه التؤدة ، وإلا فهو قادر على أن يخلقها فى لمحة ، (وَما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ) (٢) ، ويحتمل أن هذا فى عالم الأمر ، وأما عالم الخلق فاقتضت الحكمة خلقه بالتدريج ، وله الخلق والأمر ، ثم قال تعالى : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) ؛ من إعياء ولا تعب فى الجملة ، وهذا رد على جهلة اليهود ، أنه تعالى بدأ العالم يوم الأحد ، وفرغ منه يوم الجمعة ، واستراح يوم السبت ، واستلقى على العرش (٣) ، تعالى عما يقولون علوا كبيرا.

الإشارة : كثيرا ما أهلك الله من النّفوس المتمردة فى القرون الماضية ، زجرا لمن يأتى بعدهم ، ففى ذلك ذكرى لمن كان له قلب سليم من تعلقات الكونين. قال القشيري : فالقلوب أربعة ؛ قلب فاسد ؛ وهو الكافر ، وقلب مقفول ، وهو قلب المنافق ، وقلب مطمئن ، وهو قلب المؤمن ، وقلب سليم ، وهو قلب المحبين والمحبوبين ، الذين هو مرآة صفات جمال الله وجلاله ، كما قال تعالى : «لا يسعنى أرضى ولا سمائى ، ووسعني قلب عبدى المؤمن» (٤). ه.

__________________

(١) الآية ٥٧ من سورة غافر.

(٢) الآية ٥٠ من سورة القمر.

(٣) نزول الآية ردّا على اليهود ، أخرجه الطبري (٢٦ / ١٧٨) والواحدي فى الأسباب (ص ٤١٣).

(٤) سبق.

٤٥٩

وقال الشبلي : لمن كان له قلب حاضر مع الله ، لا يغفل عنه طرفة عين. وقال يحيى بن معاذ : القلب قلبان ؛ قلب احتشى بأشغال الدنيا ، حتى إذا حضر أمر من أمور الآخرة لم يدر ما يصنع ، وقلب احتشى بالله وشهوده ، فإذا حضر أمر من أمور الكونين لم يدر ما يصنع ، غائب من الكونين بشهود المكوّن. وقال القتاد : لمن كان له قلب لا يتقلب عن الله فى السراء والضراء. ه. (أو ألقى السمع وهو شهيد) أي : يشهد ما من الله إلى الله ، أو : يشهد أسرار الذات. قال القشيري : يعنى من لم يكن له قلب بهذه الصفة يكون له سمع يسمع الله وهو حاضر مع الله ، فيعتبر بما يشير إليه الله فى إظهار اللطف أو القهر. ه. (ولقد خلقنا السموات) أي : سماوات الأرواح ، وأرض الأشباح ، وما بينهما من النّفوس والقلوب والأسرار ، وسر الأسرار ، فى ستة أيام ، أي : ستة أنواع من المخلوقات ، وهى محصورة فيما ذكرناه من الأرواح ، والأشباح ، والنّفوس ، والقلوب ، والأسرار ، وسر الأسرار ، فلا مخلوق إلا وهو داخل فى جملتها ، لا يخرج عنها ، وما مسّنا من لغوب ؛ لأن أمرنا بين الكاف والنّون.

ثم أمر نبيه بالصبر على ما يسمع فى جانبه تعالى ، أو فى نفسه ، فقال

(فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (٣٩) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (٤٠) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (٤١) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (٤٢) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (٤٣) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (٤٤) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (٤٥))

يقول الحق جل جلاله : (فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ) أي : ما يقوله المشركون فى شأن البعث من الأباطيل ، فإنّ الله قادر على بعثهم والانتقام منهم ، أو : يقولونه فى جانبك من النّقص والتكذيب ، أو : ما تقوله اليهود من مقالات الكفر والتشبيه ، (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : اصبر على ما تسمع واشتغل بالله عنهم ، فسبّح ، أي : نزّه ربك عن العجز عما يمكن ، وعن وصفه تعالى بما يوجب التشبيه ، حامدا له تعالى على ما أنعم به عليك من إصابة الحق والرّشاد ، (قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ) ، وهما وقت الفجر والعصر ، وفضلهما مشهور.

٤٦٠