البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٣

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٦٠٧

١
٢

٣

٤

سورة الرّعد

مكية إلى قوله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ) ، والباقي مدنى ، وقيل : مدنية كلها. وآيها : خمس وأربعون. ومناسبتها لما قبلها : قوله : (ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى) ، مع قوله (تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ) ؛ فإنه كالدليل على كونه غير مفترى.

(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* المر ...).

قيل : معناه : أنا أعلم ، الله أعلم وأرى. وقيل : مختصرة من لفظ المرسل ، على عادة رمز المحبين. أو إشارة إلى العوالم الأربعة : فالألف لوحدة الجبروت ، واللام لتدفق أنوار الملكوت ، والميم لحس عالم الملك ، والراء لسريان أمداد الرحموت.

قال تعالی : (المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (١))

قلت : (تِلْكَ) : مبتدأ ، و (آياتُ) : خبر ، و (الَّذِي أُنْزِلَ) : مبتدأ ، و (الْحَقُ) : خبر ، والجملة الثانية كالحجة على الجملة الأولى.

يقول الحق جل جلاله : أيها المرسل المعظم ، والحبيب المفخم ، (تِلْكَ) الآيات التي تتلوها على الناس هى (آياتُ الْكِتابِ) المنزل من حضرة قدسنا. (وَ) الكتاب أي : القرآن (الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) هو (الْحَقُ) الذي لا ريب فيه ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ؛ لإخلالهم بالنظر والتأمل فيه.

الإشارة : لو صفت القلوب من الأكدار ، وملئت بالمعارف والأنوار ؛ لفهمت أسرار الكتاب ، وجواهر معانيه ، ولأدركت معرفة الحق من كلامه ؛ لأن الكلام صفة المتكلم ، ولكن أكثر الناس اشتغلوا بمتابعة الهوى ، فصرفوا عن فهم الكلام ، وفاتهم معرفة المتكلم ، ولذلك لم يكتف الحق تعالى بآيات الكتاب حتى ذكر دلائل توحيده وكمال قدرته ، فقال :

(اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (٢))

٥

قلت : (اللهُ) : مبتدأ ، و (الَّذِي رَفَعَ) : خبره ، ويجوز أن يكون الموصول صفة ، والخبر : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ، و (عَمَدٍ) : اسم جمع عمود ، وقياس جمعه : عمد ، كرسول ورسل ، وشهاب وشهب ، وليس جمعا خلافا لأبى عبيد. قاله ابن عطية. وقال البيضاوي : جمع عماد ، كإهاب وأهب. وجملة : (تَرَوْنَها) : إما حال ، أو استئنافية ؛ فالضمير للسماوات ، وإما صفة لعمد فالضمير لها ، أي : ليس لها عمد مرئية ، فيقتضى بالمفهوم أن لها عمدا لا ترى. وقيل : إن عمدها جبل قاف المحيط بالدنيا. والجمهور : أنه لا عمد لها البتة. فالمراد نفى العمد ، ونفى رؤيتها. قاله ابن جزى.

يقول الحق جل جلاله مستدلا على وجوده ، وكمال قدرته : (اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ) فوقكم كالسقف المرفوع (بِغَيْرِ عَمَدٍ) : أساطين ، بل بقدرة أزلية ، (تَرَوْنَها) مرفوعة فوقكم. أو بغير عمد مرئية ، بل بعمد خفية ، وهى : أسرار الذات العلية ؛ إذ لا فاعل سواه. (ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ) استواء استيلاء وإحاطة ، حتى صار العرش غيبا فى إحاطة قهريته وأسرار ذاته. وقد كانت العرب تجعل لملوكها سريرا يجلسون عليه لتدبير المملكة ، فخاطبنا الحق تعالى بقدر ما نفهم (١) ، ولذلك رتب عليه قوله : (وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) ؛ لأن هذا من تدبير ملكه ، أي : ذللهما لما أراد منهما ، كالحركة المستمرة على حد من السرعة ؛ لينتفع بهما عباده فى معاشهم ومعالم دينهم. (كُلٌ) منهما (يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) : لمدة معينة تتم فيها أدواره ، أو لغاية مضروبة ينقطع فيها سيرهما ؛ وهى يوم القيامة حين تكوّر الشمس والقمر. (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ) ؛ أمر ملكه من الإيجاد والإعدام ، والإحياء والإماتة ، وغير ذلك ، (يُفَصِّلُ الْآياتِ) : ينزلها ، ويبين معانيها مفصلة ، أو يحدث الدلائل واحدا بعد واحد ؛ (لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ) : لكى تتفكروا فيها ، وتتحققوا كمال قدرته ، فتعلموا أنّ من قدر على خلق هذه الأشياء وتدبيرها قادر على الإعادة والجزاء.

الإشارة : الله الذي رفع سموات الأرواح ، وزينها بنجوم العلم وقمر التوحيد ، وأشرق عليها شموس العرفان وأسرار التفريد ، ثم استوى بأسرار ذاته وأنوار صفاته على العرش ، وهو قلب العارف ؛ لأنه سرير المعرفة ، ومحل بيت الرب ، وسخر شمس المعرفة وقمر التوحيد ، يجريان بالترقي إلى محل التمكين ، وهو الأجل المسمى لهما ، يدبر أمر السير والترقي ، ويفصّل دلائل الطريق الموصلة إلى عين التحقيق ؛ لعلكم بالوصال إلى ربكم توقنون ، حين يكون ذوقا وكشفا. والله تعالى أعلم.

ثم ذكر العالم السفلى ، فقال :

(وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (٣) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ

__________________

(١) سئل الإمام مالك ، عن الاستواء على العرش ، فقال : (الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ..) ، وإذا كان علم حقيقة الصفات فرع عن علم حقيقة الذات المقدسة ، وإذا كنا لا نحيط بالله علما ، فإننا لن نحيط بصفات الله علما ، كذلك ، فنقول : آمنا به ، كلّ عند ربنا.

٦

أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٤))

قلت : (رَواسِيَ) : جمع راسية ، من رسى الشيء : ثبت ، و (جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ) من خفض عطف على (أَعْنابٍ) ، ومن رفع عطف على (جَنَّاتٌ). و (صِنْوانٌ) : نعت تابع ، و (غَيْرُ) : عطف عليه.

يقول الحق جل جلاله : (وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ) ؛ بسطها طولا وعرضا ؛ لتثبت عليها الأقدام وتتقلب عليها الحيوان والأنام ، (وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ) : جبالا ثوابت لتستقر وتثبت ، فلا تميد كالسفينة ، (وَ) جعل فيها (أَنْهاراً) مطردة دائمة الجري ، من غير نفاد ولا فتور. ضمها إلى الجبال ؛ لأنها أسباب لتولدها فى العادة. (وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ) أي : وجعل فيها صنفين اثنين من كل الثمرات ؛ فكل ثمرة فيها صنفان ؛ أحمر وأسود ، أو حلو وحامض ، قال ابن جزى : فإن قيل : تقتضى الآية أنه تعالى خلق من كل ثمرة صنفين ، وقد خلق من كثير من الثمرات أصنافا كثيرة؟ فالجواب : أن ذلك زيادة فى الاعتبار ، وأعظم فى الدلالة على القدرة بذكر الاثنين ؛ لأن دلالة غيرهما من باب أولى. ه.

(يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ) ، أي : يجعل الليل غشاء على النهار ولباسا له ، فيصير الجو مظلما بعد ما كان مضيئا. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ) ؛ دلائل وجوده وباهر قدرته (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) فيها ؛ فإن وجودها وتخصيصها فى هذا الشكل العجيب ، دليل على وجود صانع حكيم ، دبر أمرها ، وهيأ أسبابها.

(وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ) ؛ قريب بعضها من بعض ، مع اختلاف أوصافها ، بعضها طيبة وبعضها سبخة ، وبعضها رخوة وبعضها صلبة ، وبعضها يصلح للزرع دون الشجر ، وبعضها بالعكس ، وبعضها معادن مختلفة. ولو لا تخصيص قادر مخصص لتلك الأفعال ، على وجه دون وجه ، لم يكن الحكم كذلك ؛ لاشتراك تلك القطع فى الطبيعة الأرضية ، وما يلزمها ويعرض لها بتوسط ما يعرض من الأسباب السماوية ، من حيث إنها متضامة متشاركة فى السبب والأوضاع. قاله البيضاوي. (وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ) ؛ أي : وفى الأرض أيضا بساتين فيها أنواع من الأعناب والزروع ، والنخيل ، من صفة تلك النخيل : (صِنْوانٌ) أي : نخلات كثيرة متفرعة من أصل واحد ، (وَغَيْرُ صِنْوانٍ) أي : غير متفرعة ، بل كل نخلة منفردة بأصل واحد ، (يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ. وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ) أي : فى الثمر المأكول ؛ قدرا وشكلا ، وطعما ، ورائحة ولونا ،

٧

مع اتفاق الماء الذي تسقى به. وذلك مما يدل أيضا على الصانع القادر الحكيم ، فإن إيجادها ، مع اختلاف الأصول والأسباب ، لا يكون إلا بتخصيص قادر مختار. وفيه رد على الطبائعيين. (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) : يستعملون عقولهم بالتفكر والاعتبار ، فيدركون عظمة الواحد القهار.

الإشارة : ذكر أولا سماء الأرواح ، وما يناسبها من أنوار التوحيد وأسرار التفريد ، وذكر هنا أرض النفوس ، وما يلائمها من جبال العقول وأنهار العلوم ، فقال : وهو الذي مد أرض النفوس ، وجعل فيها جبالا من العقول الشامخة ، حتى أدركت الصانع ، وتحققت بوجوده ووحدانيته ، بالدلائل الواضحة ، والبراهين القطعية. وأنبع منها أنهارا من العلوم الرسمية ، والرقائق الوعظية. وجعل فيها من كل صنف ؛ من ثمار ما جنت بمجاهدتها صنفين اثنين : قبضا وبسطا ، منعا ووجدا ، ذلا وعزا ، فقرا وغنى. يغشيانها غشاء الليل للنهار ؛ فإذا كان ليل القبض غشيه نهار البسط ، فيزيله ، وإذا كان المنع ، غشيه الوجد ، وإذا كان الذل غشيه العز ، وإذا كان الفقر غشيه الغنى ، وهكذا. ودوام حال من قضايا المحال.

وفى أرض النفوس أيضا قطع متجاورة ، مع اختلاف ألوانها وطبائعها ، وعلومها ومعارفها ، ومواجدها وألسنتها. وفيها أيضا جنات المعارف ـ إن اتصلت بطبيب عارف ـ من أعناب الحقائق الناشئة عن خمرة الأزل ، وزرع الشرائع الناشئة عن الكسب والتحصيل ، ونخيل الأذواق والوجدان ، صنوان وغير صنوان ـ يعنى من تعتريه الأحوال ، ومن لا تعتريه لكمال رسوخه ، تسقى بخمرة واحدة ، وهى الخمرة الأزلية ، على أيدى الوسائط ، أو بلا وسائط ، وهو نادر. ونفضل بعضها على بعض فى الأذواق والوجدان ؛ فترى العارفين بعضهم قطب فى الأحوال ، وبعضهم قطب فى المقامات ؛ كان الجنيد رضى الله عنه قطبا فى العلوم ، وكذا الشاذلى والجيلاني والغزالي ، وأمثالهم. وكان الشيخ أبو زيد قطبا فى الأحوال ، وكان سهل التستري قطبا فى المقامات. والأولياء كلهم لا يخرجون عن هذا التقسيم ، كل واحد وما يغلب عليه ، مع مشاركته لغيره فى الثلاث (١). والله تعالى أعلم.

ولما ذكر دلائل قدرته ذكر وعيد من أعرض عنها حتى أنكر البعث ، فقال :

(وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (٥))

__________________

(١) هذه الإشارة ينبغى أن تتضمن توجيها : لدراسة الكون دراسة علمية ؛ والاستفادة فى ذلك فى إعمار الأرض ، وإنقاذ المسلمين من التخلف العلمي والحضارى ، ومن التبعية لحضارة الغرب المادية ؛ فانظر إلى قوله تعالى : (يتفكرون) ، (يعقلون) ومتعلقهما ، أعنى : الأرض ، والرواسي ، والأنهار ، والنبات ، والري .. وغير ذلك ، كيف غفلنا نحن المسلمين عن التفكر ، والتعقل فى هذه الموضوعات؟ وما العلم الطبيعي إلا مبنى على هذا الأصل ، فلله الأمر من قبل ومن بعد.

٨

قلت : (فَعَجَبٌ) : خبر ، و (قَوْلُهُمْ) : مبتدأ ، و (أَإِذا كُنَّا ...) إلخ ـ محكى به. واختلف القراء هنا ، وفى مواضع من القرآن ، فمنهم من قرأ بالاستفهام فى الأول دون الثاني ، ومنهم بالعكس ، ومنهم من قرأ بالاستفهام فيهما. فمن قرأ بالاستفهام فى الأول دون الثاني فإنما القصد هو الثاني ؛ لأنهم إنما أنكروا كون الإنسان يصير ترابا ثم يبعث ، وأما كونهم يصيرون ترابا فلا إنكار عندهم فيه. ومن قرأ بالاستفهام فى الثاني فعلى الأصل ، ومن قرأ بالاستفهام فيهما فزيادة تأكيد. والعامل فى (إِذا) محذوف ، دل عليه : (لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : أنجدد إذا .... إلخ.

يقول الحق جل جلاله : (وَإِنْ تَعْجَبْ) يا محمد من إنكارهم البعث (فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ) أي : فقولهم حقيق بأن يتعجب منه ، فإنّ من قدر على إنشاء ما قصّ عليك من عجائب السماوات والأرض ، وأنواع الثمار على اختلاف أصنافها وألوانها ، كانت الإعادة أيسر شىء عليه ، فالآيات المعدودة كما هى دالة على وجود المبدأ ، فهى دالة على إمكان الإعادة ، لأنها دالة على كمال قدرته تعالى. ثم فسر قولهم فى الإنكار : قالوا : (أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) أي : أنجدّد إذا متنا ، وكنا ترابا ، (أُولئِكَ) القائلون ذلك ، أو المنكرون البعث ، (الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ) ؛ لأنهم كفروا صفة القدرة ، (وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي : مقيدون بالضلال ، قد أحاط بهم الشقاء ، لا يرجى خلاصهم ، أو : يغلّون يوم القيامة. (وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ) لا ينفكون عنها. وتوسط ضمير الفصل ؛ لتخصيص الخلود بالكفار ، ففيه رد على المعتزلة. والله تعالى أعلم.

الإشارة : إنكار بعث الأرواح من غفلاتها وجهلها ، كإنكار بعث الأشباح بعد موتها ، يتعجب من الأول كما يتعجب من الثاني ؛ فالقدرة صالحة ، فمن قدر على بعث الأشباح بعد موتها الحسى قدر على بعث الأرواح بعد موتها المعنوي. «من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يخرجه من وجود غفلته ، فقد استعجز قدرة الإلهية ؛ (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً)». وقد أحيا الله أرواحا كثيرة كانت ميتة بالجهل والمعاصي ، فصارت عارفة بالله ، من خواص أولياء الله من كانوا لصوصا فصاروا خصوصا ، ومنهم من كانوا كفارا ، فصاروا أبرارا. وبالله التوفيق.

ثم استمر بهم الإنكار حتى استعجلوا ممن أوعدهم بذلك العذاب ، فقال تعالى :

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (٦))

قلت : «المثلات» : جمع مثلة ، كسمرة ، وهى العقوبة العظيمة ، التي تجعل الإنسان مثلا لمن بعده. وفيها لغات وقراءات شاذة. و (عَلى ظُلْمِهِمْ) : حال ، والعامل فيه : المغفرة.

يقول الحق جل جلاله : (وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ) أي : بالنقمة قبل العافية ، طلبوا نزول العذاب الذي أوعدهم به ؛ استهزاء ، (وَقَدْ خَلَتْ) : مضت (مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ) : عقوبات أمثالهم من

٩

المكذبين ، أو المصيبات الدواهي ، حتى صاروا مثلا لمن بعدهم. فمالهم لم يعتبروا ، ولم يخافوا حلول مثلها عليهم؟ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ) أي : مع ظلمهم أنفسهم بالكفر والمعاصي ، فسترهم وأمهلهم فى الدنيا. فالمغفرة هنا لغوية ، وقيل : يغفر لهم بالتوبة. وقيل : بلا قيد التوبة ، بل بمجرد الحلم. قال البيضاوي : وفيه جواز العفو قبل التوبة ، فإن التائب ليس على ظلمه ، ومن منع ذلك خص الظلم بالصغائر المكفرة باجتناب الكبائر. ه. (وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ) لمن يريد تعذيبه ، أو للكفار. وعن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «لو لا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحد العيش ، ولو لا وعيده وعقابه لاتّكل كلّ أحد» (١). قاله البيضاوي.

الإشارة : ترى بعض المستهزئين بالأولياء يؤذيهم بلسانه ، أو بغيره ، ويقول : إن كان بيده ما يفعل يفعله بي ، والله تعالى يقول : «من آذى لى وليّا فقد آذنته بالحرب». ولكن الحق تعالى يمهل ولا يهمل ؛ (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ).

ثم طلبوا المعجزة ، كما قال تعالى :

(وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (٧) اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (٨) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (٩) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (١٠) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ ...)

قلت : (وَسارِبٌ) : عطف على جملة (مَنْ هُوَ) أي : ومن هو سارب ، ليكمل التقسيم أربعة : من أسر ، ومن جهر به ، ومن استخفى ، ومن سرب ؛ أي : برز. انظر ابن جزى. و (الْمُتَعالِ) : منقوص ، يجوز فى الوقف عليه حذف الياء وإثباتها ، وكذلك : هاد ، وواق ، وشبهه ، غير أن الراجح فى المعرّف بأل الإثبات ، وفى المنوّن : الحذف. قال ابن مالك :

وحذف يا المنقوص ذى التّنوين ما

لم ينصب) أولى من ثبوت فاعلما

وغير ذى التّنوين بالعكس ، وفى

نحو مر : لزوم ردّ اليا اقتفى

وأثبتها ابن كثير فى الجميع ، ووافقه يعقوب فى المعرّف بأل ، وحذفها غيره مطلقا.

__________________

(١) أخرجه ابن أبى حاتم فى تفسيره (١٢١٤٥) عن سعيد بن المسيب ، مرسلا ، وزاد فى الفتح السماوي (٢ / ٧٣٨) عزوه للثعلبى.

١٠

يقول الحق جل جلاله : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا) من أهل مكة : (لَوْ لا) : هلا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ) أي : معجزة واضحة (مِنْ رَبِّهِ) كما أوتى موسى وعيسى. ولم يعتدوا بالآيات المنزلة عليه ؛ كانشقاق القمر وانقياد الشجر ، وتسليم الحجر ، وأعظمها : القرآن العظيم. وذلك عناد منهم. قال تعالى : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) ؛ مرسل إليهم لتنذرهم كغيرك من الرسل ، وما عليك إلا الإتيان بما تصح به نبوتك من جنس المعجزات ، لا مما يقترح عليك. (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) ؛ رسول يهديهم إلى الحق والصواب ، مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم ؛ ففى زمن موسى عليه‌السلام كان الغالب عليهم السحر ، فأوتى بالعصا تنقلب حية ؛ ليبطل سحرهم ، وفى زمن عيسى عليه‌السلام كان الغالب عليهم الطب ، فأوتى إبراء الأكمه والأبرص ، وإحياء الموتى الذي يعجزون عن مثله ، وفى زمن نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان الغالب عليهم البلاغة والفصاحة ، بها كانوا يتباهون ويتناضلون ، فأوتى القرآن العظيم ، أعجز ببلاغته البلغاء والفصحاء. أو : ولكل قوم هاد ، يقدر على هدايتهم ، وهو الله تعالى ، أي : إنما عليك الإنذار ، والله هو الهادي لمن يشاء ، أو : ولكل قوم واعظ ومذكر من نبىّ أو ولىّ. روى أنها لما نزلت قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «أنا المنذر ، وأنت يا علىّ الهادي» (١).

ثم أردف ذلك ما يدل على كمال علمه وقدرته ، وشمول قضائه وقدره ؛ تنبيها على أنه تعالى قادر على إنزال ما اقترحوه ، وإنما لم ينزله ؛ لعلمه بأن اقتراحهم كان عنادا لا استرشادا. أو أن وقت الإنزال لم يحضر ، فقال : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) هل هو ذكر أو أنثى ، أو تام أو ناقص ، أو حسن أو قبيح (٢). وهو من الخمس التي اختص بها. (وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ) أي : ما تنقص فى الجثة بمرض الجنين أو إسقاطه ، وما تزداد بنمو الجنين إلى أمده أو أكثر. قال البيضاوي : مدة الحمل عندنا أربع سنين ، وخمس عند مالك ، وسنتان عند أبى حنيفة. روى أن الضحاك ولد لسنتين ، وهرم بن حيان لأربع سنين. وأعلى عدده لا حد له. (٣) ـ قلت : يعنى مع تحققه ـ وقيل : المراد نقصان دم الحيض وزيادته. ه. (وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ) : بقدر محدود ، ووقت مخصوص ، لا يجاوزه ولا ينقص عنه ، فالحق ـ تعالى ـ قد خص كل حادث بوقت مخصوص معين ، وهيأ له أسبابا تسوقه إليه على ما تقتضيه حكمته.

__________________

(١) أخرجه الطبري فى تفسيره (١٣ / ١٠٨) عن ابن عباس. وانظر تفسير ابن كثير (٢ / ٥٠٢) والآلوسى (١٣ / ٨).

(٢) هذا النوع الذي ذكره الشيخ المفسر ، من المعرفة ، ليس هو النوع الذي اختص الله نفسه بعلمه ـ وهو يعلمه أيضا ـ فإن هذا العلم ممكن للإنسان ، بل قد علمه فعلا عن طريق الأشعة وغيرها. والأساس فى فهم الآية قوله تعالى فى الآية «ما» وهى التي تدل على الماهية.

فقوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) أي : يعلم ماهيته وحقيقته ، هل يكون شخصا مؤمنا أو كافرا ، سعيدا أو شقيا فى الدنيا والآخرة ، يعلم كنهه وهويته ومعتقده ، واتجاهاته وميوله ، وفكره وعمله ، ونيته ومصيره ، علما كليا وتفصيليا ، وهو ما يستحيل على العقل البشرى أن يعلمه ، فالله هو المختص وحده بعلم ذلك كله ، فضلا على علمه : هل هو ذكر أو أنثى .. إلخ ما يعلمه الإنسان بأدوات العلم التجريبى.

(٣) ما قاله الإمام البيضاوي عن مدة الحمل يرجع فيه إلى أهل الطب المختصين ، (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ) ، وقد قال أهل الاختصاص : إن الجنين إذا ظل فى الرحم أكثر من مدته ، فإن الرحم قد ينفجر. إلخ ما قالوا.

١١

(عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ) أي : الغائب عن الحس ، والظاهر فيه (الْكَبِيرُ) : العظيم الشأن ، الذي يصغر كل شىء دون عظمته وكبريائه ، (الْمُتَعالِ) : المستعلى عن سمة الحوادث ، أو : المستعلى بقدرته على كل شىء. (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ) فى نفسه (وَمَنْ جَهَرَ بِهِ) لغيره ، (وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ) : طالب للخفاء مستترا بظلمة الليل ، (وَ) من هو (سارِبٌ بِالنَّهارِ) أي : بارز فيه. فقد أحاط الله بذلك ، علما وسمعا وبصرا. فالآية مقررة لما قبلها من كمال علمه وشموله.

(لَهُ مُعَقِّباتٌ) أي : لمن أسر أو جهر ، أو استخفى أو برز ، (مُعَقِّباتٌ) : ملائكة تعتقب فى حفظه ، أي : يعقب بعضها بعضا ، اثنان بالليل واثنان بالنهار ، أو : لأنهم يعقبون أقواله وأفعاله فيكتبونها. أو : جماعة من الملائكة وكلّهم الله بحفظ الآدمي ، يعقب بعضهم بعضا ، وهو مناسب لقوله : (يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللهِ) أي : يحرسونه من الآفات التي تنزل من أمر الله وإرادته. أو : يحفظونه من عقوبة الله وغضبه. إذا أذنب ذنبا أمهلوه واستغفروا له. أو : يراقبون أحواله من أجل أمر الله ، إذ أمرهم الله بذلك ، أو يكون صفة للمعقبات ، أي : له معقبات من أجل أمر الله ، حيث أمرهم بحفظه. وقيل : الضمير فى (لَهُ) : يعود إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، المتقدم فى قوله : (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ) ، فتكون نزلت فيمن أراد غدر النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم سرا ، على ما يأتى فى الآية الآتية. والله تعالى أعلم.

الإشارة : قد تقدم مرارا حال من طلب الكرامة من الأولياء ، وأنه جاهل بهم ، ولا يعرفهم مادام يلتمس الكرامة منهم. وأىّ كرامة أعظم من الاستقامة ، والمعرفة بالله ، على نعت الشهود والعيان؟!. وقوله تعالى : (وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) أي : ولكل عصر عارف بالله ، يهدى الناس إلى حضرة الله ، وهم ورثة الهادي الأعظم والنبي الأفخم ، نبينا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أولهم سيدنا على ـ كرم الله وجهه ؛ للحديث المتقدم ، لأنه أول من أظهر علم التصوف وأفشاه ، ثم أخذه عنه الحسن البصريّ وهذبه ، ثم حبيب العجمي ، ثم داود الطائي ، ثم معروف الكرخي ، ثم سرى السقطي ، ثم إمام الطريقة : أبو القاسم الجنيد ، ثم انتشر فى الأرض ، فلكل عصر رجال يحملون لواء الحقيقة ، ويهدون الناس إلى لباب الشريعة. وهم العارفون بالله. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «يبعث الله على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لهذه الأمّة أمر دينها» (١) أي : يجدد الطريقة بعد دروسها ، ويحيى الحقيقة بعد خمود أنوارها ، ويظهر الشريعة بعد خفاء أعلامها. وقد يكون واحدا ومتعددا. وقد بعث الله فى رأس هذه المائة الثالثة عشر ، أربعة ، أحيا الله بهم الحقيقة ، وأظهر بهم أنوار الشريعة ، يمشون فى الأرض بالنصيحة ، ويهدون الناس إلى رب العالمين ، والله ولى المتقين ، وشهرتهم تغنى عن تعيينهم ، وتقدم اثنان فى العقود.

__________________

(١) أخرجه ابن داود فى (الملاحم ، باب ما يذكر فى قرن المائة) من حديث أبى هريرة ، وصححه السيوطي فى الجامع الصغير (ح ١٨٤٥).

١٢

وقوله تعالى : (اللهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى) : ما تحمل كل نفس من العلوم ، وما تحمل كل روح من الأسرار. وما تغيض الأرحام ، أي : القلوب ، فقد تنقص أنوارها بمباشرة الأغيار ، وقد تزداد بالتفرغ أو صحبة العارفين الكبار. وكل شىء عنده بمقدار ، فالفتح له وقت معلوم ، وحد محدود ، والمراتب والمقامات مقسومة محدودة فى الأزل ، كل أحد يأخذ ما قسم له. وقوله تعالى : (سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ ...) إلخ ، فيه تحقيق المراقبة وتشديد المحاسبة على الخواطر والقلوب. والله تعالى أعلم.

وإذا كان العبد على هداية من ربه أو نعمة ، فلا تزول عنه إلا من جهته ، كما قال تعالى :

(... إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (١١) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (١٢) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (١٣))

قلت : (وَإِذا) : ظرف ، والعامل فيه : مادل عليه الجواب ، أي : لا يرد ما قضى إذا أراد إنفاذه. و (خَوْفاً وَطَمَعاً) : منصوبان على العلة بتقدير المضاف ، أي : إرادة الخوف والطمع ؛ ليتحد الفاعل. أو بتأويل : يجعلكم ترون البرق خوفا وطمعا. و (الثِّقالَ) : نعت للسحاب ، وجمعه ؛ لأن السحاب جنس بمعنى الجمع. وجملة : (وَهُمْ يُجادِلُونَ) : إما استئنافية ، أو حال من الموصول. و (الْمِحالِ) : المكر والخديعة. من محل بفلان إذا كاده وعرّضه للهلاك ، ومنه تمحّل : إذا تكلّف استعمال الحيلة ، فالميم أصلية ، ووزنه : فعال ، وقيل : مشتق من الحيلة ، فالميم زائدة ، ووزنه : مفعل ، وأصله : محيل.

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ) من النعم والعافية إلى النقمة والبلية (حَتَّى يُغَيِّرُوا) هم (ما بِأَنْفُسِهِمْ) من الطاعة وترك المعصية ، إلى ارتكاب الذنوب. فلا يسلب النعم عن قوم إلا بارتكاب ذنب ، ولو من البعض إذا سكت الكل. (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ) أي : فلا رادّ له ولا معقب لحكمه ، (وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ) أي : ليس لهم من يلى أمرهم ، ويدفع عنهم السوء الذي قضاه الله عليهم ، وأراد نزوله بهم ؛ لأن وقوع خلاف مراد الله تعالى محال.

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً) أي : خوفا مما ينشأ عن البرق من الصواعق والأمور الهائلة ، وطمعا فى نزول الغيث الذي يكون معه غالبا ، (وَيُنْشِئُ) أي : يخلق (السَّحابَ) ؛ الغيم المسحب ، (الثِّقالَ) :

١٣

المثقل بالمطر الحاملة له ، (وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ) أي : متلبسا بحمده ، يقول : سبحان الله وبحمده. أو : يدل الرعد بنفسه على وحدانيته تعالى وكمال قدرته ، ملتبسا بالدلالة على كمال فضله ، ونزول رحمته. وعن ابن عباس رضى الله عنه : سئل النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن الرعد ؛ فقال : «ملك موكّل بالسّحاب ، له مخاريق من نار يسوق السّحاب» (١).

(وَ) تسبح أيضا (الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ) أي : من خوفه وإجلاله ، (وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ) ؛ نار تنزل من السماء وقت ضرب الرعد ، (فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ) فيهلكه ، (وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللهِ) أي : الكفار ، حيث يكذبون رسوله فيما يصفه به من كمال العلم والقدرة ، والتفرد بالألوهية ، وبعث الناس وحشرهم للمجازاة ، (وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ) أي : شديد المكر بأعدائه ، الذين أرادوا أن يمكروا بنبيه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ.

روى أن عامر بن الطّفيل وأريد بن ربيعة وفدا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قاصدين لقتله ، فأخذ عامر بالمجادلة مع سيدنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليشغله ، ودار أربد من خلفه ؛ ليضربه بالسيف ، فتنبه له الرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ وقال : «اللهمّ اكفنيهما بما شئت» ، فأرسل الله على أربد صاعقة فقتلته ، ورمى عامر بغدة ، فمات فى بيت امرأة سلوليّة ، فكان يقول : غدّة كغدّة البعير ، وموت فى بيت امرأة س لوليّة! فنزلت الآية من أولها (٢) ، وهو قوله : (لَهُ مُعَقِّباتٌ ...) إلخ ، على قول.

الإشارة : من جريان حكمته تعالى فى خلقه أنه لا يسلب النعم عنهم إلا بسوء أدب منهم ، كلّ على قدر مقامه ، فالنعم الظاهرة يسلبها بترك الطاعة الظاهرة ، أو بالمخالفة الظاهرة ، والنعم الباطنة يسلبها بترك المراقبة الباطنة أو المشاهدة الباطنة. فلكل مقام حقوق وآداب ؛ فمن أخلّ بحقوق مقام نقص له منه ، إلا أن يتوب. وقد يسىء الأدب فتؤخر العقوبة عنه ، فيظن أنه لم يسلب. ولو لم يكن إلا ترك المزيد. وقد يبعد ، وهو لا يشعر ، ولو لم يكن إلا وتركه وما يريد. كما فى الحكم. : «إن الله لا يغير ما فى القلوب من أنوار الشهود والعيان ، حتى يغيروا ما بأنفسهم من حسن الأدب بسوء الأدب». وهذا ما لم يتحقق له مقام المحبوبية والتمكن مع الله فى المعرفة. وإلا فالرعاية والعناية محفوفة بقلبه ، فقد يبلغ الولي إلى مقام يقال له : افعل ما شئت فقد غفرت لك ، كما وقع لأهل بدر ، وراجع ما تقدم عند قوله : (أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) (٣) وقد يغير الله قلب عبده اختبارا له ، فيسلبه حلاوة المعاملة أو المعرفة ، فإن هو اضطرب وتضرع ردّ له حاله ، وإن لم يضطرب ولم يفزع إلى الله لم يرد له شيئا. وإليه الإشارة بقوله : (وَإِذا أَرادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ ...) الآية.

__________________

(١) أخرجه فى سياق طويل ، أحمد فى المسند (٢ / ٢٧٤) والترمذي في (تفسير سورة الرعد) ، وقال : حسن غريب.

(٢) أخرجه ابن جرير فى التفسير (١٣ / ١٢٦) عن ابن عباس رضى الله عنه فى سياق أطول من هذا. وهو ضعيف لوجود السدى والكلبي فى السند.

(٣) الآية ٨٢ من سورة الأنعام.

١٤

هو الذي يريكم برق لمعان أنوار المشاهدة ، عند الاستشراف على الحضرة القدسية ، خوفا من الرجوع ؛ لعدم إطاقة ذلك النور ، وطمعا فى الوصول إلى التمكين ، فلا يزال تترادف عليه البروق حتى يستمر ذلك كبرق متصل ، وهى أنوار المواجهة. وينشئ سحاب الواردات ثقالا بالعلوم والأسرار ، ويرسل الصواعق تصعق وجود الحس عن أسرار المعاني ، فيصيب بها من يشاء ممن سبقت له العناية. وأهل الإنكار والتكذيب بطريق الخصوص يجادلون فى الله بتكذيب أوليائه وإنكار هذه الأنوار ، وهو شديد المحال ، فيمكر بهم ويتركهم فى مقام البعد ، وهم لا يشعرون.

ومن جملة التغيير الذي يسلب النعم ويوجب النقم : الركون إلى غير الله بالدعاء وغيره ، كما قال تعالى :

(لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (١٤) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (١٥))

يقول الحق جل جلاله : (لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ) ؛ لأنه الذي يحق أن يدعى فيجيب ، دون غيره ؛ فإنما له الدعاء الباطل ؛ لأنه يدعى فلا يسمع ولا يجيب. أو : له دعوة الحق ، وهى كلمة التوحيد ؛ «لا إله إلا الله» ، فمن دعا إليها فقد دعا إلى الحق. والأول أرجح ؛ لمناسبة قوله : (وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ) ، أي : والأصنام الذين يدعونهم من دونه لا يستجيبون لهم بشىء مما طلبوا ، أو : والمشركون الذين يدعون أصناما من دون الله لا يستجيبون لهم بشىء ، فحذف المفعول ؛ للدلالة عليه ، فلا يستجيبون لهم (إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ) ؛ إلا استجابة كاستجابة من بسط كفيه إلى الماء يشير إليه ، (لِيَبْلُغَ فاهُ) ؛ أي : يطلب منه أن يصعد إليه ويبلغ فاه (وَما هُوَ بِبالِغِهِ) أي : ليس الماء ببالغ فاه ؛ لأنه جماد لا يشعر بدعائه ، ولا يقدر على إجابته من حيث هو ، شبّه إجابة الأصنام لمن عبدهم بإجابة الماء لمن بسط إليه كفه ، وأشار إليه بالإقبال إلى فيه ، ولا يبلغ فاه أبدا ؛ لأنه جماد لا يسمع ولا يعقل ، وكذلك الأصنام لا تسمع ولا تجيب من بسط إليها يده ليطلب منها ؛ لأنها خشب وأحجار. (وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ) للأصنام (إِلَّا فِي ضَلالٍ) وخسران وضياع.

ثم ذكر الحقيق بالعبادة والطلب ، فقال : (وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً) يحتمل أن يكون السجود حقيقة ، فالملائكة والمؤمنون يسجدون طوعا فى الشدة والرخاء ، والكفار يسجدون كرها فى الشدة والضرورة. أو يكون مجازا ؛ وهو : انقيادهم لما أراد منهم ، شاءوا أو كرهوا. (وَ) تسجد أيضا (ظِلالُهُمْ) ؛ بانقيادها لله تعالى فى طولها وقصرها ، وميلها من جانب إلى جانب ، (بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) ، أي : طرفى النهار. وخصّ هذان الوقتان ـ وإن كان سجودهما دائما ـ ؛ لأن الضلال إنما تعظم وتكبر فيهما. وقال الواحدي : كل شخص مؤمن أو كافر ظله يسجد لله تعالى ، ونحن لا نقف على كيفية ذلك. ه.

١٥

وقال القشيري : ذلك سجود شهادة ، لا سجود عبادة ، فإن امتنع من إقامة الشهادة قوم قالة فقد شهد كل جزء منهم من حيث البرهان والدلالة ، فكل مخلوق من عين وأثر ، حجر ومدر أو غير ذلك ؛ فمن حيث البرهان لله ساجد ، ومن حيث البيان للواحد شاهد. ه.

وقال أبو حيان : عن الفراء : الظل فى الأصل مصدر ، ثم أطلق على الخيال الذي يظهر للجرم طوله بسبب انخفاض الشمس ، وقصره بسبب ارتفاعها ، فهو منقاد لله تعالى فى طوله وقصره وميله من جانب. ثم قال : والحاصل أنها جارية على مقتضى إرادته تعالى ومشيئته ، من الامتداد والتقلص ، والفيء والزوال. ه.

وقيل : لا يعلم تسبيح الجماد والنبات والحيوان البهيمى وسجودها ؛ إلا من كاشفه الله تعالى بحقيقة ذلك من نبى أو ملك أو صدّيق. وأما حمدها لله تعالى وتسبيحها بلسان الحال فيعلمه العلماء. قاله المحشى الفاسى.

الإشارة : كل من تعلق فى نوائبه بغير الله ، أو ركن فى حوائجه إلى غير مولاه ، فهو كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه ، وليس بواصل إليه ، ولا ببالغ قصده ومناه ، بل دعاؤه فى تلف وخسران ، وجزاؤه الخيبة والحرمان. فالواجب على العبد أن يقصر حوائجه على مولاه ، وينقاد إليه بكليته فى حال الطوع والإكراه. إما أن ينقاد إليه بالإحسان ، أو بسلاسل الامتحان. «عجب ربّك من قوم يساقون إلى الجنّة بالسّلاسل» (١).

ثم ذكر الحقيق بالدعوة ، والعبادة ، فقال :

(قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (١٦))

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ) يا محمد للمشركين : (مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي : خالقهما ، ومدبر أمرهما ، (قُلْ) لهم : هو (اللهُ) لا خالق سواه ، ولا مدبر غيره ، أجاب عنهم بذلك ، إذ لا جواب لهم سواه ؛ لأنهم يقرون به ، ولكنهم يشركون به. فأبطل ذلك بقوله : (قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) ؛ أصناما جامدة تتولونها بالمحبة والنصرة والدفع ، وهم جوامد (لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا) أي : لا يقدرون أن يجلبوا لأنفسهم نفعا ، ولا يدفعون عنهم ضرا ، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم ممن عبدهم ، أو يدفعون عنه ضرا؟!. وهو دليل على ضلالهم وفساد رأيهم ، فى اتخاذهم الأصنام أولياء ، رجاء أن يشفعوا لهم.

__________________

(١) هذا لفظ حديث صحيح أخرجه البخاري فى (كتاب الجهاب ، باب الأسارى فى السلاسل) عن أبى هريرة رضى الله عنه.

١٦

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي : الكافر الجاهل ، الذي عميت بصيرته بالجهل والشرك ، والمؤمن الموحد الذي انفتحت بصيرته بالإيمان والعلم. أو المعبود الغافل عن عبادة من عبده ، والعالم بأسرار عباده. (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) ؛ الكفر والإيمان ، أو الجهل والعلم. (أَمْ) : بل (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) من صفتهم ، (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ، فَتَشابَهَ) ؛ التبس (الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) فلم يدروا ما خلق الله مما خلق أصنامهم ، وهذا كله داخل فى الإنكار. والمعنى : هل خلق شركاؤهم خلقا كخلق الله ، فالتبس الخلق عليهم ، فلم يميزوا خلق الله من خلق أصنامهم ، حتى ظنوا أنها تستحق أن تعبد مع الله ، أو يطلب منها حوائج دون الله؟!.

ثم أبطل ذلك بقوله : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، قال البيضاوي : والمعنى أنهم ما اتخذوا له شركاء خالقين مثله حتى يتشابه الخلق عليهم ، فيقولوا : هؤلاء خلقوا كما خلق الله ، واستحقوا العبادة كما استحقها ، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق ، فضلا عما يقدر عليه الخالق. ه. (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ؛ لا خالق غيره فيشاركه فى العبادة. جعل الخلق موجب العبادة ، ولازم استحقاقها ، ثم نفاه عما سواه ؛ ليتحقق انفراده بالربوبية والقهرية كما أفاده قوله : (وَهُوَ الْواحِدُ) فى الألوهية ، (الْقَهَّارُ) بتصريف أحكام الربوبية. ه.

الإشارة : إذا علم العبد أن ربه قائم بأمر خلقه ، مدبر لشأن ملكه ، من عرشه إلى فرشه ، جعل حوائجه كلها وقفا عليه ، وانحاش بكليته إليه ، ورفع همته عن خلقه ، إذ ليس بيدهم ضر ولا نفع ، ولا جلب ولا دفع ، بل هم عاجزون عن إصلاح أنفسهم ، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم؟! وفى الحكم العطائية : «لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعا ، من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه : فكيف يستطيع أن يكون لها من غيره رافعا». وقال بعض العارفين من المكاشفين ـ رضى الله عنهم ـ : قيل لى فى نوم كاليقظة ، أو يقظة كالنوم : لا تبدينّ فاقة فأضاعفها عليك ؛ مكافأة لسوء أدبك ، وخروجك عن حد عبوديتك. إنما ابتليتك بالفاقة لتفزع بها إلىّ ، وتتضرع بها لدىّ ، وتتوكل فيها علىّ. سبكتك بالفاقة لتصير ذهبا خالصا ، فلا تزيفن بعد السبك ، وسمتك بالفاقة وحكمت لنفسى بالغنى ، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى ، وإن وصلتها بغيري قطعت عنك مواد معونتى ، وحسمت أسبابك من أسبابى ، طردا لك عن بابى. فمن وكلته إلىّ ملك ، ومن وكلته إليه هلك. ه.

وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه : آيست من نفع نفسى لنفسى ، فكيف لا آيس من نفع غيرى لها ، ورجوت الله لغيرى فكيف لا أرجوه لنفسى؟. ه. فالبصير من اعتمد فى أموره على مولاه ، والأعمى من ركن فى حوائجه إلى سواه. فأنوار التفويض والتسليم لا تستوى مع ظلمات الشرك والتدبير ؛ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ). وبالله التوفيق.

١٧

ثم ضرب مثلا لنور العلم مع ظلمات الجهل ، فقال :

(أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ (١٧) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٨))

قلت : (جُفاءً) : حال. و (الْحُسْنى) : مبتدأ ، و (لِلَّذِينَ) : خبر مقدم. و (الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا) : مبتدأ ، و (لَوْ أَنَ) : خبر ، أو (لِلَّذِينَ) : متعلق بيضرب ، و (الْحُسْنى) : نعت لمصدر محذوف ، و (الَّذِينَ) : معطوف على (الَّذِينَ) الأولى ، أي : يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى وللذين لم يستجيبوا ، ثم استأنف قوله : لو أن ... إلخ.

يقول الحق جل جلاله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ) أي : السحاب ، أو ناحية السماء ، (ماءً) ؛ مطرا ، (فَسالَتْ) به (أَوْدِيَةٌ) : أنهار ، جمع واد ، وهو الموضع الذي يسيل الماء فيه بكثرة ، فاتسع واستعمل للماء الجاري فيه. (بِقَدَرِها) أي : بقدر صغرها وكبرها ، كل يسيل على قدره ، أو بقدر ما قسم فى قسمة الله تعالى ، وعلم أنه نافع غير ضار ، (فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً) أي : رفعه على وجه الماء ، وهو ما يحمله السيل من غذاء ونحوه ، أو ما يطفوا على الماء من غليانه ، (رابِياً) : عاليا على وجه الماء ، (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ) (١) من ذهب وفضة ، وحديد ورصاص ونحاس ، وغيره ، (ابْتِغاءَ) أي : لطلب (حِلْيَةٍ) كالذهب والفضة ، (أَوْ مَتاعٍ) كالحديد والنحاس يصنع منه ما يتمتع به ؛ من الأوانى وآلات الحرب والحرث. والمقصود بذلك : بيان منافعها ، فكل واحد منهما له (زَبَدٌ مِثْلُهُ) أي : مثل زبد الماء ، وهو خبثه الذي تخرجه النار عند سبكه.

(كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ) ؛ فمثل الحق ـ وهو العلم بالله وبأحكامه ـ كمثل الأمطار الغزيرة ، ومثل القلوب التي سكن فيها ، وجرت حكمه على ألسنة أهلها ؛ كالأودية والأنهار والخلجان ، كلّ يحمل منه على قدره ، وسعة صدره. ومثل الباطل الذي دمغه وذهب به ؛ كالزبد وخبث الحديد والنحاس ، أو الذهب والفضة. وسيأتى فى الإشارة تكميله إن شاء الله. وروى مثل هذا عن ابن عباس. وإنكار ابن عطية له جمود ، وتذكّر حديث البخاري :

__________________

(١) قرأ حمزة والكسائي وحفص (يوقدون) بالياء. على أن الضمير للناس. وقرأ الباقون بالتاء على الخطاب .. انظر الإتحاف (٢ / ١٦٢).

١٨

«مثل ما بعثني الله به من الهدى ...» الحديث (١) ، فإنه يشهد لذلك التأويل. وتقدم له بنفسه فى قوله : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) (٢) ما يشير إلى تفسير أهل الإشارة والرموز. وراجع ما تقدم لنا فى خطبة الكتاب يظهر لك الحق والصواب.

قال البيضاوي : مثّل الحقّ فى إفادته وثباته ، بالماء الذي ينزل من السماء ، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة ، فتنفع به أنواع المنافع ، ويمكث فى الأرض ، فيثبت بعضه فى منابعه ، ويسلك بعضه فى عروق الأرض إلى العيون والآبار ، وبالفلزّ الذي ينتفع به فى صوغ الحلي ، واتخاذ الأمتعة المختلفة ، ويدوم ذلك مدة متطاولة. والباطل ، فى قلة نفعه وسرعة ذهابه ، بزبدهما ، وبيّن ذلك بقوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) ، أي : مرميا به ، من جفاه : رمى به وأبعده ، أي : يرمى به السيل والفلز المذاب. ه. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) كالماء ، وخالص الذهب أو الحديد ، (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) لينتفع به أهلها. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) لإيضاح المشكلات المعنوية ، بالمحسوسات المرئية.

(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) بالإيمان والطاعة ، (الْحُسْنى) أي : المثوبة الحسنى ، أو الجنة. (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) من الكفرة (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) من هول ذلك المطلع. أو : يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى ، وللذين لم يستجيبوا له. ثم بيّن مثال غير المستجيبين بقوله : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ...) إلخ : (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) ؛ أقبحه وأشده ، وهو أن يناقش فيه ، بأن يحاسب العبد على كل ذنب ، ولا يغفر منه شىء ، (وَمَأْواهُمْ) : مرجعهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) ؛ الفراش والمستقر ، والمخصوص محذوف ، أي : هذا.

الإشارة : قد اشتملت الآية على ثلاثة أمثلة : مثال للعلم النافع ، ومثال للعمل الخالص ، وللحال الصافي. فمثّل الحقّ تعالى العلم النافع بالمطر النازل من السماء ، فإنه تحيا به الأرض ، وتجرى به الأودية والعيون والآبار ، ويحبس فى الخلجان والقدور لنفع الناس ، وتتطهر به الأرض من الخبث ؛ لأنه ترمى به السيول فيذهب جفاء ، كذلك العلم النافع تحيا به النفوس بعد الموت بالجهل والشك ، وتحيا به الأرواح بعد موتها بالغفلة والحجاب ، وتمتلئ به القلوب على قدر وسعها وسعتها ، وعلى قدر ما قسم لهم من علم اليقين ، أو عين اليقين ، أو حق اليقين ، وتتطهر به النفوس من البدع وسائر المعاصي.

__________________

(١) لفظ الحديث كاملا : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصابت أرضا ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب ، أمسكت الماء فنفع الله الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه فى دين الله ، ونفعه الله به ، فعلم وعلّم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» أخرجه البخاري فى (العلم ، باب فى من علم وعلّم) ومسلم فى (الفضائل ، باب بيان ما بعث النبي به من الهدى والعلم) من حديث أبى موسى رضى الله عنه.

(٢) من الآية ٤٠ من سورة يوسف.

١٩

ومثّل العمل الخالص الذي تصفّى من الرياء والعجب وسائر العلل ، بالحديد المصفى من خبثه ؛ لتصنع منه السيوف والآلات ، أو النحاس المصفى لتصنع منه الأوانى ، وغيرها مما ينفع به الناس.

ومثّل الحال الصافي من العلل بالذهب المصفى ، أو الفضة ، إذا صفيت وذهب خبثها ؛ ليصنع بهما الحلي والحلل ؛ ليتزين بها أهلها ، فأشار إلى المثال الأول ـ وهو العلم ـ بقوله : (أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً) إلخ. وأشار الى الحال بقوله : (وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ) ، وأشار إلى العمل بقوله : (أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ). وقدّم الحال ، لشرفه ، ومثّله بالذهب والفضة ؛ لزيادة الرغبة فيه ؛ لأنه ثمرة العمل ، ومرجعه إلى الوجدان والأذواق ، وهو عزيز لا يجده إلا المقربون.

والحاصل : أن المراتب أربعة : العلم ، والعمل ، والحال ، والمقام. وإنما لم يضرب الحق تعالى مثلا للمقام ؛ لأن النزول فيه لا يكون إلا بعد التصفية ، فليس فيه علة ، يحتاج إلى التصفية منها. فمقامات اليقين كلها يجرى فيها العلم ، والعمل ، والحال ، والمقام. فالتوبة مثلا : يتعلق العلم بمعرفة حقيقتها ، وفضليتها ، ثم يسعى فى العمل بالمجاهدة والرياضة حتى يذهب زبده وخبثه ، حتى يذوق حلاوة الاستقامة مع بقية الخوف من السقوط ، وهذا هو الحال ، ثم تطمئن النفس ، وترسخ التوبة النصوح ، وهذا هو المقام. وكذلك الصبر ، يتعلق به العلم أولا ثم يسعى فى مرارة استعماله حتى يذوق حلاوة الشدة والفاقة ثم يرسخ فيه ، وهكذا يجرى فى المقامات كلها .. وهى اثنا عشر مقاما : التوبة ، والخوف ، والرجاء والورع ، والزهد ، والصبر ، والشكر ، والرضى ، والتسليم ، والمحبة ، والمراقبة ، والمشاهدة. وهى : بروج شمس المعرفة ، وقمر التوحيد. وكذلك معرفة الشهود والعيان : يتعلق العلم أولا بأسرار التوحيد ، ثم يعمل فى خرق عوائد نفسه حتى تموت ، فيشرق عليها أنوار التوحيد ، غير أنها تظهر وتخفى ، ثم يصير الشهود مقاما ، رسوخا وتمكينا.

وقد أشار فى الحكم إلى بعض هذا فقال : «حسن الأعمال نتائج حسن الأحوال ، وحسن الأحوال من التحقق بمقامات الإنزال». وكل واحد من الثلاثة يحتاج إلى تصفية حتى يذهب زبده وخبثه ؛ فتصفية العلم بالإخلاص والتحقيق ، فيذهب عنه قصد الرئاسة والجاه ، أو التوصل إلى الدنيا ، ويذهب به الشكوك والأوهام ؛ فهذا زبده. وتصفية العمل بالإخلاص فى أوله ، والإتقان والحضور فى وسطه ، والكتمان فى آخره ، فيذهب عنه الرياء والعجب به ، والتوصل به إلى حظ نفسانى. وتصفية الحال بصحة القصد وإفراد الوجهة ، وإذا هاج عليه الوارد ملك نفسه وأمسكها ، فيذهب به قصد الظهور ، وطلب المراتب الدنيوية والكرامات الحسية ، التي هى من حظ النفس وتشتيت القلب ، إن لم يفرد وجهته لله ، وانحلال عزمه وخمود نوره ، إن لم يمسك نفسه عند هواجم الحال. فهذا زبد الحال الذي يذهب عنه بمجاهدة النفس ، ويمكث فى أرض القلوب صفاء اليقين والمعرفة وخالص العمل فى مقام العبودية. وبالله التوفيق.

٢٠