البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

وروى فى هذا حديث ، وهو أنه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ قال له ربه ـ عزوجل ـ فى النّوم : «أتدري فيما يختصم الملأ الأعلى؟ قلت : لا ، قال : اختصموا فى الكفارات والدرجات ، فأما الكفارات فإسباغ الوضوء على المكاره ، ونقل الأقدام إلى الجماعات ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، وأما الدرجات ؛ فإفشاء السّلام ، وإطعام الطعام ، والصلاة بالليل والنّاس نيام» (١). رواه الترمذي.

و «إذ يختصمون» : متعلق بمحذوف يقتضيه المقام ؛ إذ المراد نفى علمه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بحالهم لا بذواتهم ، والتقدير : ما كان لى فيما سبق علم بما يوحيه فى شأن الملأ الأعلى وقت اختصامهم. وانظر أبا السعود.

(إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي : ما يوحى إلىّ ما يوحى من الأمور الغيبية ، التي من جملتها حال الملأ الأعلى ، إلا لأنما أنا نذير مبين من جهته تعالى ، فحذف اللام وانتصب بإيصال الفعل إليه ، ويجوز أن يرتفع بالنيابة عن الفاعل ، أي : ما يوحى إلىّ إلا هذا ، وهو أن أنذر وأبلّغ ، ولا أفرط فى ذلك ، أي : ما أومر إلا بهذا الأمر وحده ، وليس إلىّ غير ذلك. وقرىء بكسر «إنما» (٢) على الحكاية ، أي : إلا هذا القول ، وهو : أن أقول لكم : إنما أنا نذير مبين ، ولا ادّعى شيئا آخر.

الإشارة : تربية اليقين تطلب فى ثلاثة أمور ؛ فى توحيد الألوهية ، بالتبري من الشرك الجلّى والخفي. وهو مفاد قوله : (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ ...) إلخ. وفى تصديق الواسطة ، وهو النّذير المبين ، بتعظيمه واتباع سنته ومنهاجه القويم ، وفى التصديق بما جاء به ، وهو النّبأ العظيم ، على أىّ تفسير كان ، إما القرآن ، باتباعه ، والتدبر فى معانيه ، أو : يوم القيامة ، بالتأهب له ، وجعله نصب العين. وبالله التوفيق.

ثم فسّر الاختصام المتقدم ، فقال :

(إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (٧١) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (٧٢) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (٧٣) إِلاَّ إِبْلِيسَ

__________________

(١) أخرجه الترمذي فى (التفسير ـ سورة «ص» ح ٣٢٣٤ و ٣٢٣٥) من حديث ابن عباس ، ومعاذ بن جبل ـ رضي الله عنهما. وقال عن حديث ابن عباس : حسن غريب. وعن حديث معاذ : حسن صحيح.

(٢) وهى قراءة أبى جعفر المدني. انظر الإتحاف (٢ / ٤٢٤).

٤١

اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (٧٤) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (٧٥) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (٧٦) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (٧٨) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (٧٩) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٢) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (٨٣) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (٨٤) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (٨٥))

قلت : (إذ قال) : متعلق بيختصمون ، أو : بدل من (إذ) قبله ، أو : باذكر. و «الحق» : فمن نصبه ، فعلى حذف فعل القسم ، كقولك : الله لأفعلن ، أي : أقسم بالحق ، فحذفت الباء ووصل الفعل به ، ومن رفعه ؛ فمبتدأ ، أي : الحقّ منى ، أو : خبر ، أي : أنا الحق. والحق الثاني : مفعول «أقول» ، والجملة : معترضة بين القسم وجوابه ، وهو : (لأملأن).

يقول الحق جل جلاله فى تفسير الاختصام المذكور : (إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) حين أراد خلق آدم ، (إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ) ، وقال : (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها) (١). والتعرض لعنوان الرّبوبية ، مع الإضافة إلى ضميره ـ عليه الصلاة والسّلام ـ لتشريفه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والإيذان بأنّ وحي هذا النّبأ إليه تربية وتأييد له. والكاف وارد باعتبار حال الآمر ، لكونه أدلّ على كونه وحيا منزلا من عنده تعالى ، كما فى قوله تعالى : (... يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا ...) (٢) إلخ ، دون حال المأمور ، وإلا لقال : ربى ؛ لأنه داخل فى حيز الأمور. (فَإِذا سَوَّيْتُهُ) أي : صوّرته بالصورة الإنسانية ، والخلقة البشرية ، أو : سويت أجزاء بدنه ، بتعديل أعضائه ، (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) الذي خلقته قبل ، وأضافه إليه تخصيصا ، كبيت الله ، وناقة الله. والرّوح سر من أسرار الله ، لطيفة ربانية ، سارية فى كثيفة ظلمانية ، فإذا سرت فيه حيى بإذن الله ، أي : فإذا أحييته (فَقَعُوا) أي : اسقطوا (لَهُ) ، وهو أمر ، من وقع ، (ساجِدِينَ) قيل : كان انحناء يدلّ على التواضع ، وقيل : كان سجودا لله ، أو سجود تحية لآدم وتكريما له.

__________________

(١) من الآية ٣٠ من سورة البقرة.

(٢) من الآية ٥٤ من سورة الزمر.

٤٢

(فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) ، «كل» للإحاطة ، و «أجمعون» للاجتماع ، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعا ، فى وقت واحد ، غير متفرقين فى أوقات. وظاهر هذه الآية وما فى سورة الحجر (١) : أن الأمر بالسجود كان تعليقيا ، لا تنجيزيا ، فأمرهم بالسجود قبل أن يخلقه ، بل حين أعلمهم بخلقه ، فلما خلقه سجدوا ممتثلين للأمر الأول ، وظاهر ما فى البقرة والأعراف والإسراء والكهف : أن الأمر كان تنجيزيا بعد خلقه ، والجمع بينهما : أنه وقع قبل وبعد ، أو : اكتفى بالتعليقى ، كما يقتضيه الحديث ، حيث قال له بعد نفخ الرّوح فيه : «اذهب فسلّم على أولئك الملائكة ، فسلّم عليهم ، فردوا عليه وسجدوا له». والله تعالى أعلم بغيبه.

(إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ) أي : تعاظم عن السجود ، والاستثناء متصل إن قلنا : كان منهم ، حيث عبد عبادتهم ، واتصف بصفاتهم ، مع كونه جنيا ، أو : منقطع ، أي : لكن إبليس استكبر ، (وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ) أي : صار منهم بمخالفته للأمر ، واستكباره عن الطاعة ، أو : كان منهم فى علم الله.

(قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ) أي : عن السجود (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، بلا واسطة أب ولا أم ، امتثالا لأمرى ، وإعظاما لخطابى ، ولمّا كانت الأعمال تباشر فى الغالب باليد ، أطلقت على القدرة. والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه‌السلام ، المستدعى لإجلاله وإعظامه ، قصدا إلى تأكيد الإنكار ، وتشديد التوبيخ. وسيأتى فى الإشارة بقية الكلام فى سر التثنية. قال له تعالى : (أَسْتَكْبَرْتَ) ، بهمزة الاستفهام ، وطرح همزة الوصل ، أي : أتكبرت من غير استحقاق ، (أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ) المستحقين للتفوق ، أو : أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين ، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك؟.

(قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) ، ولا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول ، كقوله : (لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ) (٢) ، وبيّن فضيلته فى زعمه بقوله : (خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، يعنى لو كان مخلوقا من نار لما سجدت له ؛ لأنه مخلوق مثلى ، فكيف أسجد لمن هو دونى ؛ لأنه طين ، والنّار تغلب الطين وتأكله ، ولقد أخطأ اللعين ، حين خصّ الفضل بما من جهة المادة والعنصر ، وغاب عنه ما من جهة الفاعل ، كما أنبأ عنه قوله تعالى : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، وما من جهة الصورة كما نبّه عليه قوله تعالى : (وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي) ، وما من جهة الغاية ، وهو ما خصّه به من علوم الحكمة ، التي ظهرت بها مزيته على الملائكة ، حتى أمروا بالسجود ، لما ظهر أنه أعلم منهم بما تدور عليه أمر الخلافة فى الأرض ، وأن له خواص ليست لغيره.

__________________

(١) فى قوله تعالى : (فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ ، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ) الآيتان ٢٩ ـ ٣٠.

(٢) الآية ٣٠ من سورة الحجر.

٤٣

(قالَ فَاخْرُجْ مِنْها) ؛ من الجنة ، أو : من زمرة الملائكة ، وهو المراد بالأمر بالهبوط ، أو : من السموات ، أو : من الخلقة التي أنت فيها ، وانسلخ منها ، فإنه كان يفتخر بخلقته ، فغيّر الله خلقته ، فاسودّ بعد ما كان أبيض ، وقبح بعد ما كان حسنا ، وأظلم بعد ما كان نوراينا. (فَإِنَّكَ رَجِيمٌ) أي : مرجوم ، مطرود ، من كل خير وكرامة. أو : شيطان يرجم بالشهب.

(وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي) ؛ إبعادى من الرّحمة. وتقييدها هنا ، وإطلاقها فى قوله : (وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ) (١) ؛ لأن لعنة اللاعنين من الثقلين والملائكة أيضا من جهته تعالى ، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله وإبعاده من الرّحمة ، (إِلى يَوْمِ الدِّينِ) ؛ إلى يوم الجزاء والعقوبة ، ولا يظن أن لعنته غايتها يوم الدين ، ثم تنقطع ، بل فى الدنيا اللعنة وحدها ، ويوم القيامة يقترن بها العذاب ، فيلقى يومئذ من ألوان العذاب ، وأفانين العقاب ، ما ينسى به اللعنة ، وتصير عنده كالزائد. أو : لمّا كان عليه اللعنة فى أوان الرّحمة ، فأولى أن يكون عليه اللعنة فى غير أوانها ، وكيف ينقطع ، وقد قال تعالى : (فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ) (٢) وهو إمامهم؟.

(قالَ) إبليس : (رَبِّ فَأَنْظِرْنِي) ؛ أمهلنى وأخّرنى ، أي : إذا جعلتنى رجيما فأمهلنى ولا تمتنى ، (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) أي : آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم. وأراد بذلك فسحته لإغوائهم ، وليأخذ منهم ثأره ، وينجو من الموت بالكلية ؛ إذ لا موت بعد البعث ، (قالَ) تعالى : (فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ) ، وهو وقت النّفخة الأولى ، ومعنى «معلوم» أنه معلوم عند الله ، لا يتقدم ولا يتأخر. وورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرّض لشمول ما سأله لآخرين ، على وجه يشعر بكون السائل تبعا لهم فى ذلك ، دليل واضح على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلا ، لا إنشاء لإنظار خاص به ، قد وقع إجابة لدعائه ، أي : إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلا ، حسبما تقتضيه حكمة التكوين.

(قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) ، أقسم بعزة الله ، وهو سلطانه وقهره على إغواء بنى آدم ، بتزيين المعاصي والكفر ، (إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) ، وهم الذين أخلصهم الله للإيمان به وطاعته ، وعصمهم من الغواية ، أو : الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم لله فى قراءة الكسر (٣).

__________________

(١) من الآية ٣٥ من سورة الحجر.

(٢) من الآية ٤٤ من سورة الأعراف.

(٣) قرأ بكسر اللام فى «المخلصين» ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر. اسم فاعل. وقرأ الباقون بفتحها ، اسم مفعول. انظر السبعة ، ٣٤٨ والإتحاف (٢ / ٣٢٤).

٤٤

(قالَ) تعالى : (فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ) أي : أقسم بالحق ولا أقول إلا الحق ، أو : الحق قسمى (١) وأقول الحق : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ) ؛ من جنسك ، وهم الشياطين ، (وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ) ؛ من ذرية آدم (أَجْمَعِينَ) أي : لأعمرنّ جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين ، لا أترك منهم أحدا.

الإشارة : التجلي بهذا الهيكل الآدمي فاق جميع التجليات ، وصورته البديعة فاقت جميع الصور ، ولذلك لم يقل الحق تعالى فى شىء أنه خلقه فى أحسن تقويم إلا الآدمي ، وذلك لأنه اجتمع فيه الضدان ، واعتدل فيه الأمران ؛ الظلمة والنّور ، الحس والمعنى ، الروحانية والبشرية ، القدرة والحكمة. ولذلك قال تعالى فيه : (لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ) ، ولم يقله فى غيره ، أي : خلقته بيد القدرة ويد الحكمة. فالقدرة كناية عما فى باطنه من أسرار المعاني الإلهية ، والحكمة عبارة عما فى قالبه من عجائب التصوير ، وغرائب التركيب ، ولذلك كانت معرفته أتم ، وترقيه لا ينقطع ، إن كان من أهله ، وراجع ما تقدم فى قوله تعالى (وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ) (٢).

وقال القشيري بعد كلام : فسبحان الله! خلق أعزّ خلقه من أذلّ شىء وأخسّه. ثم قال : ما أودع عند آدم لم يوجد عند غيره ، فيه ظهرت الخصوصية. ه.

ثم نزّه نبيه عن الطمع فى الأجر على التبليغ والتكلف ، فقال :

(قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (٨٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٨٧) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (٨٨))

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ) على تبليغ ، الوحى أو على القرآن (مِنْ أَجْرٍ) دنيوى ، حتى يثقل عليكم ، (وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) أي : المتصنعين بما ليسوا من أهله ، وما عرفتمونى قط متصنعّا حتى أنتحل النّبوة ، أو أتقول القرآن ، وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «للمتكلف ثلاث علامات : ينازع من فوقه ، ويتعاطى ما لا ينال ، ويقول ما لا يعلم» (٣).

__________________

(١) هذا المعنى على قراءة «فالحق» بالرفع ، وهى قراءة عاصم وحمزة. والمعنى الأول على قراءة «فالحق» بالنصب ، على أنه مقسم به حذف منه حرف القسم ، فانتصب. و «لأملأن» جواب القسم ، وهى قراءة نافع ، وابن كثير ، وأبى عمرو ، وابن عامر ، والكسائي. انظر الإتحاف (٢ / ٤٢٥).

(٢) الآية ٧٠ من سورة الإسراء. (٣ / ٢١٦ ـ ٢١٨).

(٣) عزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (رقم ٣١٤) للثعلبى ، عن سلمة بن نفيل ، مرفوعا.

٤٥

(إِنْ هُوَ) : ما هو (إِلَّا ذِكْرٌ) : وعظ من الله عزوجل (لِلْعالَمِينَ) ؛ الثقلين كافة ، (وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ) ؛ نبأ القرآن ، وصحة خبره ، وما فيه من الوعد والوعيد ، وذكر البعث والنّشور ، (بَعْدَ حِينٍ) ؛ بعد الموت ، أو : يوم بدر ، أو : القيامة ، أو : بعد ظهور الإسلام وفشوه. وفيه من التهديد ما لا يخفى. ختم السورة بالذكر كما أفتتحها بالذكر.

الإشارة : تقدم مرارا التحذير من طلب الأجر على التعليم ، أو الوعظ والتذكير ، اقتداء بالرسل عليهم‌السلام. وفى الآية أيضا : النهى عن التكلف والتصنع ، وهو نوع من النّفاق ، وضرب من الرّياء. وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه نادى منادى النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «اللهم اغفر للذين لا يدعون ، ولا يتكلفون ، ألا إنى برىء من التكلف ، وصالحو أمتى» (١). وقال سلمان (٢) : «أمرنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ألّا نتكلف للضيف ما ليس عندنا!» (٣). وكان الصحابة رضي الله عنهم يقدّمون ما حضر من الكسر اليابسة ، والحشف البالي ـ أي : الرديء من التمر ـ ويقولون : لا ندرى أيهما أعظم وزرا ، الذي يحتقر ما قدم إليه ، أو : الذي يحتقر ما عنده فلا يقدمه. ه. وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

__________________

(١) ذكره السيوطي فى الدر (٥ / ٦٠٠) بلفظ : «إنى لا ألى من التكلف وصالحو أمتى» وعزاه للديلمى وابن عساكر ، عن الزبير رضي الله عنه.

(٢) فى الأصول (أبو سليمان).

(٣) أخرجه البيهقي فى الشعب (الباب السابع والستون ، ح ٩٦٠١) من حديث سلمان الفارسي ـ رضي الله عنه.

٤٦

سورة الزمر

مكية ، إلا قوله : (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ) .. إلى قوله : (وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ) (١) فإنها نزلت فى وحشىّ ، قاتل حمزة (٢). وهى خمس وسبعون آية فى مصحف البصرة ، واثنان وسبعون فى مصحف الكوفة. ومناسبتها لما قبلها قوله : (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) (٣) ، فإنه عين التنزيل الذي صدّر به ، حيث قال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (٢) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ ...)

قلت : (تَنْزِيلُ) : خبر ، أي : هذا تنزيل ، و «من الله» : صلة لتنزيل ، أو : خبر ثان ، أو : حال من التنزيل ، عاملها : معنى الإشارة.

يقول الحق جل جلاله : هذا الذي تتلوه هو (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) ، نزل (مِنَ) عند (اللهِ الْعَزِيزِ) فى سلطانه (الْحَكِيمِ) فى تدبيره. وإيثار الوصفين للإيذان بجريان أثريهما فى الكتاب ، بجريان أحكامه ونفوذ أوامره ونواهيه. (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) : ليس بتكرر ؛ لأن الأول كالعنوان للكتاب ، والثاني لبيان ما فى الكتاب. قال أبو السعود : والمراد بالكتاب : القرآن ، وإظهاره على تقدير كونه هو المراد بالأول ؛ لتعظيمه ومزيد الاعتناء بشأنه. والباء إما متعلقة بالإنزال ، أي : بسبب الحق وإظهاره ، أو : بداعيته واقتضائه ، وإما بمحذوف هو حال من نون العظمة ، أو : من الكتاب ، أي : أنزلناه إليه محقين فى ذلك ، أو : ملتبسا بالحق والصواب ، أي : ما فيه حق لا ريب فيه موجب العمل به حتما. قال القشيري : بالحق ، أي : بالدين الحق والشرع الحق ، وأنا محق فى إنزاله.

__________________

(١) الآيات : ٥٣ ـ ٥٥.

(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٦٠٢) لابن النّحاس فى تاريخه ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما.

(٣) الآية : ٨٧ من سورة (ص).

٤٧

(فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) أي : فاعبده تعالى مخلصا دينه من شوائب الشرك والرّياء ، حسبما بيّن فى تضاعيف ما أنزل إليه. (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) أي : هو الذي وجب اختصاصه بأن تخلص له الطاعة من كل شائبة ؛ لأنه المنفرد بصفات الألوهية ، التي من جملتها : الاطلاع على السرائر والضمائر.

الإشارة : قال القشيري : كتاب عزيز ، نزل من ربّ عزيز ، على عبد عزيز ، بلسان ملك عزيز ، فى شأن أمة عزيزة ، بأمر عزيز. وأنشدوا :

ورد الرّسول من الحبيب الأول

بعد البلاء ، وبعد طول الأمل (١)

تنزيل تنزهت قلوب الأحباب بعد ذبول غصن سرورها ، فى كتاب الأحباب ، عند قراءة فصولها. والعجب منها كيف لا تزهو سرورا بوصولها ، وارتياحا بحصولها ، وكتاب موسى فى الألواح ، ومنها كان يقرأ موسى ، وكتاب نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم نزل به الرّوح ، الأمين ، على قلبك ، وفصل بين من يكون خطاب ربه مكتوبا فى ألواحه ، وبين من يكون خطاب ربه محفوظا فى قلبه ، وكذلك أمته ، (بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) (٢) ه.

وقوله تعالى : (فَاعْبُدِ اللهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ) ، قال القشيري : العبادة : معانقة الطاعات على نعت الخضوع ، وتكون بالنفس وبالقلب وبالروح ، فالتى بالنفس ـ أي : بالجوارح ـ الإخلاص فيها : التباعد عن الانتقاص ، والتي بالقلب ، أي : كالفكرة والنّظرة ، الإخلاص فيها : التباعد عن رؤية الأشخاص ـ أي : الحس من حيث هو ـ والتي بالروح ، الإخلاص فيها : التنقّى عن رؤية طلب الاختصاص (٣).

قوله تعالى : (أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ) هو ما يكون جملته لله ، وما للعبد فيه نصيب فهو عن الإخلاص بعيد ، اللهم إلا أن يكون بأمره ، فإنه إذا أمر العبد أن يحتسب الأجر على طاعته ، فأطاعه ، لا يخرج عن الإخلاص بامتثاله ما أمره به ، ولو لا هذا ما صحّ أن يكون فى العالم مخلص ، يعنى : أن جل النّاس إنما يطيعون لاحتساب الأجر ، إلا الفرد النّادر ، فمن زال عنه الحجاب فإنه يعبد الله بالله ، شكرا ، وإظهارا للأدب ، فإن قصد الاحتساب ، ثم طرأ عليه خواطر بعد تحقق الإخلاص ، فلا يضر ، يدل عليه قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا فهو فى سبيل الله» (٤) وهذا فى أصل القصد ، والعوارض غير مضرة ، كما هو صريح حديث آخر. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) البيت غير موجود فى لطائف الإشارات المطبوع.

(٢) الآية ٤٩ من سورة العنكبوت.

(٣) بتصرف.

(٤) بعض حديث ، أخرجه البخاري فى (الجهاد ، باب من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا ، ح ٨١٠) ومسلم فى (الإمارة ، باب من قاتل لتكون كلمة الله هى العليا ، ٣ / ١٥١٢ ، ح ١٩٠٤) من حديث أبى موسى الأشعري رضي الله عنه. وأول الحديث : (أن أعرابيا أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فقال : يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم ، والرّجل يقاتل ليذكر ، والرّجل يقاتل ليرى مكانه ، فمن فى سبيل الله؟ ...) الحديث.

٤٨

ثم رد على المشركين ، فقال :

(... وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (٣) لَّوْ أَرَادَ اللَّهُ أَن يَتَّخِذَ وَلَدًا لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٤))

قلت : «والذين» : مبتدأ ، و (ما نَعْبُدُهُمْ) : محكى بقول محذوف ، حال من واو «اتخذوا» وجملة «إن الله» : خبر ، والاستثناء مفرغ من أعم العلل ، و «زلفى» : مصدر.

يقول الحق جل جلاله : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ) أي : لم يخلصوا فى عبادتهم ، بل شاوبوها بعبادة غيره ، كالأصنام ، والملائكة ، وعيسى ، قائلين : (ما نَعْبُدُهُمْ) لشىء من الأشياء (إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) أي : تقريبا ، (إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ) وبين خصمائهم ، الذين هم المخلصون للدين ، وقد حذف لدلالة الحال عليه ، كقوله : (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ) (١) على أحد الوجهين ، أي : بين أحد منهم وبين غيره. قيل : كان المسلمون إذا قالوا للمشركين : من خلق السماوات والأرض؟ قالوا : الله ، فإذا قالوا لهم : فمالكم تعبدون الأصنام؟ قالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى (٢).

(إِنَّ اللهَ يَحْكُمُ) يوم القيامة بين المتنازعين من المسلمين والمشركين (فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) من التوحيد والإشراك ، وادعاء كل واحد صحّة ما انتحله. وحكمه تعالى هو إدخال الموحدين الجنة والمشركين النّار. وقيل : الموصول واقع على الأصنام ، والعائد محذوف ، أي : والذين اتخذوهم من دونه أولياء ، قائلين : ما نعبدهم ... إلخ ، إن الله يحكم بينهم ، أي : بين العبدة والمعبودين فيما هم فيه يختلفون ، حيث يرجون منها شفاعتها وهى تلعنهم ، وهذا بعيد.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي) : لا يوفّق للاهتداء (مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ) أي : راسخ فى الكذب ، مبالغ فى الكفر ، كما يعرب عنه قراءة من قرأ : «كذاب» أو : «كذوب» (٣) ، أي : لا يهديهما اليوم لدينه ؛ لسابق الشقاء ، ولا فى الآخرة

__________________

(١) من الآية ٢٨٥ من سورة البقرة.

(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٧ / ١٠٨) عن قتادة.

(٣) قرأ أنس بن مالك ، والحسن ، والأعرج ، وابن يعمر : «كذّاب» ، وقرأ زيد بن علىّ : «كذّوب» ... انظر البحر المحيط (٧ / ٣٩٩).

٤٩

لثوابه ؛ لأنهما اليوم فاقدان للبصيرة ، غير قابلين للاهتداء ؛ لتغييرهما الفطرة الأصلية بالتمرّن فى الضلالة والتمادي فى الغى.

(لَوْ أَرادَ اللهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) كما يزعم من يقول : الملائكة بنات الله ، والمسيح وعزيز ابن الله ، تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا ، (لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي : لاختار من خلقه ما يشاء ، ممن له مناسبة صمدانية ، كالملائكة ، فإنهم منزهون عن نقائص البشرية ، كالأ كل والشرب والنّكاح ، لكن لم يرد ذلك ؛ لاستحالته فى حقه تعالى.

قال القشيري : خاطبهم على قدر عقولهم وعقائدهم ، فقال : لو أراد الله أن يتخذ ولدا بالتبنّي والكرامة لاختار من الملائكة ، الذين هم مبرءون من الأكل والشرب وأوصاف الخلق ، ثم أخبر عن تقدّسه عن ذلك ، فقال : (سُبْحانَهُ) أي : تنزيها له عن اتخاذ الولد على الحقيقة ؛ لاستحالة معناه فى نعته ، ولا بالتبني ، لتقدّسه عن الجنسية ، والمحالات تدل على وجه الإبعاد. ه.

والحاصل : أن الولد فى حقه تعالى ؛ إن كان عن طريق التولد فهو محال ، عقلا ونقلا ، وإن كان عن طريق التبني والكرامة فمحال سمعا ، وقيل : وعقلا. قال شيخ شيوخنا سيدى عبد الرّحمن الفاسى رضي الله عنه : قوله ، أي : القشيري : لتقدسه عن الجنسية ، يعنى لوحدته وقهره ، كما رمز إلى ذلك بذكر الاسمين ، أي : الواحد القهار ، وهما عاملان فى كل مخلوق ، ومحال تعطيلهما بالتبني المقتضى للجنسية ، المباينة للوحدانية والقهر ، فلا يمكن إلا العبودية ، عقلا ، ونقلا ، وحقيقة ، وهذا أشد من كلام ابن عطية ، فإنه جوّز اتخاذه على جهة التشريف والتبني عقلا ، وإن امتنع شرعا ، لعموم آية : (وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً) (١) ؛ لاتخاذ النّسل المستحيل عقلا ونقلا ، ولاتخاذ الاصطفاء الممتنع شرعا. وهو أيضا أشدّ من كلام الزمخشري ، حيث قال : معنى الآية : لو أراد الله اتخاذ الولد لا متنع ذلك ، ولكنه يصطفى من يشاء من عباده ، على وجه الاختصاص والتقريب ، لا على وجه اتخاذه ولدا. ه. فأجعل فى الامتناع ، وإن كان المتبادر منه شمول القسمين ، وكذا قرر جواب «لو» ، أي : لامتنع ، وجعل قوله : (لَاصْطَفى) الذي هو ظاهر فى كونه جوابا غير جواب «بل» على معنى الاستئناف ، وهو خلاف المطروق والمفهوم من جرى الكلام. والله أعلم.

وما ذكره الزمخشري أيضا من الامتناع مع الإرادة هو فرض لتعلق الإرادة بالممتنع ، وهى إنما تتعلق بالجائز ، ويحتمل بناؤه على مذهبه الفاسد فى إرادة بعض ما لم يقع ، وهو شنيع مذهبه ، بل ويلزمه عود القهر

__________________

(١) الآية ٩٢ من سورة مريم.

٥٠

عليه ـ تعالى عن ذلك ، وهو الله الواحد القهار ، فكيف يريد ويمتنع ما يريده؟! وهل ذلك إلا عين القهر؟ تعالى عن ذلك علوا كبيرا. ه.

قال تعالى : (سُبْحانَهُ) أي : تنزّه بالذات عن اتخاذ الولد ، تنزهه الخاص به ، على أن" سبحان" مصدر ، من : سبّح : إذا بعّد. (هُوَ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ) : استئناف مبيّن لتنزهه بحسب الصفات ، إثر بيان تنزهه عنه بحسب الذات ، فإن صفة الألوهية المستتبعة لسائر صفات الكمال ، النافية لسمات النّقصان ، والوحدة الذاتية ، الموجبة لامتناع المماثلة والمشاركة بينه تعالى وبين غيره على الإطلاق ، مما يقتضى تنزهه تعالى عما قالوه ، قضاء متيقنا ، وكذا وصف [القهارية] (١) ؛ لأن اتخاذ الولد شأن من يكون تحت ملكوت الغير ، عرضة للفناء ، ليقوم الولد مقامه عند فنائه ، ومن هو مستحيل الفناء ، قهار لكل الكائنات ، كيف يتصور أن يتخذ من الأسماء الفانية من يقوم مقامه؟ قاله أبو السعود.

الإشارة : الحق سبحانه غيور ، لا يرضى لغيره أن يعبد معه غيره ، كان على وجه الواسطة والتقريب ، أو : على وجه الاستقلال. لذلك حرم السجود لغير الله ، وأما الخضوع للأولياء ، العارفين بالله ، على غير وجه العبادة ، فهو عين الخضوع لله ؛ لأن الله تعالى أمر بالخضوع للرسل ، الدالين على الله ، وهم ورثتهم فى الدلالة ، لكن لا يكون ذلك على هيئة السجود ، وإنما يكون على وجه تقبيل القدم أو الأرض بين أيديهم ، كما قال الشاعر :

يا من يلوم خمرة المحبه

فخذوا عنى هى حلال

ومن يرد يسقى منها عبه

خدّ يضع لأقدام الرّجال

رأسى حططت بكلّ شيبه

هم الموالي سقونى زلال

وجعل القشيري مناط الرّد على الكفرة حيث فعلوا ذلك ، وقالوا : ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله ، بغير إذن الله ، وإنما حكموا بذلك من ذات أنفسهم. فردّ الله عليهم. قال : وفى هذا إشارة إلى ما يفعله العبد من القرب ، بنشاط نفسه ، من غير أن يقتضيه حكم الوقت ، وما يعقد بينه وبين الله تعالى من عقود لا يفى بها ، وكان ذلك اتباع هوى. قال الله تعالى : (فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها) (٢). قلت : ولأجل هذا وجب على من أراد الوصول إلى الله أن يتخذ شيخا عارفا بأحكام الوقت ، ذا بصيرة بدسائس النّفس ، فيأمره فى كل وقت ، وفى كل زمان ، بما يناسبه ؛ ليخرجه من هوى نفسه ، وأسر طبعه ، وإلا بقي فى العنت والبعد عن الله ، يعبد الله على حرف ، كلما زاد عبادة وقربا ـ فى

__________________

(١) فى الأصول : القاهرية.

(٢) من الآية ٢٧ من سور الحديد

٥١

زعمه ـ زاد بعدا من ربه ، وهو لا يشعر ، فالنفس إن لم تتصل بمن يرفع عنها الحجاب ، كانت كدود القزّ ، تنسج الحجاب على نفسها بنفسها ، حتى تموت فى وسطه. وفى ذلك يقول الششترى فى نونيته رضي الله عنه :

ونحن كدود القزّ يحصرنا الذي

صنعنا لدفع الحصر سجنا لنا منّا (١)

وبالله التوفيق.

ثم ذكر دلائل توحيده تعالى ، فقال :

(خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (٥) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (٦))

يقول الحق جل جلاله : (خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أي : وما بينهما من الموجودات ، ملتبسة (بِالْحَقِ) ؛ مشتملة على الحكم والمصالح الدينية والدنيوية (يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ ، وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ) ، التكوير : اللّف واللّى ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها. والمعنى : أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه ، ويلفه لف اللباس باللابس ، أو : يغيّبه كما يغيب الملفوف باللفافة ، أو : يجعله كارا عليه كرورا متتابعا ، تتابع أكوار العمامة ، وهذا بيان لكيفية تصرفه تعالى فى السموات والأرض بعد بيان خلقهما ، وعبّر بالمضارع للدلالة على التجرد.

(وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ) : جعلهما منقادين لأمره. (كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) ، وهو يوم القيامة ، أو : كل منهما يجرى لمنتهى دورته ، (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) ؛ الغالب القادر على كل شىء ، ومن جملتها : عقاب العصاة ، (الْغَفَّارُ) : المبالغ فى المغفرة ، ولذلك لا يعاجل بالعقوبة ، ولا يمنع ما فى هذه الصنائع البديعة من آثار رحمته. وتصدير الجملة بحرف التنبيه ، لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها.

__________________

(١) انظر ديوان الششترى (ص ٧٤)

٥٢

(خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ، لمّا ذكر ما يتعلق بالعالم العلوي ، ذكر ما يتعلق بالعالم السفلى ، وترك العاطف للإيذان باستقلاله فى الدلالة على الوحدانية ، وبدأ بالإنسان ؛ لأنه المقصود الأهم من هذا العالم ، ولعراقته فى الدلالة على توحيد الحق وباهر قدرته ؛ لما فيه من تعاجيب آثار القدرة ، وأسرار الحكمة ، وأصالته فى المعرفة ؛ فإن الإنسان بحال نفسه أعرف ، والمراد بالنفس : نفس آدم ـ عليه‌السلام.

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها) : عطف على محذوف ، صفة لنفس ، أي : من نفس خلقها ثم جعل منها زوجها ، أو : على معنى : واحدة ، أي : نفس وجدت ثم جعل منها زوجها حواء ، وعطفت بثم دلالة على مباينتها له فضلا ومزية ، فهو من التراخي فى الحال والمنزلة ، مع التراخي فى الزمان. وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذّر ، ثم أخرج منه حوّاء ، ففيه ثلاث آيات ؛ خلق آدم من غير أب ولا أم ، وخلق حواء من قصيراه (١) ، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما.

(وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ) أي : قضى وجعل ، أو : خلقها فى الجنة مع آدم عليه‌السلام ، ثم أنزلها ، أو : أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء ، كالأمطار ، وأشعة الكواكب ، كما تقول الفلاسفة. (ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ) ذكرا وأنثى ، وهى : الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز. فالزوج اسم لواحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد ، ووتر.

(يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ) : استئناف ؛ لبيان كيفية خلقهم ، وأطواهم المختلفة ، الدالة على القدرة القاهرة. وصيغة المضارع للدلالة على التجرد. (خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ) : مصدر مؤكد ، أي : يخلقكم فيها خلقا كائنا من بعد خلق ، أي : خلقا مدرّجا ، حيوانا سويا ، من بعد عظام مكسوة لحما ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغة مخلّقة ، من بعد مضغة غير مخلّقة ، من بعد علقة ، من بعد نطفة ، (فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ) : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، أو : ظلمة الصلب ، والبطن ، والرّحم.

(ذلِكُمُ) : إشارة إلى الحق تعالى ، باعتبار أفعاله المذكورة ، وهو مبتدأ ، وما فيه من معنى البعد ؛ للإيذان ببعد منزلته فى العظمة والكبرياء ، أي : ذلكم العظيم الشأن ، الذي عددت أفعاله هو (اللهُ رَبُّكُمْ) أي : مربيكم بنعمة الإيجاد على الأطوار المتقدمة ، وبنعمة الإمداد بعد نفخ الرّوح فيه. (لَهُ الْمُلْكُ) : التصرف التام على الإطلاق فى الدارين. (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) : لا متصرف غيره. (فَأَنَّى تُصْرَفُونَ) : فكيف تصرفون عن عادته تعالى ، مع وفور دواعيها ، وانتفاء الصارف عنها بالكلية ، إلى عبادة غيره ، من غير داع إليها ، مع كثرة الصوارف عنها؟ والله تعالى أعلم.

__________________

(١) «قصيراه» : مثنى القصيرى ، والقصيران : ضلعان تليان الترقوتين والقصيرى : أسفل الأضلاع. وقيل : هى آخر الجنب. انظر اللسان (٥ / ٣٦٤٩ مادة قصر).

٥٣

الإشارة : خلق سماوات الأرواح ، وأرض النّفوس ، بالحق ، أي : لسبب معرفته ، وعبادته ، فالمعرفة للأرواح ، والعبادة للنفوس ، يكوّر نهار البسط على ليل القبض ، وبالعكس ، وسخّر شمس العيان ، وقمر البرهان ، كل يجرى إلى أجل مسمى ، إلا أن قمر البرهان ينتهى بطلوع شمس العيان ، وشمس العيان لا انتهاء لها. (أَلا هُوَ الْعَزِيزُ) فيمنع بعزته من الوصول إليه من أراد احتجابه ، (الْغَفَّارُ) فيغطى بفضله مساوئ من أراد وصلته. (خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) ؛ من روح واحدة ، هى الرّوح الأعظم ، ثم تفرعت منها الأشياء كلها. وأنزل لكم من الأنعام ما تتصرفون فيه ، وتتقربون به إلى ربكم ، ثم ذكّرهم بنعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، بقوله : (يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ...) إلخ ، فنعمة الإيجاد ظاهرة ، ونعمة الإمداد : ما يتغذى به الجنين فى بطن أمه من دم الحيض.

ثم أمرهم بالشكر عليها ، فقال :

(إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٧))

يقول الحق جل جلاله : (إِنْ تَكْفُرُوا) به تعالى ، بعد مشاهدة هذه النّعم الجسمية ، وشئونه العظيمة ، الموجبة للإيمان والشكر ، (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ) أي : فاعلموا أنه تعالى غنىّ عن إيمانكم وشكركم ، (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) ؛ لأن الكفر ليس برضا الله ، وإن كان بإرادته ، وعدم رضاه تعالى بالكفر لأجل منفعتهم ، ودفع مضرتهم ، رحمة بهم ، لا لتضرره تعالى به. (وَإِنْ تَشْكُرُوا) وتؤمنوا (يَرْضَهُ لَكُمْ) أي : يرضي الشكر لأجلكم ومنفعتكم ؛ لأنه سبب الفوز بسعادة الدارين.

وإنما قال : (لِعِبادِهِ) ولم يقل «لكم» ، لتعميم الحكم ، وتعليله بكونهم عباده تعالى ، والحاصل : أن وقوع الطاعة والإيمان هو بقدرته تعالى ، وإرادته ورضاه ، وأما الكفر والمعاصي فهو بقضائه وإرادته ، ولم يرضها من عبده شرعا ، وإن رضيها تكوينا ؛ لتقوم الحجة على العبد ، ويظهر صورة العدل ، ولا يظلم ربك أحدا ، وإن كان الكل منه وإليه.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) : بيان لعدم سريان كفر الكافر إلى غيره ، أي : ولا تحمل نفس حاملة لوزرها حمل نفس أخرى ، (ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ) بالبعث بعد الموت ، (فَيُنَبِّئُكُمْ) ؛ يخبركم (بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

٥٤

فى الدنيا من الإيمان والكفر ، فيجازيكم بها ثوابا وعقابا. (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) : أي : بمضمرات القلوب ، فكيف بالأعمال الظاهرة ، وهو تعليل ل «ينبئكم».

الإشارة : قد تقدم الكلام على الشكر فى سورة سبأ (١) قال القشيري : قوله تعالى : (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) إن أطعتنى شكرتك ، وإن ذكرتنى ذكرتك ، وإن خطوت لأجلى خطوة ملأت السموات والأرض من شكرك ، وأنشدوا.

لو علمنا أن الزيارة حق

لفرشنا الخدود أرضا لترضى

ثم بيّن حال من يشكر ، فقال :

(وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (٨))

يقول الحق جل جلاله : (وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ) أي : جنس الإنسان (ضُرٌّ) من مرض وغيره (دَعا رَبَّهُ مُنِيباً) إليه ؛ راجعا إليه مما كان يدعوه فى حالة الرّخاء ؛ لعلمه بأنه بمعزل عن القدرة على كشف ضره ، وهذا وصف للجنس ببعض أفراده ، كقوله تعالى : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ) (٢) وقيل : المراد أبو جهل ، أو : كل كافر. (ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ) أي : أعطاه نعمة عظيمة من جنابه ، من التخول ، وهو التعهد ، يقال : فلان خائل مال ، إذا كان متعهّدا إليه حسن القيام به. وفى الصحاح : خوّله الله الشيء : ملّكه إياه. وفى القاموس : وخوّله الله المال : أعطاه إياه.

قال ابن عطية : خوّله ، أي : ملّكه ، وحكمه فيها ابتداء من الله ، لا مجازاة ، ولا يقال فى الجزاء : خوّل. ه. أو : من الخول ، وهو الافتخار ، أي : جعله يخول ، أي : يختال ويفتخر بنعمه. (نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ) أي : نسى الضر الذي كان يدعو الله تعالى كشفه من قبل التخويل ، أو : نسى ربه الذي كان يدعو ويتضرع إليه ، على أن

__________________

(١) راجع إشارة الآية ١٣ من سورة سبأ

(٢) من الآية ٣٤ من سورة إبراهيم.

٥٥

(ما) بمعنى (مِنْ) ، كقوله تعالى : (وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) (١) ، أو : إيذانا بأن نسيانه بلغ به إلى حيث لا يعرف ما يدعوه ، وهو كقوله تعالى : (عَمَّا أَرْضَعَتْ) (٢).

(وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً) : شركاء فى العبادة ؛ (لِيُضِلَ) (٣) بذلك (عَنْ سَبِيلِهِ) الذي هو التوحيد. أي : ليضل غيره ، أو : ليزداد ضلالا ، أو : يثبت عليه ، على القراءتين ، وإلا ؛ فأصل الضلال غير متأخر عن الجعل المذكور. واللام للعاقبة ، كما فى قوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً) (٤) غير أن هذا أقرب للحقيقة ؛ لأن الجاعل هنا قاصد بجعله المذكور حقيقة الإضلال والضلال ، وإن لم يعرف ؛ لجهله أنهما إضلال وضلال ، وأما آل فرعون فهم غير قاصدين بالتقاطهم العداوة أصلا. قاله أبو السعود.

(قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً) أي : تمتعا قليلا ، أو : زمانا قليلا فى الدنيا ، وهو تهديد لذلك الضال المضل ، وبيان لحاله ومآله. (إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ) أي : من ملازميها ، والمعذّبين فيها على الدوام ، وهو تعليل لقلة التمتع. وفيه من الإقناط من النّجاة ما لا يخفى ، كأنه قيل : إذا أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان والطاعة ، فمن حقك أن تؤمر بتركه لتذوق عقوبته.

الإشارة : الصفة الممدوحة فى الإنسان : أن يكون إذا مسّه الضر التجأ إلى سيده ، مع الرّضا والتسليم ، فإذا كشف عنه شكر الله وحمده ، ودام على شكره ، ونسب التأثير إلى الأسباب والعلل ، وهو صريح الآية. وبالله التوفيق.

ثم ذكر حال من شكر ، فقال :

(أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (٩))

يقول الحق جل جلاله : (أَمَّنْ) (٥) (هُوَ قانِتٌ) أي : مطيع ، قائم بواجب الطاعات ، دائم على أداء وظائف العبادات ، (آناءَ اللَّيْلِ) أي : فى ساعات الليل ، حالتى السراء والضراء ، كمن ليس كذلك ، بل إنما يفزع إلى الله

__________________

(١) الآية ٣ من سورة الليل.

(٢) من الآية ٢ من سورة الحج.

(٣) قرأ الجمهور : «ليضل» بضم الياء ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بفتحها. انظر الإتحاف (٢ / ٤٢٧) والبحر المحيط (٧ / ٤٠١).

(٤) الآية ٨ من سورة القصص.

(٥) قرأ نافع ، وابن كثير ، وحمزة : بتخفيف الميم ، على أنها موصولة ، دخلت عليها همزة الاستفهام التقريرى ، ومقابله محذوف ؛ لفهم المعنى ، والتقدير : أمن هو قانت. إلخ كمن جعل لله أندادا. وقرأ الباقون بالتشديد. والتوجيه ذكره الشيخ المفسر ـ رحمه‌الله. انظر : إتحاف فضلاء البشر (٢ / ٤٢٨).

٥٦

فى الضراء فقط ، فإذا كشف عنه نسى ما كان يدعو إليه من قبل ، وحذفه لدلالة ما قبله عليه. ومن قرأ بالتشديد ، ف «أم» إما متصلة ، حذف مقابلها ، أي : أنت خير حالا ومآلا أم من هو قائم بوظائف العبادات ، أو : منقطعة ، والإضراب للانتقال من التهديد إلى التبكيت بالجواب الملجئ إلى الاعتراف بما بينهما ، كأنه قيل : أم من هو قانت أفضل ، أم من هو كافر مثلك؟.

حال كون القانت (ساجِداً وَقائِماً) أي : جامعا بين الوصفين المحمودين. وتقديم السجود على القيام ؛ لكونه أدخل فى معنى العبادة. (يَحْذَرُ الْآخِرَةَ) أي : عذاب الآخرة ، حال أخرى ، أو : استئناف ، جواب عما نشأ من حكاية حاله من القنوت والسجود ، كأنه قيل : فما باله يفعل ذلك؟ فيقل : يحذر الآخرة ، (وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ) أي : الجنة ، فينجو بذلك مما يحذره ، ويفوز بما يرجوه ، كما ينبئ عنه التعرض لعنوان الرّبوبية ، المنبئة عن التبليغ إلى الكمال ، مع الإضافة إلى ضمير الرّاجى.

ودلت الآية على أن المؤمن يجب أن يكون بين الخوف والرّجاء ، يرجو رحمته ، لا عمله ، ويحذر عقابه ؛ لتقصيره فى عمله ، ثم الرّجاء إذا جاوز حدّه يكون أمنا. والخوف إذا جاوز حدّه يكون إياسا ، وقد قال تعالى : (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ) (١) ، و (لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ) (٢) ، فيجب ألا يجاوز أحدهما حدّه ؛ بل يكون كالطائر بين جناحيه ، إلا فى حالة المرض ، فيغلب الرّجاء ، ليحسن ظنه بالله. ومذهب محققى الصوفية : تغليب الرّجاء مطلقا ، لهم ولعباد الله ؛ لغلبة حسن ظنهم بربهم.

والآية ، قيل : نزلت فى عثمان رضي الله عنه كان يحيى الليل ، وقيل : فى عمار وأبى حذيفة (٣) ، وهى عامة لمن سواهم.

(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ) حقائق الأحوال ، فيعلمون بموجب علمهم ، كالقانت المذكور ، (وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) شيئا ؛ فيعلمون بمقتضى جهلهم ، كدأب الكافر المتقدم. والاستفهام للتنبيه على أن يكون الأولين فى أعلى معارج الخير ، وكون الآخرين فى أقصى مدارج الشر من الظهور ، بحيث لا يكاد يخفى على أحد.

قال النّسفى : أي : يعلمون ويعملون به ، كأنه جعل من لا يعمل غير عالم ، وفيه ازدراء عظيم بالذين يقتنون ـ أي : يدخرون ـ العلوم ، ثم لا يقنتون ، ويتفننون فيها ، ثم يفتنون بالدنيا ، فهم عند الله جهلة ، حيث جعل القانتين هم العلماء. أو : يريد به التشبيه ، أي : كما لا يستوى العالم والجاهل ، كذلك لا يستوى المطيع والعاصي. ه.

__________________

(١) من الآية ٩٩ من سورة الأعراف.

(٢) من الآية ٨٧ من سورة يوسف.

(٣) انظر الدر المنثور (٥ / ٦٠٥) وتفسير البغوي (٧ / ١١) وأسباب النّزول للواحدى (ص ٣٨٢).

٥٧

الإشارة : القنوت هو القيام بآداب الخدمة ، ظاهرا وباطنا ، من غير فتور ولا تقصير ، قاله القشيري. وهو على قسمين ، قنوت العارفين ، وهى عبادة القلوب ، كالفكرة والنّظرة ، ساعة منها أفضل من عبادة سبعين سنة ، وثمرتها : التمكن من شهود الذات الأقدس ، عاجلا وآجلا ، وقنوت الصالحين ، وهى عبادة الجوارح ، كالركوع والسجود والتلاوة ، وغيرها من أعمال الجوارح ، وثمرتها نعيم الجنان بالحور والولدان ، مع الرّضا والرّضوان ، ورؤية وجه الرحمن.

روى عن قبيصة بن سفيان ، قال : رأيت سفيان الثوري فى المنام بعد موته ، فقلت له : ما فعل الله بك؟ فأنشأ يقول :

نظرت إلى ربّى عيانا فقال لى

هنيئا رضائى عنك يا ابن سعيد

لقد كنت قوّاما إذا الليل قد دجا

بعبرة محزون وقلب عميد

فدونك فاختر أىّ قصر تريده

وزرني فإنى منك غير بعيد

وكان شعبة ومسعر رجلين صالحين ، وكانا من ثقة المحدّثين ، فماتا ، قال أبو أحمد اليزيدي : فرأيتهما فى المنام ، وكنت إلى شعبة أميل منى إلى مسعر ، فقلت لشعبة : يا أبا بسطام ؛ ما فعل الله بك؟ فقال : يا بنى احفظ ما أقول لك :

حبانى إلهى فى الجنان بقبة

لها ألف باب من لجين (١) وجوهرا

وقال لى الجبار : يا شعبة الذي

تبحّر فى جمع العلوم وأكثرا

تمتع بقربى ، إننى عنك ذو رضا

وعن عبدى القوّام فى الليل مسعرا

كفى مسعرا عزا بأن سيزورنى

وأكشف عن وجهى ويدنو لينظروا

وهذا فعالى بالذين تنسكوا

ولم يألفوا فى سالف الدهر منكرا.

وقوله تعالى : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) أي : لا يستوى العالم بالله مع الجاهل به ، العالم يعبده على العيان ، والجاهل به فى مقام الاستدلال والبرهان. العالم بالله يستدل بالله على غيره ، والجاهل يستدل بالأشياء على الله ، وشتان بين من يستدل به أو يستدل عليه ، المستدل به عرف الحق لأهله ، وأثبت الأمر

__________________

(١) اللّحين : الفضة. انظر اللسان (٥ / ٤٠٠٢ ، مادة لجن).

٥٨

من وجود أصله ، والاستدلال عليه من عدم الوصول إليه ، كما فى الحكم (١). العالم بالله من السابقين المقربين ، والجاهل به من عامة أهل اليمين ، ولو تبحّر فى العلوم الرّسمية غاية التبحر. قال الورتجبي : وصف تعالى أحوال أهل الوجود والكشوفات ، المستأنسين به ، وبلذائذ خطابه ومناجاته ، وتحملوا من لطائف خطابه مكنون أسرار غيبه ، من العلوم الغريبة ، والأنباء العجيبة ، لذلك وصفهم بالعلم الإلهى ، الذي استفادوا من قربه ووصاله ، وكشف جماله بقوله : (هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ) كيف يستوى الشاهد والغائب ، والشاهد يرى ما لا يرى الغائب؟. ه.

قال القشيري : العلم المخلوق على ضربين : علم مجلوب بكسب العبد ، وموهوب من قبل الرّبّ .. انظر تمامه.

ثم أمر بالتقوى ، التي هى أصل القنوت ، فقال :

(قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (١٠))

قلت : (فِي هذِهِ) : متعلق بأحسنوا ، أو : بحسنة ، على أنه بيان لمكانها ، أو : حال من ضميرها فى الظرف.

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ) بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، أمر رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم بأن يحثّهم على التقوى ويذكّرهم بها ، بعد تخصيص التذكير بأولى الألباب ، إيذانا بأن أولى الألباب هم أهل التقوى ، وفى إضافتهم إلى ضمير الجلالة بقوله : (يا عِبادِ) تشريف لهم ، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به ، وهو التقوى.

ثم حرّض على الامتثال بقوله : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا) أي : اتقوا الله وأطاعوه (فِي هذِهِ الدُّنْيا) الفانية ، التي هى مزرعة الآخرة. (حَسَنَةٌ) أي : حسنة عظيمة ، لا يكتنه كنهها ، وهى الجنة ونعيمها ، أو : للذين أحسنوا بالطاعة والإخلاص حسنة معجلة فى الدنيا ، وهى الصحة والعافية ، والحياة الطيبة ، أو : للذين أحسنوا ، أي : حصلوا مقام الإحسان ـ الذي عبّر عنه عليه الصلاة والسّلام بقوله : «أن تعبد الله كأنك تراه» ـ حسنة كبيرة ، وهى لذة الشهود ، والأنس بالملك الودود فى الدارين.

__________________

(١) انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي / ٢٧ حكمة ٢٩.

٥٩

ولما كان هذا المقام لا يتأتى تحصيله إلا فى بعض البلاد الخالية من الشواغل والموانع ، أمر بالهجرة من الأرض التي لا يتأتى فيها التفرغ ، فقال : (وَأَرْضُ اللهِ واسِعَةٌ) ، فمن تعسر عليه التفرغ للتقوى ، والإحسان وعمل القلوب ، فى وطنه ، فليهاجر إلى بلد يتمكن فيه ذلك ، كما هى سنّة الأنبياء والأولياء ، فإنه لا عذر له فى التفريط والبطالة أصلا.

ولمّا كان الخروج من الوطن صعبا على النّفوس ، يحتاج إلى صبر كبير ؛ رغّب فى الصبر بقوله : (إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ) على مفارقة الأوطان ، وتحمل مشاق الطاعات ، وتحقيق الإحسان ، (أَجْرَهُمْ) فى مقابلة ما كابدوه من الصبر ، (بِغَيْرِ حِسابٍ) بحيث لا يحصى ولا يحصر ؛ بل يصب عليهم الأجر صبا ، فلهم مالا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

وعن ابن عباس رضي الله عنه : (لا يهدى إليه حساب الحسّاب ، ولا يعرف) ، وفى الحديث : «أنه ينصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصيام والحج ، فيوفّون بها أجورهم ، ولا تنصب لأهل البلاء ؛ بل يصب عليهم الأجر صبا ، حتى يتمنى أهل العافية فى الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل» (١). وكل ما يشق على النّفس ويتعبها فهو بلاء ، والله تعالى أعلم.

الإشارة : بالتقوى الكاملة يصير العبد من أولى الألباب ، فبقدر ما تعظم التقوى يعظم إشراق النّور فى القلب ، ويتصفى من الرّذائل ، وقد تقدم الكلام عليها مستوفيا عند قوله تعالى : (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللهَ) (٢) فمن أحسن فى تقواه أحسن الله عاقبته ومثواه ، وحفظه فى دنياه وأخراه.

فمن تعذرت عليه التقوى فى وطنه ، فليهاجر منه إلى غيره ، والهجرة سنّة نبوية ، وليتجرع الصبر على مفارقة الأوطان ، ومهاجرة العشائر والإخوان ، لينخرط فى سلك أهل الإحسان ، قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) (٣) الآية.

قال القشيري : الصبر : حبس النّفس على ما تكره ، ويقال : تجرّع كاسات التقدير ، من غير استكراه ولا تعبيس ، ويقال : التهدّف (٤) لسهام البلاء. ه.

__________________

(١) عزاه السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ٦٠٦) لابن مردويه ، من حديث أنس ، وأخرجه الطبراني فى الكبير (١٢ / ١٨٤ ح ١٢٨٢٩) من حديث ابن عباس رضي الله عنه مختصرا

(٢) الآية ١٠٠ من سورة النّساء.

(٣) الآية ١٠٠ من سورة التوبة.

(٤) التهدف : الدنو والاستقبال.

٦٠