البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

قال القشيري : ارجعوا إلى الله ، والإشارة إلى حالتين ، إما رغبة فى شىء ، أو رهبة من شىء ، أو حالى خوف ورجاء ، أو طلب نفع أو دفع ضر ، وينبغى أن يفر من الجهل إلى العلم ، ومن الهوى إلى التقوى ، ومن الشك إلى اليقين ، ومن الشيطان إلى الله ، ومن فعله الذي هو بلاؤه إلى فعله الذي هو كفايته ، ومن وصفه الذي هو سخطه ، إلى وصفه الذي هو رحمته ، ومن نفسه ، حيث قال : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) (١) إلى نفسه ، حيث قال : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ). ه. ونقل الورتجبي عن الخراز (٢) ، فقال : أظهر معنى الرّبوبية والوحدانية ، بأن خلق الأزواج (٣) فتخلص له الفردانية ، فلما تبين أن أشكال الأشياء تواقع (٤) علة الفناء ؛ دعا العباد إلى نفسه ؛ لأنه الباقي ، وغيره فان ، بقوله : (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي : ففروا من وجودكم ، ومن الأشياء كلها ، إلى الله بنعت الشوق والمحبة والتجريد عما سواه. ه.

ولمّا أمرهم بالفرار إليه ، أعلم أنه ما خلقهم إلا لذلك ، فقال :

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي : إلا لنأمرهم بالعبادة والخضوع لربوبيتى ، لا لنستعين بهم على شأن من شئونى ، كما هى عادة السادات فى كسب العبيد ، ليستعينوا بهم على أمر الرزق والمعاش ، ويدلّ على هذا التأويل : قوله تعالى (ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ ...) إلخ ، قال ابن المنير : إلا لأمرهم بعبادته ، لا لطلب رزق لأنفسهم ، ولا إطعام لى ، كما هو حال السادات من الخلق مع عبيدهم ، بل الله هو الذي يرزق ، وإنما على عباده العبادة له ؛ لأنهم مكلفون ، ابتلاء وامتحانا ، أما الإرادة فكما تعلقت بالعبادة تعلقت بما يخالفها ، لقوله : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ) (٥). ه. وقيل المعنى : ما خلقهم إلا مستعدين للعبادة ، متمكنين منها أتم استعداد ، وأكمل تمكن ، فمنهم من أطاع ، ومنهم من كفر ، وهو كقولهم : البقر مخلوقة للحرث ، أي : قابلة لذلك ، وقد يكون فيها من لا يحرث. والحاصل : أنه لا يلزم من كون الشيء معدّا لشىء أن يقع منه جميع ذلك.

أو : ما خلقتهم إلا ليتذللوا لى ، ولقدرتى ، وإن لم يكن ذلك على قواعد شرع ، وهذا عام فى الكل ، طوعا أو كرها ؛ إذ كلّ ما خلق منقاد لقدرته وقهريته ، عابد له بهذا المعنى. وفى البخاري : وما خلقت أهل السعادة من

__________________

(١) من الآية ٢٨ من سورة آل عمران.

(٢) فى الورتجبي : الحراز.

(٣) فى الورتجبي : الأرواح.

(٤) فى الورتجبي : مواضع.

(٥) من الآية ١٧٩ من سورة الأعراف.

٤٨١

الفريقين إلا ليوحّدون. وقال بعضهم : خلقهم ليفعلوا ، ففعل بعض وترك بعض. وليس فيه حجة لأهل القدر. ه. منه (١). والمراد بأهل القدر : المعتزلة ، القائلون بأن الله تعالى لم يرد الكفر والمعاصي ، وهو باطل ، وسيأتى فى الإشارة بقية تحقيق إن شاء الله.

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ) أي : ما خلقتهم ليرزقوا أنفسهم ، أو واحدا من عبادى ، (وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) ، قال ثعلب : أن يطعموا عبادى ، وهو إضافة تخصيص ، كقوله عليه‌السلام : «من أكرم مؤمنا فقد أكرمنى ومن آذى مؤمنا فقد آذاني» (٢) ، والحاصل : أنه تعالى بيّن أن شأنه مع عباده متعاليا عن أن يكون كشأن السادات مع عبيدهم ، حيث يملكونهم ليستعينوا بهم فى تحصيل معايشهم ، وتهيئة أرزاقهم ، أي : ما أريد أن أصرفهم فى تحصيل رزقى ولا رزقهم ، بل أتفضل عليهم برزقهم ، وبما يصلحهم ويعيشهم من عندى ، فليشتغلوا بما خلقوا له من عبادتى.

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ) أي : يرزق كلّ من يفتقر إلى الرّزق ، وفيه تلويح بأنه غنى عنه ، (ذُو الْقُوَّةِ) ؛ ذو الاقتدار ، (الْمَتِينُ) أي : الشديد الصلب. وقرأ الأعمش «المتين» بالجر (٣) ، نعت للقوة ، أي : ذو القوة المتينة ، وإنما ذكّره لتأول القوة بالاقتدار.

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أنفسهم ، بتعريضها للعذاب ، حيث كذّبوا الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، أو : وضعوا التكذيب مكان التصديق ، وهم أهل مكة ، (ذَنُوباً) أي : نصيبا وافرا من العذاب ، (مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) ؛ مثل عذاب نظائرهم من الأمم المحكية. قال الزجاج : الذنوب فى اللغة : النصيب ، مأخوذ من مقاسمة السقاة الماء بالذنوب ، وهو الدلو العظيم المملوء. (فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) ذلك النّصيب ، فإنه لاحق بهم ، وهذا جواب النّضر وأصحابه حين استعجلوا العذاب.

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا) ، وضع الموصول موضع ضميرهم تسجيلا عليهم بالكفر ، أي : فويل لهم (مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) ، أي : من يوم القيامة ، أو يوم بدر ، والأول أنسب لما فى صدر السورة الآتية.

الإشارة : اعلم أن الحق ـ جل جلاله ـ إنما بعث الرّسل بإظهار الشرائع ، ليحوّشوا العباد إلى الله ، ويدعوهم إليه كافة ، ويأمروهم بالتبتل والانقطاع ، من غير التفات لمن سبق له السعادة أو الشقاء ؛ لأن ذلك من سر القدر ، وغيب المشيئة لا يجوز كشفه فى حالة الدعوة ، فقوله تعالى : (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) هذا ما يمكن

__________________

(١) ذكره البخاري فى (التفسير ، سورة «والذاريات»)

(٢) أخرجه الديلمي (مسند الفردوس ح ٥٨٠٦) والطبراني فى الأوسط (ح ٨٦٤٥) من حديث جابر رضي الله عنه بلفظ : «من أكرم أخاه المؤمن فإنما يكرم الله عزوجل». وليس فيه الجزء الأخير.

(٣) انظر «المحتسب فى تبيين وجوه شواذ القراءات» لابن جنى (٢ / ٢٨٩).

٤٨٢

الأمر به فى ظاهر الأمر ، ويؤمر بإظهاره فى حالة الدعوة ، وكون الحق تبارك وتعالى أراد من قوم الكفر والمعاصي من غيب المشيئة ، وسر القدر لا يقدح فى عموم الدعوة التي تعلقت بالظواهر ؛ لأنه من قبيل الحقيقة ، وما جاءت الرّسل إلا بالشريعة ، فالدعاة إلى الله يعممون الدعوة ، ويحرّضون على التبتل والانقطاع إلى الله ، وينظرون إلى ما يبرز من غيب المشيئة. وقال الورتجبي : عن جعفر الصادق (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي : ليعرفونى. ه. ومداره قوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فيما يحكيه عن رب العزة : «كنت كنزا مخفيا لم أعرف ، فأحببت أن أعرف ، فخلقت الخلق لأعرف» (١) أي : ما أظهرت الخلق إلا لأعرف بهم ، فتجليت بهم فى قوالب العبودية ، لتظهر ربوبيتى فى قوالب العبودية ، فتظهر قدرتى وحكمتى ، فسبحان الحكيم العليم.

قال أبو السعود : ولعل السر فى التعبير عن المعرفة بالعبادة للتنبيه على أن المعتبر هى المعرفة الحاصلة بعبادته تعالى ، لا ما يحصل بغيرها ، كمعرفة الفلاسفة. ه. قلت : وكلّ معرفة وحقيقة لا تصحبها شريعة لا عبرة بها ، بل هى زندقة أو دعوى (٢). وبالله التوفيق.

وقوله تعالى : (إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) ، هذه الآية وأمثالها هى التي غسلت الأمراض والشكوك من قلوب الصدّيقين ، حتى حصل لهم اليقين الكبير ، فسكنت نفوسهم ، واطمأنت قلوبهم ، فهم فى روح وريحان. والأحاديث فى ضمان الرّزق كثيرة ، وأقوال السلف كذلك ، وفى حديث أبى سعيد الخدري عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لو فرّ أحدكم من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» (٣) وقال أيضا عن الله عزوجل : «يقول : يا ابن آدم تفرغ لعبادتى ، أملأ صدرك غنى ، وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت يدك شغلا» (٤) ، وقال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من كانت الآخرة همّه ، جعل الله غناه فى قلبه ، وجمع له شمله ، وأتته الدنيا وهى صاغرة ، ومن كانت الدنيا همه ؛ جعل الله فقره بين عينيه ، وفرّق عليه شمله ، ولم يأته من الدنيا إلا ما قدّر له» (٥).

__________________

(١) قال ابن تيمية : إنه ليس من كلام النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ولا يعرف له سند صحيح ولا ضعيف» وتبعه الزركشي وابن حجر. انظر : الشذرة (ح ٧١٧) وأسنى المطالب (١١١٠) وتنزيه الشريعة (١ / ١٤٨).

(٢) صدقت يا شيخنا رضي الله عنك.

(٣) أخرجه الطبراني فى الصغير (١ / ٢٢٠) والأوسط (ح ٤٤٤٤) وقال الهيثمي فى مجمع الزوائد (٤ / ٧٢) : «رواه الطبراني فى الأوسط والصغير ، وفيه عطية العوفى ، وهو ضعيف وقد وثّق».

(٤) أخرجه أحمد فى المسند (٢ / ٣٥٨) والترمذي فى (صفة القيامة ٤ / ٥٥٤ ، ح ٢٤٦٦) وابن ماجة فى (الزهد ، باب الهم بالدنيا ، ح ٤١٠٧) والحاكم (٢ / ٤٤٣) «وصحّحه وافقه الذهبي» من حديث أبى هريرة.

(٥) أخرجه الترمذي فى الموضع السابق (ح ٢٤٦٥) من حديث أنس ، وبنحوه أخرجه ابن ماجة فى الموضع السابق (ح ٤١٠٥) من حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه.

٤٨٣

وقال المحاسبى : قلت لشيخنا : من أين وقع الاضطراب فى القلوب ، وقد جاء الضمان من الله عزوجل؟ قال : من وجهين ؛ من قلة المعرفة وقلة حسن الظن. ثم قال : قلت : شىء غيره؟ قال : نعم ، إن الله عزوجل وعد الأرزاق وضمنها ، وغيّب الأوقات ، ليختبر أهل العقول ، ولولا ذلك لكان كلّ المؤمنين راضين ، صابرين ، متوكلين ، لكن الله ـ عزوجل ـ أعلمهم أنه رازقهم ، وحلف لهم ، وغيّب عنهم أوقات العطاء ، فمن هنا عرف الخاص من العام ، وتفاوت العباد ، فمنهم ساكن ، ومنهم متحرك ، ومنهم ساخط ، ومنهم جازع ، فعلى قدر ما تفاوتوا فى المعرفة تفاوتوا فى اليقين. ه. مختصرا. وبالله التوفيق. وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

٤٨٤

سورة الطّور

مكية. وهى سبع وأربعون آية. ومناسبتها لما قبلها قوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) (١) وهو يوم القيامة ، وهو الذي أقسم عليه بقوله :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨))

يقول الحق جل جلاله : (وَالطُّورِ) ، هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى بمدين ، (وَكِتابٍ مَسْطُورٍ) وهو القرآن العظيم ، ونكّر لأنه كتاب مخصوص من بين سائر الكتب ، أو : اللوح المحفوظ ، أو : التوراة ، كتبه الله لموسى ، وهو يسمع صرير القلم ، (فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) ، الرق : الجلد الذي يكتب فيه ، والمراد : الصحيفة ، وتنكيره للتفخيم والإشعار بأنها ليست مما يتعارفه النّاس ، والمنشور : المفتوح لا ختم عليه ، أو : الظاهر للناس ، (وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) وهو بيت فى السماء السابعة ، حيال الكعبة ، ويقال له : الضراح (٢) ، وعمرانه بكثرة زواره من الملائكة ، روى : أنه يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، يطوفون به ، ويخرجون ، ومن دخله لا يعود إليه أبدا (٣) ، وخازنه ملك يقال له : «رزين». وقيل : الكعبة ، وعمارته بالحجاج والعمّار والمجاورين.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) أي : السماء ، أو : العرش ، (وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي : المملوء ، وهو البحر المحيط ، أو الموقد ، من قوله تعالى : (وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) (٤) ، والمراد الجنس ، روى «أن الله تعالى يجعل البحار يوم القيامة

__________________

(١) الآية الأخيرة من سورة الذاريات.

(٢) روى ذلك عن ابن عباس ، مرفوعا ، فيما ذكره السيوطي فى الدر (٦ / ١٤٤) وعزاه للطبرانى وابن مردويه ، بسند ضعيف.

وأخرجه ابن جرير ، عن سيدنا علىّ رضي الله عنه.

(٣) أخرجه مسلم فى (الإيمان) باب الإسراء برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ح رقم ٥٩ ، ح ١٦٢) عن أنس بن مالك رضي الله عنه فى حديث الإسراء ، وفيه : «فإذا أنا بإبراهيم عليه‌السلام مسندا ظهره إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك ، لا يعودون إليه ...» الحديث.

(٤) الآية ٦ من سورة التكوير.

٤٨٥

نارا ، تسجر بها نار جهنم ، كما يسجر التنور بالحطب» وعن ابن عباس : المسجور : المحبوس (١) ، أي : الملجم بالقدرة. والواو الأولى للقسم ، والتوالي للعطف ، والمقسم عليه : (إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ) ؛ لنازل حتما ، (ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي : لا يمنعه مانع ، والجملة : صفة لواقع ، أي : وقع غير مدفوع. و «من» مزيدة للتأكيد ، وتخصيص هذه الأمور بالإقسام بها ؛ لأنها أمور عظام ، تنبئ عن عظم قدرة الله تعالى ، وكما علمه ، وحكمته الدالة على إحاطته تعالى بتفاصيل أعمال العباد ، وضبطها ، الشاهدة بصدق أخباره ، التي من جملتها : الجملة المقسم عليها.

الإشارة : أقسم الله تعالى بجبل العقل ، الذي أرسى به النّفس أن تميل إلى ما فيه هلاكها ، وبما كتب فى قلوب أوليائه من اليقين ، والعلوم ، والأسرار ، قال تعالى : (أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ) (٢) وذلك حين رقّت وصفت من الأغيار ، ثم أقسم أيضا بذلك القلب ، وهو البيت المعمور ؛ لأن القلب بيت الرّب ، «يا داوود طهّر بيتا أسكنه ...» الحديث (٣) ، وهو معمور بالمعارف والأنوار ، وأقسم بسماء الأرواح المرفوعة عن خوض عالم الأشباح ، وهو سقف بيت القلب ، وبحر الأحدية الذي عمر كلّ شىء ، وأحاط بكلّ شىء ، وأفنى كلّ شىء ، فالوجود كله بحر متصل ، أوله وآخره ، وظاهره وباطنه. إنّ عذاب ربك لأهل العذاب ، وهم أهل الحجاب ، لواقع ، وأعظم العذاب : غم الحجاب وسوء الحساب. ومن دعاء السرى السقطي : اللهم مهما عذبتنى فلا تعذبنى بذل الحجاب. ه. ما له من دافع ؛ لا يدفعه أحد من الخلق ، إلا من رحم الله ، أو : من أهلّه الله لذلك من أهل التربية النّبوية.

ثم ذكر وقت ما أقسم عليه ، فقال :

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

يقول الحق جل جلاله : واذكر (يَوْمَ تَمُورُ) أو : لواقع يوم تمور (السَّماءُ) أي : تدور كالرحى مضطربة (مَوْراً) عظيما تتكفأ بأهلها كالسفينة ، (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي : تزول عن وجه الأرض ، فتصير فى الهواء

__________________

(١) أخرجه الطبري.

(٢) من الآية ٢٢ من سورة المجادلة.

(٣) ذكره ابن القيسرانى فى تذكرة الموضوعات (٥٣٦).

٤٨٦

كالهباء. وتأكيد الفعل بمصدريهما للإيذان بغرابتهما وخروجهما عن الحدود المعهودة ، أي : مورا عجيبا وسيرا بديعا ، لا يدرك كنههما. (فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) إذا وقع ذلك ، أو : إذا كان الأمر كما ذكر ، فويل لهم إذا وقع ذلك ، (الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ) أي : فى اندفاع عجيب فى الأباطيل والأكاذيب (يَلْعَبُونَ) : يلهون ، فالخوض غلب بإطلاقه فى الاندفاع فى الباطل والكذب ، ومنه قوله : (وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ) (١). (يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي : يدفعون إليها دفعا عنيفا شديدا ، بأن تغلّ أيديهم إلى أعناقهم ، وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ، فيدفعون إلى النّار على وجوههم ، ويقال لهم : (هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) فى الدنيا.

(أَفَسِحْرٌ هذا) ، توبيخ وتقريع لهم ، حيث كانوا يسمون الوحى النّاطق بذلك العذاب سحرا ، كأنه قيل : كنتم تقولون للقرآن النّاطق بهذا سحرا ، أفهذا أيضا سحر؟. وتقديم الخبر لأنه محط الإنكار ومدار التوبيخ. (أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ) ؛ أم أنتم عمى عن المخبر عنه ، كما كنتم عميا عن الخبر؟ وهذا تقريع وتهكم ، (اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا) أي : ادخلوها وقاسوا شدائدها فافعلوا ما شئتم من الصبر وعدمه ، (سَواءٌ عَلَيْكُمْ) الأمران ؛ الصبر وعدمه ، ف «سواء» : مبتدأ حذف خبره. وعلل استواء الصبر وعدمه بقوله : (إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) من الكفر والمعاصي ، فالصبر إنما يكون له مزية على الجزع لنفعه فى العاقبة ؛ بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير ، وأما الصبر على العذاب ، الذي هو الجزاء ، ولا عاقبة له ولا منفعة ، فلا مزيّة له على الجزع. نعوذ بالله من موارد الهوان.

الإشارة : يوم تمور سماء الأرواح ، أي : تتحرك الأرواح وتهيج بالواردات الإلهية ، شوقا إلى اللقاء ، فإذا حصل اللقاء وقع لها السكون والطمأنينة ، ولذلك قيل : «المحبة أولها جنون ، ووسطها فنون ، وآخرها سكون». وسبب هذا الاضطراب الذي يظهر على المريد فى أول بدايته : أنّ جند الأنوار إذا أراد أن يدخل على جند الأغيار ، ويخرجه من وطنه ـ الذي هو باطن العبد ـ وقع بينهما تجارب وتضارب ، فجند الأنوار يريد أن يقلع جند الأغيار من باطن العبد ، ويسكن هو ، وجند الأغيار يريد المقام فى وطنه ، فلا يزال القتال بينهما ، حتى يغلب واحد منهما ، فإذا غلب جند الأنوار سكن فى الباطن ، وسكن الظاهر ، ولم تقع فكرة العبد إلا فى التوحيد ، أو ما يقرب إلى الحق تعالى ، وإذا غلب جند الأغيار ، ولم يترك جند الأنوار يدخل إلى الباطن ، سكن الظاهر أيضا ، ويبقى باطن العبد محشوا بالخواطر والوساوس الدنيوية كما كان ، ورجع العبد إلى مقام العمومية.

وقوله تعالى : (وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي : تزول جبال وجود العبد عند إشراق أنوار الحقائق ، فويل يومئذ للمكذّبين ، أي : بعد لأهل الإنكار عن حضرة الأسرار ، حين ظفر الطالب بالمطلوب ، ووصل المحب إلى المحبوب ،

__________________

(١) الآية ٤٥ من سورة المدثر.

٤٨٧

الذين هم فى خوض الدنيا وشهواتها وزخارفها يلعبون ، لا حديث لهم إلا عليها ، ولا فكرة إلا فيها. يوم يدعّون إلى النار القطيعة والبعد ، دعّا ، لا خلاص منها ، ولا رجوع ، فتناديهم عزة الحق تعالى : هذه النّار التي كنتم بها تكذّبون ، وتقولون : لا يقطعنا عن الله شىء من الدنيا ، وترمون أهل التربية بالسحر ، أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون حقائق هذه المعاني؟ أصلوا نار القطيعة ، فاصبروا على غم الحجاب ، أو لا تصبروا ، إذ لم تصبروا على مخالفة النفوس حين ينفعكم الصبر ، سواء عليكم أجزعتم أم صبرتم ، إنما تجزون ما كنتم تعملون فى الدنيا ، من إيثار الهوى والحظوظ ، على مجاهدة النّفوس.

ثم ذكر أضدادهم ، فقال :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (١٧) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (١٨) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٩) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٢٠) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (٢١) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (٢٢) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (٢٣))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ) الشرك والمعاصي (فِي جَنَّاتٍ) عظيمة (وَنَعِيمٍ) أىّ نعيم ، فالتنكير للتفخيم ، أو : للتنوع ، أي : جنات مخصوصة بهم ، ونعيم مخصوص ، (فاكِهِينَ) ؛ ناعمين متلذذين (بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ) ؛ بما أتحفهم ، (وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) ، عطف على «آتاهم» على أن «ما» مصدرية ، أي : فاكهين بإتيانهم وبوقايتهم ، أو : على «فى جنات النّعيم» أي : استقروا فى جنات ووقاهم ، أو : حال ، إما من المستكن فى الخبر ، أو : من فاعل «آتى» ، أو : مفعوله بإضمار «قد». وإظهار الرّب فى موضع الإضمار مضافا إلى ضمير (هم) لتشريفهم ، ويقال لهم : (كُلُوا وَاشْرَبُوا) ما شئتم (هَنِيئاً) أي : أكلا وشربا هنيئا ، أو : طعاما وشرابا هنيئا ، لا تنغيص فيه بخوف انقطاعه أو فواته ، (بِما كُنْتُمْ) أي : عوض ما كنتم (تَعْمَلُونَ) فى الدنيا من الخير ، أو جزاءه.

(مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ) ؛ مصطفة ، وهو حال من الضمير فى «كلوا واشربوا» ، (وَزَوَّجْناهُمْ) أي : قرنّاهم (بِحُورٍ) ؛ جمع حوراء (عِينٍ) : جمع عيناء ، أي : عظام الأعين حسانها. وفى الكشّاف : وإنما دخلت

٤٨٨

الباء فى (بحور) لتضمن معنى زوجناهم قرناهم. ه. وقال الهروي : (زوّجناهم) أي : قرناهم ، والأزواج : الأشكال والقرناء ، وليس فى الجنة تزويج. ه. والمنفي : تحمل مؤنة التزويج والمعاقدة ، وإنما يقع التمليك والإقران.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا) : مبتدأ ، (وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ) : عطف على (آمنوا) ، و (بِإِيمانٍ) متعلق بالاتباع ، والخبر : (أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ) (١) أي : تلحق الأولاد بدرجات الآباء ؛ إذ شاركوهم فى الإيمان ، وإن قصرت أعمال الذرية عن أعمال الآباء ، وكذلك الآباء تلحق بدرجة الأبناء ؛ لتقرّ بذلك أعينهم ، فيلحق بعضهم ببعض ، إذا اجتمعوا فى الإيمان من غير أن ينقص أجر من هو أحسن عملا شيئا ، بزيادته فى درجة الأنقص ، ولا فرق بين من بلغ من الذرية ، أو لم يبلغ ، إذا كان الآباء مؤمنين. انظر الثعلبي.

وفى حديث ابن عباس : «إذا دخل أهل الجنة الجنة ، يسأل الرّجل عن أبويه ، وزوجته ، وولده ، فيقال : إنهم لم يدركوا ما أدركت ، فيقول : لقد عملت لى ولهم أجمعين ، فيؤمر بإلحاقهم به» (٢). قال القشيري : ليكمل عليهم سرورهم بذلك ؛ فإنّ الانفراد بالنعمة والقلب مشتغل بالأهل والذرية ينغص العيش ، وكذلك كلّ من يلاحظ قلبا من صديق وقريب وولىّ وخادم ، قال تعالى فى قصة يوسف : (وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ) (٣). ه.

قال فى الحاشية : وربما يستأنس بما ذكر فى الجملة بقوله : (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ ...) الآية (٤) ، وما قيل فى سبب نزولها (٥) ، وكذلك حديث : «المرء مع من أحب» (٦) ، وحال الجنة مما لا يخطر على بال ، فيجوز أن يكون الأدنى مع الأعلى بمنازلته معه ، مع مباينته له بحقيقته ، كما أنّ حيطة الحق تعالى شاملة للكل ، وكلّ يتعرف له على قدره ، فالكلّ معه بمطلق التعرف ، مع تحقق التفاوت ، وأهل الجنة فيها على حكم الأرواح ، وأحكامها لا تكيف ، واعتبر بالفروع مع الأصول ، مع تفاوتها. والله أعلم. ه.

__________________

(١) أثبت المفسر ـ رحمه‌الله ـ قراءة «ذرياتهم» بالجمع ، وهى قراءة نافع وأبى جعفر ، فى الثاني دون الأول ، وقرأ ابن كثير ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وخلف : «ذريتهم» بالتوحيد فى الأول والثاني ، وقرأ ابن عامر ويعقوب «ذرياتهم» بالجمع فى الأول والثاني.

انظر الإتحاف ٢ / ٤٩٥ ـ ٤٩٦.

(٢) عزاه السيوطي فى الدر (٦ / ١٤٨) للطبرانى وابن مردويه ، عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعا ..

(٣) من الآية ٩٣ من سورة يوسف.

(٤) الآية ٦٩ من سورة النّساء.

(٥) راجع سبب نزول الآية فى (١ / ٥٢٥).

(٦) أخرجه البخاري فى (الأدب ، باب علامة الحب فى الله ، ح ٦١٦٩ وح ٦١٧٠) عن ابن مسعود ، وأبى موسى ـ رضي الله عنهما ، ومسلم فى (البر والصلة ، باب المرء مع من أحب ، ح ٢٦٤٠) عن ابن مسعود.

٤٨٩

والحاصل : أنهم يلحقون بهم فى الطبقة ، ويتفاوتون فى نعيم الأرواح والأشباح ، وفى الرّؤية والزيادة (١). والله تعالى أعلم.

(وَما أَلَتْناهُمْ) أي : ما نقصنا الآباء بهذا الإلحاق (مِنْ عَمَلِهِمْ) ؛ من ثواب عملهم (مِنْ شَيْءٍ) بأن أعطينا بعض مثوباتهم لأبنائهم ، فتنقص مثوبتهم ، وتنحط درجتهم ، وإنما رفعناهم إلى منزلتهم بمحض التفضل والإحسان. والألت : البخس. وقرأ المكي : (ألتناهم) بكسر اللام ، من : ألت يألت ، كعلم يعلم (٢) ، و «من» الأولى متعلقة ب «ألتناهم» ، والثانية زائدة لتأكيد النّفى. (كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ) أي : كل امرئ مرهون عند الله تعالى بعمله ، فإن كان صالحا فله ، وإلا أهلكه. والجملة : استئناف بيانى ، كأنه لمّا قال : ما نقصناهم من عملهم شيئا نعطيه الأبناء حتى يلحقوا بهم على سبيل التفضل ، قيل : لم كان الإلحاق تفضلا؟ قال : لأن كلّ امرئ بما كسب رهين ، وهؤلاء لم يكن لهم عمل يلحقوا بسببه بهم ، فألحقوا تفضلا.

(وَأَمْدَدْناهُمْ) أي : وزودناهم فى وقت بعد وقت (بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ) من فنون النّعماء وألوان اللآلئ ، وإن لم يطلبوا ذلك. (يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً) أي : يتعاطون ويتعاورون (٣) هم وجلساؤهم من أقربائهم كأسا فيها خمر ، يتناول هذا الكأس من يد هذا ، وهذا من يد هذا ، بكمال رغبة واشتياق ، (لا لَغْوٌ فِيها) أي : فى شربها ، فلا يتكلمون فى أثناء الشراب إلا بكلام طيب ، فلا يجرى بينهم باطل ، (وَلا تَأْثِيمٌ) أي : لا يفعلون ما يوجب إثما لصاحبه لو فعله فى دار التكليف ، كما هو شأن المنادمين فى الدنيا ، وإنما يتكلمون بالحكم وأحاسن الكلام ، ويفعلون ما يفعله الكرام.

قال القشيري : (لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ) لا يجرى بينهم باطل ولا ما فيه لوم ، كما يجرى من الشّرب (٤) اليوم فى الدنيا ، ولا تذهب عقولهم ، فيجرى بينهم ما يخرج عن حدّ الأدب والاستقامة ، وكيف لا يكون مجلسهم بهذه الصفة ، وعلى المعلوم من يسقيهم بمشهد من مجلوسهم ، وعلى رؤية من شربهم ، والقوم عن الدار وعن ما فيها مختطفون باستيلاء ما يستغرقهم ، فالشراب يؤنسهم ، ولكن لا يمر بحاستهم. ه.

وقرأ المكي والبصري بالفتح (٥) فيها على إعمال «لا» النافية للجنس.

__________________

(١) على هامش النّسخة الأم ما يلى : هذا تحكم على الآية ، وعلى كرم الله تعالى ، فإن الآية مطلقة فى الإلحاق ، فلا يقيدها إلا آية ، أو حديث صحيح. ه.

(٢) والأول (ألتناهم) بفتح اللام ، من : ألت يألت ، كضرب يضرب.

(٣) تعوروا الشيء وتعاوروه : تداولوه فيما بينهم. انظر اللسان (عور ٤ / ٣١٦٨).

(٤) الشّرب : جمع شارب ، كراكب ، وركب. وهم القوم يشربون ويجتمعون للشراب ، انظر اللسان (شرب ، ٤ / ٢٢٢٢).

(٥) فى «لا لغو فيها ولا تأثيم» وقد قرأ ابن كثير وأبو عمرو بالفتح بلا تنوين ، وقرأ الباقون بالرفع والتنوين. انظر الإتحاف ١ / ٤٩٦.

٤٩٠

الإشارة : إنّ المتقين ما سوى الله فى جنات المعارف عاجلا ، وجنات الزخارف والمعارف آجلا ، ونعيم المشاهدات والمكاشفات والمناجاة ، فاكهين ، معجبين ، متلذذين بما آتاهم ربهم من أصناف ألطافه ، وتقريبه ، ووقاهم ربّهم عذاب الجحيم ، أي : نار شهوة نفوسهم ، فبردت عنهم ، وسلموا منها ، كلوا من طعام المشاهدات ، واشربوا من أمداد الزيادات والترقيات ، هنيئا بما كنتم تعملون من المجاهدات والمكابدات ، متكئين على سرر المقامات ، والدرجات ، مصفوفة فى منازل العبودية ، وزوجناهم بحور عين من أبكار الحقائق ، وثيبات العلوم ، والذين آمنوا بهذه الطريق وسلكوها ، واتبعتهم ذريتهم ومن تعلق بهم من طلاب الحق ، ألحقنا بهم ذريتهم ومن تعلق بهم ، وإن لم يبلغوا صفاء مشربهم من الوصال والاتصال ، فيكونون معهم فى الدرجة ، مع تفاوتهم فى نعيم المشاهدة ، وما ألتناهم من عملهم من شىء ، بل ألحقناهم بهم فضلا وكرما ، مع توفر ثواب عمل الملحق بهم. كل امرئ بما كسب رهين ، لا يزيد نعيم روحه على سعيه فى الدنيا ومجاهدته ، وإن تساوى فى الدرجة مع غيره. وأمددناهم بفاكهة من حلاوة المعاملة ، ولحم مما يشتهون من لذائذ المشاهدة ، يتنازعون فيها ؛ فى جنة المعارف ، كأس خمرة المحبة والفناء ، فيفنون عن وجودهم فى شهود محبوبهم. يتناولون ذلك من أشياخهم واحدا بعد واحد ، وقد يجتمعون فى كأس واحدة ، لا لغو فيها ، أي : لا حديث للنفس فى حال شربها ، بل الهم كله مجموع فيها ، كما قال القائل :

وإذا جلست إلى المدام وشربه

فاجعل حديثك كلّه فى الكأس

فالخمرة التي يشوبها شىء من حديث النّفس ليست بصافية من الأكدار. ولا تأثيم بنزوع الرّوح إلى طبع النفس ، إذا نزلت إلى سماء الحقوق ، أو أرض الحظوظ ، بل تكون فى ذلك بالله ، ومن الله ، وإلى الله ، تنزل بالإذن والتمكين ، والرّسوخ فى اليقين ، جعلنا الله من ذلك القبيل بمنّه وكرمه.

وقال الورتجبي : (يَتَنازَعُونَ ...) الآية ، وصفهم الله فى شربهم كاسات شراب الوصلة بالمسارعة والشوق إلى مزيد القربة ، ثم وصف شرابهم أنه يورثهم التمكين والاستقامة فى السكر ، لا يزول حالهم إلى الشطح والعربدة ، وما يتكلم به سكارى المعرفة فى الدنيا عند الخلق ، ولا يشابه حال أهل الحضرة حال أهل الدنيا من جميع المعاني. ه.

ثم قال تعالى :

(وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (٢٤) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (٢٥) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (٢٦) فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (٢٧) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (٢٨))

٤٩١

يقول الحق جل جلاله : (وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ) أي : بالكأس أو : فى شأن الخدمة كلها (غِلْمانٌ لَهُمْ) أي : مماليك مخصصون بهم ، قيل : أولاد الكفار الذين ماتوا صغارا ، وقيل : توجدهم القدرة من الغيب ، وفى الحديث : «إن أدنى أهل الجنة منزلة من ينادى الخادم من خدامه ، فيجيبه ألف ، كلهم يناديه : لبيك لبيك» (١). قلت : هذا فى مقام أهل اليمين ، ولما المقربون فإذا اهتموا بشىء حضر ، بغلام أو بغير غلام ، من غير احتياج إلى نداء. وقال ابن عمر رضي الله عنه : (ما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام ، كل غلام على عمل ما عليه صاحبه) (٢). (كَأَنَّهُمْ) من بياضهم وصفائهم (لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ) ؛ مصون فى الصدف ؛ لأنه حينئذ يكون أصفى وأبهى ، أو مخزون ؛ لأنه لا يخزن إلا الثمن الغالي القيمة. قيل لقتادة : هذا الخادم فكيف المخدوم؟ ، فقال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «والذي نفسى بيده إن فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر النّجوم» (٣).

(وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ) ؛ يسأل بعضهم بعضا عن أحواله وأعماله ، وما استحق به نيل ما عند الله ، ف كل بعض سائل ومسئول. (قالُوا) أي : المسئولون فى جوابهم ، وهم كلّ واحد منهم فى الحقيقة : (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا) أي : فى الدنيا (مُشْفِقِينَ) أرقّاء القلوب من خشية الله ، أو : خائفين من نزع الإيمان وفوت الأمان ، أو : من ردّ الحسنات والأخذ بالسيئات ، أو : واجلين من العاقبة ، (فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنا) بالمغفرة والرّحمة (وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ) وهى الرّيح الحارة ، التي تدخل المسامّ ، فسمّيت بها نار جهنم ؛ لأنها بهذه الصفة. (إِنَّا كُنَّا قَبْلُ) أي : من قبل لقاء الله والمصير إليه ـ يعنون : فى الدنيا ، (نَدْعُوهُ) ؛ نعبده ولا نعبد غيره ، أو نسأله الوقاية ، (إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ) ؛ المحسن (الرَّحِيمُ) ؛ الكثير الرّحمة ، الذي إذا عبد أثاب ، وإذا سئل أجاب ، وقرأ نافع والكسائي بالفتح (٤) ، أي : لأنه ، أو بأنه.

الإشارة : ويطوف على قلوبهم علوم وهبية ، وحكم غيبية ، تزهو على اليواقيت المكنونة. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون : كيف سلكوا طريق الوصول ، وكيف كانت مجاهدة كلّ واحد ومسيره إلى الله ، إما تحدثا بالنعم ، أو : للاقتداء بهم ، وفى الحكم : «عبارتهم إما لفيضان وجد ، أو : لهداية مريد» (٥). إنّا كنا قبل الوصول فى أهلنا ، أي : فى عالم الإنسانية مشفقين من الانقطاع والرّجوع ، خائفين من سموم صفات البهيمية والشيطانية ، والشهوات الدنيوية ، فإنها تهب بسموم قهر الحق ، قهر بها جلّ عباده فانقطعوا عنه ، فمنّ الله علينا ، ووصلنا بما منه إلينا ، لا بما منا إليه ،

__________________

(١) عزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي الشاف (ص ١٦٠) للثعلبى ، عن وكيع عن هشام عن أبيه ، عن السيدة عائشة ـ رضي الله عنها.

(٢) ذكره البغوي فى تفسيره (٧ / ٣٩٠).

(٣) أخرجه عبد الرّزّاق فى التفسير (٢ / ٢٤٨) والطبري (٢٧ / ٢٩) عن قتادة ، مرسلا.

(٤) فى «ندعوه أنه» على التعليل ، وقرأ الباقون «إنه» بالكسر على الاستئناف. انظر الإتحاف (٢ / ٤٩٧).

(٥) حكمة رقم ١٨٦ انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي (ص / ٣٦).

٤٩٢

ووقانا عذاب السموم ، وهو الحرص والجزع ، والانقطاع عن الحبيب ، ولو لا فضله ما تخلصنا منه ، إنّا كنا من قبل الوصول ندعوه أن يأخذ بأيدينا ، ويجذبنا إلى حضرته ، ويرحمنا بالوصول ، ويبرّ بنا ، إنه هو البر بمزيده ، الرحيم بمن ينيب إليه.

ثم أمر نبيّه باستمراره على ما أمره به من التذكير فيما سلف ، فقال :

(فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (٢٩) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (٣٠) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (٣١) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٣٢) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (٣٣) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (٣٤) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (٣٥) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (٣٦) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (٣٧) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (٣٩) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (٤٠) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (٤١) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (٤٢) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٣))

يقول الحق جل جلاله : (فَذَكِّرْ) أي : فاثبت على ما أنت عليه من تذكير النّاس وموعظتهم ، (فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) أي : بحمده وإنعامه عليك بالنبوة ورجاحة العقل (بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ) كما زعموا ، قاتلهم الله أنّى يؤفكون ، (أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ) أي : حوادث الدهر ، أي : ننتظر به نوائب الزمان حتى يهلك كما هلك الشعراء من قبله ، زهير والنّابغة. و «أم» فى هذه الآي منقطعة بمعنى «بل». (قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ) أتربّص هلاككم ، كما تتربصون هلاكى. وفيه عدة كريمة بإهلاكهم. وقد جرب أنّ من تربص موت أحد لينال رئاسته ، أو ما عنده ، لا يموت إلا قبله.

(أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ) أي : عقولهم (بِهذا) التناقض فى المقالات ، فإنّ الكاهن يكون ذا فطنة ودقة نظر فى الأمور ، والمجنون مغطى عقله ، مختل فكره ، والشاعر يقول ما لا يفعل ، فكيف يجتمع أوصاف هؤلاء فى

٤٩٣

واحد؟ وكانت قريش يدعون أهل الأحلام والنّهى ، فكذبهم ما صدر منهم من هذه المقالات المضطربة ، (أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) يجاوزون الحدود فى المكابرة والعناد ، ولا يحومون حول الرّشد والسداد. وإسناد الأمر إلى الأحلام مجاز.

(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) ؛ اختلقته من تلقاء نفسه ، (بَلْ لا يُؤْمِنُونَ) ، ردّ عليهم ، أي : ليس الأمر كما زعموا ، بل لكفرهم وعنادهم يقذفون بهذه الأباطيل ، التي لا يخفى بطلانها على أحد ، فكيف يقدر البشر أن يأتى بما عجز عنه كافة الأمم من العرب والعجم ، (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ) أي : مثل القرآن فى البلاغة والإعجاز (إِنْ كانُوا صادِقِينَ) فى أن محمدا تقوّله من تلقاء نفسه ؛ لأنه بلغاتهم ، وهم فصحاء ، مشاركون له صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى العربية والبلاغة ، مع ما لهم من طول الممارسة للخطب والأشعار ، وكثرة المقاولة للنظم والنّثر ، والمبالغة فى حفظ الوقائع والأيام ، ولا ريب فى أنّ القدرة على الشيء من موجبات الإتيان به مع دواعى الأمر بذلك من تعجيزهم وإفحامهم وطلب معارضتهم.

(أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) أي : أم أحدثوا وقدّروا هذا التقدير البديع ، الذي عليه فطرتهم ، من غير محدث ومقدّر. أو : أم خلقوا من غير شىء من الحكمة ، بأن خلقوا عبثا ، فلا يتوجه عليهم حساب ولا عقاب؟ (أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ) ؛ الموجدون لأنفسهم؟ فيلزم عليه الدور ، وهو تقدم الشيء على نفسه وتأخره عنها ، (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) فلا يعبدون خالقهما (بَلْ لا يُوقِنُونَ) ؛ لا يتدبرون فى الآيات ، فيعلمون خالقهم ، وخالق السموات والأرض ، فيفردونه بالعبادة.

(أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ) من النّبوة والرّزق وغيرهما ، فيخصّوا بما شاءوا من شاءوا ، (أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ) أي : الأرباب الغالبون ، المسلّطون على الأمور يدبرونها كيف شاءوا ، حتى يدبروا أمر الرّبوبية ، ويبنوا الأمور على إرادتهم ومشيئتهم. وقرأ المكي والشامي بالسين على الأصل.

(أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ) منصوب يرتقون به إلى السماء ، (يَسْتَمِعُونَ فِيهِ) كلام الملائكة ، وما يوحى إليهم من علم الغيب ، حتى يعلموا أن ما هم عليه حق ، وما عليه غيرهم باطل ، أو ما هو كائن من الأمور التي يتفوّهون بها رجما بالغيب ، ويعلّقون بها أطماعهم الفارغة من هلاكه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قبلهم ، وانفرادهم بالرئاسة. و «فى» : سببية ، أي : يستمعون بسبب حصولهم فيه ، أو : ضمّن «يستمعون» يعرجون. وقال الزجاج : (يستمعون فيه) أي : عليه ، (فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ؛ بحجة واضحة ، تصدق استماع مستمعهم.

٤٩٤

ثم سفّه أحلامهم بقوله : (أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ) ، حيث اختاروا لله ما يكرهون ، وهم حكماء فى زعمهم ، (أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً) على التبليغ والإنذار (فَهُمْ) لأجل ذلك (مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي : من التزام غرامة فادحة محمّلون الثقل ، فلذلك لا يتبعونك. والمغرم : أن يلزم الإنسان ما ليس عليه. (أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ) أي : اللوح المحفوظ ، المكتوب فيه الغيوب ، (فَهُمْ يَكْتُبُونَ) ما فيه ، حتى يتكلموا فى ذلك بنفي أو إثبات.

(أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً) هو كيدهم برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فى دار النّدوة ، (فَالَّذِينَ كَفَرُوا) وهم المذكورون ، ووضع الموصول موضع ضميرهم ؛ للتسجيل عليهم بالكفر ، أي : ف (هُمُ الْمَكِيدُونَ) الذين يحيق بهم كيدهم ، ويعود عليهم وباله ، لا من أرادوا أن يكيدوه وهو ما أصابهم يوم بدر وغيره. (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) يمنعهم من عذابه ، (سُبْحانَ اللهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزيها له عن إشراكهم ، أو : عن شركة ما يشركونه به. وحاصل ما ذكر الحق وتعالى من الإضرابات : أحد عشر ، ثمانية طعنوا بها فى جانب النّبوة ، وثلاثة فى جانب الرّبوبية ، وهو قوله : (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ) ، (أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) ، (أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ) ذكرها الحق تعالى تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أي : كما طعنوا فى جنابك طعنوا فى جانبى ، فاصبر حتى نأخذهم.

الإشارة : فذكّر أيها الخليفة للرسول ، فما أنت بحمد الله بكاهن ولا مجنون ، وإن رموك بشىء من ذلك. قال القشيري : قد علموا أنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم برىء من الكهانة والجنون ، ولكنهم قالوه على جهة الاشتفاء ، كالسفيه إذا بسط لسانه فيمن يشنأه (١) بما يعلم أنه برىء مما يقوله. ه. وكلّ ما قيل فى جانب النّبوة يقال مثله فى جانب الولاية ، سنّة ماضية. قال القشيري : طبع الإنسان متنفرة من حقيقة الدين ، مجبولة على حب الدنيا والحظوظ ، لا يمكن الخروج منها إلا بجهد جهيد ، على قانون الشريعة ، ومتابعة الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم وخلفائه ، وهم العلماء الرّبانيون ، الراسخون فى العلم بالله ، من المشايخ المسلّكين فى كلّ زمان ، والخلق مع دعوى إسلامهم ينكرون على سيرهم فى الأغلب ، ويستبعدون ترك الدنيا والعزلة ، والانقطاع عن الخلق ، والتبتل إلى الله ، وطلب الأمن. كتب الله فى قلوبهم الإيمان ، وأيّدهم بروح منه ، وهو الصدق فى الطلب ، وحسن الإرادة المنتجة من بذر (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. ه مختصرا.

وقوله تعالى : (قُلْ تَرَبَّصُوا ...) الآية ، قال القشيري : ولا ينبغى لأحد أن يتمنى نفاق سوقه بموت أحد ، لتنتهى النوبة إليه ، قلّ ما تكون هذه صفتة إلا سبقته منيته ، ولا يدرك ما تمناه. ه. وقال فى مختصرة : الآية تشير إلى التصبر فى الأمور ، ودعوة الخلق إلى الله ، والتوكّل على الله فيما يجرى على يد عباده ، والتسليم لأحكامه فى

__________________

(١) أي : يبغضه.

٤٩٥

المقبولين والمردودين. ه. وقوله : (أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا) ... إلى قوله : (عَمَّا يُشْرِكُونَ) هذه صفة أهل الانتقاد على أهل الخصوصية فى كلّ زمان ، وهى تدلّ على غاية حمقهم وسفههم ، نجانا الله من جميع ذلك.

ثم هددهم بعد تبيين عنادهم ، فقال :

(وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (٤٤) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (٤٥) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤٦) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٤٧))

يقول الحق جل جلاله : (وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً) ؛ قطعة (مِنَ السَّماءِ ساقِطاً) عليهم لتعذيبهم ، (يَقُولُوا) من فرط طغيانهم وعنادهم : هذا (سَحابٌ مَرْكُومٌ) أي : تراكم بعضها على بعض لمطرنا ، ولم يصدقوا أنه ساقط عليهم لعذابهم ، يعنى : أنهم بلغوا من الطغيان بحيث لو أسقطناه عليهم حسبما قالوا : (أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً) (١) لعاندوا وقالوا سحاب مركوم. (فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ) (٢) ، وهو اليوم الذي صعقوا فيه بالقتل يوم بدر ، لا عند النّفخة الأولى ، كما قيل ؛ إذ لا يصعق بها إلا من كان حيّا حينئذ (٣). وقرأ عاصم والشامي بضم الياء ، يقال : صعقه ، فصعق ، أو : من أصعقه.

(يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) من الإغناء ، بدل من «يومهم» ولا يخفى أن التعرض لبيان عدم نفع كيدهم يستدعى استعمالهم له فى الانتفاع به ، وليس ذلك إلا ما دبّروه فى أمره صلى‌الله‌عليه‌وسلم من الكيد يوم بدر ، من

__________________

(١) من الآية ٩٢ من سورة الإسراء.

(٢) قرأ عاصم وابن عامر «يصعقون» بضم الياء ، مبنيا للمفعول. وقرأ الباقون بفتحها ، مبنيا للفاعل. انظر الإتحاف (٢ / ٤٩٨).

(٣) على هامش النّسخة الأم مايلى :

هذا باطل بداهة ، بل المراد به عند النّفخة ، كما فى آية المعارج : (... حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ، يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ ...) الآية : ٤٢ ـ ٤٣. وقوله : لا يصعق بها إلا من كان حيا حينئذ ، أبطل من الذي قبله ، فإن الله تعالى يقول : (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ ...) ومن فى الأرض عام ، بدليل الحديث المخرّج فى الصحيح : «يصعق النّاس فأكون أول من أفاق ، فإذا موسى باطش بالعرش ، فلا أدرى أكان ممن صعق فأفاق قبلى ، أو كان ممن استثنى الله ، فصرح صلى‌الله‌عليه‌وسلم النبي بأن جميع الخلق يصعقون ، فمن أين جاء هذا الوهم فى تخصيص ذلك بالأحياء ، بل قوله تعالى : (فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) نص فى ذلك أيضا ؛ لأن الضمير عائد على من فى السموات ومن فى الأرض. وأيضا : فإن يوم بدر لم يكن فيه صعق ، وإنما كان فيه قتل ، وليس هو بصعق. ثم إن الله يخاطب كفار قريش كلهم ، ولم يمت منهم يوم بدر إلا سبعون ... ه.

قلت : حديث الصعق الذي ذكره المحشى ، أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب نفخ الصعق ح ٦٥١٧) ومسلم فى (الفضائل ، باب من فضائل موسى ، رقم ٢٣٧٣ ، ح ١٦٠) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

٤٩٦

مناشبتهم القتال ، وقصد قتله خفية ، وليس يجرى فى نفخة الصعق شىء من الكيد والحيل ، فلا يليق حمله عليه (١). (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) من جهة الغير فى دفع العذاب عنهم.

(وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا) أي : لهم ، ووضع الموصول موضع الضمير تسجيلا عليهم بالظلم ، أي : وإنّ لهؤلاء الظلمة (عَذاباً) آخر (دُونَ ذلِكَ) ؛ دون ما لا قوة من القتل ، أي : قبله ، وهو القحط الذي أصابهم ، حتى أكلوا الجلود والميتة. أو : وإنّ لهم عذابا دون ذلك ، أي : وراءه ، وهو عذاب القبر وما بعده من فنون عذاب الآخرة ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أن الأمر كما ذكر ، وفيه إشارة إلى أن فيهم من يعلم ذلك ، وإنما يصر على ذلك عنادا أو : لا يعلمون شيئا أصلا ؛ إذ هم جاهلية جهلاء.

الإشارة : أهل الحسد والعناد لا ينفعهم ما يرونه من المعجزات والكرامات ، أو الحسد يغطى نور البصيرة ، فذرهم فى غفلتهم وحيرتهم ، وكثافة حجابهم ، حتى يصعقوا بالموت ؛ فيعرفون الحق ، حين لا تنفع المعرفة فيقع النّدم والتحسّر. وإنّ لهم عذابا دون ذلك ، وهو عيشهم فى الدنيا عيش ضنك فى هم وغم وجزع وهلع ، ولكنّ أكثرهم لا يعلمون ذلك ؛ لأنهم لا يرون إلا من هو مثلهم. ومن توسعت دائرة معرفته ، فعاش فى روح وريحان ، فهو غائب عنهم ، لا يعرفون مقامه ، ولا منزلته.

ثم أمر بالصبر ، الذي هو عنوان الظفر بكلّ مطلوب ، فقال :

(وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (٤٨) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (٤٩))

يقول الحق جل جلاله لنبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ولمن كان على قدمه : (وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ) بإمهالهم إلى اليوم الموعود مع مقاساتك آذاهم ، أو : واصبر لما حكم به عليك من شدائد الوقت ، وإذاية الخلق ، (فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا) أي : حفظنا وحمايتنا ، بحيث نراقبك ونكلؤك. والمراد بالحكم : القضاء السابق ، أي : لما قضى به عليك ، وفى إضافة الحكم إلى عنوان الرّبوبية تهييج على الصبر ، وحمل عليه ، أي : إنما هو حكم سيدك الذي يربيك ويقوم بأمورك وحفظك ، فما فيه إلا نفعك ورفعة قدرك. وجمع العين والضمير للإيذان بغاية الاعتناء بالحفظ والرّعاية. (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي : نزّهه ملتبسا بحمده على نعمائه الفائتة للحصر ، (حِينَ تَقُومُ) أي : من أىّ مكان قمت ، أو : من

__________________

(١) بل يليق حمله على نفخة الصعق ، على أن يكون المراد بكيدهم : ما كادوا به فى الدنيا.

٤٩٧

منامك. وقال سعيد بن جبير : حين تقوم من مجلسك تقول : سبحانك اللهم وبحمدك. وقال الضحاك والرّبيع : إذا قمت إلى الصلاة فقل : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك ، وتعالى جدّك ، ولا إله غيرك (١). ه. (وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ) أي : فى بعض الليل وأفراده ؛ لأن العبادة فيه أشق على النّفس ، وأبعد من الرّياء ، كما يلوح به تقديمه على الفعل ، والمراد إما الصلاة فى الليل ، أو التسبيح باللسان ؛ سبحان الله وبحمده ، (وَإِدْبارَ النُّجُومِ) أي : وقت إدبارها ، أي : غيبتها بضوء الصبح ، والمراد : آخر الليل ، وقيل : التسبيح من الليل : صلاة العشاء ، وإدبار النّجوم : صلاة الفجر. وقرأ زيد عن يعقوب بفتح الهمز (٢) ، أي : أعقابها إذا غربت.

الإشارة : فى هذه تسلية لأهل البلاء والجلال ، فإنّ من علم أن ما أصابه إنما هو حكم ربه ، الذي يقوم به ويحفظه ، وهو بمرئ منه ومسمع ، لا يهوله ما نزل ، بل يزيده غبطة وسرورا ؛ لعلمه بأنه ما أنزله به إلا لرفعة قدره ، وتشحير (٣) ذهب نفسه ، وقطع البقايا منه ، فهو فى الحقيقة نعمة لا نقمة ، وفى الحكم : «من ظن انفكاك لطف الله عن قدره ؛ فذلك لقصور نظره». (٤)

قال القشيري : أي : اصبر لما حكم به فى الأزل ، فإنه لا يتغير حكمنا الأول إن صبرت وإن لم تصبر ، لكن إن صبرت على قضائى جزيت ثواب الصابرين بغير حساب. وفيه إشارة آخري ، أي : اصبر فإنك بأعيننا نعينك على الصبر لأحكامنا الأزلية ، كما قال تعالى : (وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللهِ) (٥). ه. وقيل المعنى : فإنك من جملة أعيننا ، وأعيان الحق الكمل من الأنبياء ، والرّسل ، والملائكة ، وأكابر أوليائه ، فإنهم أعيان تجلياته ، ولذلك الإشارة بقول عمر رضي الله عنه فى شأن علىّ ـ كرم الله وجهه ، حين ضرب شخصا فشكاه : «أصابته عين من عيون الله» ، وذلك لما تمكنوا من سر الحقيقة ، صاروا عين العين. ومن ذلك قولهم : ليس الشأن أن تعرف الاسم ، إنما الشأن أن تكون عين الاسم ، أي : عين المسمّى ، وهو سر التصرف بالهوية عند التمكين فيها ، وتمكن غيبة الشهود فى الملك المعبود ، وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ...) إلخ ، فيه إشارة إلى مداومة الذكر ، والاستغراق فيه ، ودوام التّنزيه لله تعالى عن رؤية شىء معه. وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٧ / ٣٨) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (٦ / ١٥١) لسعيد بن منصور ، وابن أبى شيبة ، وابن المنذر ، عن الضحاك.

(٢) وقرأ بها أيضا الأعمش ، كما فى مختصر ابن خالويه (ص ١٤٧) وسالم بن أبى الجعد ، ومحمد بن السميفع ، كما فى القرطبي (٧ / ٦٤٣٨).

(٣) أي : تنقية وتصفية.

(٤) حكمة رقم (١٠٦) انظر تبويب الحكم (ص / ٢١).

(٥) من الآية ١٢٧ من سورة النّحل.

٤٩٨

سورة النّجم

مكية. وهى اثنتان وستون آية. وهى أول سورة أعلن بها النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم. ومناسبتها لما قبلها : قوله : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ) (١) فأقسم هنا أنه ما ينطق عن الهوى ، فقال :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (١) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (٢) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (٣) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (٤) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (٥) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (٦) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (٧) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (٨) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (٩) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (١٠) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (١١) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (١٢) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (١٣) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (١٤) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (١٥) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (١٦) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (١٧) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (١٨))

يقول الحق جل جلاله : (وَالنَّجْمِ) أي : الثريا ، أو : جنس النّجم (إِذا هَوى) ؛ إذا غرب ، أو : انتثر يوم القيامة ، أو طلع ، يقال : هوى هويا ، بوزن «فيول» إذا غرب ، وهوى هويا ، بوزن دخول : إذا طلع (٢). والعامل فى (إذا) فعل القسم ، أي : أقسم بالنجم وقت غروبه أو طلوعه. وجواب القسم : (ما ضَلَ) عن قصد الحق (صاحِبُكُمْ) أي : محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، والخطاب لقريش. (وَما غَوى) فى اتباع الباطل ، أو : ما اعتقد باطلا قط ، أي : هو فى غاية الهدى والرّشد ، وليس مما تتوهموه من الضلالة والغواية فى شىء. فالضلال نقيض الهدى ، والغى نقيض الرّشد ، ومرجعهما لشىء واحد ، وهو عدم اتباع طريق الحق.

__________________

(١) الآية سورة الطور ٣٣.

(٢) راجع لسان العرب (مادة هوا ٦ / ٤٧٢٧).

٤٩٩

وقال الفخر : أكثر المفسرين لم يفرقوا بين الغى والضلال ، والفرق بينهما : أنّ الغى فى مقابلة الرّشد ، والضلال أعم منه ، والاسم من الغى : الغواية ـ بالفتح ـ والحاصل : أنّ الغى أقبح من الضلال ، إذ لا يرجى فلاحه. وإيراده صلى‌الله‌عليه‌وسلم بعنوان صاحبهم للإيذان بوقوفهم على تفاصيل أحواله الشريفة ، وإحاطتهم خبرا ببراءته ـ عليه الصلاة والسّلام ـ مما نفى عنه بالكلية ، وباتصافه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ بغاية الهدى والرّشد ؛ فإنّ كون صحبتهم له صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومشاهدتهم لمحاسن شؤونه العظيمة مقتضية لذلك حتما. وتقييد القسم بوقت الهوى ؛ لأن النّجم لا يهتدى به الساري إلا عند هبوطه أو صعوده ، وأما ما دام فى وسط السماء فلا يهتدى به ، ولا يعرف المشرق من المغرب ، ولا الشمال من الجنوب.

ثم قال : (وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى) أي : وما يصدر نطقه بالقرآن أو غيره عن هواه ورأيه أصلا ، (إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ) من الله تعالى (يُوحى) إليه ، وهى صفة مؤكدة لوحى ، لرفع المجاز ، مفيدة لاستمرار التجدد للوحى ، واحتج بهذه الآية من لا يرى الاجتهاد للأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ويجاب بأن الله تعالى إذا سوّغ لهم الاجتهاد وقررهم عليه كان كالوحى ، لا نطقا عن الهوى.

(عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى) أي : ملك شديد قواه ، وهو جبريل عليه‌السلام ، فإنه الواسطة فى إيراد الوحى إلى الأنبياء ، ومن قوته أنه خلع قرى قوم لوط من الماء الأسود الذي تحت الثرى ، وحملها على جناحه ، ورفعها إلى السماء ثم قلبها ، وصاح صيحة بثمود ، فأصبحوا جاثمين ، وكان هبوطه على الأنبياء وصعوده أسرع من لحظة.

(ذُو مِرَّةٍ) أي : ذو خصابة (١) فى عقله ، ورزانة ومتانة فى دينه. وأصل المرة : الشدّة ، من مراير الحبل ، وهو فتله فتلا شديدا ، أو : ذو حسن فى منظره ، (فَاسْتَوى) : عطف على «علّمه» بطريق التفسير ، فإنه إلى قوله : (ما أوحى) بيان لكيفية التعليم ، أو : فاستقام على صورته التي خلقه الله عليها ، دون الصورة التي كان يتمثل بها كلما هبط بالوحى ، وذلك أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أحب أن يراه فى الصورة التي خلقه الله عليها ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بحراء ، فطلع له جبريل من المشرق ، وسدّ الأرض من المغرب ، وملأ الأفق ، فخرّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فنزل فى صورة الآدمي ، فضمه إلى نفسه ، وجعل يمسح الغبار عن وجهه. قيل : ما رآه أحد من الأنبياء فى صورته الأصلية إلا النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فإنه رآه فيها مرتين ؛ مرة فى الأرض ، ومرة فى السماء ، وقيل : استوى بقوته على ما جعل له [من الأمر] (٢).

__________________

(١) فى تفسير أبى السعود [خصافة].

(٢) زيادة من تفسير أبى السعود.

٥٠٠