البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

قلت : لا يبعد أن تحمل الآية على ظاهرها ، فإن الله تعالى يبدل الأرض ويجمعها بأجمعها ، فتكون كخبزة النقي ، ويطوى السماء كطى الكتاب ، حتى يبرز العرش ، كما فى الحديث ، ففى حديث البخاري ، عن أبى سعيد الخدري ، قال النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «تكون الأرض يوم القيامة خبزة واحدة ، يتكفؤها الجبار بيده ، كما يتكفؤ أحدكم خبزته فى السفر ، نزلا لأهل الجنة» (١). وفى حديث أبى هريرة : «إن الله يقبض الأرض ، ويطوى السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض» (٢)

وقال ابن عمر رأيت النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم قائما على المنبر ، وهو يحكى عن ربه تعالى ، فقال : «إن الله تعالى إذا كان يوم القيامة ، جمع السماوات والأرضين السبع فى قبضته ، ثم قال هكذا ، وشد قبضته ، ثم بسطها ، ثم يقول : أنا الله ، أنا الرحمن ..» الحديث. وفى لفظ آخر : «يطوى الله السماوات يوم القيامة ، ثم يأخذهن بيده اليمنى ، ثم يقول : أنا الملك ، أين الجبارون أين المتكبرون؟» (٣). وقال ابن عباس فى تفسير هذه الآية : «كل ذلك فى يمينه ، وليس فى يده الأخرى شىء ، وإنما يستعين بشماله المشغول بيمينه ، وما السماوات السبع ، والأرضون السبع ، فى يد الله تعالى ، إلا كخردلة فى يد أحدكم ، ولهذا قال : (مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) : يعنى السماوات والأرضين كلها بيمينه» (٤) قلت : من كحل عين بصيرته بإثمد التوحيد الخاص ، لا تصعب عليه هذه الأمور ؛ إذ تجليات الحق لا تنحصر ، فيمكن أن يتجلى من نور جبروته بنور يشا كل الآدمي فى الأعضاء كلها ، فيكون له ذات لها يدان وقدمان ، وبه ورد أن الله يضع قدمه على النّار ، فتقول : قط قط ، ويكشف عن ساقه لأهل الموقف ، ويتقدمهم للجنة ، إلى غير ذلك مما ورد فى الحديث. ولا يلزم من ذلك حصر ولا تجسيم ، إنما هى تجليات للذات الكلية المطلقة ، ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء والبقاء من العارفين ، فسلم تسلم.

(سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) أي : تنزيها عظيما لمن هذه قدرته وشأنه عما يضاف إليه من الشركاء ، أي : ما أبعد من هذا شأنه عن إشراكهم!

__________________

(١) أخرجه البخاري فى (الرقاق ، باب يقبض الله الأرض يوم القيامة ، ح ٦٥١٩) ومسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب فى نزل أهل الجنة ، ٤ / ٢١٥١ ، ح ٢٧٩٢).

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم (يتكفؤها بيده) أي : يميلها من يد إلى يد حتى تجتمع وتستوى ؛ لأنها ليست منبسطة كالرقاقة ونحوها. ومعنى هذا الحديث : أن الله يجعل الأرض كالرغيف العظيم.

(٢) أخرجه البخاري فى (تفسير سورة الزمر ، باب (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ) ٥ / ٥٥١) ومسلم فى (صفات المنافقين ، باب صفة القيامة والجنة والنّار ، ٤ / ٢١٤٨ ، ح ٢٧٨٧).

(٣) أخرجه بنحوه مسلم فى (صفات المنافقين وأحكامهم ، باب : صفة القيامة والجنة والنّار ، ٤ / ٢١٤٨ ، ح ٢٧٨٨) من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

(٤) ذكره السيوطي فى الدر (٥ / ٦٢٩) مختصرا ، وعزاه لعبد بن حميد ، وابن أبى حاتم ، وأبى الشيخ.

١٠١

الإشارة : ما عرف الله حق معرفته من أثبت الكائنات معه ، وهى ممحوة بأحدية ذاته ، لا وجود لها معه على التحقيق ، فالأرض قبضة أسرار ذاته ، والسماوات محيطات أفلاك أنواره ، وبحر الذات مطبق على الجميع ، ماح للكل ، وأنشدوا :

فالكل دون الله إن حقيقته

عدم على التفصيل والإجمال

واعلم بأنك والعوالم كلّها

لولاه فى محو وفى اضمحلال

من لا وجود لذاته من ذاته

فوجوده لولاه عين محال

وقال آخر :

من أبصر الخلق كالسّراب

فقد ترّقى عن الحجاب

إلى وجود تراه رتقا

بلا ابتعاد ولا اقتراب

ثم تمم أحوال القيامة ، فقال :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (٦٨) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٦٩) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (٧٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ) النفخة الأولى (فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) أي : خرّ ميتا ، أو مغشيا عليه ، (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) قيل : جبريل وميكائيل وإسرافيل وملك الموت ، ثم يميتهم الله بعد ذلك ، وقيل : حملة العرش ، وقيل : خزنة النّار والجنة (١).

(ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى) هى النّفخة الثانية. و «أخرى» : فى محل الرّفع صفة لمحذوف ، أي : نفخ نفخة أخرى ، (فَإِذا هُمْ قِيامٌ) من قبورهم ، حال كونهم إذا فاجأهم خطب (يَنْظُرُونَ) ؛ يقلبون أبصارهم فى الجوانب

__________________

(١) راجع تفسير الآية ٨٧ من سورة النّمل.

١٠٢

الأربعة ، كالمبهوتين ، أو : ينظرون ما يفعل بهم ، ودلت الآية على أن النّفخة اثنتان ؛ للموت ، والبعث ، وقيل : ثلاث ؛ للفزع ، والموت ، والبعث.

(وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ) ؛ أضاءت (بِنُورِ رَبِّها) حين يتجلى لفصل عباده ، فتشرق الأرض ـ أي : عرصات القيامة ـ بنور وجهه ، ويقال : إن الله يخلق فى القيامة نورا يلبسه وجه الأرض ، فتشرق به. قال فى الحاشية الفاسية : وهذا القول هو الذي اختاره محيى السنة ، وانتصر له الطيبي ، بما ورد من الأحاديث المقتضية لرؤيته فى عرصات القيامة ، قال : وما تعسف الزمخشري ، من حمل النّور على العدل ، إلا فرارا من ذلك. ه. قال القشيري : هو نور يخلقه فى القيامة ، عند تكوير الشمس ، وانكدار النّجوم ، ويستضيىء به قوم دون قوم ، والكفار يبقون فى الظلمة ، والمؤمنون : (يَسْعى نُورُهُمْ) ... الآية (١). ويقال : غدا إشراق الأرض ، واليوم إشراق القلب ، غدا أنوار التولي ، واليوم أنوار التجلي. ه.

وقال السدى : بعدله ، على الاستعارة ، يقال للملك العادل : أشرقت الأرض بعدله ، كما استعيرت الظلمة للظلم. وفى الحديث : «الظلم ظلمات يوم القيامة» (٢).

(وَوُضِعَ الْكِتابُ) أي : صحائف الأعمال. اكتفى باسم الجنس ، أو : كتاب المحاسبة والجزاء. (وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ) ليسألهم ربهم عما أجابتهم به أممهم ، (وَالشُّهَداءِ) أي : الحفظة ، ليشهدوا على كل إنسان بما عمل ، والذين يشهدون للرسل بتبليغ الرّسالة إذا جحدتهم أممهم ، أو : الذين استشهدوا فى سبيل الله. (وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ) : بين العباد (بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) بنقص ثواب ، أو زيادة عقاب. قال ابن عطية : الضمير فى (بَيْنَهُمْ) عائد على العالم بأجمعه. ه. فيقتضى دخول الملائكة ، ويتصور القضاء فى حقهم ، من حيث جعلوا حفظة على العباد ، وأمناء على الوحى والتبليغ ، وغير ذلك من ترتيبهم فى مقاماتهم ، وترقيهم فى علومهم ، وتفاوتهم فى ذلك. وفى وجوه تخصيصاتهم وتصديقهم فى التبليغ ، ورد ما استندوا فيه لظواهر الأمور ، مع علمه تعالى خلافه ، مما لا اطلاع لهم عليه. قاله فى الحاشية.

(وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ) جزاء (ما عَمِلَتْ ، وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ) فلا يفوته شىء من أفعالهم. ومضمون الآية : تصوير التعرض للقضاء بين العباد على ما هو شأن الملك ، من إحضار الشهود وخواص حضرته ، حين يبرز لذلك ، ويشهده الظالم والمظلوم ، وإن كان كنه معرفته موكولا إليه ، ثم من لوازم ذلك العدل. والله تعالى أعلم.

__________________

(١) الآية ١٢ من سورة الحديد.

(٢) أخرجه البخاري فى (المظالم ، باب الظلم ظلمات يوم القيامة ح ٢٤٤٧) ومسلم فى (البر ، باب تحريم الظلم ، ٤ / ١٩٩٦ ، ح ٢٥٧٩) من حديث سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه.

١٠٣

الإشارة : فى الآية إشارة للفناء والبقاء ، فيصعق العبد عن رؤية وجوده ، ثم يبقى بربه ، فتشرق أرض البشرية بنور وجود الحق ، ثم يشرق العالم كله. قال الورتجبي : نفخة الصعق قهرية جلالية ، ونفخة البعث ظهور أنوار جماله فى أنوار جلاله ، وبذلك ينتظر وقوع نور الكشف بقوله : (وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها) فيتجلى للخواص ، ثم تستضىء بأنوارهم أرض المحشر ، للعموم والخصوص ، تعالت صفاته عن أن تقع على الأماكن ، أو أن يكون محلا للحدثان ، يا عاقل ، لا تكون ذرة من العرش إلى الثرى إلا وهى مستغرقة فى أنوار إشراق آزاله وآباده. ثم قال عن بعضهم : (إلا من شاء الله) هم أهل التمكين ، مكّن الله أسرارهم من تحمل الواردات.

ثم ذكر نتيجة الفصل بين العباد ، فقال :

(وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (٧١) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٢))

يقول الحق جل جلاله : (وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً) أي : تسوقهم الزبانية بالعنف والإهانة ، كما تساق الأسارى والخارجين على السلطان ، إذا سيقوا للقتل أو السجن ، فتسوقهم الزبانية إلى جهنم أفواجا متفرقة ، بعضها إثر بعض ، حسب ترتب طبقاتهم فى الضلالة والشرارة ، والزمر : جمع زمرة ، أي : الجماعة ، واشتقاقها من الزمر ، أي : الصوت. والجماعة لا تخلو عنه.

(حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها) ليدخلوها ، وهى سبعة (١) ، (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها) تقريعا وتوبيخا : (أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ) ؛ من جنسكم. وقرىء : «نذر منكم» ، (يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا) أي : وقتكم هذا ، وهو وقت دخولهم النّار. وفيه دليل على أنه لا تكليف قبل الشرع ، من حيث إنهم عللوا توبيخهم بإتيان الرّسل وتبليغ الكتب. (قالُوا بَلى) قد أتونا وأنذرونا ، (وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ) أي : ولكن وجبت علينا كلمة الله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ) (٢) بسوء أعمالنا حيث كذّبنا ، وقلنا : ما نزّل الله

__________________

(١) كما ذكر فى سورة الحجر ، فى قوله تعالى : (لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ) الآية ٤٤.

(٢) من الآية ١١٩ من سورة هود.

١٠٤

من شىء ، إن أنتم إلا تكذبون. (قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي : مقدرين الخلود ، (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) ، اللام للجنس ، والمخصوص محذوف ، أي : بئس مثوى المتكبرين جهنم ، وتكبرهم مسبب عن استحقاق كلمة العذاب عليهم. والله تعالى أعلم.

الإشارة : كل من تكبّر عن أولياء زمانه ـ أهل التربية ـ حتى مات محجوبا عن شهود الحق ، يلحقه التوبيخ بلسان الحال ، فيقال له : ألم يأتكم رسل من أولياء زمانكم ، يعرفون بنا فى كلّ زمان؟ فيقولون : بلى ، ولكن حقت علينا كلمة الحجاب ، فيخلدون فى القطيعة والحجاب ، إلا فى وقت مخصوص. وبالله التوفيق.

ثم ذكر أهل الخير ، فقال :

(وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (٧٣) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٧٤) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٧٥))

يقول الحق جل جلاله : (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) مساق إعزاز وتشريف ، بلا إسراع ولا تكليف ، إلى دار الكرامة والتعريف. قيل : يساقون راكبين مبجّلين ، كما يجىء الوافدون إلى دار الملوك ، يساقون (إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً) ؛ جماعة متفاوتين ، بحسب تفاوت مراتبهم فى الفضل ، وعلو الطبقة ، (حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها) الثمانية. وقرئ بالتخفيف والتشديد (١). وجواب «إذا» محذوف ؛ للإيذان بأن لهم من فنون الكرامة ما لا تحيط به العبارة ، كأنه قيل : حتى إذا جاءوها ، وقد فتحت أبوابها ، كان من الأمر والخبر ما يقصر عنه البيان. (وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ) ؛ ظفرتم ، وتقدستم فى دار التقديس من كل دنس ، وطبتم نفسا ، بما أتيح لكم من النّعيم والأمن ، (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) ، وحذف الواو فى وصف أهل النّار ؛ لأن أبواب جهنم لا تفتح

__________________

(١) قرأ عاصم وحمزة الكسائي (فتحت) ، بتخفيف التاء ، وقرأ الباقون بالتشديد ، على التكثير. انظر الإتحاف (٢ / ٤٣٢).

١٠٥

لهم حتى يصلوا إليها ، وفى وقوفهم قبل فتحها مذلة لهم ، كما هى حال السجون ، بخلاف أهل الجنة ، فإنهم يجدونها مفتوحة ، قال تعالى : (مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ) (١) ، كما هى حال منازل الأفراح والسرور.

(وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) أي : أنجزنا ما وعدنا فى الدنيا من نعيم العقبى. (وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ) ؛ أرض الجنة ، أي : المكان الذي استقروا فيه ، وقد أورثوها وملكوها. وأطلق تصرفهم فيها كما يشاؤون [تشبيها] (٢) بحال الوارث وتصرفه فيما يرثه ، واتساعه فيها ، (نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ) أي : يتخذ كل واحد منا جنة لا توصف ، سعة وزيادة على الحاجة ، فيتبوأ أىّ مكان أراده من جنته الواسعة ، (فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) فى الدنيا الجنة.

(وَتَرَى الْمَلائِكَةَ) حال كونهم (حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ) أي : محدقين به. و «من» لابتداء الغاية ، أي : ابتداء حفوفهم من حول العرش إلى حيث شاء الله ، أو : زائدة ، (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي : يقولون سبحان الله ، والحمد لله ، سبوح قدوس ، رب الملائكة والرّوح. أو : ينزهونه تعالى عما لا يليق به ، ملتبسين بحمده. والمعنى : ذاكرين الله تعالى بوصفى جلاله وإكرامه ، تلذذا ، وفيه إشعار بأن أقصى درجات العليين فى لذائذهم هو الاستغراق فى شهوده عزوجل.

(وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) يقوله أهل الجنة شكرا لله حين دخلوها ، وتم وعد الله لهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) كما قال : (وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) (٣).

الإشارة : وسيق الذين اتقوا ربهم حق تقاته إلى جنة المعارف ، زمرا ، متفاوتين فى السير ، على قدر تفاوتهم فى القريحة ، والاعتناء ، والتفرغ من الشواغل والعلائق. حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها ، بذهاب حجاب الكائنات ، حتى بقي المكوّن وحده ، كما كان وحده ، وجدوا من الأسرار والأنوار مالا يدخل تحت دوائر العبارة ، ولا تحيط به الإشارة. وقال لهم خزنتها ، وهم شيوخ التربية ، العارفون الله : سلام عليكم طبتم ، أي : تقدستم من العيوب والأكدار ، فادخلوها خالدين ؛ لأن من وصل لا يرجع أبدا ، وما رجع من رجع إلا من الطريق. وقالوا : الحمد لله الذي صدقنا وعده ، بأن أنجز لنا ما وعدنا من الوصول ، على ألسنة المشايخ. قال فى الحكم : «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه ، ولم يوصل إليهم إلا من أراد أن يوصله إليه».

__________________

(١) من الآية ٥٠ من سورة ص.

(٢) ما بين المعقوفتين ، ليس فى الأصول ، وأثبته لاقتضاء السياق له.

(٣) من الآية ١٠ من سورة يونس.

١٠٦

وأورثنا أرض الوجود بأسره ، نتبوأ من جنة المعارف ، فى أقطار الوجود ، بفكرتنا وهمتنا ، حيث نشاء ، فنعم أجر العاملين. وترى الملائكة حافين من حول العرش ، أي : قلب العارف ؛ لأنه بيت الرّب ، ومحل قرار نوره ، فيحفونه بالحفظ والرّعاية من دخول الأغيار ، وينزهون الله عن الحلول والاستقرار. وقضى بينهم بالحق ، فعزلت الشياطين عن قلوب الذاكرين ، وتسلطت على قلوب الغافلين ، والحمد لله رب العالمين ، حيث لم يظلم أحدا من العالمين.

١٠٧
١٠٨

سورة غافر*

مكية (١). وآيها : خمس ـ أو ثمان ـ وثمانون آية (٢) ، ومناسبتها لما قبلها قوله : (غافِرِ الذَّنْبِ ...) إلخ ، فإنها فذلكة لما تقدم من أحوال المحشر ؛ لأن منهم من غفرت ذنوبه ، وقبلت توبته ، فسيق إلى الجنة ، وتطاولت عليه النّعم ، ومنهم من شددّ عقابه ، وردت عليه محاسنه ، فسيق إلى النّار ، قال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٢) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (٤))

يقول الحق جل جلاله : (حم) أي : يا محمد. فاقتصر على بعض الحروف ، سترا عن الوشاة ، كعادة العشاق فى ذكر محبوبهم ، يرموزن إليه ببعض حروفه. وقال ابن عطية : سأل أعرابى النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم عن «حم» ما هو؟ فقال : «بدء أسماء وفواتح سور» (٣) وفى حديث : «إذا بيتّم فقولوا : حم لا ينصرون» قال أبو عبيد : كأن المعنى : اللهم لا ينصرون. قلت : لا يبعد أن يكون توسل بحبيب الله على هزم الأعداء. وعن ابن عباس : (أنه اسم الله الأعظم). ه. وكأنه مختصر من «حى قيوم».

(تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي : هذا تنزيل القرآن (مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي : العزيز بسلطانه ، الغالب على أمره ، العليم بمن صدّق به وكذّب. وهو تهديد للمشركين ، وبشارة للمؤمنين. والتعرض لوصفى العزة والعلم للإيذان بظهور أثريهما فى الكتاب ؛ لظهوره عزه وعز من تمسك به ، ولاشتماله على علوم الأولين والآخرين.

__________________

(*) فى الأصول : [سورة المؤمن].

(١) قال السيوطي فى الدر المنثور (٥ / ٦٤٣) : أخرج ابن الضريس ، والنّحاس والبيهقي فى الدلائل ، عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ، قال : «أنزلت الحواميم السبع بمكة».

(٢) قال الداني فى «البيان فى عد آي القرآن» ص ٢١٨ : «وهى ثمانون وثنتان فى البصري ، وأربع فى المدنيين والمكي ، وخمس فى الكوفي ، وست فى الشامي». هذا ولم أقف على من قال أنها ثمان وثمانون آية.

(٣) ذكره فى المحرر الوجيز (٤ / ٥٤٥) والبحر المحيط (٧ / ٤٢٩).

١٠٩

(غافِرِ الذَّنْبِ) أي : ساتر ذنب المؤمنين ؛ (وَقابِلِ التَّوْبِ) وقابل توبة الرّاجعين (شَدِيدِ الْعِقابِ) للمخالفين ، (ذِي الطَّوْلِ) على العارفين ، أي : الفضل التام على العارفين ، أو : ذى الغنى عن الكل. وعن ابن عباس : (غافر الذنب ، وقابل التوب ، لمن قال : «لا إله إلا الله» شديد العقاب لمن لم يقل لا إله إلا الله) (١).

والتّوب : مصدر ، كالتوبة. ويقال : تاب وثاب وآب ، أي : رجع ، فإن قلت : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفا وتنكيرا ، والموصوف معرفة ، وهو الله؟ قلت : أما (غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ) فمعرفتان ؛ لأنه لم يرد بهما حدوث الفعلين حتّى يكون فى تقدير الانفصال ، فتكون إضافتهما غير حقيقة ، وإنما أريد ثبوت ذلك ودوامه. وأما (شَدِيدِ الْعِقابِ) فهو فى تقدير : شديد عقابه ، فيكون نكرة ، فقيل : هو بدل ، وقيل : كلّها أبدال غير أوصاف. وإدخال الواو فى (قابِلِ التَّوْبِ) لنكتة ، وهى : إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين قبول توبته ، فتكتب له طاعة ، وبين جعلها ماحية للذنوب ، كأن لم يذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول. وفى توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات النعمة دليل سبقها ورجحانها ، «إن رحمتى سبقت غضبى» (٢).

قال القشيري : سنّة الله تعالى : إذا خوّف العباد باسم ، أو لفظ ، تدارك قلوبهم بأن يبشّرهم باسمين أو وصفين. ه. روى : أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلا ذا بأس شديد ، من أهل الشام ، فقيل له : تابع هذا الشراب ، فقال لكاتبه : اكتب : من عمر إلى فلان ، سلام الله عليك ، وأنا أحمد إليك الله ، الذي لا إله إلا هو ، (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم ...) إلى قوله : (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) وختم الكتاب ، وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا ، ثم أمر من عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته الصحيفة ، جعل يقرؤها ، ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لى ، وحذّرنى من عقابه ، فلم يبرح يردّدها حتى بكى. ثمّ نزع ، فأحسن النّزوع ، وحسنت توبته. فلما بلغ عمر رضي الله عنه أمره ، قال : «هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم قد زلّ فسدّدوه ، وادعو له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعوانا للشيطان عليه» (٣) أي : بالدعاء عليه ه.

(لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أي : فيجب الإقبال الكلى عليه ، وهو : إما استئناف ، أو : صفة لذى الطّول ، (إِلَيْهِ الْمَصِيرُ) أي : المرجع ، فيجازى كلا من العاصي والمطيع. قال القشيري : إذا كان إلى الله المصير فقد طاب المسير.

(ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) أي : ما يخاصم فيها بالطعن فيها ، واستعمال المقدمات الباطلة ؛ لإدحاض الحق المشتملة عليه ، (إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا) ، وأما الذين آمنوا فلا يخطر ببالهم شائبة شبهة منها ، فضلا عن الطعن فيها ،

__________________

(١) ذكره البغوي فى التفسير (٧ / ١٣٨).

(٢) جزء من حديث صحيح ، أخرجه البخاري فى (التوحيد ، باب قول الله تعالى : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ) ح ٧٥٥٤) ومسلم فى (التوبة ، باب فى سعة رحمة الله تعالى ، رقم ٤٧٥١ ، ح ١٥) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

(٣) رواه أبو نعيم فى الحلية (٤ / ٩٧).

١١٠

وأما الجدال فيها لحل مشكلاتها ، وكشف حقائقها ، وتوضيح مناهج الحق منها ، وردّ مذاهب أهل الزيغ بها ، فمن أعظم الجهاد فى سبيل الله.

قال الطيبي : وأما اتصال قوله : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ ...) الآية بما قبله ، فهو أنه لمّا قال تعالى : (حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ) من الإله المعبود ، الموصوف بصفات العلم الكامل ، والعز الغالب ، الجامع بين غفران الذنب وقبول التوبة ، المتفرد بالعقاب ، الذي لا يقدّر كنهه ، وبالإفضال الذي لا يبلغ قدره ، قال : (ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللهِ) أي : ما يجادل فى مثل هذا الكتاب ، المشتمل على الآيات البينات ، المنزل من مثل ذلك الموصوف بنعوت الكمال ، إلا أمثال هؤلاء الكفرة المغرورين ، (فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ) فإنه استدراج ، فلا يغرر مثلك فى منصب الرّسالة تقلب أولئك تقلب الأنعام ، المنعّمين فى هذا الحطم. وآيات الله : مظهر أقيم مقام المضمر ؛ للتعظيم والتفخيم. ه.

والفاء لترتيب النّهى عن الاغترار على ما قبله من التسجيل عليهم بالكفر ، الذي لا شىء أمقت منه عند الله ، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة ، فإنّ من تحقق ذلك لا يكاد يغتر بما لهم من الحظوظ الفانية ، والزخارف الدنيوية ، فإنهم مأخوذون عما قليل ، كما أخذ من قبلهم. ولذلك ذكرهم بقوله : (كَذَّبَتْ ...) إلخ.

الإشارة : «حم» أي : بحلمي ومجدى تجليت فى كلامى ، المنزل على حبى ، وهو تنزيل الكتاب من الله العزيز ، المعزّ لأوليائه ، العليم بما كان وما يكون منهم ، فلا يمنعه علمه عما سلف من قضائه. غافر الذنب لمن أصرّ واجترم ، وقابل التوب لمن تاب واحتشم ، شديد العقاب لمن جحد وكفر ، ذى الطول لمن توجه ووصل ، ويقال : غافر الذنب للغافلين ، وقابل التّوب للمتوجهين ، شديد العقاب للمنكرين ، ذى الطول للعارفين الواصلين. لا إله إلا هو ، فلا موجود معه ، إليه المصير بالسير فى ميادين النّفوس ، حتى يحصل الوصول إلى حضرة القدوس. ما يجادل فى آيات الله ، وهم أولياء الله ، الدالون على الله ، إلا أهل الكفر بوجود الخصوصية. قال القشيري : إذا ظهر البرهان ، واتّضح البيان استسلمت الألباب الصاحية للاستجابة والإيمان. وأمّا أهل الكفر فلهم على الجحود إصرار ، وشؤم شركهم يحول بينهم وبين الإنصاف ، وكذلك من لا يحترم أولياء الله ، يصّرّون على إنكارهم تخصيص الله عباده بالآيات ، ويعترضون عليهم بقلوبهم ، فيجادلون فى جحد الكرامات ، وسيفتضحون ، ولكنهم لا يميزون بين رجحانهم ونقصانهم. ه.

(كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ

١١١

عِقابِ (٥) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (٦))

يقول الحق جل جلاله : (كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ) نوحا ، (وَالْأَحْزابُ) أي : الذين تحزّبوا على الرسل ، وناصبوهم العداوة ، (مِنْ بَعْدِهِمْ) أي : من بعد قوم نوح ، كعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وأضرابهم ، (وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ) من تلك الأمم الماضية (بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ) ؛ ليتمكنوا منه ، فيصيبوا ما أرادوا من تعذيب أو قتل. والأخذ : الأسر. (وَجادَلُوا بِالْباطِلِ) الذي لا أصل له ، ولا حقيقة لوجوده ، (لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ) ؛ ليبطلوا به الحق الذي جاءت به من الإيمان وغيره ، (فَأَخَذْتُهُمْ) بسبب ذلك أخذا وبيلا ، (فَكَيْفَ كانَ عِقابِ) الذي عاقبتهم به ، فإنّ آثار ديارهم عرضه للناظرين ، وسآخذ هؤلاء أيضا ؛ لاتحادهم فى السيرة ، واشتراكهم فى الجريرة ، كما ينبئ عنه قوله :

(وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ) أي : كما وجب حكم الله تعالى وقضاؤه بالتعذيب على أولئك الأمم المكذّبة ، المجترئة على رسلهم ، المجادلة بالباطل لإدحاض الحق ، وجب أيضا (عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا) بك ، وتحزّبوا عليك ، وهمّوا بما لم ينالوا ، كما ينبئ عنه إضافة اسم الرّب إلى ضميره صلى‌الله‌عليه‌وسلم ؛ فإن ذلك للإشعار بأنّ وجوب كلمة العذاب من أحكام التربية ، التي من جملتها : نصرته صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وتعذيب أعدائه ، وذلك إنما يتحقق بكون الموصول عبارة عن كفار قومه ، لا عن الأمم المهلكة.

وقوله تعالى : (أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ) فى حيز النّصب ، بحذف لام التعليل ، أي : لأنهم مستحقو أشد العقوبات وأفظعها ، الذي هو عذاب النّار ، وملازمتها أبدا ، لكونهم كفارا معاندين ، متحزّبين على الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، كدأب من قبلهم من الأمم المهلكة ، وقيل : إنه فى محل رفع ، على أنه بدل من «كلمة ربك» والمعنى : ومثل ذلك الوجوب وجب على الكفرة المهلكة كونهم من أصحاب النّار ، أي : كما وجب إهلاكهم فى الدنيا بعذاب الاستئصال ؛ وجب تعذيبهم فى الآخرة بعذاب النّار ، ومحل الكاف من (كذلك) على التقديرين : النصب ، على أنه نعت لمصدر محذوف.

الإشارة : الأولياء على قدم الرّسل ، فكل ما لحق الرّسل من الإيذاء يلحق الأولياء ، فقد كذّبت ، وتحزّب عليهم أهل عصرهم ، وهمّوا بأخذهم ، وجادلوا بالباطل ليدحضوا نور الله بأفواههم ، والله متم نوره ، فأخذهم الله بالخذلان والبعد ، والخلود فى نار القطيعة والحجاب ، والعياذ بالله.

١١٢

ثم ذكر شرف الإيمان وأهله ، فقال :

(الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٧) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٨) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٩))

قلت : (الذين) : مبتدأ ، و (يسبّحون) : خبره ، والجملة : استئناف مسوق لتسلية الرّسول صلى‌الله‌عليه‌وسلم ببيان أن «أشرف» (١) الملائكة ـ عليهم‌السلام ـ مثابرون على ولاية من معه من المؤمنين ، ونصرتهم ، واستدعاء ما يسعدهم فى الدارين.

يقول الحق جل جلاله : (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ) على عواتقهم ـ وهم محمولون أيضا بلطائف القدرة ، (وَمَنْ حَوْلَهُ) أي : الحافّين حوله ، وهم الكروبيّون ، سادات الملائكة ، وأعلى طبقاتهم. قال ابن عباس : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام (٢) ، وقيل : أرجلهم فى الأرض السفلى ، ورؤوسهم خرقت العرش ، وهم خشوع ، لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفا من سائر الملائكة (٣).

وقال أيضا : لمّا خلق الله حملة العرش ، قال لهم : احملوا عرشى ؛ قلم يطيقوا ، فخلق الله مع كلّ ملك من أعوانهم مثل جنود من فى السموات ومن فى الأرض من الخلق ، فقال لهم : احملوا عرشى ، فلم يطيقوا ، فخلق مع كل واحد منهم مثل جنود سبع سنوات وسبع أرضين ، وما فى الأرض من عدد الحصى والثرى ، فقال : احملوا عرشى ، فلم يطيقوا ، فقال : قولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم ، فقالوها ، فاستقلوا عرش ربنا ، أي : لمّا حملوه بالله أطاقوه ،

__________________

(١) فى الأصول الخطية [أشرف] والمثبت من تفسير أبى السعود.

(٢) عزاه فى الدر المنثور (٥ / ٦٤٨) لعبد ابن حميد ، وابن مردويه ، والبيهقي فى الأسماء والصفات.

(٣) عزاه فى الدر المنثور (٥ / ٦٤٨) لعبد بن حميد ، عن ميسرة.

١١٣

فلم يحمل عرشه إلا قدرته ، وفى الحديث : «إن الله أمر جميع الملائكة أن يغدوا ، ويروحوا بالسلام على حملة العرش ، تفضيلا لهم على سائر الملائكة». (١)

وقال وهب بن منبه : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة ، صف خلف صف ، يدورون حول العرش ، يطوفون به ، يقبل هؤلاء ، ويدبر هؤلاء ، فإذا استقبل بعضهم بعضا ، هلّل هؤلاء ، وكبّر هؤلاء ، ومن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، أيديهم إلى أعناقهم ، قد وضعوها على عواقتهم ، فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم ، رفعوا أصواتهم ، فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلّك ، أنت الله لا إله غيرك ، أنت الأكبر ، الخلق كلهم راجون رحمتك ، ومن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة ، قد وضعوا اليمنى على اليسرى ، ليس منهم أحد إلا يسبح الله ـ تعالى ـ بتسبيح لا يسبحه الآخر ، ما بين جناحى أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام ، واحتجب الله عزوجل ـ بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش ـ بسبعين حجابا من ظلمة ، وسبعين حجابا من نور ، وسبعين حجابا من درّ أبيض ، وسبعين حجابا من ياقوت أحمر ، وسبعين حجابا من زمرد أخضر ، وسبعين حجابا من ثلج ، وسبعين حجابا من ماء ، إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى ه (٢).

قلت : لمّا أظهر الله العرش تجلى بنور جبروتى رحموتى ، استوى به على العرش ، كما يتجلى يوم القيامة لفصل القضاء ، ثم ضرب الحجب بين هذا التجلي الخاص وبين الملائكة الحافّين ، ولا يلزم عليه حصر ولا تجسيم ؛ إذ تجليات الذات العالية لا تنحصر ، وليست هذه الحجب بين الذات الكلية وبين الخلق ؛ إذ لا حجاب بينها وبين سائر المخلوقات إلا حجاب القهر والوهم.

واختلف فى هيئة العرش ، فقيل : إنه مستدير ، والكون كله فى جوفه كخردلة فى الهواء ، حتى قيل : هو الفلك التاسع ، وقيل : هو منبسط كهيئة السرير ، وله سوارى وأعمدة ، وهو ظاهر الأخبار النّبوية. روى جعفر الصادق عن أبيه عن جده ، أنه قال : إن بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية من خفقان الطير المسرعة قياس ألف عام ، وإن ملكا يقال له : حزقائيل ، له ثمانية عشر ألف جناح ، ما بين الجناح والجناح خمسمائة عام ، فأوحى الله إليه : أن طر ، فطار مقدار عشرين ألف سنة ، فلم ينل رأسه قائمة من قوائم العرش ، ثم طار مقدار ثلاثين ألف سنة فلم ينلها ، فأوحى الله إليه : لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ ساق عرشى. ه. مختصرا.

وفى حديث آخر : «إن بين القائمة والقائمة من قوائم العرش ستين ألف صحراء ، فى كل صحراء ستون ألف عالم ، فى كل عالم قدر الثقلين». ومع هذا كله يسعه قلب العارف حتى يكون فى زاوية منه ؛ لأنه محدود ، وعظمة

__________________

(١) قال الحافظ ابن حجر : لم أجده. انظر الكافي الشاف (ص ١٤٤ ، ح ٣٣٧).

(٢) انظر تفسير البغوي (٧ / ١٤٠ ـ ١٤١) وزاد المسير (٧ / ٢٠٨).

١١٤

الحق غير محدودة ، وقلب العارف قد تجلت فيه عظمة الحق ، فوسعها ، بدليل الحديث : «لن تسعنى أرضى ولا سمائى ، ووسعني قلب عبدى المؤمن» (١) ، أي : الكامل.

ثم أخبر تعالى عن حملة العرش ومن حوله بقوله : (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) أي : ينزهونه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل ، ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى ، (وَيُؤْمِنُونَ بِهِ) إيمانا يناسب حالهم. وفائدة ذكره مع علمنا بأن حملة العرش ومن حوله الذين يسبّحون بحمد ربهم مؤمنون ؛ إظهار لشرف الإيمان وفضيلته ، وإبراز لشرف أهله ، والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء فى بعض المواضع بالصلاح. وفيه تنبيه على أن الملائكة لم يحصل لهم العيان ، وإنما وصفوا بالإيمان بالغيب ، وهم طبقات : منهم العارفون أهل العيان ، ومنهم أهل الإيمان.

ثم قال تعالى : (وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا) أي : ويستغفرون لمن شاركهم فى حالهم من الإيمان ، وفيه دليل على أن الإشراك يجب أن يكون أدعى شىء إلى النّصيحة والشفقة ، وإن تباعدت الأماكن ، وفى نظم استغفارهم لهم فى سلك وظائفهم المفروضة عليهم ، من تسبيحهم ، وتحميدهم ، وإيمانهم ، إيذان بكمال اعتنائهم به ، وإشعار بوقوعه عند الله ـ تعالى ـ موقع القبول.

(رَبَّنا) أي : يقولون : ربنا ، إمّا بيان لاستغفارهم ، أو حال ، (وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً) أي : وسعت رحمتك وعلمك كل شىء ، فأزيل الكلام عن أصله ، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرّحمة والعلم ، ونصبا على التمييز ، مبالغة فى وصفه ـ تعالى ـ بالرحمة والعلم ، وفى عمومهما ، وتقديم الرّحمة ؛ لأنها السابقة والمقصودة هنا ، (فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا) أي : للذين علمت منهم التوبة ، ليناسب ذكر الرّحمة ، (وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ) أي : طريق الهدى التي دعوت إليها. والفاء لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرّحمة والعلم ، (وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ) أي : احفظهم منه ، وهو تصريح بعد إشعار ؛ للتأكيد.

(رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ) إياها ، (وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ) أي : صلاحا مصححا لدخول الجنة فى الجملة ، وإن كانوا دون صلاح أصولهم ، و (من) : عطف على ضمير (وعدتهم) ، أي : وأدخل معهم هؤلاء ؛ ليتم سرورهم ، ويتضاعف ابتهاجهم. قال سعيد بن جبير : (يدخل الرّجل الجنة ، فيقول : أين أبى؟ أين أمي؟ أين ولدي؟ أين زوجتى؟ فيقال له : لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : كنت أعمل لى ولهم ، فيقال : أدخلوهم الجنة) (٢). وسبق الوعد بالإدخال والإلحاق لا يستدعى حصول الموعود بلا توسط شفاعة واستغفار ، وعليه بنى قول من قال : فائدة الاستغفار للمنيب الكرامة والثواب. انظر أبا السعود.

__________________

(١) ذكره الغزالي فى الإحياء (٣ / ١٦) ، قال العراقي فى المغني : «ليس له أصل» وقال القاري فى الأسرار المرفوعة (ص ٣١٠) : «ليس له إسناد معرووف عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم». والحديث وجدته بنحوه عند الديلمي فى الفردوس (٣ / ١٧٤ ح ٤٤٦٦) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه لفظه : «لا يسعنى شىء ووسعني قلب عبدى المؤمن اللين الوادع إذا ألبسته لبسة أحبائى ...» الحديث.

(٢) أخرجه ابن جرير (٢٤ / ٤٥).

١١٥

(إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) أي : الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور ، وأنت مع ملكك وعزتك لا تفعل شيئا خاليا عن حكمة ، وموجب حكمتك أن تفى بوعدك.

(وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ) أي : جزاء السيئات ، وهو العذاب ، أو : المعاصي فى الدنيا ، (وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ) أي : ومن تقه عقاب السيئات يومئذ فقد رحمته ، أو : ومن تقه المعاصي فى الدنيا فقد رحمته فى الآخرة ، وكأنهم طلبوا لهم السبب بعد ما طلبوا المسبّب ، (وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) ؛ الإشارة إلى الرّحمة المفهومة من رحمته ، أو : إليها وإلى الوقاية ، أي : ذلك التوقي هو الفوز العظيم الذي لا مطمع وراءه لطامع.

الإشارة : العرش وحملته ، والحافّون به محمولون بلطائف القدرة ؛ لا حاملون فى الحقيقة ، بل لا وجود لهم مع الحق ، وإنما هم شعاع من أنوار الذات الأقدس وتجلّ من تجلياتها.

وقوله تعالى : (يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ) ، قال الورتجبي : يسبّحون الله بما يجدونه من القدس والتنزيه ، حمدا لأفضاله ، وبأنه منزه عن النّظير والشبيه ، ويؤمنون به فى كل لحظة ، بما يرون منه من كشوف صفات الأوليات ، وأنوار حقائق الذات ، التي تطمس فى كل لمحة مسالك رسوم العقليات ، وهم يقرون كل لحظة بجهلهم عن كنه معرفة وجوده ، ثم بيّن أنهم أهل الرّأفة ، والرّحمة ، والشفقة على أوليائه ، لأنهم إخوانهم فى نسب المعرفة والمحبة. انظر تمامه.

والحاصل : أنهم مع تجلى أنوار ذاته ، قاصرون عن كنهه ، وحقيقة ذاته ، وغايتهم الإيمان به. قاله فى الحاشية. قلت : والتحقيق أن المقربين منهم تحصل لهم المعرفة العيانية ، والرّؤية للذات فى مظاهر التجليات ، كما تحصل لخواص الأولياء فى الدنيا ، ولكن معرفة الآدمي أكمل ؛ لاعتدال حقيقته وشريعته ، لمّا اعتدل فيه الضدان ، وأما معرفة الملائكة فتكون مائلة لجهة الشكر والهيمان ؛ للطافة أجسامهم ، فمثلهم كالمرآة بلا طلاء خلفها ، وأمّا ما ورد فى بعض الأخبار : أن جبريل لم ير الله قط قبل يوم القيامة ، فلا يصح ؛ إلا أن يحمل على أنه لم يره من غير مظهر ، وهذا لا يمكن له ولا لغيره ، وأما رؤيتهم الله يوم القيامة فهم كسائر المؤمنين ، يرونه على قدر تفاوتهم فى المراتب والقرب.

قال إمام أهل السنة ، أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه ، فى كتاب «الإبانة فى أصول الديانة» : أفضل اللذات لأهل الجنة رؤية الله تعالى ، ثم رؤية نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، فلذلك لم يحرم الله أنبياءه المرسلين ، وملائكته المقربين ، وجماعة المؤمنين ، والصدّيقين النّظر إلى وجهه تعالى. ه. وفى الآية حث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب ، والاستغفار لهم ، وهو من شأن الأبدال ، أهل الرّحمة لعباد الله ، اقتداء بالملأ الأعلى.

١١٦

ثم شفع بضد أهل الإيمان ، فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (١٠) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (١١) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (١٢))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ) يوم القيامة ، من قبل الخزنة ـ وهم فى النّار : (لَمَقْتُ اللهِ) إياكم اليوم ، وإهانته لكم ، (أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) فى الدنيا ، حيث حرمتموها الإيمان وعرضتموها للهوان ، (إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ) من قبل الرّسل (فَتَكْفُرُونَ) ، والحاصل : أنهم مقتوا أنفسهم فى الدنيا ، وأهانوها ، حيث لم يؤمنوا ، فإذا دخلوا النّار حصل لهم من المقت والغضب من الله أشد وأعظم من ذلك ، ف «إذا» : ظرف للمقت الثاني ، لا الأول ، على المشهور.

(قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ) أي : إماتتين وإحياءتين ، أو : موتتين وحياتين. قال ابن عباس : كانوا أمواتا فى الأصلاب ، ثم أحياهم ، ثم أماتهم الموتة التي لا بد منها ، ثم أحياهم للبعث يوم القيامة ، وهذا كقوله تعالى : (كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللهِ وَكُنْتُمْ ...) الآية (١). قال السدى : أميتوا فى الدنيا ، ثم أحيوا فى قبورهم للسؤال ، ثم أميتوا فى قبورهم ، ثم أحيوا فى الآخرة.

والحاصل : أنهم أجابوا : بأن الأنبياء دعوهم إلى الإيمان بالله واليوم الآخر ، وكانوا يعتقدون ما يعتقده الدهرية : ألّا حياة بعد الموت ، فلم يلتفتوا إلى دعوتهم ، وداموا على الإنكار ، فلمّا رأوا الأمر عيانا ، اعترفوا. ووجه مطابقة قوله : (قالُوا رَبَّنا ...) إلخ لما قبله : الإقرار بما كانوا منكرين له من البعث ، الذي أوجب لهم المقت والعذاب ؛ طمعا فى الإرضاء له بذلك ؛ ليتخلصوا من العذاب ، ولذلك قالوا : (فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا) ، لمّا رأوا الإماتة والإحياء قد تكرر عليهم ، علموا أن الله قادر على الإعادة ، كما هو قادر على الإنشاء ، فاعترفوا بذنوبهم التي اقترفوها من إنكار

__________________

(١) من الآية ٢٨ من سورة البقرة. وانظر تفسير البغوي (٧ / ١٤٢).

١١٧

البعث وما يتبعه من جزائهم. ومقصدهم بهذا الإقرار : التوسل بذلك إلى ما علّقوا به أطماعهم الفارغة من الرّجوع إلى الدنيا ، كما صرحوا به فى قولهم : (فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ) أي : نوع من الخروج ، سريع أو بطيء ، (مِنْ سَبِيلٍ) أو : لا سبيل إليه قط. وهذا كلام من غلب عليه اليأس ، وإنما يقولون ذلك تحيّرا ، مع نوع استبعاد واستشعار يأس منه ، ولذلك أجيبوا بقوله :

(ذلِكُمْ) أي : ذلكم الذي أنتم فيه من العذاب ، وألّا سبيل إلى الخروج ، (بِأَنَّهُ) أي : بسبب أن الشأن (إِذا دُعِيَ اللهُ) فى الدنيا ، أي : عبد (وَحْدَهُ) منفردا (كَفَرْتُمْ) بتوحيده ، (وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا) بالإشراك وتسارعوا فيه ، أي : كنتم فى الدنيا تكفرون بالإيمان ، وتسارعون إلى الشرك. قيل : والتعبير بالاستقبال ، إشارة إلى أنهم لو ردوا لعادوا ، وحيث كان حالكم كذلك ، (فَالْحُكْمُ لِلَّهِ) الذي لا يحكم إلا بالحق ، ولا يقضى إلا بما تقتضيه حكمته ، (الْعَلِيِ) شأنه ، فلا يردّ قضاؤه ، أو : فالحكم بعذابكم وتخليدكم فى النّار لله ؛ لا لتلك الأصنام التي عبدتموها معه ، (الْكَبِيرِ) : العظيم سلطانه ، فلا يحدّ جزاؤه. وقيل : إنّ الحرورية (١) أخذوا قولهم : لا حكم إلا لله ، من هذه الآية. قال علىّ رضي الله عنه لمّا سمع مقالتهم : كلمة حق أريد بها باطل. ه.

الإشارة : إنّ الذي كفروا بطريق الخصوص ، وأنكروا وجود التربية ، حتى ماتوا محجوبين عن الله ، وبعثوا كذلك ، ينادون يوم القيامة بلسان الحال : لمقت الله لكم اليوم ـ حيث سقطتم عن درجات المقربين ـ أكبر من مقتكم أنفسكم ، حيث حرمتموها معرفة العيان ومقام الإحسان ، حين كنتم تدعون إلى تربية الإيمان ، وتحقيق الإيقان ، على ألسنة شيوخ التربية ، فتكفرون وتقولون : انقطعت التربية منذ زمان ، ثم يطلبون الخروج من عالم الآخرة إلى عالم الدنيا ، ليحصلوا المعرفة التي فاتتهم ، فيقال لهم : هيهات ، قد فات الإبّان (٢) ، «الصيف ضيعت اللبن» (٣). فامكثوا فى حجابكم ، ذلكم بأنه إذا دعى الله وحده ، وأن لا موجود سواه ، كفرتم بإنكاركم سبيله ، وهى طريق التجريد والتربية ، وإن يشرك به بالتعمق فى الأسباب ، والمكث فيها ، تؤمنوا. والحاصل : أنهم كانوا ينكرون طريق التجريد ، ويؤمنون بطريق الأسباب ، فالحكم لله العلى الكبير ، فيرفع من يشاء ، ويضع من يشاء بعلوه وكبير شأنه.

__________________

(١) الحرورية : طائفة من الخوارج ، تنسب إلى «حرور» ، اسم قرية بالكوفة. انظر اللسان (حرر ٢ / ٨٣١).

(٢) إبان كل شىء : وقته وحينه الذي يكون فيه. انظر اللسان (ابن ١ / ١٢).

(٣) هذا مثل. والتاء من «ضيعت» مكسورة فى كل حال ، إذا خوطب به المذكر والمؤنث والاثنان والجمع ، لأن المثل فى الأصل خوطبت به امرأة ، وهى دختنوس بنت لقيط بن زرارة ، كانت تحت عمرو بن عمرو بن عدس ، وكان شيخا كبيرا ، ففركته (كرهته) فطلقها ، ثم تزوجها فتى جميل الوجه ، وأجدبت ، فبعثت إلى عمرو تطلب منه حلوبة ، فقال عمرو : «فى الصيف ضيعت اللبن» ، فلما رجع الرّسول ، وقال لها ما قال عمرو ، ضربت يدها على منكب زوجها ، وقالت : «هذا ومذقه خير» تعنى أن هذا الزوج مع عدم اللبن خير من عمرو ، فذهبت كلماتهما مثلا. انظر مجمع الأمثال للميدانى (٢ / ٤٣٤).

١١٨

ثم برهن على علو شأنه بقوله :

(هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (١٣) فَادْعُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (١٤) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (١٥) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (١٦) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٧))

يقول الحق جل جلاله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ) الدالة على كبريائه ، وكمال قدرته ، من الرّياح ، والسحاب ، والرّعد ، والبرق ، والصواعق ، وغير ذلك ، لتستدلوا على ذلك ، وتعملوا بموجبها ، فتوحدوه تعالى ، وتخصوه بالعبادة ، (وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً) ؛ مطرا ؛ لأنه سبب الرّزق. وأفرده بالذكر مع كونه من جملة الآيات ؛ لتفرده بكونه من آثار رحمته ، وجلائل نعمه الموجبة للشكر ؛ إذ به قوام الحيوانات بأسرها. وصيغة المضارع فى الفعلين ؛ للدلالة على تجدد الإراءة والتنزيل ، واستمرارهما. (وَما يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ) أي : وما يتعظ ويعتبر بهذه الآيات الباهرة ، ويعمل بمقتضاها إلا من يتوب ويرجع عن غيه إلى الله تعالى ، فيتفكر فيما أودعه فى تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة ، ونعمه الشاملة. وأما المعاند فلا يتعظ ولا يعتبر ؛ لسفح الران على قلبه.

وإذا كان الأمر كما ذكرنا ، من اختصاص التذكير بمن ينيب ، (فَادْعُوا اللهَ) ، أو : تقول : لمّا ذكر أحوال المشركين ، وأراد أن يشفع بأضدادهم ، جعل قوله : (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ ..) إلخ ، توطئة لقوله : (فَادْعُوا اللهَ) أي : اعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) من الشرك الجلى والخفي ، بموجب إنابتكم إليه تعالى وإيمانكم ، (وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ) ؛ وإن غاظ ذلك أعداءكم ، ممن لم يتب مثلكم ، فإن الله يكرم مثواكم ، ويرفع درجاتكم ، فإنه (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) أي : رافع درجات أوليائه المؤمنين ، الداعين إليه ، المخلصين فى الدنيا والآخرة ، فى الدنيا بالعز والنّصر ، وفى الآخرة بالقرب والاختصاص ، أو : رفيع السموات التي هى مصاعد الملائكة ، ومهابطها ، للسفارة بين

١١٩

المرسل والمرسل إليه ، وهو كالمقدمة لقوله : (يُلْقِي الرُّوحَ ...) إلخ. هذا على أنه اسم فاعل ، مبالغة ، وقيل : هو صفة مشبهة أضيفت إلى فاعلها ، أي : رفيع درجاته بالعلو والقهرية.

(ذُو الْعَرْشِ) أي : مالكه ، وهما خبران آخران عن (هُوَ الَّذِي ...) إلخ ، إيذانا بعلو شأنه ، وعظم سلطانه ، الموجبين لتخصيص العبادة به ، وإخلاص الدين له بطريق الاستشهاد بهما عليهما ؛ فإنّ ارتفاع الدرجات والاستيلاء على العرش ـ مع كون العرش محيطا بأكناف العالم العلوي والسفلى ، وهو تحت ملكوته وقبضة قهره مما يقضى بكون علو شأنه وعظيم سلطانه ـ فى غاية لا غاية ورائها. قاله أبو السعود.

ثم ذكر سبب رفع الدرجات بقوله : (يُلْقِي الرُّوحَ) أي : ينزل الوحى ، الجاري من القلوب بمنزلة الرّوح من الأجسام ، وكأنه لمّا ذكر رزق الأجسام أتبعه برزق الأرواح ، الذي هو العلم بالله ، وطريقه الوحى. والتعبير بالمضارع ، قال الطيبي : يفيد استمرار الوحى من لدن آدم إلى زمن سيدنا محمد صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ثم اتصاله إلى قيام يوم التنادى ، بإقامة من يقوم بالدعوة ، على ما روى أبو داود ، عن أبى هريرة ، عن النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «إنّ الله سيبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها» (١) ومعنى التجديد : إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسنّة ، والأمر بمقتضاهما. ه.

قلت : وقد زرت شيخنا البوزيدى رضي الله عنه مرة ، فلما وقع بصره علىّ ، قال : والله ، حتى يحيى الله بك الدين المحمدي. وكتب لى شيخ الجماعة ، وقطب دائرة التربية ، مولاى العربي الدرقاوى رضي الله عنه ، فقال فى آخر كتابه : وأرجو من الله ألا تموت حتى تكون داعيا إلى الله ، تذكّر أهل المشرق والمغرب. أو ما هذا معناه ، وقد وقع ذلك ، والحمد لله.

وقوله : (مِنْ أَمْرِهِ) أي : من قضائه ، أو : بأمره ، فيجوز أن يكون حالا من الرّوح ، أو متعلقا ب (يلقى) أي : يلقى الرّوح حال كونه ناشئا ، أو : مبتدئا من أمره ، أو : يلقى الوحى بسبب أمره (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) وهو الذي اصطفاه لرسالته ، وتبليغ أحكامه إلى عباده ، (لِيُنْذِرَ) أي : الله ، أو : الملقى عليه ، وهو النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ويؤيده قراءة يعقوب بالخطاب ، أي : لتخوف (يَوْمَ التَّلاقِ) ؛ يوم القيامة ؛ لأنه يتلاقى فيه أهل السموات وأهل الأرض ، والأولون والآخرون ، و (يوم) : ظرف للمفعول الثاني ، أي : لينذر النّاس العذاب يوم التلاق ، أو : مفعول ثان لينذر ، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار.

__________________

(١) أخرجه أبو داود فى (الملاحم ، باب ما يذكر فى قرن المائة ٤ / ٤٨٠ ، ح ٤٢٩١) والحاكم فى المستدرك (الفتن والملاحم ، ٤ / ٥٢٢) والبيهقي فى المعرفة (١ / ١٢٤) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه ، ورمز له السيوطي فى الجامع الصغير (ح ١٨٤٥) بالصحة.

١٢٠