البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

ثم هددهم بقوله :

(فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (١٠) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (١١) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (١٢) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (١٣) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (١٤) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (١٥) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (١٦))

يقول الحق جل جلاله : (فَارْتَقِبْ) ؛ فانتظر (يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ) ، قال علىّ وابن عباس وابن عمر والحسن ـ رضي الله عنهم ـ : هو دخان يجىء قبل يوم القيامة ، يصيب المؤمن منه مثل الزكام ، وينضج رؤوس المنافقين والكافرين ، حتى تكون كأنها مصليّة حنيذة (١) ، وتكون الأرض كلها كبيت أوقد فيه نار ، ليس فيه خصاص (٢) ، ويؤيد هذا حديث حذيفة : «أول الآيات الدخان ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من عدن ، تسوق النّاس إلى المحشر ، تقيل معهم إذا قالوا ...» الحديث (٣) ، انظر الثعلبي.

وأنكر هذا ابن مسعود ، وقال : هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم بسبع كسبع يوسف ، فكان الرّجل يرى من الجوع دخانا بينه وبين السماء (٤). ويؤيده ما يأتى بعده. وقوله (مُبِينٍ) أي : ظاهر لا يشك أحد أنه دخان ، (يَغْشَى النَّاسَ) أي : يحيط بهم ، حتى كان الرّجل يحدّث الرّجل ، ويسمع كلامه ، ولا يراه من الدخان ، أي : انتظر يوم شدة ومجاعة ؛ فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، إما لضعف بصره ، أو لأن عام القحط يظلم الهواء لقلة الأمطار ، أو كثرة الغبار ، (هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) أي : قائلين هذا عذاب أليم.

ولما اشتد بهم القحط ، مشى أبو سفيان ، ونفر معه إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم وناشده الله ـ تعالى ـ والرّحم ، وواعدوه إن دعا لهم ، وكشف عنهم ، أن يؤمنوا ، وذلك قوله تعالى : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ) أي : سنؤمن إن

__________________

(١) المصليّة والحنيذة : المشوية.

(٢) الخصاص : الفرج والخرق فى البناء أو الباب ونحوه ، راجع اللسان (خصص ٢ / ١١٧٣) والخبر أخرجه الطبري (٢٥ / ١١٣).

(٣) أخرجه البغوي فى تفسيره (٧ / ٢٣٠) من حديث حذيفة بن اليمان ، وأخرجه الطبري (٢٥ / ١١٤) بذكر كلمة (الدجال) بدل (الدخان).

(٤) معنى ما أخرجه البخاري فى (التفسير ، سورة حم الدخان ، باب (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) ح ٤٨٢٣) ومسلم (فى صفات المنافقين ، باب الدخان ح ٢٧٩٨) (٣٩). ولفظه كما عند البخاري : قال عبد الله : «إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم لما دعا قريشا كذبوه واستعصوا عليه ، فقال : اللهم أعنى عليه بسبع كسبع يوسف. فأصابهم سنة حصت كلّ شىء ، حتى كانوا يأكلون الميتة وكان يقوم أحدهم ، فكان يرى بينه وبين السماء مثل الدخان ، من الجهد والجوع. ثم قرأ : (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ ، يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ) حتى بلغ : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) قال عبد الله : أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ قال : والبطشة الكبرى يوم بدر».

٢٨١

كشف عنا العذاب ، قال تعالى : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي : كيف يذّكرون ويتعظون ويفون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ، (وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ) أي : والحال أنهم يشاهدون من دواعى التذكير وموجبات الاتعاظ ، ما هو أعظم منه ، حيث جاءهم رسول عظيم الشأن ، بيّن البرهان ، يبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة ، ومعجزات قاهرة ، تخرّ لها صمّ الجبال.

(ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ) أي : عن ذلك الرّسول ، بعد ما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإقبال عليه ، ولم يقنعوا بالتولى ، بل اقترفوا ما هو أشنع ، (وَقالُوا) فى حقه عليه‌السلام : (مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ) أي : قالوا تارة معلّم يعلمه غلام أعجمى لبعض ثقيف ، وتارة مجنون ، أو : يقول بعضهم كذا ، وبعضهم كذا ، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال تعالى : (إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً) أي : زمنا قليلا ، أو كشفا قليلا ، (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) إلى الكفر ، الذي أنتم فيه ، أو : إلى العذاب بعد صرف الدخان ، على القول الأول ، (يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى) يوم بدر ، أو يوم القيامة ، (إِنَّا مُنْتَقِمُونَ) أي : ننتقم منهم فى ذلك اليوم. وانتصاب (يَوْمَ نَبْطِشُ) باذكر أو بما دلّ عليه (إنا منتقمون) ، وهو ننتقم ، لا بمنتقمون ، لأن ما بعد «إن» لا يعمل فيما قبله.

الإشارة : فارتقب أيها العارف يوم تأتى السماء بدخان مبين ، أي : يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس ، وظلمة الأسباب تغشى قلوب النّاس ، فتحجبهم عن شمس العرفان ، هذا عذاب أليم موجع للقلوب ، حيث حجبها عن حضرة علام الغيوب. وأما العارف فشمسه ضاحية ، ونهاره مشرق على الدوام ، كما قال شاعرهم :

ليلى بوجهك مشرق

وظلامه فى النّاس سار

الناس فى سدف الظّلام

ونحن فى ضوء النّهار

وقال آخر :

طلعت شمس من أحب بليل

فاستنارت فما تلاها غروب

إن شمس النّهار تغرب بليل

وشمس القلوب ليست تغيب (١)

قال القشيري : قيامة هؤلاء ـ أي الصوفية ـ معجّلة لهم ، يوم تأتى السماء فيه بدخان مبين ، وهو باب غيبة الأخبار ، وانسداد باب ما كان مفتوحا من الأنس بالأحباب. قلت : وأحسن من عبارته أن تقول : وهو باب غيبة الأنوار ، وانسداد منبع الأسرار. ثم قال : وفى معناه قالوا :

__________________

(١) البيتان من الخفيف ، وهما للحلاج ، كما فى ديوانه / ٢٣ تحقيق د / كامل الشيبى. وصلة تاريخ الطبري ١١ / ٨٧.

٢٨٢

فلا الشمس شمس تستنير ولا الضحى

يطلق ولا ماء الحياة ببارد. ه. (١)

وقوله تعالى : (رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ) قال القشيري : وقد يستزيد هؤلاء العذاب على العكس من أحوال الخلق ، وفى ذلك أنشدوا :

وكلّ مآربى قد نلت منها

سوى ملك ودّ قلبى بالعذاب (٢)

فهم يسألون البلاء بدل ما يستكشفه الخلق ، وأنشدوا :

أنت البلاء فكيف أرجو كشفه

إنّ البلاء إذا فقدت بلائي. ه.

قلت : وأصرح منه : قال الشاعر :

يا من عذابى عذب فى محبّته

لا أشتكى منك لا صدّا ولا مللا

وقول الجيلاني (٣) ـ رضي الله عنه :

تلذّ لى الآلام إذ كنت مسقمى

وإن تختبرني فهى عندى صنائع

تحكّم بما تهواه فىّ فإننى

فقير لسلطان المحبة طائع

قوله تعالى : (أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى) أي : كيف يتعظ من تنكب عن صحبة الرّجال ، وملأ قلبه بالخواطر والأشغال؟ وقد جاءهم من يدعوهم إلى الكبير المتعال ، فأنكروه ، وقالوا : معلّم مجنون ، إنا كاشفوا العذاب عن قلوبهم من الشكوك والخواطر قليلا ، حين يتوجهون إلينا ، ويفزعون إلى بابنا ، أو يسمعون من بعض أوليائنا ، ثم تكثر عليهم الخواطر ، حين تنقشع عنهم سحابة أمطار الواردات من قلوب أوليائنا ، إنكم عائدون إلى ما كنتم عليه ، يوم نبطش البطشة الكبرى ، هى خطفة الموت ، فلا ينفع فيها ندم ولا رجوع ، بل يورثهم حزنا طويلا ، فلا يجدون فى ظلال انتقامنا مقيلا ، فننتقم ممن أعرض بسريرته عن دوام رؤيتنا.

__________________

(١) هكذا فى الأصول ، أما فى لطائف الإشارات ، فالشطر الأول فيه : [فما جانب الدنيا بسهل ولا الضحى].

والبيت لأبى تمام ، فى رثاء خالد بن يزيد. انظر ديوان أبى تمام (٤ / ٧٢).

(٢) هكذا فى الأصول ، والشطر الثاني فى القشيري وغيره من المصادر والمذكورة بعد : [سوى ملذوذ وجدى بالعذاب].

هذا ، والبيت جاء منسوبا للحلاج فى ديوانه (قسم أعشار نسبت للحلاج ص ٦٨) وتاريخ بغداد (٨ / ١١٦) ، كما نسب البيت فى الكواكب الدرية (٤٤) والفتوحات المكية (٣ / ١٨٥) لأبى يزيد البسطامي.

(٣) الشيخ عبد الكريم الجيلي فى عينيته (ص ٥٠ ـ ٥١).

٢٨٣

ثم ذكر وبال من سلك مسلكهم ، فقال :

(وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (١٧) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٨) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (١٩) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (٢٠) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (٢١) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (٢٢) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (٢٣) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (٢٤))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ) ؛ قبل هؤلاء المشركين ، (قَوْمَ فِرْعَوْنَ) أي : امتحناهم بإرسال موسى عليه‌السلام ، أو : أوقعناهم فى الفتنة بالإمهال وتوسيع الأرزاق ، أو فعلنا بهم فعل المختبر ؛ ليظهر ما كان باطنا ، (وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ) ؛ موسى عليه‌السلام ، أي : كريم على الله ، أو على المؤمنين ، أو فى نفسه حسيب نسيب ، لأن الله ـ تعالى ـ لم يبعث نبيا إلا من سادات قومه : (أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللهِ) أي : بأن أدوا إلىّ ، أي : ادفعوا عباد الله ، وهم بنو إسرائيل ، بأن ترسلوهم معى ، فكانت دعوة موسى لفرعون بعد الإقرار بالتوحيد إرسال بنى إسرائيل من يده ، أو : بأن أدوا إلىّ يا عباد الله ما يجب عليكم من الإيمان ، وقبول الدعوة ، فالعباد على هذا عام. ف «إن» مفسرة ؛ لأن مجىء الرّسل لا يكون إلا بدعوة ، وهى تتضمن القول ، أو مخففة ، أي : جاءهم بأن الشأن أدوا إلىّ ، و «عباد الله» على الأول : مفعول به ، وعلى الثاني : منادى ، (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ) تعليل للأمر ، أو لوجوب المأمور ، أي : رسول غير ظنين ، قد ائتمنني الله على وحيه ، وصدّقنى بالمعجزات القاهرة.

(وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) أي : لا تتكبروا على الله بالاستهانة بوحيه وبرسوله أو : لا تتكبروا على نبىّ الله ، (إِنِّي آتِيكُمْ) من جهته تعالى (بِسُلْطانٍ مُبِينٍ) ؛ بحجة واضحة ، لا سبيل إلى إنكارها ، تدل على نبوتى. وفى إيراد الأداء مع الأمين ، والسلطان مع العلو ، من الجزالة ما لا يخفى ، (وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ) أي : التجأت إليه ، وتوكلت عليه ، (أَنْ تَرْجُمُونِ) ، من أن ترجمون ، أي : تؤذوننى ضربا وشتما ، أو تقتلونى رجما.

قيل : لما قال : (وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللهِ) توعدوه بالرجم ، فتوكّل على الله ، واعتصم به ، ولم يبال بما توعدوه.

(وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ) أي : وإن كابرتم ولم تذعنوا لى ، فلا موالاة بينى وبين من لا يؤمن ، فتنحوا عنى ، أو : فخلّونى كفافا لا لى ولا علىّ ، ولا تتعرضوا لى بشرّكم وأذاكم ، فليس ذلك جزاء من دعاكم إلى ما فيه فلاحكم ، قال أبو السعود : وحمله على قطع الوصلة وعدم الموالاة بينه وبينهم ، يأباه المقام.

٢٨٤

(فَدَعا رَبَّهُ) بعد ما تمادوا على تكذيبه ، شاكيا إلى ربه : (أَنَّ هؤُلاءِ) أي : بأن هؤلاء ، (قَوْمٌ مُجْرِمُونَ) ، وهو تعريض بالدعاء عليهم ، بذكر ما استوجبوه ، ولذلك سمى دعاء ، وقيل : كان دعاؤه : اللهم عجّل لهم ما يستوجبونه بإجرامهم ، وقيل : هو قوله : (أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ) (١) وقيل : قوله : (لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) (٢) ، وقرىء بالكسر (٣) على إضمار القول. قال تعالى له ـ بعد : (فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً) ، والفاء تؤذن بشرط محذوف ، أي : إن كان الأمر كما تقول (فَأَسْرِ بِعِبادِي) ؛ بنى إسرائيل (لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ) أي : دبّر الله أن تتقدموا ، ويتبعكم فرعون وجنوده ، فننجّى المتقدمين ، ونغرق الباقين ، (وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً) ؛ ساكنا على حالته بعد ما جاوزته ، ولا تضربه بعصاك لينطبق ، ولا تغيره عن حاله ليدخله القبط ، أراد موسى عليه‌السلام لمّا جاوزه أن يضربه بعصا لينطبق ، فأمره أن يتركه ساكنا على هيئته (٤) ، قارا على حالته ، من انتصاب الماء كالطود العظيم ، وكون الطريق يبسا لا يغير منه شيئا ، ليدخله القبط ، فإذا دخلوا فيه أطبقه الله عليهم ، فالرهو فى كلام العرب : السكون ، قال الشاعر :

طير رأت بازيا نضح الدّعاء به

وأمّة خرجت رهوا إلى عيد

أي : ساكنة ، وقيل : الرهو : الفرجة الواسعة ، أي : اتركه مفتوحا على حاله منفرجا ، (إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ) بعد خروجكم من البحر. وقرئ بالفتح ، أي : لأنهم.

الإشارة : كل زمان له فراعين ، يحبسون النّاس عن طريق الله ، وعن خدمته ، فيبعث الله إليهم من يذكّرهم ، ويأمرهم بتخلية سبيلهم ، أو بأداء الحقوق الواجبة عليهم ، فإذا كذّب الداعي ، قال : وإن لم تؤمنوا فاعتزلون ، فاذا أيس من إقبالهم دعا عليهم ، فيغرقون فى بحر الهوى ، ويهلكون فى أودية الخواطر. وبالله التوفيق.

ثم حضّ على الاعتبار ، فقال :

(كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٢٥) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (٢٦) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (٢٧) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (٢٨) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ

__________________

(١) الآية ١٠ من سورة القمر.

(٢) الآية ٨٥ من سورة يونس.

(٣) قرأ «إن هؤلاء» بالكسر ابن أبى إسحاق وعيسى والحسن فى رواية ، وزيد بن علىّ. انظر مختصر ابن خالويه (ص ١٣٨) والبحر المحيط (٨ / ٣٦).

(٤) قاله قتادة فيما أخرجه ابن جرير (٢٥ / ١٢١).

٢٨٥

وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (٢٩) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (٣٠) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (٣١) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٢) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (٣٣))

يقول الحق جل جلاله : (كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) أي : كثيرا ما ترك فرعون وجنوده بمصر من بساتين. روى أنها كانت متصلة بضفتى النّيل جميعا ، من رشيد إلى أسوان ، (وعيون) يحتمل أن يريد الخلجان ، شبهها بالعيون ، أو كانت ثمّ عيون وانقضت ، (وَزُرُوعٍ) أي : مزارع ، (وَمَقامٍ كَرِيمٍ) ، محافل مزينة ، ومنازل محسّنة ، وسماه كريما ؛ لأنه مجلس الملوك ، وقيل : المنابر ، (وَنَعْمَةٍ) أي : بسطة ولذاذة عيش وتنعّم ، (كانُوا فِيها فاكِهِينَ) أي : متنعّمين فرحين مسرورين.

وفى المشارق : النعمة ـ بالفتح : التنعم ، وبالكسر : اسم ما أنعم الله به على عباده ، قال ابن عطية : النعمة ـ بالفتح : غضاوة العيش ، ولذاذة الحياة ، والنّعمة ـ بالكسر : أعم من هذا كله ، وقد تكون الأمراض والمصائب نعما ، ولا يقال فيها نعمة بالفتح. ه. فانظره.

(كَذلِكَ) ، أي : الأمر كذلك ، فالكاف فى محل الرّفع ، على أنه خبر عن مضمر ، أو نصب على أنه مصدر لمحذوف يدل عليه : (تركوا) أي : مثل ذلك السلب سلبناهم إياها ، (وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ) ليسوا منهم فى شىء فى قرابة ولا دين ، ولا ولاء ، وهم بنو إسرائيل ، بأن تولوا أحكامها والتصرف فيها. وقال الحسن : رجعوا بعد هلاك فرعون إلى مصر ، نظيره : (وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ ...) (١) الآية ، ومثله عن القرطبي والبيضاوي ، وكذلك فى نوادر الأصول ، وقد تقدم الكلام عليه فى الشعراء (٢). وفى الآية اعتبار واستبصار ، وتنبيه للعاقل على عدم الاغترار ، وسيأتى فى الإشارة ما فيه كفاية نظما ونثرا.

(فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ، مجاز عن عدم الاكتراث بهلاكهم ، والاعتداد بوجودهم ، وفيه تهكم بهم ، وبحالهم المنافية ، بحال من يعظم فقده ، فيقال : بكت عليهم السماء والأرض ، وكانت العرب إذا عظّمت مهلك رجل قالوا : بكته الرّيح والبرق والسماء ، قال الشاعر :

__________________

(١) من الآية ١٣٧ من سورة الأعراف.

(٢) عند تفسير الآية ٥٩ من سورة الشعراء.

٢٨٦

الرّيح تبكى شجوها

والبرق يلمع فى الغمامه (١)

وقال جرير ، يرثى عمر بن عبد العزيز :

فالشّمس طالعة ليست بكاسفة

تبكى عليك نجوم اللّيل والقمرا

حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له

وقمت فينا بأمر الله يا عمرا (٢).

وقيل : البكاء حقيقة ، وأن المؤمن تبكى عليه من الأرض مصلّاه ، ومحل عبادته ، ومن السماء مصعد عمله ، كما فى الحديث (٣) ، وإذا مات العالم بكت عليه حيتان البحر ، ودوابه ، وهوام البر وأنعامه ، والطير فى الهواء ، وهؤلاء لمّا ماتوا كفارا لم يعبأ الوجود بفقدهم ، بل يفرح بهلاكهم. (وَما كانُوا) لمّا جاء وقت هلاكهم (مُنْظَرِينَ) ؛ ممهلين إلى وقت آخر ، أو إلى الآخرة ، بل عجّل لهم فى الدنيا.

(وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ) لما فعلنا بفرعون وقومه ما فعلنا (مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ) ، من استعباد فرعون إياهم ، وقتل أبنائهم ، واستحياء نسائهم ، (مِنْ فِرْعَوْنَ) ، بدل من العذاب المهين بإعادة الجار ، كأنه فى نفسه كان عذابا مهينا ، لإفراطه فى تعذيبهم وإهانتهم ، أو خبر عن مضمر ، أي : ذلك من فرعون ، وقرئ «من فرعون» (٤) على معنى : هل تعرفونه من هو فى عتوه وتفرعنه؟ وفى إبهام أمره أولا ، وتبيينه بقوله تعالى : (إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ) ثانيا ، من الإفصاح عن كنه أمره فى الشر والفساد مما لا مزيد عليه ، وقوله تعالى : (مِنَ الْمُسْرِفِينَ) إما خبر ثان ، أي : كان متكبرا مسرفا ، أو حال من الضمير فى «عاليا» ، أي : كان رفيع الطبقة من بين المسرفين ، فائقا لهم ، بليغا فى الإسراف.

__________________

(١) هذا البيت من أبيات قالها ابن المفرّغ فى بيعه جارية تسمى «الأراكة» وغلاما يسمى «بردا» ، وكانا أعز عليه من نفسه ، وقد رغمه عباد بن زياد على بيعهما ، ومن أبيات ابن المفرغ هذه :

والعبد يقرع بالعصا

والحرّ تكفيه الملامة

والقصة فى خزانة الأدب.

(٢) انظر ديوان جرير / ٢٣٥. وأمالى المرتضى (١ / ٥٢).

(٣) أخرج ابن جرير فى التفسير (٢٥ / ١٢٤) من حديث ابن عباس رضي الله عنه موقوفا : «ليس أحد من الخلائق إلا له باب فى السماء ، منه ينزل رزقه وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء فقده فبكى عليه ، وإذا فقد مصلاه من الأرض التي كان يصلى فيها ، ويذكر الله فيها ، بكت عليه ، وإن آل فرعون لم يكن لهم فى الأرض آثار صالحة ، ولم يكن يصعد إلى الله منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض».

وأخرج الترمذي فى (التفسير ـ سورة الدخان ح ٣٢٥٥) وأبو يعلى فى مسنده (٤ / ١٥٧) والبغوي فى التفسير (٧ / ٢٣٢) والخطيب فى تاريخ بغداد (٨ / ٣٢٧) عن أنس بن مالك مرفوعا : «ما من مؤمن إلا وله بابان ، باب يصعد منه عمله ، وباب ينزل منه رزقه ، فإذا مات بكيا عليه ، ذلك قوله عزوجل : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) ، قال الترمذي : حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه». وانظر مجمع الزوائد ٧ / ١٠٥.

(٤) على الاستفهام. عزاها أبو حيان لابن عباس رضي الله عنه ، انظر البحر المحيط ٨ / ٣٨.

٢٨٧

(وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ) أي : بنى إسرائيل (عَلى عِلْمٍ) أي : عالمين بأنهم أحقاء بالاختيار ، أو عالمين بأنهم يزيغون فى بعض الأوقات ، ويكثر منهم الفرطات ، فلم يؤثر ذلك فى سوابق علمنا ، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر فى الرعايات ، (عَلَى الْعالَمِينَ) أي : عالمى زمانهم ، لما كثر فيهم من الأنبياء ، (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ) ، كفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وغيرها من عظائم الآيات ، (ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ) ؛ نعمة ظاهرة ، أو : اختبار ظاهر ، لينظر كيف يعملون ، وقيل : البلاء المبين هو المطالبة بالشكر عند الرّضا ، والصبر عند الكدر والعناء.

الإشارة : كم ترك أهل الغفلة والاغترار ، من جنات وعيون ، وزروع ومقام كريم ، من قصور وديار ، فارقوها ، أخصب ما كانوا فيها ، وأزعجوا عنها أحوج ما كانوا إليها ، استبدلوا سعة القصور بضيق اللحود والقبور ، ومحاسن الملابس والتيجان بعصائب الخرق والأكفان ، فيا من ركن إلى الدنيا ، انظر كيف تفعل بأهلها ، فرحم الله عبدا أخذ من الدنيا الكفاف ، وصاحب فيها العفاف ، وتزود للرحيل ، وتأهب للمسير.

ذكر الطرطوسي فى كتابه «سراج الملوك» : قال أبو عبد الله بن حمدون : كنت مع المتوكل ، لما خرج إلى دمشق ، فركب يوما إلى رصافة «هشام بن عبد الملك» فنظر إلى قصورها خاوية ، ثم خرج فنظر إلى دير هناك قديم ، حسن البناء ، بين مزارع وأشجار ، فدخله ، فبينما هو يطوف به ، إذ بصر برقعة قد التصقت بصدره ، فأمر بقلعها ، فإذا فيها مكتوب هذه الأبيات :

أيا منزلا بالدّير أصبح خاليا

تلاعب فيه شمأل ودفور

كأنّك لم يسكنك بيض نواعم

ولم يتبختر فى قبابك حور

وأبناء أملاك غواشم سادات

صغيرهم عند الأنام كبير

إذا لبسوا أدراعهم ؛ فعوابس

وإن لبسوا تيجانهم فبدور

على أنّهم يوم اللّقاء ضراغم

وأنّهم يوم النّوال بحور

ليالى هشام بالرّصافة قاطن

وفيك ابنه يا دير وهو أمير.

إلى أن قال :

بلى فسقاك الغيث صوب سحائب

عليك بها بعد الرّواح بكور

تذكّرت قومى فيكما فبكيتهم

بشجو ومثلى بالبكاء جدير

فعزيت نفسى وهى نفس إذا جرى

لها ذكر قومى أنّة وزفير

٢٨٨

فلما قرأها المتوكّل ارتاع ، ثم دعا صاحب الدير ، فسأله : من كتبها؟ فقال : لا علم لى ، وانصرف ه. ومن هذا القبيل ما وجد مكتوبا على باب «كافور الإخشيدى» بمصر :

انظر إلى عبر الأيّام ما صنعت

أفنت أناسا بها كانوا وما فنيت

ديارهم ضحكت أيّام دولتهم

فإذا خلت منهم صاحتهم وبكت

ومن هذا أيضا ما وجد على قصر «ذى يزن» مكتوبا :

باتوا على قلل الأجبال تحرسهم

غلب الرّجال فلم تمنعهم القلل

واستنزلوا من أعالى عز معقلهم

فأسكنوا حفرا ، يا بئس ما نزلوا

أين الوجوه التي كانت محجّبة

من دونها تضرب الأستار والكلل؟

فأفصح القبر عنهم حين سائلهم

تلك الوجوه عليها الدود تقتبل

قد طال ما أكلوا دهرا وما شربوا

فأصبحوا بعد طول الأكل قد أكلوا

وحاصل الدنيا ما قال الشاعر :

ألا إنّما الدنيا كأحلام نائم

وما خير عيش لا يكون بدائم (١)؟!

تأمّل إذا ما نلت بالأمس لذّة

فأفينتها هل أنت إلا كحالم؟!

هذه فكرة اعتبار ، وأما فكرة استبصار ، فما ثمّ إلا تصرفات الحق ، ومظاهر أسرار ذاته ، وأنوار صفاته ، ظهرت فى عالم الحكمة بالأشكال والرّسوم ، وأما فى عالم القدرة فما ثمّ إلا الحي القيوم.

تجلّى حبيبى فى مرائى جماله

ففى كلّ مرئىّ للحبيب طلائع

فلمّا تبدّى حسنه متنوّعا

تسمّى بأسماء فهن مطالع (٢)

وقوله تعالى : (فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ) يفهم منه : أن من عظم قدره تبكى على فقده السموات والأرض ومن فيهن ، فى عالم الحس ، الذي هو عالم الأشباح ، وتفرح به أهل السموات السبع فى عالم الأرواح ؛

__________________

(١) ورد : وكلّ نعيم فيها ليس بدائم.

(٢) البيتان للجيلى. انظر : النادرات العينية / ٦٩.

٢٨٩

لتخلصه إليها ، فيستبشر بقدومه كلّ من هنالك ، وينظر الله إلى خلقه بعين الرّحمة ، فيرتحم ببركة قدومه الوجود بأسره. والله ذو الفضل العظيم.

وقوله تعالى : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ) قال القشيري : ويقال : على علم بمحبة قلوبهم لنا مع كثرة ذنوبهم فينا ، ويقال : على علم بما نودع عندهم من أسرارنا ، ونكاشفهم به من حقائق حقنا.

وقال الورتجبي : (وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ) أي : على علم بصفاتنا ، ومعرفة بذاتنا ، ومشاهدة على أسرارنا ، وبيان على معرفة العبودية والرّبوبية ، ودقائق الخطرات والقهريات واللطيفات فى زمان المراقبات. ه.

وقال الواسطي : اخترناهم على علم منا بجنايتهم ، وما يقترفون من أنواع المخالفات ، فلم يؤثر ذلك فى سوابق علمنا لهم ، ليعلم أن الجنايات لا تؤثر فى الرّعايات. وقال الجرّار : علمنا ما أودعنا فيهم من خصائص سرنا ، فاخترناهم بعلمنا على العالمين. ه. قلت : والمقصود بالذات : بيان أن اختياره ـ تعالى ـ مرتب على سابق علمه الأزلى ، وعلمه ـ تعالى ـ لا تغيره الحوادث ، وقد انقطعت دولة بنى إسرائيل ، فما بقي الكلام إلا مع الملة المحمدية.

ثم ردّ على من أنكر البعث ، بعد أن ذكر بعض أشراطه ، كالدخان وغيره ، فقال :

(إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (٣٤) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (٣٥) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٣٦) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (٣٧) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (٣٨) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٣٩))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ هؤُلاءِ) يعنى كفار قريش ؛ لأن الكلام معهم ، وقصة فرعون مسوقة للدلالة على مماثلتهم فى الإصرار على الضلالة ، والتحذير من حلول مثل ما حلّ بهم ، (لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى) أي : ما العاقبة ونهاية الأمر إلا الموتة الأولى ، المزيلة للحياة الدنيوية ، ولا قصد فيه لإثبات موتة أخرى ، كقولك : حج زيد الحجة الأولى ومات ، أو : ما الموتة التي تعقبها حياة إلا الموتة الأولى ، التي تقدمت وجودنا ، كقوله : (وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ) (١) كأنهم لما قيل لهم : إنكم تموتون موتة تعقبها حياة ، كما تقدمتكم كذلك ، أنكروها ، وقالوا : ما هى إلا موتتنا الأولى ، وأما الثانية فلا حياة تعقبها ، أو : ليست الموتة إلا هذه الموتة ، دون الموتة

__________________

(١) من الآية ٢٨ من سورة البقرة.

٢٩٠

التي تعقب حياة القبر كما تزعمون ، (وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ) ؛ بمبعوثين ، (فَأْتُوا بِآبائِنا) ، خطاب لمن كان بعدهم النّشر ، من الرّسول والمؤمنين ، (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي : إن صدقتم فيما تقولون ، فعجّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربكم ، حتى يكون دليلا على أن ما تعدونه من البعث حق.

قيل : كانوا يطلبون أن ينشر لهم قصىّ بن كلاب ، ليشاوروه ، وكان كبيرهم ومفزعهم فى المهمات ، قال تعالى : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) ، ردّ لقولهم وتهديد لهم ، أي : أهم خير فى القوة والمنعة ، اللتين يدفع بهما أسباب الهلاك ، أم قوم تبع الحميرى؟ وكان سار بالجيوش حتى حيّر الحيرة ، وبنى سمرقند ، وقيل : هدمها ، وكان مؤمنا وقومه كافرين ، ولذلك ذمهم الله ـ تعالى ـ دونه ، وكان يكتب فى عنوان كتابه : بسم الله الذي ملك برا وبحرا ومضحا وريحا.

قال القشيري : كان تبع ملك اليمن ، وكان قومه فيهم كثرة ، وكان مسلما ، فأهلك الله قومه على كثرة عددهم وكمال قوتهم. ه. روى عنه عليه‌السلام أنه قال : «لا تسبوا تبعا فإنه كان مؤمنا» (١) ه. وقيل : كان نبيا ، وفى حديث أبى هريرة عنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : «لا أدرى تبعا كان نبيا أو غير نبى» (٢).

وذكر السهيلي : أن الحديث يؤذن بأنه واحد بعينه ، وهو ـ والله أعلم ـ أسعد أبو كرب ، الذي كسا الكعبة بعد ما أراد غزوه ، وبعد ما غزا المدينة ، وأراد خرابها ، ثم انصرف عنها ، لما أخبر أنها مهاجر نبى اسمه «أحمد» وقال فيه شعرا ، وأودعه عند أهلها ، فكانوا يتوارثونه كابرا عن كابر ، إلى أن هاجر النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فأدوه إليه. ويقال : كان الكتاب والشعر عند أبى أيوب الأنصاري ، حتى نزل عليه النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدفعه إليه ، وفى الكتاب الشعر ، وهو :

شهدت على أحمد (٣) أنه

رسول من الله بارى النّسم

فلو مدّ عمرى إلى عمره

لكنت وزيرا له وابن عم

وألزمت طاعته كلّ من

على الأرض ، من عرب وعجم

ولكن قولى له دائما

سلام على أحمد فى الأمم

__________________

(١) أخرجه الإمام أحمد (٥ / ٣٤٠) والبغوي فى التفسير (٧ / ٢٣٤) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (٥ / ٧٥٠) للطبرانى وابن أبى حاتم وابن مردويه ، من حديث سهل بن سعد ، وقال ابن حجر فى الكافي الشاف (ص / ١٤٨) : «وفيه ابن لهيعة عن عمرو بن جابر ، وهما ضعيفان».

(٢) أخرجه الحاكم (١ / ٣٦) والبيهقي فى السنن (٨ / ٣٢٩) والبغوي فى التفسير (٧ / ٢٣٥) وعزاه الحافظ ابن حجر فى الكافي (ص ١٤٨) للثعلبى ، من حديث أبى هريرة ، رضي الله عنه ، والحديث صحّحه الحاكم ووافقه الذهبي.

(٣) كلمة «أحمد» ممنوعة من الصرف هذا ، وصرفت هنا لضرورة الشعر.

٢٩١

وذكر الزجاج وابن أبى الدنيا : أنه حفر قبر بصنعاء فى الإسلام ، فوجد فيه امرأتان ، وعند رؤوسهما لوح من فضة ، مكتوب فيه بالذهب اسمهما ، وأنهما بنتا تبع ، تشهدان ألا إله إلا الله ، ولا تشركان به شيئا ، وعلى ذلك مات الصالحون قبلهما. ه (١). ويقال لملوك اليمن : التبابعة ؛ لأنهم يتبعون ، ويقال لهم : الأقيال لأنهم يتقيلون. ه.

(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) : عطف على «قوم تبع» ، والمراد بهم عاد وثمود ، وأضرابهم من كلّ جبار عنيد ، أولى بأس شديد ، (أَهْلَكْناهُمْ) بأنواع من العذاب (إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ) ، تعليل لإهلاكهم ، ليعلم أن أولئك حيث أهلكوا بسبب إجرامهم مع ما كانوا عليه من غاية القوة والشدة ، فكان مهلك هؤلاء ـ وهم شركاؤهم فى الإجرام ، مع كونهم أضعف منهم فى الشدة والقوة ـ أولى.

قال الطيبي : لما أنكر المشركون الحشر ، بقولهم : (إن هى إلا موتتنا الأولى) وبّخهم بقوله : (أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ) إيذانا بأن هذا الإنكار ليس عن حجة قاطعة ودليل ظاهر ، بل عن مجرد حب العاجلة ، والتمتع بملاذ الدنيا ، والاغترار بالمال والمآل والقوة والمنعة ، أي : كما فعل بمن سلك قبلهم من الفراعنة والتبابعة حتى هلكوا ، كذلك يفعل بهؤلاء إن لم يرتدعوا.

ثم قرر أن الحشر لا بد منه بقوله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) أي : بين الجنسين ، (لاعِبِينَ) ؛ لاهين من غير أن يكون فى خلقهما غرض صحيح ، وغاية حميدة ، جلّ جناب الجلال عن ذلك ، (ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ) أي : ما خلقناهما ملتبسا بشىء من الأشياء إلا ملتبسا بالحق ، أو : ما خلقناهما بسبب من الأسباب إلا بسبب الحق ، الذي هو الإيمان والطاعة فى الدنيا ، والبعث والجزاء فى العقبى.

قال الطيبي : وقد سبق مرارا : أنه ما خلقهما إلا ليوحّد ويعبد ، ثم لا بد أن يجزى المطيع والعاصي ، وليست هذه دار الجزاء. وقال ابن عرفه : قوله : (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : إلا مصاحبين للدلالة على النّشأة الآخرة ، وهى حق. ه. (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنهن خلقن لذلك ، بل عبثا ، تعالى الله عن ذلك.

الإشارة : كانت الجاهلية تنكر البعث الحسى ، والجهلة اليوم ينكرون البعث المعنوي ، ويقولون : إن هى إلا موتتنا الأولى ، أي : موت قلوبنا وأرواحنا بالجهل والغفلة ، فكيف يكون الرّجل منهمكا فى المعاصي ، ميت القلب ، ثم ينقذه الله ويحييه بمعرفته ، حتى يصير وليا من أوليائه «من استغرب أن ينقذه الله من شهوته ، وأن يخرجه من

__________________

(١) ذكره القرطبي (٧ / ٦١٥١).

٢٩٢

وجود غفلته ، فقد استعجز قدرة الإلهية ، وكان الله على كلّ شىء مقتدرا» (١) أهم خير أم قوم تبع؟ وقد أخرج الله من قومه أنصار نبيه صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، وكانوا من خواص أحبابه ، حتى قال : «الناس دثار والأنصار شعار ، لو سلك النّاس واديا أو شعبا ، وسلكت الأنصار واديا ، لسلكت وادي الأنصار وشعبهم» (٢). وما خلقنا الأجرام العظام إلا لتدل على كمال قدرتنا ، والسّلام.

ثم ذكر شأن البعث الذي أنكرته الجاهلية ، فقال :

(إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (٤٠) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (٤١) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (٤٢) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (٤٣) طَعامُ الْأَثِيمِ (٤٤) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (٤٥) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (٤٦) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (٤٧) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (٤٨) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (٤٩) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (٥٠))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ) أي : فصل الحق عن الباطل ، وتمييز المحق من المبطل ، أو فصل الرّجل عن أقاربه وأحبابه ، وهو يوم القيامة ، (مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ) أي : وقت موعدهم كلهم ، (يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً) ؛ لا يغنى ناصر عن ناصر ، ولا حميم عن حميم ، ولا نسب عن نسيب ، شيئا من الإغناء.

قال قتادة : انقطعت الأسباب يومئذ بابن آدم ، وصار النّاس إلى أعمالهم ، فمن أصاب يومئذ خيرا ، سعد به ، ومن أصاب يومئذ شرا شقى به (٣). ه. و (يَوْمَ) : بدل من يوم الفصل ، أو : صفة لميقاتهم ، أو : ظرف لما دلّ عليه الفصل ، أي : يفصل فى هذا اليوم ، (وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ) ؛ يمنعون مما أراد الله ، والضمير ل «مولى»

__________________

(١) حكمة عطائية. انظر الحكم بتبويب المتقى الهندي ، (ص ١٨ ، حكمة ١٩٧).

(٢) أخرجه مطولا البخاري فى (المغازي ، باب غزوة الطائف ، ح ٤٣٣٠) ومسلم فى (الزكاة ، باب إعطاء المؤلفة قلوبهم على الإسلام .. رقم ١٠٦١ ح ٩١٣٩ من حديث عبد الله بن زيد ، والشعار هو : الثوب الذي يلى الجسد ، والدثار فوقه ، ومعنى الحديث : الأنصار هم البطانة والخاصة ، وألصق النّاس بي من سائر للناس.

(٣) أخرجه الطبري ، وزاد السيوطي عزوه فى الدر (٥ / ٧٥١) لعبد بن حميد.

٢٩٣

باعتبار المعنى ، لأنه عام ، وقوله : (إِلَّا مَنْ رَحِمَ) ؛ بدل من الواو فى «ينصرون» ، أي : لا يمنع من العذاب إلا من رحم الله ، بالعفو عنه ، أو بقبول الشفاعة فيه ، أو : منصوب على الاستثناء المنقطع ، أو : مرفوع على الابتداء ، أي : لكن من رحم (اللهُ) فيغنى عنه (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) ؛ الغالب ، الذي لا ينصر من أراد تعذيبه ، (الرَّحِيمُ) لمن أراد أن يرحمه.

(إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ) ، هى على صورة شجرة الدنيا ، لكنها من النّار ، والزقوم تمرها ؛ وهو كلّ طعام ثقيل. روى : أنها لما نزلت ، جمع أبو جهل عجوة وزبدا ، وقال لأصحابه : تزقموا ، فهذا هو الزقوم ، وهو طعامى الذي حدّث به محمد (١) ، قصد بذلك المغالطة والتلبيس على الجهلة. أي : إن ثمر شجرة الزقوم هو (طَعامُ الْأَثِيمِ) أي : الكثير الإثم ، وهو الكافر ؛ لدلالة ما قبله وما بعده عليه. وقيل : نزلت فى أبى جهل ، ثم تعم. وكان أبو الدرداء يقرئ رجلا ، فكان أبو الدرداء يقول : طعام الأثيم ، والرّجل يقول : طعام اليتيم ، فكرر عليه ، فلم يفهم منه ؛ فقال : «طعام الفاجر يا هذا (٢)». قال النّسفى : وبهذا يستدل على أن إبدال الكلمة مكان الكلمة جائز ، إذا كانت مؤدّية معناها ، ومنه أجاز أبو حنيفة رضي الله عنه القراءة بالفارسية ، بشرط أن يؤدى القارئ المعاني كلها ، من غير أن يخرم منها شيئا (٣). انظر بقيته.

(كَالْمُهْلِ) ، وهو دردّىّ الزيت (٤) ، أو : ما يمهل فى النّار فيذوب ، من نحاس وغيره ، (يَغْلِي فِي الْبُطُونِ) ؛ من قرأه بالغيب (٥) رده للمهل ، أو للطعام ، ومن قرأه بالتاء رده للشجرة ، (كَغَلْيِ الْحَمِيمِ) ؛ الماء الحار الذي انتهى غليانه ، أي : غليان كغلى الحميم ، فالكاف فى محل نصب ، ثم يقال للزبانية : (خُذُوهُ) أي : الأثيم (فَاعْتِلُوهُ) أي : جروه ، فالعتل : الأخذ بمجامع الشيء والسّوق بالعنف والقهر ، يقال : عتل يعتل بالضم والكسر ، أي : جروه (إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ) ؛ وسطها ومعظمها.

__________________

(١) أخرج سعيد بن منصور عن أبى مالك قال : «إن أبا جهل كان يأتى بالتمر والزبد ، فيقول : تزقموا بهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد ، فنزلت : (إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ)» انظر الدر المنثور (٥ / ٧٥٢).

(٢) أخرجه الحاكم (٢ / ٤٥١) «وصحّحه وأقره الذهبي» والطبري (٢٥ / ١٣١) وزاد السيوطي عزوه فى الدر (٥ / ٧٥٣) لعبد الرّزاق وعبد بن حميد وابن المنذر ، عن همام بن الحارث.

(٣) قال أحمد بن المنير الإسكندرى فى الانتصاف : لا دليل فيه لذلك ، وقول أبى الدرداء محمول على إيضاح المعنى ، ليكون وضوح المعنى عند المتعلم عونا على أن يأتى بالقراءة كما أنزلت ، وعلى هذا حمله القاضي أبو بكر فى الانتصار. (حاشية الكشاف ٤ / ٢٨١). وانظر أيضا : تفسير القرطبي ٧ / ٦١٥٤).

(٤) الدردي : ما رسب أسفل الزيت ونحوه.

(٥) قرأ ابن كثير وحفص : (يغلى) بالياء على التذكير ، والباقون «تغلى» بالتأنيث. انظر : الإتحاف (٢ / ٤٦٤).

٢٩٤

(ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ) ، المصبوب هو الحميم ، لا عذابه ، إلا أنه إذا صب عليه الحميم ، فقد صب عليه عذابه وشدته : والأصل : ثم صبوا فوق رأسه عذابا هو الحميم ، ثم أضيف العذاب إلى الحميم ؛ للمبالغة ، وزيد «من» للدلالة على أن المصبوب بعض هذا النّوع ، ويقال له : (ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ) على سبيل الهزؤ والتهكم ، روى أن أبا جهل قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم : ما بين جبليها أعز ولا أكرم منى ، فو الله لا تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئا (١) ، فتقول له الزبانية هذا على طريق الاستهزاء والتوبيخ. وقرأ الكسائي : «أنك» بالفتح (٢) ، أي : لأنك أنت العزيز فى قومك ، الكريم فى زعمك. (إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ) ؛ تشكّون ، وتمارون فيه ، والجمع باعتبار المعنى ؛ لأن المراد جنس الأثيم.

الإشارة : يوم الفصل هو اليوم الذي يقع فيه الانفصال بين درجة المقربين ، ومقام عامة أهل اليمين ، فيرتفع المقربون ، ويسقط الغافلون ، فلا يغنى صاحب عن صاحب شيئا ، ولا هم ينصرون من السقوط عن مراتب الرّجال ، فلا ينفع حينئذ إلا ما سلف من صالح الأعمال ، إلا من رحم الله ، ممن تعلق بالمشايخ الكبار ، من المريدين ، فإنهم يرتفعون معهم بشفاعتهم. وشجرة الزقوم هى شجرة المعصية ؛ فإنها تغلى فى البطون ، وتعوق عن الوصول ، فقد قالوا : من أكل الحرام عصى الله ، أحبّ أم كره ، ومن أكل الحلال أطاع الله ، أحبّ أم كره ، فيقال : خذوه فادفعوه إلى سواء الجحيم ، وهى نار القطيعة والبعد ، ثم صبوا فوق رأسه من هموم الدنيا ، وشغب الخوض والخواطر ، ذق إنك أنت العزيز الكريم ، ولو كنت ذليلا خاملا لنلت العز والكرامة. وبالله التوفيق.

ثم شفع بضدهم ، فقال :

(إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (٥١) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (٥٢) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (٥٣) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (٥٤) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (٥٥) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (٥٦) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (٥٧) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥٨) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (٥٩))

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٥ / ١٣٤) وعزاه السيوطي فى الدر (٥ / ٧٥٣) لعبد الرّزّاق ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، عن قتادة.

(٢) على العلة ، وقرأ الباقون بكسرها .. انظر الاتحاف ٢ / ٤٦٤.

٢٩٥

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ) ، بضم الميم (١) : مصدر ، أي : فى إقامة حسنة ، وبالفتح : اسم مكان ، أي : فى مكان كريم ، وأصل المقام ، بالفتح : موضع القيام ، ثم عمم واستعمل فى جميع الأمكنة ، حتى قيل لموضع القعود : مقام ، وإن لم يقم فيه أصلا ، ويقال : كنا فى مقام فلان ، أي : مجلسه ، فهو من الخاص الذي وقع مستعملا فى معنى العموم ، وقوله : (أَمِينٍ) : وصف له ، أي : يأمن صاحبه الآفات والانتقال عنه ، وهو من الأمن ضد الخيانة ، وصف به المكان مجازا ، لأن المكان المخيف يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.

وقوله : (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ) : بدل من «مقام» جىء به دلالة على نزاهته واشتماله على طيبات المآكل والمشارب ، (يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ) ، وهو ما رقّ من الديباج ، (وَإِسْتَبْرَقٍ) ؛ ما غلظ منه ، وهو معرّب ، والجملة إما حال ، أو استئناف ، حال كونهم (مُتَقابِلِينَ) فى مجالسهم ، يستأنس بعضهم ببعض ، (كَذلِكَ) أي : الأمر كذلك ، قيل : المعنى فيه أنه لم يستوف الوصف ، وأنه بمثابة ما لا يحيط به الوصف ، فكأنه قال : الأمر نحو ذلك وما أشبهه ، وليس بعين الوصف وتحققه.

(وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ) أي : قرنّاهم وأصحبناهم ، ولذلك عدى بالباء. قال القشيري : وليس فى الجنة عقد نكاح ولا طلاق ، بل تمكن الولىّ من هذه الألطاف بهذه الأوصاف ه. والحور : جمع حوراء ، وهى الشديدة سواد العين ، والشديدة بياضها ، والعين : جمع عيناء ، وهى الواسعة العين ، واختلف فى أنها نساء الدنيا أو غيرها.

(يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ) أي : يطلبون ويأمرون بإحضار ما يشتهونه من الفواكه ، لا يختص بزمان ولا مكان ، (آمِنِينَ) من زواله وانقطاعه ، ومن ضرره عند الإكثار منه ، أو : من كلّ ما يسوءهم ، (لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ) أصلا ، بل يستمرون على الحياة الأبدية ، (إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) ؛ سوى الموتة الأولى ، التي ذاقوها ، أو : لكن الموتة الأولى قد ذاقوها فى الدنيا ، فالاستثناء منقطع ، أو متصل على أن المراد استحالة ذوق الموت إلا إذا كان يمكن ذوق الموتة الأولى حينئذ ، وهو محال ، على نمط قوله : (إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ) (٢).

(وَوَقاهُمْ) ربهم (عَذابَ الْجَحِيمِ ، فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ) أي : أعطوا ذلك كله عطاء وتفضلا منه ـ تعالى ؛ إذ لا يجب عليه شىء ، فهو مفعول له ، أو مصدر مؤكد لما قبله ، لأن قوله : (وَقاهُمْ) فى معنى تفضل عليهم ، (ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) الذي لا فوز وراءه ؛ إذ هو خلاص من جميع المكاره ، ونيل لكلّ المطالب.

__________________

(١) قرأ نافع وابن عامر وأبو جعفر بضم الميم الأولى فى «مقام» بمعنى الإقامة ، وقرأ الباقون بفتحها ، موضع الإقامة.

(٢) من الآية ٢٢ من سورة النّساء.

٢٩٦

(فَإِنَّما يَسَّرْناهُ) أي : الكتاب ، وقد جرى ذكره فى أول السورة ، أي : سهّلنا قراءته (بِلِسانِكَ) ، بلغتك (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) أي : كى يفهموه ويتعظوا به ، ويعملوا بموجبه ، فلم يفعلوا ، (فَارْتَقِبْ) ؛ فانظر ما يحلّ بهم ، (إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ) ما يحلّ بك. قال القشيري : فارتقب العواقب ترى العجائب ، إنهم مرتقبون ، ولكن لا يرون إلا ما يكرهون. ه.

الإشارة : إن المتقين شهود ما سوانا فى مقام العرفان ، وهو مقام المقربين ، وهو محل الأمن والأمان ، فى جنات المعارف ، وعيون العلوم والحكم ، يلبسون من أسرار الحقيقة وأنوار الشريعة ، ما تبتهج به بواطنهم وظواهرهم ، متقابلين فى المقامات ، يجمعهم الفناء والبقاء ، ويتفاوتون فى اتساع المقامات والأسرار ، تفاوت أهل غرف الجنان ، كذلك ، أي : الأمر فوق ما تصف ، وزوجانهم بعرائس المعرفة ، لا يذوقون فى جنات المعارف ـ إذا دخلوها ـ الموت أبدا إلا الموتة الأولى ، وهى موت نفوسهم ، فحييت أرواحهم حياة أبدية ، وأما الموت الحسى فإنما هو انتقال من عالم إلى عالم ، ومن مقام إلى مقام ، ووقاهم ربهم عذاب الجحيم ، فضلا منه وإحسانا ، خلق فيهم المجاهدة ، ومنّ عليهم بالمشاهدة.

وقال الورتجبي بعد كلام : إذا أحضرهم ـ تعالى ـ فى ساحة كبريائه ، ويتجلى لهم بالبديهة من غير الجبّارية والقهّارية ؛ يكونون فى محل الفناء ، وفى فناء الفناء ، وغلبات سطوات ألوهيته ، فإذا صاروا فانين ، ألبسهم الله لباس بقائه ، فيبقون ببقائه أبد الآبدين ، فإذا الاستثناء وقع على التحقيق ، لا على التأويل ، فياربّ موت هناك ، ويا ربّ حياة هناك ؛ لأن الحدث لا يستقيم عند بروز حقائق بواطن القدم ، ألا ترى إلى إشارة النّبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كيف قال : «حجابه النور ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه» (١) أي : فيتلاشى الخلق ويبقى الحق.

قيل للجنيد : أهل الجنة باقون ببقاء الحق؟ فقال : لا ، ولكنهم مبقون ببقاء الحق ، والباقي على الحقيقة من لم يزل ، ولا يزال باقيا. ه.

والحاصل : أنه لا عدم بعد وجودهم بالله ، ولا يكون إلا بعد الفناء عن أوصاف الخليقة ، ووجود البشرية ، بالاندراج فى وجود الحق ، ثم الحياة بحياته ، والبقاء ببقائه أبدا ، قاله فى الحاشية الفاسية. والفرق بين الباقي والمبقى فى كلام الجنيد : أن الباقي يدلّ على ثبوت بقائه مستقلا ، بخلاف المبقى ، لا وجود لبقائه ، بل مبقى ببقاء غيره.

__________________

(١) سبق تخريج الحديث الشريف ، انظر (٤ / ١٧٨).

٢٩٧

وقال فى قطب العارفين ، لمّا تكلم على التقوى : التقوى مطرد فى وجوه كثيرة ، تقوى الشرك ، ثم تقوى المعصية ، ثم تقوى فضل المباح ، ثم تقوى كلّ ما يسترق القلوب عن الله تعالى ، وإلى هذا الصنف الإشارة بسر قوله تعالى (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ...) الآية. ه. وعنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «من قرأ سورة الدخان فى ليلة أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك» (١) ذكره فى الجامع ، وفى فضلها أحاديث ، تركتها.

__________________

(١) أخرجه الترمذي فى (فضائل القرآن ، باب ما جاء فى فضل «حم الدخان» ح ٢٨٨٨) وقال : «هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه ، وعمر بن أبى خثعم يضعف». وأخرجه ابن السنى فى عمل اليوم والليلة (باب ما يستحب أن يقرأ فى اليوم والليلة) والبيهقي فى الشعب (الباب التاسع عشر ، فصل فى فضائل السور ، ح ٢٤٧٥) والبغوي فى التفسير (٧ / ٢٣٨) وابن عدى فى الكامل (٥ / ٢٧٢٠) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.

٢٩٨

سورة الجاثية

مكية ، وقيل : إلا قوله : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا ..) إلخ. وهى سبع وثلاثون آية. ووجه مناسبتها : قوله : (فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ) (١) مع قوله : (تَنْزِيلُ الْكِتابِ) أي : فالذى يسرناه بلسانك هو منزل من الله ، الغالب على أمره.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (٢) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (٣) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (٤) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٥) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (٦))

قلت : (واختلاف الليل والنّهار ...) الآية ؛ فيها العطف على عاملين ،. سواء نصبت «آيات» أو رفعتها ، فالعاملان إذا نصبت «إن» و «فى» أقيمت الواو مقامهما ، فعملت الجر فى (واختلاف) والنّصب فى (آيات) ، وإذا رفعت فالعاملان الابتداء ، وحرف «فى» عملت الواو الرّفع فى «آيات» والجرّ فى «واختلاف» وهذا مذهب الأخفش ، فإنه يجوّز العطف على عاملين ، وأما سيبويه فلا يجيزه ، وتخريج الآية عنده : أن يكون على إضمار «فى» ، والذي حسّنه : تقديم ذكر «فى» فى الآيتين قبله ، ويؤيده : قراءة ابن مسعود رضي الله عنه : (وفى اختلاف الليل والنّهار) وفيها أوجه أخر.

يقول الحق جل جلاله : (حم) ؛ يا حبيب يا مجيد هذا (تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) ، فكونه من الله عزوجل دلّ أنه حق وصدق وصواب ، وكونه من العزيز دلّ أنه معجز ، يغلب ولا يغلب ، وكونه من الحكيم دلّ أنه مشتمل على الحكم البالغة ، وأنه محكم فى نفسه ، ينسخ ولا ينسخ.

ثم برهن على عزته ، وباهر حكمته ، فقال : (إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ إما فى نفس السموات والأرض ؛ فإن فى شكلهما من بدائع وفنون الحكم ما يقصر عنه البيان ، وإما فى خلقهما وإظهارهما ، كما فى قوله تعالى : (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) ، (لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ) ؛ لدلالات على وحدانيته تعالى لأهل الإيمان ،

__________________

(١) الآية ٥٨ من سورة الدخان.

(٢) الآية ١٩٠ من سورة آل عمران.

٢٩٩

وهو الأوفق بقوله : (وَفِي خَلْقِكُمْ) أي : من نطفة ثم من علقة متقلبة من أطوار مختلفة إلى تمام الخلق ، (وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ) : عطف على المضاف دون المضاف إليه ، أي : وفى خلق ما يبث ، أي : ينشر ويصرّف من دابة (آياتٌ) ظاهرة على باهر قدرته وحكمته ، (لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) أي : من شأنهم أن يوقنوا بالأشياء على ما هى عليه ، ويعرفوا فيها صانعها ، (وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) أي : تعاقبهما بالذهاب والمجيء ، أو : تفاوتهما طولا ، وقصرا ، (وَ) فى (ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ) ؛ مطر ؛ لأنه بسبب الرّزق ، فعبّر عن السبب بالمسبب ؛ لأنه نتيجته ، تنبيها على كونه آية من جهة القدرة والرّحمة ، (فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ) بأن أخرج أصناف الزرع والثمرات والنّبات (بَعْدَ مَوْتِها) أي : خلوها عن آثار الحياة وانتفاء قوة التنمية عنها ، وخلو أشجارها عن الثمار والأزهار.

(وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ) أي : هبوبها من جهة إلى أخرى ، ومن حال إلى حال ، وتأخيره عن نزول المطر مع تقدمه عليه فى الوجود ، إما للإيذان بأنه آية مستقلة ، ولو روعى الترتيب الوجودي لربما توهم أن مجموع تصريف الرياح ونزول المطر آية واحدة ، أو : لأن كون التصريف آية ليس مجرد كونه مبتدأ لإنشاء المطر ، بل له ولسائر المنافع ، التي من جملتها : سوق السفن فى البحار ، وإلقاح الأشجار ، (آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) ؛ يتدبرون بعقولهم ، فيصلون إلى صريح التوحيد. وفى تقديم الإيمان على الإيقان ، وتأخير تدبر العقل ؛ لأن العباد إذا نظروا فى السموات والأرض نظرا صحيحا ؛ علموا أنها مصنوعة ، وأنه لا بدّ لها من صانع ، فآمنوا بالله ، وإذا نظروا فى خلق أنفسهم ، وتنقلها من حال إلى حال ، وفى خلق ما ظهر على ظهر الأرض من صنوف الحيوان ازدادوا إيمانا وأيقنوا ، فإذا نظروا فى سائر الحوادث التي تتجدد فى كلّ وقت ، كتعاقب الليل والنّهار ، ونزول الأمطار ، وحياة الأرض بعد موتها ، وتصريف الرّياح ، جنوبا وشمالا ، ودبورا وصبا ، عقلوا ، واستحكم فى عقولهم ، وخلص يقينهم ، فكانوا من ذوى الألباب.

(تِلْكَ آياتُ اللهِ) ؛ مبتدأ وخبر ، و (نَتْلُوها عَلَيْكَ) حال ، والعامل : معنى الإشارة ، أي : تلك الآيات المتقدمة هى آيات الله الدالة على وجوب وجوده واتصافه بأوصاف الكمال ، حال كونها متلوة عليك ، ملتبسة (بِالْحَقِ) أو : نتلوها محقين فى ذلك ، فالجار والمجرور : حال من المفعول أو الفاعل. (فَبِأَيِّ حَدِيثٍ) من الأحاديث (بَعْدَ اللهِ وَآياتِهِ) أي : بعد آيات الله ، كقولك : أعجبنى زيد وكرمه ، أي : أعجبنى كرم زيد ، أو : بعد حديث الله ، الذي هو القرآن ، وآياته العامة فى كلّ شىء ، فيكون على حذف مضاف ، أو : يراد بها القرآن أيضا ، والعطف للتغاير العنواني ، فالأول من جهة كونه حديثا حسنا ، والثاني باعتبار كونه معجزا ، أي : فبأى حديث بعد أحسن الحديث وأبهر الآيات (يُؤْمِنُونَ) ؛ يصدّقون؟! ومن قرأ بالخطاب (١) يقدر : قل يا محمد.

__________________

(١) قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب «يؤمنون» بالتاء ، وقرأ الباقون بالغيب. انظر الإتحاف (٢ / ٤٦٦).

٣٠٠