البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

أحمد بن محمد بن عجيبة

البحر المديد في تفسير القرآن المجيد - ج ٥

المؤلف:

أحمد بن محمد بن عجيبة


المحقق: أحمد عبدالله القرشي رسلان
الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٣٩

ثم وعد أهل الحق بالنصر ، فقال :

(إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (٥١) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (٥٢))

يقول الحق جل جلاله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) بالحجّة والظفر ، والانتقام لهم من الكفرة ، بالاستئصال ، والقتل ، والسبي ، وغير ذلك من العقوبات. ولا يقدح فى ذلك ما يتفق لهم من صورة الغلبة ، امتحانا ؛ إذ الحكم للغالب ، وهذا كقوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا ..) (١) الآية ، وقوله : (كَتَبَ اللهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي) (٢). والنّصر فى الدنيا إما بالسيف ، فى حق من أمر بالجهاد ، أو : بالحجة والإهلاك فيمن لم يؤمر به ، وبذلك يندفع قول من زعم تخصيص الآية أو تعميمها ، وإخراج زكريا ويحيى من الرّسالة ، وإن ثبت لهما النبوة لقتلهما ، وأن الآية ، إنما تضمنت نصر الرّسل دون الأنبياء ، فإنه خلاف لما صرّح به الجمهور من ثبوت الرسالة ليحيى ، ففى كلام ابن جزى هنا نظر. قاله المحشّى.

(وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ) أي : وننصرهم يوم القيامة ، عبّر عنه بذلك للإشعار بكيفية النّصرة ، وأنها تكون حين يجتمع الأولون والآخرون ، ويحضره الأشهاد من الملائكة وغيرهم ، فيشهدون للأنبياء بالتبليغ ، وعلى الكفرة بالتكذيب. قال النّسفى : الأشهاد جمع شاهد ، كصاحب وأصحاب ، يريد : الأنبياء والحفظة ، فالأنبياء يشهدون عند رب العزة على الكفرة بالتكذيب ، والحفظة يشهدون على بنى آدم. ه.

(يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ) : هو بدل من (يَوْمَ يَقُومُ) أي : لا يقبل عذرهم ، ومن قرأ بالتأنيث (٣) فباعتبار لفظ المعذرة ، (وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ) أي : البعد من الرّحمة ، (وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ) أي : سوء دار الآخرة ، وهو عذابها.

الإشارة : كما نصرت الرّسل بعد الامتحان ، نصرت الأولياء بعد الامتحان والامتكان. قال الشاذلى رضي الله عنه : اللهم إنّ القوم قد حكمت عليهم بالذلّ حتى عزوا .. إلخ. وهم داخلون فى قوله : (وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ،

__________________

(١) من الآية ١٧١ من سورة الصفات.

(٢) من الآية ٢١ من سورة المجادلة.

(٣) قرأ (يَوْمَ لا يَنْفَعُ) بالتذكير نافع ، وعاصم ، وحمزة ، والكسائي ، وقرأ الباقون يوم لا تنفع بالتاء. انظر الحجة للفارسى (٦ / ١١٥).

١٤١

ونصرتهم تكون أولا بالظفر بنفوسهم ، ثم بالغيبة عن حس الكائنات ، باتساع دائرة المعاني ، ثم بالتصرف فى الوجود بأسره بهمته. قال القشيري : ويقال : ينصرهم على أعدائهم بلطف خفىّ ، وكيد غير مرئىّ ، من حيث يحتسب أو لا يحتسب ، كما ينصرهم فى الدنيا على تحقيق المعرفة ، واليقين بأنّ الكائنات من الله. ثم قال : غاية النصرة أن يقتل النّاصر عدوّ من ينصره ، [فإذا رآه حقق له] (١) أنه لا عدو له فى الحقيقة ، وأنّ الخلق أشباح ، وتجرى عليهم أحكام القدرة ، فالولىّ لا عدوّ له ولا صديق ، ليس له إلا الله. قال الله تعالى : (اللهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا) (٢) ه. والنّصر فى الحقيقة هو التأييد عند التعرفات ، فإذا ابتلى الرّسول أو الولىّ أيّده الله باليقين ، ونصره بالمعرفة ، فيلقى ما ينزل عليه بالرضا والتسليم ، وتذكّر مالقى به الشاذلى حين دعا بالسلامة مما ابتلى به الرّسل ، متعللا بأنهم أقوى ، فقيل له : قل : وما أردت من شىء فأيّدنا كما أيدتهم. ه.

ثم وعد نبيه بالنصر ، كما نصر موسى وغيره ، فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (٥٣) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (٥٤) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٥٥) إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (٥٦))

يقول الحق جل جلاله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى) ؛ ما يهتدى به من المعجزات ، أو الشرائع والصحف. (وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ) أي : تركنا فيهم التوراة ، يرثه بعضهم من بعض ، أو : جنس الكتاب ، فيصدق بالتوراة والإنجيل والزبور ؛ لأنّ المنزّل عليه منهم. قال الطيبي : فيه إشارة إلى أن ميراث الأنبياء ليس إلا العلم والكتاب الهادي ، الناطق بالحكمة والموعظة. ه. حال كون الكتاب (هُدىً وَذِكْرى) أي : هاديا ومذكّرا ، أو : إرشادا وتذكرة (لِأُولِي الْأَلْبابِ) ؛ لأولى العقول الصافية ، العالمين بما فيه ، العاملين به.

__________________

(١) عبارة القشيري : [فإذا أراد حتفه تحقق].

(٢) من الآية ٢٥٧ من سورة البقرة.

١٤٢

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) أي : فاصبر على ما يجرّعك قومك من الغصص (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بنصرك وإعلاء دينك ، على ما نطق به قوله تعالى : (وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ ، إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ) (١) ، (حَقٌ) لا يحتمل الاختلاف بحال. قال الطيبي : الآية تشير إلى نصره على أعدائه ، كموسى ، وأنه يظهر دينه على الدين كله ، ويورث كتابه ؛ ليعتصموا به ، فيكون لهم هدى وذكرى ، وعزا وشرفا. ه. أي : ولذلك قدّم ذكر موسى على بشارته بالنصر ؛ ليتم التشبيه.

(وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ) ، تشريعا لأمتك ؛ فإنّ الاستغفار يمحو الذنوب التي تعوق عن النّصر ، أو : تداركا لما فرط منك من ترك الأولى فى بعض الأحايين ، فإنّ حسنات الأبرار سيئات المقربين. والحاصل : أن كلّ مقام له ذنب يليق به ، وهو التقصير فى القيام به على ما يليق به ، فالنبى صلى‌الله‌عليه‌وسلم كلف بدوام الشهود ولو فى حال التعليم ، فإذا غاب عن الحق لحظة بشغل البال بالتعليم ، كان فى حقه نقصا يوجب الاستغفار. ثم قال : (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ) أي : دم على التسبيح ملتبسا بحمده ، أي : قل : سبحان الله وبحمده ، أو : صلّ فى هذين الوقتين ، إذ كان الواجب بمكة ركعتين بكرة وعشيا ، وقيل : هما صلاة العصر والفجر ، خصصهما لشرفهما.

(إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) ويجحدونها (بِغَيْرِ سُلْطانٍ) ؛ برهان (أَتاهُمْ) من جهته تعالى ، بل عنادا وحسدا. وتعليق المجادلة بذلك ، مع استحالة إتيانه ؛ للإيذان بأن التكلم فى أمر الدين لا بد من استناده إلى برهان ، وهذا عام لكلّ مجادل ، محق أو مبطل ، وإن نزل فى مشركى مكة. وقوله : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ) : خبر «إنّ» ، أي : ما فى قلوبهم إلا تكبر عن الحق ، وتعاظم عنه ، وهو إرادة التقدم والرّئاسة ، وألا يكون أحد فوقهم ، فلذلك عادوك ، ودفعوا آياتك ، خيفة أن تتقدمهم ، ويكونوا تحت قهرك ؛ لأن النّبوة تحتها كلّ ملك ورئاسة ، أو : إرادة أن تكون لهم النّبوة دونك ، حسدا وبغيا ، كقولهم : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (٢) ، (لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ) (٣).

ثم وصف كبرهم بقوله : (ما هُمْ بِبالِغِيهِ) أي : ما هم ببالغي موجب ذلك الكبر ومقتضاه ، وهو ما أرادوه من التقدم والرّئاسة ، وقيل : نزلت فى اليهود ، وهم المجادلون ، كانوا يقولون : لست صاحبنا المذكور فى التوراة ، بل هو المسيح بن داود ، يعنون الدجال ، يخرج فى آخر الزمان ، فيبلغ سلطانه البر والبحر ، وتسير معه الأنهار ، وهو آية من

__________________

(١) الآيات : ١٧١ ـ ١٧٣ من سورة الصافات.

(٢) الآية ٣١ من سورة الزخرف.

(٣) من الآية ١١ من سورة الأحقاف.

١٤٣

آيات الله ، فيرجع إلينا الملك (١) فسمى الله تمنيهم بذلك كبرا ، ونفى أن يبلغوا متمناهم. (فَاسْتَعِذْ بِاللهِ) ؛ فالتجىء إليه من كيد من يحسدك ، ويبغى عليك ، (إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ) لما تقول ويقولون ، (الْبَصِيرُ) بما تعمل ويعملون ، فهو ناصرك عليهم ، وعاصمك من شرهم.

الإشارة : فاصبر أيها المتوجه إلى الله ، إنّ وعد الله بالفتح حق إن صبرت ، وكابدت ولم تملّ ، واستغفر لذنبك ، وتطهر من عيبك ، لتدخل حضرة ربك. قال الورتجبي : «واستغفر لذنبك» أي : لما جرى على قلبك من الأحكام البشرية ، وأيضا : استغفر لرؤية وجودك فى وجود الحق ، فإنّ كون الحادث فى وجود القديم ذنب فى إفراد القدم من الحدوث. انظر تمامه.

وقوله تعالى : (وَسَبِّحْ ..) إلخ ، فيه الحث على التوجه إلى الله فى هذين الوقتين ، فإن العبرة بالافتتاح والاختتام ، فمن فتح يومه بخير ، وختمه بخير ، حكم على بينهما. وقال فى أهل الإنكار : (إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ ...) الآية ، فاستعذ بالله منهم ، وغب عنهم بإقبالك على مولاك. وبالله التوفيق.

ولمّا كانت مجادلة الكفرة فى آيات الله مشتملة على إنكار البعث ، احتج عليهم بقوله :

(لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (٥٨) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (٥٩))

يقول الحق جل جلاله : (لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ) ، فمن قدر على اختراع هذه الأجرام مع عظمها كان على اختراع الإنسان بعد موته ؛ وبعثه مع مهانته ؛ أقدر ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ذلك ؛ لأنهم لا يتفكرون ؛ لغلبة الغفلة عليهم ، وعمى بصيرتهم.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي : الغافل والمستبصر ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلَا الْمُسِيءُ) ؛ ولا يستوى المحسن والمسيء ، فلا بد أن تكون لهم حال أخرى ، يظهر فيها ما بين الفريقين من التفاوت ، وهى فيما بعد البعث ، فيرتفع المستبصر المحسن فى أعلى عليين ، ويسقط الغافل المسيء فى أسفل سافلين. وزيادة

__________________

(١) ذكره القرطبي (٧ / ٥٩٤١) وقيل فى المراد بالذين يجادلون فى آيات الله : هو كلّ من كفر بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وهذا حسن لأنه يعم.

١٤٤

«لا» فى المسيء ؛ لتأكيد النّفى ؛ لطول الكلام بالصلة. (قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ) (١) أي : تذكرا قليلا يتذكرون. وقرىء بالغيبة ، والخطاب ، على الالتفات. (إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها) ؛ لا شك فى مجيئها ؛ لوضوح دلائلها ، وإجماع الرّسل على الوعد بوقوعها ، (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ) ؛ لا يصدقون بوقوعها ؛ لقصور نظرهم على ظواهر ما يحسون.

الإشارة : التفكر فى العوالم العلوية والسفلية ، يوجب فى القلب عظمة الحق جل جلاله ، وباهر قدرته وحكمته ، وإتيان البعث لا محالة ؛ لنفوذ القدرة فى الجميع. وكون خلق السموات والأرض أكبر من خلق الإنسان ، إنما هو باعتبار الجرم الحسى ، وأما باعتبار المعنى ؛ فالإنسان أعظم ؛ لاشتماله على العوالم كلها ، كما قال فى المباحث :

اعقل فأنت نسخة الوجود

لله ما أعلاك من موجود

أليس فيك العرش والكرسىّ

والعالم العلوىّ والسّفلىّ؟

ثم أمر بعبادته ، أو دعائه ، بعد بيان عظمة قدرته ، ليكون الداعي موقنا بالإجابة ، فقال :

(وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (٦٠))

يقول الحق جل جلاله : (وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي) أي : اعبدوني (أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أي : أثبكم ، ويدل على هذا قوله : (إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ) ؛ صاغرين أذلاء ، أو : اسألونى أعطكم ، على ما أريد ، فى الوقت الذي أريد. قال القشيري : والحكمة فى أنه أمر بالسؤال قبل الإجابة ، وبالاستغفار قبل المغفرة ، أنه حكم فى اللوح أن يعطيك ذلك الشيء الذي تسأله وإن لم تسأل ، ولكن أمر بالسؤال ، حتى إذا وجدته تظن أنك وجده بدعائك ، فتفرح به. قلت : السؤال سبب ، والأسباب غطى بها سر قدرته تعالى. ثم قال : ويقال : إذا ثبت أن هذا الخطاب للمؤمنين فما من مؤمن يدعو الله ، ويسأله شيئا ، إلا أعطاه إياه ، إما فى الدنيا ، وإما فى الآخرة. حيث يقال له : هذا ما طلبته فى الدنيا ، وقد ادخرته لك إلى هذا اليوم ، حتى يتمنى العبد أنه لم يعط شيئا فى الدنيا. ه.

__________________

(١) قرأ عاصم ، وحمزة ، والكسائي «تتذكرون» بتاءين من فوق ، على الخطاب ، وقرأ الباقون بالياء والتاء على الغيب .. انظر الإتحاف (٢ / ٤٣٩).

١٤٥

قلت : فالدعاء كله إذا مستجاب ، بوعد القرآن ، لكن منه ما يعجّل ، ومنه ما يؤجّل ، ومنه ما يصرف عنه به البلاء ، كما فى الأثر ، وإذا فسر الدعاء بالسؤال كان الاستكبار عنه منزلا منزلة الاستكبار عن العبادة ؛ للمبالغة فى الحث عليه. قال صلى‌الله‌عليه‌وسلم : «الدعاء هو العبادة» وقرأ الآية (١) ، وفى رواية : «مخ العبادة» (٢) ، وعن ابن عباس : «وحّدونى أغفر لكم» ، فسّر الدعاء بالعبادة ، والعبادة بالتوحيد.

الإشارة : اختلف الصوفية أىّ الحالين أفضل؟ هل الدعاء والابتهال ، أو السكوت والرّضا؟ والمختار أن ينظر العبد ما يتجلى فى قلبه ، فإن انشرح للدعاء فهو فى حقه أفضل ، وإن انقبض عنه ، فالسكوت أولى ، والغالب على أهل التحقيق من العارفين ، الغنى بالله ، والاكتفاء بعلمه ، كحال الخليل عليه‌السلام ، فإنهم إبراهيميون.

قال الورتجبي : أي : ادعوني فى زمن الدعاء الذي جعلته خاصا لإجابة الدعوة ، فادعونى فى تلك الأوقات ، استجب لكم ؛ فإنّ وقوع الإجابة فيها حقيقة بلا شك ، ومن لم يعرف أوقات الدعاء ، فدعاؤه ترك أدب ؛ فإن الدعاء فى وقت الاستغفار من قلة معرفة المقامات ، فإن السلطان إذا كان غضبان لا يسأل منه ، وإذا كان مستبشرا فيكون زمانه زمن العطاء والكرم. ـ قلت : هذا فى حق الخصوص ، الفاهمين عن الله ، وأما العموم ، فما يناسبهم إلا دوام الدعاء فى الرّخاء والشدة ، قال تعالى : (فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا) (٣) ثم قال عن الوراق : ادعوني على حد الاضطرار والالتجاء ، حيث لا يكون لكم مرجع إلى [سواى] (٤) ، استجب لكم. ه.

ثم برهن على توحيده ، وأنه لا يصح الرّجوع إلا إليه ، فقال :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (٦١) ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٦٢) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ (٦٣) اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ

__________________

(١) أخرجه أبو داود فى (الصلاة ، باب الدعاء ٢ / ١٦١ ، ح ١٤٧٩) والترمذي فى (الدعوات ، باب ما جا فى فضل الدعاء ٥ / ٤٢٦ ، ح ٣٣٧٢) وقال «حسن صحيح» وابن ماجه فى (الدعاء ، باب فضل الدعاء ٢ / ١٢٥٨ ، ح ٣٨٢٨) والحاكم (١ / ٤٩٠) وصححه ، ووافقه الذهبي ، من حديث النّعمان بن بشير رضي الله عنه.

(٢) أخرج هذه الرّواية الترمذي فى (الموضع السابق حديث ٣٣٧١) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.

(٣) من الآية ٤٣ من سورة الأنعام.

(٤) فى الأصول [سواه] والمثبت هو الذي فى عرائس البيان.

١٤٦

قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٦٤) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٦٥))

يقول الحق جل جلاله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) بأن خلقه مظلما باردا ، تقلّ فيه الحركات فتستريح فيه الجوارح ، (وَ) جعل (النَّهارَ مُبْصِراً) أي : مبصرا فيه. فأسند الإبصار إلى النّهار ، مجازا ، والأصل فى الحقيقة لأهل النّهار. وقرن الليل بالمفعول له ، والنّهار بالحال ، ولم يكونا حالين أو مفعولا لهما ؛ رعاية لحق المقابلة ؛ لأنهما متقابلان معنى ؛ لأن الليل مقابل النّهار ، فلما تقابلا معنى تقابلا لفظا ، مع أن كلّ واحد منهما يؤدى مؤدى الآخر ، ولأنه لو قيل : لتبصروا فيه ؛ فاتت الفصاحة التي فى الإسناد مجازى ، ولو قيل : «ساكنا» لم تتميز الحقيقة من المجاز ، إذ الليل يوصف بالسكون على الحقيقة ، ألا ترى إلى قولهم : ليل ساج ، أي : ساكن لا ريح فيه.

(إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ) عظيم (عَلَى النَّاسِ) ، حيث تفضّل عليهم بهذه النّعم الجسيمة ، وإنما لم يقل : المتفضل ؛ لأن المراد تكثير الفضل ، وأنه فضله لا يوازيه فضل ، فالتنكير للتعظيم. (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) ؛ لجهلهم بالمنعم ، وإغفالهم مواضع النّعم. وتكرير النّاس ، ولم يقل : أكثرهم ؛ لتخصيص الكفران بهم ، وأنهم هم الذين من شأنهم الكفران ، كقوله : (إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ) (١).

(ذلِكُمُ اللهُ) أي : ذلكم المنفرد بالأفعال المقتضية للألوهية ، من خلق الليل والنّهار ؛ هو الله (رَبُّكُمْ) لا ربّا غيره ، (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أخبار مترادفة ، أي : الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والرّبوبية ، وإيجاد الأشياء ، والوحدانية ، (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي : فكيف ، ومن أىّ وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة الأوثان؟! (كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ) أي : مثل ذلك الإفك العجيب ، الذي لا وجه له ، ولا مصحح له أصلا ، يؤفك كلّ من جحد بآياته تعالى من غير تروّ ولا تأمل.

ثم ذكر فضله المتعلق بالمكان ، بعد بيان فضله المتعلق بالزمان ، فقال : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً) ؛ مستقرا تستقرون عليها بأقدامكم ومساكنكم ، (وَالسَّماءَ بِناءً) ؛ سقفا فوقكم ، كالدنيا بيت سقفه السماء ،

__________________

(١) من الآية ٦٦ من سورة الحج.

١٤٧

مزّينا بالمصابيح ، وبساطه الأرض ، مشتملة على ما يحتاج إليه أهل البيت. (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ، هذا بيان لفضله المتعلق بالأجسام ، أي : صوّركم أحسن تصوير ، حيث جعلكم منتصب القامة ، بادى البشرة ، متناسب الأعضاء والتخطيطات ، متهيئا لمناولة الصنائع واكتساب الكمالات. قيل : لم يخلق الله حيوانا أحسن صورة من الإنسان. (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) أي : اللذائذ ، (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ) أي : ذلكم المنعوت بتلك النّعوت الجليلة. هو المستحق للربوبية ، (فَتَبارَكَ اللهُ) أي : تعالى بذاته وصفاته (رَبُّ الْعالَمِينَ) أي : مالكهم ومربيهم ، والكل تحت قدرته مفتقر إليه فى إيجاده وإمداده ؛ إذ لو انقطع إمداده لا نهدّ الوجود.

(هُوَ الْحَيُ) ؛ المنفرد بالحياة الذاتية الحقيقية ، (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) ؛ إذ لا موجود يدانيه فى ذاته وصفاته وأفعاله ، (فَادْعُوهُ) ؛ فاعبدوه (مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) أي : الطاعة من الشرك والرّياء ، وقولوا : (الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ). عن ابن عباس رضي الله عنه : من قال «لا إله إلا الله» ، فليقل على إثرها : الحمد لله رب العالمين (١).

الإشارة : الله هو الذي جعل ليل القبض لتسكنوا فيه عند الله ، ونهار البسط لتبصروا نعم الله ، فتشكروا لتبتغوا زيادة فضله ، وجعل أرض النّفوس قرارا لقيام وظائف العبودية ، وسماء الأرواح مرقى لشهود عظمة الرّبوبية. قال القشيري : سكون النّاس بالليل ـ أي : الحسى ـ على أقسام : فأهل الغفلة يسكنون مع غفلتهم ، وأهل المحبة يسكنون بحكم وصلتهم ، فشتان بين سكون غفلة ، وسكون وصلة ، وقوم يسكنون إلى أمثالهم وأشكالهم ، وقوم إلى حلاوة أعمالهم ، [وبسطهم ، واستقبالهم] (٢) ، وقوم يعدمون القرار فى ليلهم ونهارهم ـ أي : لا يسكنون إلى شىء ـ أولئك أصحاب الاشتياق ، أبدا فى الإحراق ه.

وقوله تعالى : (وَصَوَّرَكُمْ) أي : صوّر أشباحكم ، فأحسن صورتها ، حيث بهجها بأنوار معرفته. قال الورتجبي : فأحسن صوركم بأن ألبستكم أنوار جلالى وجمالى ، واتخاذكم بنفسي ، ونفخت من روحى فيكم ، الذي أحسن الهياكل من حسنه ، ومن عكس جماله ، فإنه مرآة نورى الجلى للأشباح. ه. قال القشيري : خلق العرش والكرسي والسموات والأرض ، وجميع المخلوقات ، ولم يقل فى شىء منها : فأحسن صورها ، بل قاله لمّا خلق هذا الإنسان ، وليس الحسن ما يستحسنه النّاس ، ولكن الحسن ما يستحسنه الحبيب ، وأنشدوا :

ما حطّك الواشون عن رتبة

عندى ، ولا ضرّك مغتاب

كأنّهم أثنوا ولم يعلموا

عليك عندى بالّذى عابوا (٣)

__________________

(١) أخرجه الطبري (٢٤ / ٨١) والحاكم وصححه (٢ / ٤٣٨) ، والبيهقي فى الأسماء والصفات (١ / ١٧٩) عن ابن عباس رضي الله عنه موقوفا.

(٢) فى القشيري : [لبسطهم واستقلالهم].

(٣) البيتان لأبى نواس. انظر ديوانه (١ / ١٠٩) ونهاية الأرب (٢ / ٢٤١) وينسبان أيضا إلى العباس بن الأحنف ، كما جاء فى ديوانه (ص ٦١).

١٤٨

لم يقل للشمس فى علاها ، ولا للأقمار فى ضيائها : (فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ) ولما انتهى إلينا قال : (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (١). ثم قال : وكما أحسن صوركم محى من ديوانكم الزلّات ، وأثبت الحسنات ، قال الله تعالى : (يَمْحُوا اللهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ). (٢) ه.

قوله تعالى : (وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ) لذيذ المشاهدة ، وأنس الوصلة. وقوله تعالى : (هُوَ الْحَيُ) الحياة عند المتكلمين لا تتعلق بشىء ، وعند الصوفية تتعلق بالأشياء ؛ إذ لا قيام لها إلا بأسرار معانى ذاته ، ومن تحققت حياته من الأولياء بحياة الله ، بحيث كان له نور يمشى به فى النّاس ، كان كلّ من لقيه حييت روحه بمعرفة الله ، ولذلك يضم الشيخ المريد إليه ، إن رآه لم ينهض حاله ، ليسرى حاله فيه ، يأخذون ذلك من ضم جبريل للنبى ـ عليهما‌السلام. وبالله التوفيق.

ولمّا كان صلى‌الله‌عليه‌وسلم بين أظهر المشركين ؛ نهى عن أن يتصف بصفاتهم ، فقال :

(قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦٦) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٦٧) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٦٨))

يقول الحق جل جلاله : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ) أي : تعبدون (مِنْ دُونِ اللهِ) ولم يكن عبدها قط ، (لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي) ؛ من الحجج العقلية ، والآيات التنزيلية.

قال الطيبي : معرفة الله تعالى ووحدانيته معلومتان بالعقل ، وقد ترد الأدلة العقلية فى مضمون السمعية ، أما وجوب عبادة الله ، وتحريم عبادة الأصنام ، فحكم شرعى ؛ لقوله : (قُلْ إِنِّي نُهِيتُ) أي : حرم علىّ ، وهذا إنما يتحقق بعد البعثة ، خلافا للمعتزلة فى الإيجاب قبل الشرع ، للتحسين والتقبيح ، والمعنى : أن قضية التقليد توجب ما أنتم

__________________

(١) الآية ٤ من سورة التين.

(٢) من الآية ٣٩ من سورة الرّعد.

١٤٩

عليه ، ولكنى خصصت بأمر دونكم ، كما قال إبراهيم : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ ...) (١) إلخ كلامه ، (وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ) ؛ أن أنقاد وأخلص دينى (لِرَبِّ الْعالَمِينَ).

(هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) أي : أصلكم ، وأنتم فى ضمنه ، (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) أي : ثم خلقكم خلقا تفصيليا من نطفة تمنى ، (ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ، ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً) أي : أطفالا ، واقتصر على الواحدة ؛ لأن المراد الجنس ، (ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ) : متعلق بمحذوف ، أي : ثم يبقيكم لتبلغوا أشدّكم ، وكذلك (ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً) ، وقيل : عطف على محذوف ، علة ليخرجكم ، ف «يخرجكم» من عطف علة على أخرى ، كأنه قيل : ثم يخرجكم طفلا لتكبروا شيئا فشيئا ، ثم لتبلغوا كمالكم فى القوة والعقل ، ثم لتكونوا شيوخا ، بكسر الشين وضمها (٢) جمع شيخ ، وقرىء «شيخا» كقوله : «طفلا».

(وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) عبارة تجرى فى الأدراج المذكورة ، فمن النّاس من يموت قبل أن يخرج طفلا ، وآخرون قبل الأشدّ ، وآخرون قبل الشيخوخة. (وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى) أي : وفعل ذلك لتبلغوا أجلا مسمى ، أي : ليبلغ كلّ واحد منكم أجلا مسمى لا يتعداه ، وهو أجل موته ، (وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ؛ ولكى تعقلوا ما فى ذلك من العبر ، والحجج ، وفنون الحكم ؛ فإنّ ذلك التدريج البديع يقضى بالقدر السابق ، ونفوذ القدرة القاهرة ؛ لبعد ذلك التفاوت ، والاختلاف العظيم ، عن الطبيعة والعلة ، وإنما موجب ذلك سبق الاختيار والمشيئة الأزلية ، ولذلك عقّبه بقوله :

(هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) دفعا لما قد يتوهم ـ من كونه لم يذكر الفاعل فى قوله : (وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ) ـ أن ذلك من فساد مزاجه ، أو قتل غيره قبل أجله ، فرفع ذلك الإبهام بقوله : (هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) لا غيره ، أي : يحيى الأموات ، ويميت الأحياء ، أو : يفعل الإحياء والإماتة ، (فَإِذا قَضى أَمْراً) أي : أراد أمرا من الأمور ، (فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) من غير توقف على شىء من الأشياء أصلا ، وهو تمثيل لتأثير قدرته تعالى فى الأشياء عند تعلق إرادته بها ، وتصوير سرعة ترتب المكونات على تكوينه ، من غير أن يكون هناك أمر ولا مأمور.

الإشارة : إذا دخل المريد مقام التجريد ، طالبا لأسرار التوحيد والتفريد ، وطلبه العامة بالرجوع للأسباب قبل التمكين ، يقول : (إنى نهيت أن أعبد الذين تدعون من دون الله ...) الآية. والبينات التي جاءته من ربه ، هو اليقين

__________________

(١) الآية ٤٣ من سورة مريم.

(٢) ضم شين «شيوخا» نافع ، وأبو عمرو ، وهشام ، وحفص ، وأبو جعفر ، وقرأ الباقون بكسر الشين. انظر الإتحاف (٢ / ٤٣٩).

١٥٠

الكبير بأن الله يرزق أهل التقوى بغير أسباب ، لقوله تعالى : (وَمَنْ يَتَّقِ اللهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ، وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) (١). وفى هذا المعنى قال الغزالي رضي الله عنه :

تركت للنّاس دينهم ودنياهم

شغلا بذكرك يا دينى ودنياى

قال القشيري : قل يا محمد : إنى نهيت وأمرت بالتبرّى مما عبدتم ، والإعراض عما به اشتغلتم ، والاستسلام للذى خلقنى ، وبالنبوة خصّنى. ه. وكما تتربى النّطفة الإنسانية فى الرّحم ، تتربى نطفة الإرادة ـ وهى المعرفة العيانية ـ فى القلب ، فإذا عقد المريد نكاح الصحبة مع الشيخ ، قذف فى قلبه نطفة الإرادة ، فما زال يربيها له حتى يخرج عن حس دائرة الأكوان ، فهى ولادته طفلا ، ثم لا يزال يحاذيه بهمته حتى يبلغ أشده ، وهو كماله ، ثم يكون شيخا مربيا ؛ إن أذن له. والله تعالى أعلم.

وفيما ذكر الحق تعالى من أطوار البشر ، شواهد ظاهرة ، دالة على إثبات البعث ، وإنكار ذلك والجدال فيه ، جهالة ، كما قال تعالى :

(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (٦٩) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (٧٠) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (٧١) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (٧٢) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (٧٣) مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ (٧٤) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (٧٥) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (٧٦))

__________________

(١) من الآيتين : ٢ ـ ٣ من سورة الطلاق.

١٥١

قلت : (الذين يجادلون) : بدل من الموصول قبله المجرور ، أو : رفع ، أو : نصب على الذم.

يقول الحق جل جلاله : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللهِ) ، كرر الحق تعالى الجدال فى هذه السورة ثلاث مرات ، فإما أن يكون فى ثلاث طوائف : الأول فى قوم فرعون ، والثاني فى اليهود ، والثالث فى المشركين ، وإما للتأكيد ، أي : انظر إلى هؤلاء المكابرين المجادلين فى آيات الله الواضحة ، الموجبة للإيمان بها ، الزاجرة عن الجدال فيها ، (أَنَّى يُصْرَفُونَ) أي : كيف يصرفون عنها ، مع تعاضد الدواعي إلى الإقبال عليها ، وانتفاء الصوارف عنها بالكلية.

وهذا تعجيب من أحوالهم الرّكيكة ، وتمهيد لما يعقبه من بيان تكذيبهم بكلّ القرآن ، أو بسائر الكتب والشرائع ، كما أبانه بقوله : (الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ) أي : بالقرآن ، أو : بجنس الكتب السماوية ، (وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا) من سائر الكتب ، أو : لوحى ، أو : الشرائع ، (فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) عاقبة ما فعلوا من الجدال والتكذيب ، عند مشاهدتهم لأنواع العقوبات.

(إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) أي : سوف يعلمون حين تكون الأغلال فى أعناقهم. و «إذ» : ظرف للماضى ، والمراد به هنا : الاستقبال ؛ لأن الأمور المستقبلة لمّا كانت محققة الوقوع ، مقطوعا بها ، عبّر بما كان ووجد. (وَ) فى أعناقهم أيضا (السَّلاسِلُ). وفى تفسير ابن عرفة : ولا يجوز مثل ذلك فى العقوبات الدنيوية ، وقياسه على العقوبات الأخروية خطأ ، وفاعله مخطئ غاية الخطأ ، ولم يذكر الأئمة فى اعتقال المحبوس للقتل ؛ إلا أنه يجعل القيد من الحديد فى رجله ، خيفة أن يهرب ، وأما عنقه فلا يجعل فيه شىء. ه. (يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ) أي : يجرّون فى الماء الحارّ ، وهو استئناف بيانى ، كأن قائلا قال : فما ذا يكون حالهم بعد ذلك؟ فقال : يسحبون فى الحميم ، (ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ) ويحرقون ، من : سجر التنّور : إذا ملأه بالوقود ، والمراد : أنهم يعذبون بأنواع العذاب ، وينقلون من لون إلى لون.

(ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا) أي : غابوا ، وهذا قبل أن يقرن بهم آلهتهم ، أو : ضاعوا عنا فلم نجد ما كنا نتوقع منهم ، (بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً) أي : تبيّن لنا أنهم لم يكونوا شيئا. أو : يكون إنكارا منهم ، كقولهم : (وَاللهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ) (١). وهذا كله مستقبل عبّر عنه بالماضي

__________________

(١) من الآية ٢٣ من سورة الأنعام.

١٥٢

لتحققه. (كَذلِكَ) أي : مثل ذلك الضلال الفظيع (يُضِلُّ اللهُ الْكافِرِينَ) حيث لا يهتدون إلى شىء ينفعهم فى الآخرة ، أو : كما ضلّ عنهم آلهتهم يضلهم الله عن آلهتهم ، حتى لو تطالبوا لم يتصادفوا.

(ذلِكُمْ) الإضلال (بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ) أي : تبطرون وتتكبرون (بِغَيْرِ الْحَقِ) ، بل بالشرك والطغيان ، (وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ) ؛ تفخرون وتختالون ، أو : تتكبرون وتعجبون. والالتفات إلى الخطاب ؛ للمبالغة فى التوبيخ. فيقال لهم : (ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ) أي : أبوابها السبعة المقسومة عليكم (خالِدِينَ فِيها) مقدّرا خلودكم فيها ، (فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ) عن الحق ، والمخصوص محذوف ، أي : جهنّم.

الإشارة : الأولياء العارفون أهل التربية الكاملة ، آية من آيات الله فى كلّ زمان ، فيقال فى حق من يخاصم فى وجودهم ، ويتنكب عن صحبتهم : الذين يجادلون فى آيات الله أنّى يصرفون؟ وهم الذين كذّبوا بأسرار الكتاب ، وعلوم باطنه ، وبما أرسل به خلفاء الرّسل ، ممن يغوص على تلك الأسرار ، فسوف يعلمون حين تخاطبهم أغلال الوساوس والخواطر ، وسلاسل العلائق والشواغل ، فيقبضهم عن النّهوض إلى قضاء الشهود والعيان ، وجولان الفكرة فى أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، يسحبون فى حرّ التدبير والاختيار ، ثم فى نار القطيعة يسجرون ، ثم قيل لهم إذا ماتوا : أين ما كنتم تشركون فى المحبة والميل من دون الله؟ قالوا : ضلوا عنا ، وغاب عنهم كلّ ما تمتعوا به من الحظوظ والشهوات ، فيقال لهم : ذلكم بما كنتم تنبسطون فى الدنيا فى أنواع المآكل ، والمشارب ، والملابس ، والمناكح ، وبما كنتم تفتخرون على النّاس ، فيخلدون فى الحجاب ، إلا فى وقت مخصوص. وبالله التوفيق.

ثم أمر بالصبر وانتظار الفتح ، فقال :

(فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (٧٧) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (٧٨))

١٥٣

يقول الحق جل جلاله : (فَاصْبِرْ) يا محمد على أذى قومك ، وانتظر ما يلاقوا مما أعد لهم. (إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بإهلاكم وتعذيبهم (حَقٌ) ؛ كائن لا محالة ، (فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ) من الهلاك ، كالقتل والأسر فى حياتك ، (أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ) قبل هلاكهم بعدك ، (فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ) لا محالة ، ف «ما» : صلة بعد «إن» ، لتأكيد الشرطية ، والجواب : محذوف ، أي : فإن نرينك بعض ما نعدهم فذاك ، أو نتوفينك قبل ذلك فإلينا يرجعون يوم القيامة ، فننتقم منهم أشد الانتقام.

ثم سلّاه بمن قبله ، فقال : (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ) فأوذوا وصبروا حتى جاءهم نصرنا ، (مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ) فى القرآن ، (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) ، قيل : عدد الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ مائة ألف وأربعمائة وعشرون ألفا ، والمذكور قصصهم فى القرآن أفراد معدودة. قال الطيبي : والصحيح ما روينا عن أحمد بن حنبل ، عن أبى ذر ، قلت : يا رسول الله ، كم عدد الأنبياء؟ قال : «مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، الرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر جما غفيرا» (١). ه. وقد تكلم فى الحديث بالضعف والصحة والوضع ، وقيل : عدتهم ثمانية آلاف ، أربعة آلاف نبىّ من بنى إسرائيل ، وأربعة آلاف من سائر النّاس. وعن علىّ ـ كرم الله وجهه : «إن الله تعالى بعث نبيا أسود ، فهو ممن لم تذكر قصته فى القرآن» (٢). فقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ) أي : فى القرآن ، فلا ينافى إخباره بمطلق العدد على ما فى حديث أبى ذر.

(وَما كانَ) أي : ما صحّ ، ولما استقام (لِرَسُولٍ) منهم (أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ) مما اقترح عليه قومه ، (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ). فإنّ المعجزات على تشعب فنونها ، عطايا من الله تعالى ، قسمها بينهم على حسب المشيئة ، المبنية على الحكم البالغة ، وهذا جواب اقتراح قريش على رسول الله الآيات ؛ عنادا ، يعنى : إنّا قد أرسلنا كثيرا من الرّسل ، وما استقام لأحد منهم أن يأتى بآية (إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ) ومشيئته ، فمن لى بأن آتى باية مما تقترحونه إلّا أن يشاء الله ، ويأذن فى الإتيان بها؟ (فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللهِ) بهلاكهم ، أو : بقيام الساعة ، (قُضِيَ بِالْحَقِ) أي : بإنجاء المحق وإثابته ، وإهلاك المبطل وتعذيبه ، (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ) أي : المعاندون المقترحون للآيات ، أو : المتمسكون بالباطل ، فيدخل المقترحون المعاندون دخولا أوليا.

__________________

(١) أخرجه مطولا ، أحمد فى المسند (٥ / ٢٦٦) وابن حبان (موارد ، كاب العلم ، باب السؤال للفائدة ح ٩٤).

(٢) أخرجه الطبري (٢٤ / ٨٧) والطبراني فى الأوسط (ح / ٩٣١٩) ، زاد ابن حجر فى الكافي (رقم ٣٤٤) عزوه لابن مردويه.

١٥٤

الإشارة : فاصبر أيها المتوجه إلى الله على الأذى وحمل الجفاء ، فإما أن ترى ما وعد أهل الإنكار على الأولياء ، من التدمير ، وقطع الدابر ، فى حياتك ، أو يلحقهم بعد موتك. ولقد أوذى من قبلك ، منهم من عرفت ومنهم من لم تعرف ، وما صحّ لأحد منهم أن يظهر كرامة إلا بإذن الله ، فإذا جاء أمر الله وقامت القيامة ، قضى بالحق ، فيرتفع أهل الصبر من المقربين ، فى أعلى عليين ، وينخفض أهل الإذاية فى أسفل سافلين.

ثم ذكّرهم بالنعم الحسية ، فقال :

(اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (٧٩) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (٨٠) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللهِ تُنْكِرُونَ (٨١))

يقول الحق جل جلاله : (اللهُ الَّذِي جَعَلَ) ؛ خلق (لَكُمُ الْأَنْعامَ) ؛ الإبل (لِتَرْكَبُوا مِنْها ، وَمِنْها تَأْكُلُونَ) أي : لتركبوا بعضها ، وتأكلوا بعضها ، وليس المراد : أن الرّكوب والأكل مختص ببعض معين منها ، بحيث لا يجوز تعلقه بالآخر ، بل على أن بعضا منها صالح لكلّ منهما. (وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ) أخر غير الرّكوب ، كألبانها وأوبارها وجلودها ، (وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً) أي : ما تحتاجون إليه من حمل أثقالكم من بلد إلى بلد ، (فِي صُدُورِكُمْ) ؛ فى قلوبكم ، (وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ) أي : وعليها فى البر ، وعلى الفلك فى البحر تحملون ، ولعل المراد به : حمل النّساء والولدان عليها بالهودج ، وهو السر فى فصله عن الرّكوب. والجمع بينها وبين الفلك فى الحمل ؛ لما بينهما من المناسبة ، حتى سميت الإبل : سفائن البر.

وقيل : المراد بالأنعام : الأزواج الثمانية ، على أن المعنى : لتركبوا بعضها ، وهى الإبل ، وتأكلوا بعضها ، وهى الغنم والبقر ، فذكر ما هو الأهم من كلّ ، والمنافع تعم الكل ، وبلوغ الحاجة تعم الإبل والبقر. وقال الثعلبي : التقدير : لتركبوا منها بعضا ، ومنها تأكلون ، فحذف «بعضا» للعلم به.

(وَيُرِيكُمْ آياتِهِ) ؛ دلائله الدالة على قدرته ووفور رحمته ، (فَأَيَّ آياتِ اللهِ) أي : فأىّ آية من تلك الآيات الباهرة (تُنْكِرُونَ)؟ فإن كلّا منها من الظهور بحيث لا يكاد يجترىء على إنكارها من له عقل فى الجملة. وإضافة آية إلى الاسم الجليل ؛ لتربية المهابة ، وتهويل إنكارها ، و «آيات» نصب بتنكرون ، وتذكير «أىّ» مع

١٥٥

تأنيث المضاف إليه ، هو الشائع المستفيض ، والتأنيث قليل ؛ لأن التفرقة بين المذكر والمؤنث فى الأسماء غير الصفات ، نحو : حمار وحمارة غريب ، وهى فى «أىّ» أغرب ؛ لإبهامه.

الإشارة : ما أعظم قدرك أيها الإنسان إن اتقيت الله ، وعرفت نعمه ، فقد سلطك على ما فى الكون بأسره ، الحيوانات تخدمك ؛ وتنتفع بها ، أكلا ، وركوبا ، وملبسا ، وحملا ، والبحر يحملك ، والأرض تقلك ، والسماء تظلك ، وما قنع لك بالدنيا حتى ادخر لك الآخرة ، التي هى دار الدوام ، فإن شكرت هذه النّعم فأنت أعز ما فى الوجود ، وإن كفرتها فأنت أهون ما فى الوجود. وبالله التوفيق.

ولا تعرف حقائق النّعم إلا بالتفكر ، ولذلك أمر به إثر ذكرها ، فقال :

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (٨٢) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٨٣) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (٨٤) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (٨٥))

يقول الحق جل جلاله : (أَفَلَمْ يَسِيرُوا) أي : أقعدوا فلم يسيروا (فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ) من الأمم المهلكة ، (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) عددا (وَأَشَدَّ قُوَّةً) فى الأبدان والأموال ، (وَ) أشد (آثاراً فِي الْأَرْضِ) أي : تركوا آثارا كثيرة بعدهم ، من الأبنية ، والقبور ، والمصانع ، فكانوا أشدّ منهم ، وقيل : هى آثار أقدامهم فى الأرض ؛ لعظم أجرامهم ، (فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي : لم يغن عنهم ذلك شيئا حين نزل بهم العذاب ، أو : أي شىء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم؟ على أنّ «ما» استفهام.

(فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) ؛ بالمعجزات الواضحة ، (فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) يريد علمهم بأمور الدنيا ، ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (١) ،

__________________

(١) الآية ٧ من سورة الرّوم.

١٥٦

فلما جاءتهم الرّسل بعلوم الديانة ، والتأهب ليوم القيامة ، وهى أبعد شىء من علمهم ؛ لبعثها على رفض الدنيا ، والتباعد عن تتبع ملاذها ، لم يلتفتوا إليها ، وصغّروها ، واستهزؤوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفؤاد من علمهم ، ففرحوا به. أو : علم التنجيم والفلسفة ، والدهريّين ؛ فإنهم كانوا إذا سمعوا بالوحى دفعوه ، وصغّروا علم الأنبياء إلى علمهم ، واعتقدوا عندهم علما يستغنون به عن علم الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ ولما سمع بقراط بموسى عليه‌السلام قيل له : لو هاجرت إليه! فقال : نحن قوم مهذّبون ، فلا حاجة إلى من يهذّبنا.

ورأى بعض الصالحين النّبىّ صلى‌الله‌عليه‌وسلم فسأله عن ابن سيرين ، فقال له : «إنه أراد أن يصل إلى الله بلا واسطة ، فانقطع عن الله» وعلى فرض وقوفهم بالتجريد والرّياضة على انكشاف حضرة القدس ، فلا يظفرون بالعبودية ، ولا بالفناء فى توحيد الرّبوبية ، والتخلص من لوث وجودهم ، والشأن أن تكون عين الاسم ، لا أن تعرف الاسم والعين ، إنما تقتبس من مشكاة مهبط الوحى ، وانصباب أنوار الغيب إنما تفيض بواسطة درة الوجود ، نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ، ومظهر سر العيان الأحدى الأحمدى ، فافهم. قاله شيخ شيوخنا ، سيدى عبد الرّحمن الفاسى.

قال تعالى : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي : نزل بهم عقوبة استخفافهم بالحق ، وتعظيمهم واغتباطهم بالباطل. (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) ؛ شدة عذابنا ، ومنه : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) (١) ، (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) يعنون الأصنام.

(فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي : فلم يستقم ، ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند مجىء العذاب ؛ لأن النّافع هو الإيمان الاختياري ، لا الاضطراري ، (سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) أي : سنّ الله ذلك سنّة ماضية فى عباده ، ألّا يقبل الإيمان إلا قبل نزول العذاب. وهو من المصادر المؤكدة ، نحو : وعد الله ، ونحوه. (وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ) أي : وقت رؤيتهم البأس. فهنالك : مكان استعير للزمان ، والكافرون خاسرون فى كل أوان ، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب.

وفائدة ترادف الفاءات فى هذه الآيات : أن (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) نتيجة قوله : (كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ) و (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ) كالبيان والتفسير لقوله : (فَما أَغْنى عَنْهُمْ) ، كقولك : رزق زيد المال ، فمنع المعروف ، فلم يحسن إلى الفقراء. و (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) تابع لقوله : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ) ، كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا. وكذلك : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) [تابع لإيمانهم] (٢) لمّا رأوا بأس الله ، والله تعالى أعلم.

__________________

(١) من الآية ١٦٥ من سورة الأعراف.

(٢) ما بين المعقوفتين ليس فى الأصول ، وأثبته من تفسير النّسفى.

١٥٧

الإشارة : قد تقدم مرارا الحث على عبادة التفكر. وقوله تعالى : (فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ ...) الآية ، كذلك من يظهر بعلم التجريد ، ويتكلم فى أسرار التوحيد ، سخر منه أهل زمانه ، ويقنعون بما عندهم من علم الرّسوم الظاهرة ، وهو علم لا يغنى ولا يفنى ؛ لأن جله يتعلق بمنافع النّاس ، لا بمنافع القلب ، فلا يغنى القلب ، ولا يفنى الحس ، إنما ينفع لطالب الأجور ، لا لطالب الحضور ورفع الستور ، وما مثال من ظفر بعلم القلوب ـ وهو أسرار التوحيد الخاص ـ إلا كمن عنده كنز من الفلوس ، ثم ظفر بالذهب الإبريز ، أو الإكسير ، فكيف يمكن أن يلتفت إلى الفلوس من ظفر بالإكسير؟! ولا يظهر هذا لأهل الظاهر إلا بعد موتهم ، فيؤمنوا به حيث لا ينفعهم.

وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

١٥٨

سورة فصّلت (١)

وهى ثلاث وخمسون آية. ومناسبتها لما قبلها : قوله : (وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) (٢) مع قوله : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) ، فكانت قريش من جملة المستهزئين بالقرآن ، وتقول : (وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) (٣) فبيّن أنه منزل من الرّحمن الرّحيم ، كما قال تعالى :

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(حم (١) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (٢) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٣) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (٤) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (٥) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (٦) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (٧) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٨))

قلت : (تنزيل) : خبر عن مضمر ، أي : هذا تنزيل. و (كتاب) : بدل من «تنزيل» ، أو : خبر بعد خبر ، و (تنزيل) : مبتدأ. و (من الرّحمن) : صفة ، و (كتاب) : خبره ، و (قرآنا) : منصوب على الاختصاص والمدح ، أو : حال ، أي : فصّلت آياته فى حال كونه قرآنا. و (لقوم) : متعلق بفصّلت ، أو : صفة ، مثل ما قبله وما بعده ، أي : قرآنا عربيا كائنا لقوم يعلمون. و (بشيرا ونذيرا) : صفتان ل «قرآنا».

__________________

(١) فى الأصول : [سورة حم السجدة] وهى سورة مكية.

(٢) الآية ٨٣ من سورة غافر.

(٣) كما جاء فى الآية ٢٦ من سورة فصلت.

١٥٩

يقول الحق جل جلاله : (حم) ؛ يا محمد هذا (تَنْزِيلٌ) ، قال القشيري : أي : بحقي وحياتى ومجدى فى ذاتى وصفاتى ، هذا تنزيل (مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ). ونسبة التنزيل إلى الرّحمن الرّحيم للإيذان بأنه نزل للمصالح الدينية والدنيوية ، واقع بمقتضى الرّحمة الرّبانية ، حسبما ينبئ عنه قوله تعالى : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) (١) ، (كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ) ؛ ميزت وجعلت تفاصيل فى أساليب مختلفة ، ومعان متغايرة ؛ من أحكام ، وتوحيد ، وقصص ، ومواعظ ، ووعد ، ووعيد وغير ذلك ، (قُرْآناً عَرَبِيًّا) أي : أعنى قرآنا بلسان العرب كائنا (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) معانيه ، ويتدبرون فى آياته ؛ لكونه على لسانهم ، أو : لأهل العلم والنّظر ؛ لأنهم المنتفعون به.

(بَشِيراً وَنَذِيراً) ؛ بشيرا لأهل الطاعة ، ونذيرا لأهل المعصية ، (فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ) عن الإيمان به والتدبير فى معاينه ، مع كونه على لغتهم ، (فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) سماع تفكر وتأمل ، حتى يفهموا جلالة قدره ؛ فيؤمنوا به.

(وَقالُوا) للرسول ـ عليه الصلاة والسّلام ـ عند دعوته إياهم إلى الإيمان والعمل بما فى القرآن : (قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ) أي : أغطية متكاثفة ، (وَفِي آذانِنا وَقْرٌ) ؛ صمم وثقل يمنعنا من استماع قولك ، (وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ) غليظ ، وستر مانع يمنعنا من التواصل إليك. و (من) للدلالة على أن الحجاب مبتدى منهم ومنه بحيث استوعب ما بينهما من المسافة المتوسطة ، ولم يبق ثمّ فراغ أصلا. وهذه تمثيلات لنبو قلوبهم عن إدراك الحق وقبوله ، ومج أسماعهم له ، كأنّ بها صمما وثقلا منعهم من موافقتهم لرسول الله ـ صلى‌الله‌عليه‌وسلم ـ ثم قالوا : (فَاعْمَلْ) على دينك وإبطال ديننا ، (إِنَّنا عامِلُونَ) على ديننا ، لا نفارقه أبدا.

(قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ) ، هذا تلقين للجواب عنه ، أي : لست من جنس مباين لكم حتى يكون بينى وبينكم حجاب ، وتباين مصحح لتباين الأعمال والأديان ، كما ينبئ عنه قوله : (فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ) ، بل إنما أنا بشر مثلكم ، مأمور بما أمرتم به من التوحيد ، حيث أخبرنا جميعا بأن إلهنا واحد ، فالخطاب فى «إلهكم» محكى منتظم للكل ، لا أنه خطاب منه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ للكفرة. وقيل : لمّا دعاهم إلى الإيمان ، قالوا : إنا نراك مثلنا ، تأكل وتشرب ، فلو كنت رسولا لاستغنيت عن ذلك ، فأنزل : (قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ ...) الآية

(فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ) بالتوحيد وإخلاص العبادة ، غير ذاهبين يمينا وشمالا ، ولا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان من عبادة الأصنام. ، قال تعالى : (وَاسْتَغْفِرُوهُ) مما كنتم عليه من سوء العقيدة. والفاء لترتيب ما قبلها من إيحاء التوحيد على ما بعدها من الاستقامة ، (وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ) ، وهو ترهيب وتنفير لهم عن الشرك إثر ترغيبهم فى التوحيد.

__________________

(١) الآية ١٠٧ من سورة الأنبياء.

١٦٠