الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

والجواب : ان طاعة العبد ومعصيته. اما حركة واما سكون. والله تعالى قادر على جميع الحركات والسكنات.

وأما البصريون فقد سلموا أنه تعالى قادر على مثل مقدور العبد ، الا أنهم قالوا : انه تعالى غير قادر على نفس مقدور العبد.

واحتجوا عليه : بأن ما كان مقدورا للقادر ، فلا بد أن يحصل عند ما يدعوه الداعى الى فعله ، وأن لا يحصل عند ما يصرفه الصارف عن فعله. فلو فرضنا مقدورا واحدا بين قادرين ، وحصل الداعى الى الفعل فى حق أحدهما ، وحصل الصارف عن الفعل فى حق الثانى ، لزم أن يوجد ذلك الفعل وأن لا يوجد. وهذا محال. فالقول بوجود مقدور بين قادرين محال.

والجواب : [(٨) ان من جوز وجود مقدور واحد لقادرين ، لم يسلم أنه يلزم من تحقق الصارف فى حق أحد القادرين عن الفعل أن لا يوجد الفعل ، لاحتمال أن يكون قصد غيره الى ايجاده سببا لوجوده.

وأيضا : الرجل اذا اعتمد على جسم آخر ، فحدثت حركة فى ذلك الجسم الآخر ، فقد اتفقت المعتزلة على أن الحركة الحاصلة فى ذلك الجسم المباين ، انما حصلت بتأثير هذا الاعتماد وتأثير هذه المدافعة. وأصحابنا أنكروا ذلك.

وهذه هى المسألة] (٩) المشهورة بمسألة التولد.

وحجة أصحابنا : أنه لو صح القول بالتولد ، لزم وقوع الأثر الواحد بمؤثرين مستقلين بالأثر. وهذا محال فالقول بالتولد محال. بيان الملازمة : انه اذا التصق جوهر فرد ، بكف رجلين ، ثم ان أحدهما جذب الكف فى حال ما دفع الآخر أيضا كفه. فلو صح القول بالتولد ، كان الجذب مولدا للحركة فى ذلك الجوهر ، كما أن الدفع

__________________

(٨) ما بين القوسين : سقط ب

٣٤١

مولد للحركة فيه. فاما أن تتولد من كل واحد منهما حركة على حدة أو تتولد منهما معا حركة واحدة. والأول باطل ، لأنه يقتضي حصول الجسم الواحد ، فى الحيز ، فى الآن الواحد ، مرتين. وهذا غير معقول

وأيضا : فعلى هذا التقدير ، تكون الحركتان ، متماثلتين ، فليس استناد أحدهما الى الجذب ، والثانية الى الدفع أولى من العكس ، فيلزم استناد كل واحد من الحركتين الى الجذب والى الدفع ، فيعود الأمر الى وقوع الأثر الواحد بمؤثرين مستقلين. ولما بطل هذا القسم ثبت : أنه حصل فى ذلك الجوهر الفرد حركة واحدة ، حصلت بعلة الجذب وبعلة الدفع ، ثم كل واحدة من هاتين العلتين مستقلة باقتضاء هذا الأثر ، مع القول بالتولد. فيلزم حصول الأثر الواحد بمؤثرين مستقلين. وذلك محال. لأن ذلك الأثر يستغنى بكل واحد منهما عن كل واحد منهما. وهو محال.

واستدلال المعتزلة على القول بالتولد : انما هو لحسن المدح والذم ، والثواب ، والعقاب. وقد تقدم الجواب عنه فى مسألة خلق الأفعال.

٣٤٢

المسألة الرابعة والعشرون

فى

بيان أنه تعالى مريد لجميع الكائنات

مذهب المعتزلة : ان الإرادة توافق الأمر : فكل ما أمر الله به ، فقد أراده. وكل ما نهى عنه ، فقد كرهه.

ومذهبنا : ان الإرادة توافق العلم. فكل ما علم وقوعه فهو مراد الوقوع ، وكل ما علم عدمه فهو مراد العدم. فعلى هذا ايمان «أبى جهل» مأمور به. وهو غير مراد ، وكفره منهى عنه. وهو مراد.

لنا وجهان :

الحجة الأولى : قد دللنا على أنه تعالى خالق أفعال العباد. وكل من خلق شيئا لا على سبيل الاكراه والالجاء ، فهو مريد لذلك الشيء ، فوجب القطع بأنه تعالى مريد لجميع أفعال العباد.

الحجة الثانية : انه تعالى علم من «أبى جهل» أنه لا يؤمن. وقد بينا أن العلم بعدم الايمان مضاد لوجود الايمان. وعند قيام أحد الضدين كان الضد الثانى ممتنع الوجود لذاته. فاذن ايمان «أبى جهل» ممتنع الحصول مع ذلك العلم. وكل المعلومات معلوم لله تعالى. فالله تعالى لا بد وأن يكون عالما بامتناع وجود هذا الايمان. ومن كان عالما بكون الشيء ممتنع الوجود ، استحال أن يكون مريدا لوجوده وهذا يدل على أنه سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون مريدا لصدور الايمان عن الكافر.

٣٤٣

وأما المعتزلة. فقد احتجوا على قولهم بوجوه :

الشبهة الأولى : انه تعالى أمر الكافر بالايمان. وكل من أمر بشيء فهو مريد لوجود المأمور به ، فيلزم أن يكون الله تعالى أراد الايمان من الكافر.

الشبهة الثانية : إرادة الكفر والفسق سفه ، والسفه لا يليق بالحكيم. وأيضا : ان من أراد منه الكفر والفسق ، ثم انه يعاقب عليهما ، كان ذلك غاية السفاهة.

الشبهة الثالثة : الطاعة عبارة عن تحصيل مراد المطاع. فلو أراد الله تعالى الكفر من الكافرين ، لكان الكافر مطيعا لله تعالى بكفره. وذلك باطل بالاتفاق.

الشبهة الرابعة : الرضا بقضاء الله تعالى واجب بالاجماع ، فلو كان الكفر بقضاء الله تعالى ، لوجب الرضا بالكفر ، لكن هذا باطل. لأن الرضا بالكفر كفر.

الشبهة الخامسة : لو أراد الله تعالى الكفر من الكافر ، وخلق الكفر فى الكافر ، لكان تكليف الكافر بالايمان تكليف بما لا يطاق. وهذا باطل بالعقل والسمع.

أما العقل : فلأن كل انسان يجد بالضرورة من نفسه ، أنه ان أراد الطاعة ، يمكنه فعلها. فكيف يقال : انه غير متمكن من الطاعة ، مع أنه يجد بالضرورة ثبوت هذه المكنة؟

أما السمع : فقوله تعالى : (وَما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللهِ)؟ ـ [النساء ٣٩](فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) [المدثر ٤٩] وكذا القول فى جملة الآيات الدالة على أن الانسان غير عاجز عن الاتيان بالطاعات.

٣٤٤

الشبهة السادسة : التمسك بقوله تعالى : (وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر ٧] وقوله تعالى : (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ) [غافر ٣١] وبقوله : (وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ) (١) [فاطر ٨]

* * *

والجواب عن الشبهة الأولى : لا نسلم أن الأمر بالشيء يستدعى إرادة المأمور به. فان النزاع ما وقع الا فيه.

وعن الشبهة الثانية (٢) : أنا سنقيم الدلالة القاطعة ـ ان شاء الله تعالى ـ على أن القبيح لا يقبح الا بالشرع ، وعلى هذا الأصل فانه لا يقبح من الله تعالى شيء.

وعن الشبهة الثالثة : ان الطاعة موافقة للأمر لا موافقة للارادة.

وعن الشبهة الرابعة : القضاء صفة الله. ونحن راضون بقضاء الله تعالى. أى راضون بصفة الله تعالى ، وأما الكفر فليس هو نفس قضاء الله تعالى ، بل هو مقتضى قضاء الله تعالى ، ولم يدل الدليل على أنه واجب الرضى بكل شيء قضى الله تعالى به.

وعن الشبهة الخامسة : المعارضة بالوجوه الستة التى ذكرناها فى خلق الأفعال.

وعن الشبهة السادسة : ان الرضا والمحبة ، ترك الاعتراض. والكفر والمعاصى. وان كانا بإرادة الله تعالى لكنهما ليستا بمحبة الله تعالى ولا برضاه.

__________________

(١) فى الأصل : والله يهدى.

(٢) وعن الثانى انا ... الخ : ص

٣٤٥

المسألة الخامسة والعشرون

فى

أن الحسن والقبح يثبتان بالشرع

أهم المهمات فى هذه المسألة : تعيين محل النزاع فنقول : لا نزاع فى أنا نعرف بعقولنا كون بعض الأشياء ملائما لطباعنا ، وبعضها منافرا لطباعنا. فان اللذة وما يؤدى إليها ملائم ، والألم وما يؤدى إليه منافر ، ولا حاجة فى معرفة هذه الملائمة وهذه المنافرة الى الشرع.

وأيضا : نعلم بعقولنا : أن صفة كمال ، والجهل صفة نقص ، وانما النزاع فى أن كون بعض الأفعال متعلق الذم فى الدنيا والعقاب فى الآخرة ، وكون البعض الآخر متعلق المدح فى الدنيا والثواب فى الآخرة. هل هو لأجل صفة عائدة الى الفعل ، أو ليس الأمر كذلك ، بل هو محض حكم الشرع بذلك ، أو حكم أهل المعرفة به؟

قالت : المعتزلة : المؤثر فى هذه الأحكام : صفات عائدة الى الأفعال.

ومذهبنا : أنه مجرد حكم الشرع.

واذ تنقح محل النزاع. فنقول : الّذي يدل على قولنا وجوه :

الحجة الأولى : ان أفعال العباد. اما اضطرارية ، واما اتفاقية. وعلى التقديرين فالقول بالحسن والقبح العقليين باطل. بيان المقدمة الأولى : ان صدور الفعل عند حصول القدرة والداعى. اما أن يكون

٣٤٦

واجبا ، أو لا. فان كان واجبا كان فعل العبد اضطراريا ، لأن حصول القدرة والداعى ليس بالعبد ، والا لزم التسلسل. واذا كان كذلك فعند حصولهما يكون الفعل واجبا ، وعند ما لا يكونان حاصلين كان الفعل ممتنعا ، فكان الاضطرار لازما لا محالة.

وأما ان لم يكن حصول الفعل عند حصول القدرة والداعى واجبا ، فاما أن يتوقف رجحان الفعل على الترك على مرجح أو لا يتوقف. فان توقف كان حصول ذلك الفعل عند حصول ذلك المرجح واجبا. وإلا عاد الكلام الأول ولزم التسلسل. واذا كان واجبا عاد القول بأن حصول الفعل عند حصول القدرة والداعى اضطرارى. وأما ان لم يتوقف رجحان الفعل على الترك على مرجح ، كان رجحان الفعل اتفاقيا ، بمعنى أنه اتفق حصول هذا الرجحان ، لا لمؤثر أصلا ، فلا يكون ذلك الرجحان من العبد. فثبت : أن أفعال العباد اما اضطرارية واما اتفاقية. واذا كان كذلك وجب أن يكون القول بالحسن والقبح العقلى باطلا.

أما على قولنا فظاهر ، وأما على قول المعتزلة فلأن كل واحدة من هاتين الحالتين ينافى الاختيار ، وعند فقدان الاختيار لا يبقى الحسن والقبح.

فان قيل : فهذا الكلام بتمامه قائم فى الغائب ، فينبغى أن لا يصدر من الله تعالى فعل حسن ولا فعل قبيح. قلنا : قد ذكرنا فى مسألة خلق الأفعال أن صدور الفعل عن القادر ، موقوف على المرجح ، وذلك المرجح هو الإرادة. والإرادة فى حق العبد محدثة ، فافتقرت الى الخالق والموجد ، فكان هذا المعنى لازما فى حق العبد ، بخلاف البارى تعالى ، فان ارادته قديمة أزلية ، فاستغنت عن المؤثر. فلم يلزم الجبر فى حقه.

٣٤٧

الحجة الثانية : لو كان الظلم قبيحا لوجه عائد إليه ، لزم تعليل الحكم الوجودى بالعلة العدمية. وهذا محال فذلك محال. بيان الملازمة : ان القبيح نقيض اللاقبيح واللاقبيح محمول على العدم ، والمحمول على العدم عدم ، فلا قبيح عدم. فوجب أن يكون القبح صفة موجودة. اذا ثبت هذا فنقول : الظلم ماهية مركبة من أمور : منها : كون ذلك الاضرار غير مستحق. ومعلوم أن كونه غير مستحق قيد عدمى ، فاذا عللنا قبح الظلم بكونه ظلما ، وكونه ظلما ماهية مركبة من قيود : أحدها : قيد عدمى ، فحينئذ لم يكن مجموع القيود المعتبرة فى كونه ظلما : أمرا وجوديا. فيلزم تعليل القبح الّذي هو صفة موجودة ، بالعدم ، وهو محال. وانما قلنا : ان تعليل ذلك الموجود بالعدم محال ، وذلك لأن العدم نفى محض وسلب صرف ، وايجاد الغير يعتمد كونه موجودا فى نفسه. واذا لم يكن له ثبوت وتحقق أصلا ، امتنع كونه علة لغيره.

الحجة الثالثة : لو كان قبح الكذب لكونه كذبا ، لوجب أن يقبح كل ما كان كذبا ، وكان يلزم أن يكون الكذب الّذي يكون (١) سببا لخلاص الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ عند (٢) اقدام الظلمة عليهم بالقتل ، وأنواع الايذاء : قبيحا. ومعلوم : أنه ليس كذلك. فدل هذا على أن كونه كذبا ليس علة للقبح.

فان قيل : الكذب فى جميع المواضع قبيح. والواجب فى هذه الصور انما هو ذكر المعاريض. كما قيل : «ان فى المعاريض لمندوحة عن الكذب» وأيضا : لم لا يجوز أن يقال: ان كونه كذبا علة للقبح. الا أن الحكم تخلف عن العلة فى هذه الصورة ، لقيام مانع ومعارض.

__________________

(١) يكون كذبا سببا : ا

(٢) عن : ا

٣٤٨

والجواب عن السؤال الأول : انا نفرض أن الكلام فيما اذا لم يكن التعريض كافيا ، كما اذا قال : هل رأيت فلانا فى هذه الساعة؟ وهل تعرف مكانه؟ فان قلت : نعم. طالبك به وقتله لا محالة ، وان قلت : لا. فقد كذبت.

وأما السؤال الثانى : فجوابه : انه لو جاز تخلف القبح عن الكذب لمانع ، فلا كذب الا ويجوز أن يقال له : لعله وجد مانع من الموانع يمنعه من قبحه. وعلى هذا التقدير لا يمكنك الحكم القطعى بقبح شيء من الأكاذيب. أقصى ما فى الباب : أن يكون الحاصل هو الظن. وعند هذا لا يمكنك الحكم بقبح الكذب فى حق الله تعالى.

الحجة الرابعة : لو أن ظالما قال لشخص : انى سأقتلك غدا. فههنا الحسن اما أن يقتله. وهو باطل قطعا. أو أن لا يقتله ، الا أنه اذا لم يقتله صار الخبر بأنه سيقتله غدا : كذبا. فلو كان الكذب قبيحا ، لكان ترك القتل يلزمه القبيح ، وما يلزمه القبيح فهو قبيح ، فكان يجب أن يكون ترك القبيح قبيحا. ولما كان ذلك باطلا ، علمنا : أنه لا يمكن الحكم بقبح الكذب مطلقا. وبالله التوفيق.

شبهة للخصم : انا نعلم ببداهة العقل أن الظلم قبيح ، وأن الاحسان حسن. وهذا العلم غير مستفاد من الشرع. فان من ينكر الشرع ، حصل له هذا العلم. فدل ذلك على أن هذا مستفاد من العقل.

والجواب : ان هذا (٣) الحسن والقبح عبارتان عن رغبة الطبع ونفرته. ولا نزاع فى أن هذا معلوم بالعقل وانما النزاع فى أن كون الفعل متعلق الذم والعقاب ، أو متعلق المدح والثواب. هل هو لأجل صفة قائمة بالفعل؟ وما ذكرتموه لا يدل على ذلك. وتمام الكلام فيه ، مذكور فى كتاب «المحصول فى علم الأصول» والله أعلم.

__________________

(٣) ان هذان اللفظان الحسن : ب

٣٤٩

المسألة السّادسة والعشرون

فى

أنه لا يجوز أن تكون أفعال الله

تعالى وأحكامه معللة بعلة البتة

اتفقت المعتزلة : على أن أفعال الله تعالى وأحكامه معللة برعاية مصالح العباد. وهو اختيار أكثر المتأخرين من الفقهاء. وهذا عندنا باطل. ويدل عليه وجوه خمسة :

الحجة الأولى : ان كل من فعل فعلا ، لأجل تحصيل مصلحة ، أو لدفع مفسدة ، فان كان تحصيل تلك المصلحة أولى له من عدم تحصيلها ، كان ذلك الفاعل قد استفاد بذلك الفعل تحصيل تلك الأولوية. وكل من (١) كان كذلك ، كان ناقصا بذاته ، مستكملا بغيره. وهو فى حق الله تعالى محال. وان كان تحصيلها وعدم تحصيلها بالنسبة إليه سيان فمع الاستواء لا يحصل الرجحان ، فامتنع الترجيح.

لا يقال : حصولها ولا حصولها بالنسبة إليه ، وان كانا على التساوى ، الا أن حصولها أولى للعبد من عدم حصولها له ، فلأجل الأولوية العائدة الى العبد ترجح الوجود على العدم. لأنا نقول : تحصيل مصلحة العبد وعدم تحصيلها له اما أن يكونا متساويين بالنسبة الى الله تعالى ، أو لا يستويان. وحينئذ يعود التقسيم المذكور.

الحجة الثانية : لو كانت موجدية الله تعالى معللة بعلة ، لكانت تلك العلة. ان كانت قديمة لزم من قدمها قدم الفعل. وهو محال. وان

__________________

(١) ما : ا

٣٥٠

كانت محدثة ، افتقر كونه تعالى موجدا لتلك العلة ، الى علة أخرى. فيلزم التسلسل. وهو محال. وهذا هو المراد من قول مشايخ الأصول «علة كل شيء صنعه (٢) ولا علة لصنعه».

الحجة الثالثة : ان جميع الأغراض ، يرجع حاصلها الى شيئين : تحصيل اللذة والسرور ، ودفع الألم والحزن. والله تعالى قادر على تحصيل هذين المطلوبين ابتداء من غير شيء من الوسائط. وكل من كان قادرا على تحصيل المطلوب ابتداء بدون الواسطة ، ولم يصر تحصيل ذلك المطلوب بتلك الوسائط أسهل عليه من تحصيله ابتداء : كان التوسل الى تحصيل ذلك المطلوب بتلك الواسطة عبثا. وذلك على الله تعالى محال. فثبت : أنه لا يمكن تعليل أفعاله وأحكامه بشيء من العلل والأغراض.

الحجة الرابعة : انه لو وجب أن يكون خلقه وحكمه معللا بغرض ، لكان خلق الله تعالى العالم فى وقت معين دون ما قبله وما بعده ، معللا برعاية مصلحة وغرض. ثم ذلك الغرض ـ وتلك المصلحة ـ اما أن يقال : انه كان حاصلا قبل ذلك الوقت ، وأ ما كان حاصلا قبله. فان كان حاصلا قبله ، كان ما لأجله أوجد الله تعالى العالم فى ذلك الوقت ، حاصلا قبل أن أوجده. فيلزم أن يقال : انه كان موجدا له قبل أن كان موجدا. وذلك محال. وأما ان قلنا بأن ذلك الغرض وتلك المصلحة ما كان حاصلا قبل ذلك الوقت ، وانما حدث فى ذلك الوقت. فنقول : حصول ذلك الغرض فى ذلك الوقت ، اما أن يفتقر الى المحدث أولا يفتقر. فان لم يفتقر فقد حدث الشيء ، لا عن موجد ومحدث. وهو محال. وان افتقر الى المحدث. فان افتقر تخصيص احداث ذلك الغرض بذلك الوقت الى غرض آخر ، عاد التقسيم الأول فيه. ولزم التسلسل.

__________________

(٢) صفته ولا علة لصفته : ب

٣٥١

وان لم يفتقر البتة الى رعاية غرض آخر ، فحينئذ تكون موجدية الله تعالى وخالقيته ، غنية عن التعليل بالأغراض والمصالح. وهذا هو المطلوب.

واعلم : أن هذه الحجة التى ذكرناها فى اختصاص حدوث العالم بذلك الوقت المعين ، عائدة فى اختصاص كل واحد من الحوادث لوقته المعين.

الحجة الخامسة : قد بينا فى مسألة خلق الأفعال : أنه لا موجد الا الله تعالى ، واذا كان كذلك ، كان الخير والشر والكفر والايمان حاصلا بايجاده وتخليقه وتكوينه. واذا كان الأمر كذلك ، امتنع توقف كونه تعالى خالقا وموجدا على رعاية المصالح والأغراض.

واحتج الخصم على مذهبه : بأنه تعالى عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيا عنه. وكل من كان كذلك ، امتنع أن يكون فاعلا للقبيح.

أما المقدمة الأولى ـ وهى قولنا : انه عالم بقبح القبائح ، وعالم بكونه غنيا عنه ـ فهذه المقدمة مبنية على ثلاث مقدمات :

احداها : أن القبائح انما تقبح لوجوه عائدة إليها.

وثانيها : انه تعالى منزه عن جميع الحاجات.

وثالثها : انه تعالى عالم بجميع المعلومات واذا ثبتت هذه المقدمات الثلاث ، ظهر أنه تعالى غنى عن فعل كل القبائح ، وأنه تعالى عالم بكونه غنيا عنها.

وأما المقدمة الثانية : وهى أن كل من كان غنيا عن القبائح ، وكان عالما بكونه غنيا عنها ، فانه يستحيل أن يفعل القبيح ـ فقد ذكروا فى تقرير هذا طريقين :

الأول : انا ببداهة العقل نعلم أن جهة القبح جهة صرف عن الفعل ، لا جهة دعاء إليه. فاذا حصل العلم بكونه قبيحا ولم يصر هذا

٣٥٢

الصارف معارضا بداعية الشهوة والحاجة ، بقى الصارف خاليا عن معارضة الداعى ، فوجب(٣) أن يمتنع الفعل.

الطريق الثانى : هو أنا نثبت هذه المقدمة فى الشاهد ثم نقيس الغائب على الشاهد. أما اثباتها فى الشاهد. فلأنا اذا قلنا لانسان كامل العقل : ان صدقت أعطيناك دينارا ، وان كذبت أعطيناك دينارا. وفرضنا حصول الاستواء بين الصدق والكذب ، فى جميع منافع الدنيا والآخرة ، وفى جميع مضارهما من المدح والذم والثواب والعقاب ، وسهولة التلفظ بتلك اللفظة وصعوبته. فان فى هذه الصورة نعلم بالضرورة : أنه يرجح الصدق على الكذب. وذلك يدل على أن جهة الحسن جهة دعاء وجهة القبح جهة صرف.

واذا ثبت هذا فى الشاهد ، فنقيس عليه الغائب. ونقول : هذا الترجيح لا بدّ فيه من علة وتلك العلة ليست الا علمه بأن هذا حسن وذاك قبيح. لأنا كلما علمناه قبيحا ، علمنا هذه المرجوحية. وكلما علمناه حسنا علمنا هذه الراجحية. فلما دار العلم بأحدهما مع العلم بالآخر وجودا وعدما ، علمنا : أن العلة فى هذا البعث وفى هذا المنع ، ليس الا العلم بهذه الجهة. واذا كان العلم حاصلا فى حق الله تعالى ، وجب أن يترتب عليه هذا البعث وهذا المنع.

* * *

هذا غاية تقرير كلام المعتزلة فى هذه المسألة.

والجواب : أما المقدمة الأولى من هذا الدليل فهى مبنية على أن الحسن والقبح ، انما يثبتان لوجوه عائدة الى الفعل. وقد أبطلنا هذه القاعدة. سلمنا : أنه تعالى عالم بقبح القبيح وعالم بكونه غنيا ، فلم قلتم : ان كل من كان كذلك ، فانه لا يفعل القبيح؟ وتقريره. انكم اما أن تقولوا : ان كل من كان كذلك ، فانه يمتنع مع هذه الحالة أن يفعل القبيح ، أو لا تدعو الامتناع العقلى. فان ادعيتم الامتناع العقلى ، لم يكن الله تعالى قادرا مختارا ، لأن الاستغناء والعلم بذلك

__________________

(٣) فوجب الترك : ب

٣٥٣

الاستغناء من لوازم ذاته ، وترك القبيح من لوازم هذا الاستغناء. وهذا العلم ولازم اللازم : لازم. فترك القبيح من لوازم الذات المخصوصة. واذا كان كذلك ، كان ترك القبيح أمرا واجبا بالذات ، ممتنع العدم.

واذا كان ترك القبيح أمرا واجبا بالذات ، كان ايصال الثواب الى المستحق أمرا واجبا ، وجوبا بالذات. لأن تركه لما كان قبيحا ممتنعا بالذات ، كان فعله فعلا واجبا بالذات. فحينئذ يلزم أن تكون ذاته تعالى موجبة لحصول الثواب ووصوله الى المستحق ، وأن لا يكون قادرا على الترك أصلا. فاثبات الحكمة على هذا الوجه ، يقدح فى كونه قادرا ، الا أن الحكمة مفرعة على كونه قادرا. والفرع اذا استلزم فساد الأصل كان باطلا ، فلقول بالحكمة يجب أن يكون باطلا على هذا القول.

وأيضا : اذا كان الفعل موقوفا على الداعى ، لزم الجبر ، واذا لزم الجبر كان الله تعالى فاعلا لجميع أفعال العباد ، بواسطة خلق القدرة والداعى الموجب لها. واذا كان كذلك ، امتنع أن يقال : انه تعالى لا يفعل هذه الأفعال.

وأما القسم الثانى : وهو أن تقولوا : ان كونه تعالى غنيا ، مع كونه عالما بكونه غنيا ، لا ينافى فعل القبيح. ولم يكن بين حصول هذا الفعل وحصول ذلك الوصف منافاة ولا معاندة أصلا ، فحينئذ يتعذر الاستدلال بذلك الوصف على أنه تعالى لا يفعل القبيح ، لأن كل ما لم يكن فيه امتناع ، لم يلزم من فرض وجوده محال ولا فساد.

وهذا سؤال صعب على ما ذكروه. والله أعلم بالصواب (٤).

* * *

(تم الجزء الأول. ويليه الجزء الثانى وأوله المسألة السابعة والعشرون فى اثبات الجوهر الفرد).

__________________

(٤) فى هامش ب : جرت العادة أن يجعل هذا آخر الجزء الأول من الكتاب.

٣٥٤