الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

العلم. لأن الواحد منا قد يكون خاليا عن الجهل بالشيء بهذا التفسير ، مع أنه لا يكون عالما بالشيء. فثبت : أن كونه تعالى عالما قادرا ، أمر زائد على ذاته. وهو المطلوب.

قال أصحاب «أبى هاشم» : نحن لا ننازع فى اثبات هذا الزائد. لا أنا نقول : هذا الزائد صفة. والصفة لا تكون معلومة ولا مجهولة وأنتم تقولون : هذه الصفة معلومة. فموضع الخلاف هاهنا.

الا أنا نقول : اثبات صفة غير معلومة ، مذهب اختاره «أبو هاشم» و «القاضى عبد الجبار بن أحمد» وهو فى غاية الضعف ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : ان التصديق مسبوق بالتصور ، فلولا أنكم تصورتم هذه الصفة ، والا لامتنع منكم أن تحكموا عليها بأنها غير معلومة. وهذا القول يؤدى ثبوته الى نفيه. فيكون باطلا.

الحجة الثانية : انا نعلم كون الذات موصوفة ، ولو لا أنا تصورناها وعقلناها ، والا لما كان يمكننا أن نحكم بكون الذات موصوفة بها.

الحجة الثالثة : انكم تميزون بين الصفة المسماة بالعالمية ، وبين الصفة المسماة بالقادرية ، وتفرقون أن باعتبار صفة القادرية يصح الايجاد ، وباعتبار صفة العالمية يصح الاتقان والاحكام. ولو لا أنكم تصورتم هذه الصفات وعقلتموها ، لما قدرتم على هذا التمييز.

واحتج منكرو الصفات بوجوه :

أما الفلاسفة : فقد عولوا على حرف واحد ، وهو أنه ثبت أن ذاته سبحانه وتعالى واجب الوجود لذاته ، فلو اتصفت تلك الذات

٢٢١

بصفة ، لكانت تلك الصفة اما أن تكون واجبة لذاتها ، أو ممكنة لذاتها.

والأول باطل بوجهين :

أحدهما : ما ثبت أن واجب الوجود لذاته ، يمتنع أن يكون اكثر من واحد.

وثانيهما : ان الصفة مفتقرة الى الذات. والمفتقر الى الغير ممكن لذاته ، لا واجب لذاته. وأما أن كانت الصفة ممكنة لذاتها ، افتقرت الى مؤثر. ولا مؤثر الا تلك الذات. فيلزم كون الذات البسيطة قابلة وفاعلة معا. وذلك محال. وهذه الشبهة قد ذكرنا جوابها فيما قبل.

وأما المعتزلة : فقد تمسكوا فى نفى [مطلق] الصفات بوجوه :

أولها : عالمية الاله صفة واجبة والواجب لا يعلل. وانما قلنا : ان عالميته صفة واجبة والواجب لا يعلل. لأنها لو كانت جائزة لا فتقرت الى الموجد والمخصص. وانما قلنا : ان الواجب لا يعلل ، لأن الافتقار الى العلة انما يكون لأجل أن يترجح وجوده على عدمه ، لا لأجل تلك العلة. واذا كان الرجحان على سبيل الوجوب حاصلا ، وجب كونه غنيا عن العلة.

الشبهة الثانية : لو كان علم الله تعالى أمرا زائدا على ذاته ، لكان الله تعالى محتاجا فى أن يعلم الأشياء ويقدر عليها الى تلك الصفة. والحاجة على الله تعالى : محال.

الشبهة الثالثة : المعقول من قيام العرض بالجوهر : كون العرض حاصلا فى الحيز المعين ، تبعا لحصول محله فيه. والحال انما يتميز عن المحل ، بسبب أن الحال حاصل فى ذلك الحيز على سبيل التبعية. والمحل حاصل فيه على سبيل الأصالة. أما فى حق الله تعالى فذاته غير مختصة بالمكان والجهة أصلا ، فلم يحصل التفاوت بين الصفة والموصوف من هذا الوجه. وحينئذ لم يكن جعل أحدهما موصوفا ،

٢٢٢

والآخر صفة ، أولى من انقلب والعكس. فيلزم كون كل واحد منهما موصوفا بالآخر وصفة له. وذلك محال. ولما كان القول بقيام الصفة بذاته يفضى الى هذا المحال ، وجب أن يكون قيام الصفة بذاته محالا.

الشبهة الرابعة : لو قامت الصفات القديمة بالذات القديمة ، لكانت الصفات والذات متشاركتين فى القدم. والقدم وصف ثبوتى ، لأنه عبارة عن نفى العدم السابق. ونفى النفى ثبوت. فاذن الذات والصفات تشتركان فى هذا الوصف الثبوتى المسمى بالقدم. فاما أن يتميز الذات عن الصفة باعتبار آخر ، أو لا يتميز. فان تميز. فما به المشاركة غير ما به المباينة ، فيكون كل واحد من الذات والصفات متركبا من هذين الاعتبارين ـ أعنى ما به يشتركان وما به يتباينان ـ ثم ان كل واحد من ذينك الاعتبارين لا بد أن يكون أيضا قديما ، لأنه جزء جزء القديم. واذا اشترك ذانك الجزءان فى القدم ، فلا بد وأن يتباينا باعتبار آخر ، وحينئذ يتركب كل واحد من ذينك الجزءين من جزءين آخرين. ويلزم التسلسل. وهو محال.

وأما ان قلنا : بأن الذات والصفات بعد اشتراكهما فى القدم ، لا يتميز كل واحد منهما عن الآخر بماهية مخصوصة ، فحينئذ تكون الذات والصفة مثلين. ولما كانت الذات إلها وجب أن تكون الصفة إلها ، فيكون هذا قولا بتعدد الآلهة.

وأيضا اذا كانت الذوات والصفات متماثلين ، لم يكن قيام أحدهما بالآخر أولى من قيام الآخر به ، فتكون الذات صفة ، والصفة ذاتا ، والعلم قدره والقدرة علما. وكل ذلك محال. ولما كان القول باثبات الصفة القديمة مفضيا الى هذا المحال ، وجب أن يكون القول به محال.

الشبهة الخامسة : لو كان الله تعالى عالما بالعلم ، قادرا بالقدرة ، لكان علمه وقدرته وحياته وذاته موجودات متغايرة ، فيكون هذا قولا بقدماء متغايرة. وذلك كفر باجماع المسلمين.

٢٢٣

الشبهة السادسة : ان الله تعالى قد كفر النصارى ، فى قوله تعالى : (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا : إِنَّ اللهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) فلا يخلو اما أن يقال : انه تعالى كفرهم ، ثنهم أثبتوا ذواتا ثلاثة قديمة قائمة بأنفسها ، أو لأنهم أثبتوا ذاتا (٣) موصوفة بصفات متباينة.

والأول باطل. لأن النصارى لا يثبتون ذوات ثلاثة قديمة قائمة بأنفسها. ولما لم يقولوا بذلك ، استحال أن يكفرهم الله بسبب ذلك. ولما بطل القسم الأول ، ثبت القسم الثانى. وهو أنه تعالى انما كفرهم لأنهم أثبتوا ذوات موصوفة بصفات متباينة. ولما كفر النصارى لأجل أنهم أثبتوا صفات ثلاثة ، فمن أثبت الذات مع الصفات الثمانية ، فقد أثبت تسعة أشياء. وكان كفره أعظم من كفر النصارى بثلاث مرات.

هذا مجموع شبه المعتزلة فى نفى مطلق الصفات.

* * *

أما شبههم فى نفى صفة (٤) العلم خاصة. فمن وجوه :

* * *

الشبهة الأولى : لو كان عالما بالعلم ، لكان علمه (٥) اذا تعلق بشيء يكون ذلك الشيء متعلق علمنا. ومتعلق علم الله تعالى : من وجه واحد ، ومن طريقة واحدة. وكل علمين كذلك ، فهما مثلان : فيلزم أن يكون علم الله وعلمنا مثلين. فيلزم من حدوث علمنا حدوث علم الله تعالى ، ومن قدم علم الله تعالى ، قدم علمنا. ولما بطل الوجهان ، علمنا : أنه تعالى عالم لا بالعلم.

لا يقال : هذا لازم على نفاة الصفات فى العالمية. لأنا نقول : احترزنا عن هذا بقولنا : ان العلمين يتعلقان بمعلوم واحد على وجه

__________________

(٣) ذواتا : ا

(٤) مطلق : ا

(٥) علمنا : ب

٢٢٤

واحد على طريقة واحدة. وهذا غير لازم فى كونه تعالى عالما. لأن علمه تعالى يتعلق بذلك المعلوم تعلق العالمية (٦) لا تعلق العلوم. وعلمنا لا يتعلق به تعلق العالمية بل تعلق العلوم. فقد اختلفت الطريقة. أما اذا كان تعالى عالما بالعلم ، تعلق علمه بذلك المعلوم ، وتعلق علمنا أيضا تعلق المعلوم ، فكان تعلق كل واحد منهما به على طريقة واحدة ، فيلزم التماثل. فظهر الفرق.

الشبهة الثانية : لا شك أنه تعالى عالم بالمعلومات التى لا نهاية لها. فاما أن يعلم كل تلك المعلومات بعلم واحد ، أو بعلوم متناهية ، أو بعلوم غير متناهية؟ والكل باطل. فبطل القول بكونه تعالى عالما بالعلم انما قلنا : انه لا يجوز أن يعلم الكل بعلم واحد : من وجوه :

الأول : انه يصح أن يعلم كونه عالما بأحد المعلومين ، مع الشك فى كونه تعالى عالما بالمعلوم الآخر. والمعلوم غير ما هو غير معلوم.

الثانى : ان العلم المتعلق بالسواد ، مخالف للعلم المتعلق بالبياض فى الشاهد ، فلو جاز تعلق العلم الواحد فى الغائب بالمعلومات الكثيرة ، لكان ذلك العلم قائما مقام العلوم المختلفة فى الشاهد ، واذا جاز كون الشيء الواحد قائما مقام الأشياء المختلفة ، فلم لا يجوز قيام الصفة الواحدة مقام الصفات المختلفة ، حتى تثبت لله تعالى صفة واحدة تكون علما وقدرة وحياة؟ بل لم لا يجوز أن تكون ذاته قائمة مقام الذات ، ومقام جملة الصفات. وحينئذ يلزمكم نفى الصفات؟

الثالث : انه لو جاز تعلق العلم الواحد بالمعلومين ، لم يكن تعلقه بمعلومين أولى من تعلقه بثلاثة أو أربعة ، فيفضى ذلك الى تعلقه بمعلومات لا نهاية لها فى الشاهد. وكل ذلك محال.

__________________

(٦) العالمين : الأصل

٢٢٥

فثبت بهذه الوجوه : أنه تعالى يمتنع كونه عالما بكل المعلومات بعلم واحد.

وانما قلنا : انه لا يجوز أن يعلم هذه المعلومات بعلوم متناهية. لأن المتناهى اذا وزع على غير المتناهى ، لزم أن يكون المعلوم بكل علم أشياء كثيرة. وقد بينا أنه لا يجوز أن يعلم بالعلم الواحد أكثر من معلوم واحد. وانما قلنا : انه لا يجوز أن يعلم المعلومات التى لا نهاية لها بعلوم لا نهاية لها ، لأن وجود عدد لا نهاية له محال. وذلك لأن كل عدد موجود. فهو قابل للزيادة والنقصان. وكل ما كان كذلك فهو متناه ، فكل عدد موجود فهو متناه. والعدد الّذي لا نهاية له يمتنع وجوده. ولما كان كونه تعالى عالما بالعلم ، لا بد وأن يكون على أحد هذه الأقسام وثبت أنها بأسرها باطلة ، ثبت : أن كونه تعالى عالما بالعلم محال.

الشبهة الثالثة : لو كان عالما بالعلم ، لكان اما أن يعلم ذلك العلم (٧) بنفس ذلك العلم ، أو بعلم آخر. ولأول باطل. لأن كون الشيء عالما بالشيء ، نسبة مخصوصة بين العالم والمعلوم. والنسبة لا تتحقق الا بين الشيئين. فثبت : أن العلم الواحد يمتنع أن يكون علما بنفسه. والثانى باطل أيضا. لأنه لو افتقر فى معرفة العلم الأول الى علم ثان ، لافتقر فى معرفة العلم الثانى الى علم ثالث. ويلزم التسلسل. وهو محال.

الشبهة الرابعة : لو كان تعالى عالما بالعلم ، لكان ذا علم. ولو كان ذا علم ، لحصل فوقه عليم. لقوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ : عَلِيمٌ) وهذا محال ، فهذا محال. فوجب أن لا يكون عالما بالعلم.

__________________

(٧) الشيء : ب

٢٢٦

وأما شبههم فى نفى صفة القدرة. فمن وجهين :

الشبهة الأولى : ان القدرة فى الشاهد مختلفة. وهى مع اختلافها مشتركة فى أنها لا تصلح لخلق الجسم. فهذا الحكم المشترك لا بد من تعليله بوصف مشترك. ولا مشترك بينهما الا كونها قدرا. واذا كان كونها قدرا علة لأن لا تكون صالحة لخلق الجسم وجب فى كل ما كان قدرة أن لا تكون صالحة لخلق الجسم. فلو كان الله تعالى قادرا بالقدرة ، لوجب أن لا يقدر على خلق الجسم ، واللازم محال فالملزوم مثله.

قالوا : هذا الكلام لازم على أصول «الأشعرية» فانهم قالوا : العرض والجوهر مشتركان فى صحة الرؤية. فلا بد من استناد هذا الحكم المشترك الى وصف مشترك. ولا مشترك يعقل بين الجوهر وبين العرض الا الوجود أو الحدوث. والحدوث لا يصلح لهذه العلة ، فبقى الوجود. والله تعالى موجود ، فوجب أن تصح رؤيته. فكذا نقول : القدرة فى الشاهد مشتركة فى أنها غير صالحة لخلق الجسم ، وهذا الحكم المشترك لا بد من تعليله بوصف مشترك ، والمشترك هاهنا هو كونها قدرا ، فوجب أن يكون كونها قدرا ، علة لهذا الامتناع. فوجب أن يحصل هذا الامتناع فى كل ما كان قدرة.

الشبهة الثانية : وهى ان القدرة فى الشاهد ، مع اختلافها ، لا يصلح شيء منها لخلق الجسم ، فلو فرضنا قدرة فى الغائب ، لكانت تلك القدرة اما أن تكون مثلا لهذه القدرة الموجودة فى الشاهد ، أو مخالفة لها. فان كانت تلك القدرة مثلا لهذه القدرة فى الشاهد ، ثم ان هذه القدرة لا تصلح لخلق الجسم ، فكذا تلك القدرة لا تصلح لخلق الجسم. فان كانت تلك القدرة مخالفة لهذه القدرة ، لم تكن مخالفتها لهذه القدرة أشد من مخالفة بعض هذه القدر لبعض. ولما كانت هذه القدرة مع ما بينا من المخالفة لا يصلح شيء منها لخلق الجسم ، فكذلك تلك القدرة الغائبة ، وجب أن لا تصلح لخلق الجسم.

٢٢٧

فهذه جملة شبه المخالفين فى هذه المسألة.

والجواب عن الشبهة الأولى : لم لا يجوز أن تكون الصفة ممكنة لذاتها واجبة لوجوب الذات؟ قوله : «يلزم كون الذات قابلة وفاعلة معا». قلنا : ولم قلتم : ان ذلك محال؟ قوله «لأن الواحد لا يصدر عنه الا أثر واحد» قلنا : سنجيب عن شبهتكم فى هذه المسألة ان شاء الله تعالى.

والجواب عن الشبهة الأولى للمعتزلة فى العلم ـ وهى قولهم : عالمية الله تعالى صفة واجبة والواجب لا يعلل ـ فنقول : الجواب عنه من وجوه :

أحدها : ان قولكم : عالمية الله تعالى واجبة : قدر مشترك بين أن تكون عالمية الله تعالى واجبة لذاته ، وبين أن تكون عالمية الله تعالى واجبة لوجوب اتصافه بالعلم واذا كان كذلك فبتقدير أن تكون عالمية الله تعالى لاجل وجوب اتصافه بالعلم لم يلزم من كون عالميته واجبة بهذا التفسير ، استغناؤه عن العلم. الا أن وجوب الشيء بالشيء ، لا يقتضي استغناؤه عنه. وان ادعيتم أصل وجوب العالمية بهذا القدر لا يقتضي امتناع تعليل العالمية بالعلم. فان ادعيتم أصل وجوب العالمية. فهذا القدر لا يقتضي امتناع تعليل العالمية بالعلم. وان ادعيتم أن عالمية الله واجبة لنفس الذات ، فمسلم : أنه لو ثبت لكم هذه المقدمة ، وجب القطع بامتناع تعليل العالمية بالعلم ، الا أن قولكم : عالمية الله تعالى واجبة لنفس الذات ، هو ادعاء نفس المطلوب. فلا يمكن جعله مقدمة فى اثبات المطلوب. فثبت : أن هذه الشبهة مغالطة.

وثانيها : ان هذه الشبهة متناقضة. وذلك لأنكم جعلتم كون العالمية واجبة ، علة لأن لا تكون معللة ، وكونها غير معللة أمر واجب

٢٢٨

عندكم ، فاذا عللتم كونها غير معللة ، بكونها واجبة ، فقد عللتم الحكم الواجب. وذلك مناقض لكلامكم.

وثالثها : انكم تقولون : انه تعالى ممتاز عن خلقه بحالة توجب أحوالا أربعة وهى : الموجودية والعالمية والحيية والقادرية. وهذه الأحوال الأربعة واجبة الثبوت لله تعالى ، ثم انكم عللتموها بالحالة الخامسة. فقد بطل قولكم : ان الواجب لا يجوز تعليله.

وأما الجواب عن الشبهة الثانية للمعتزلة ـ وهى قولهم : لو كان عالما بالعلم ، لاحتاج فى معرفة الأشياء الى تلك الصفة ـ فنقول : الاحتياج لو افتقر فى حصول تلك التعلقات ـ التى هى المسماة بالشعور والعلم ـ الى شيء آخر ، فنحن لا نقول ذلك ، بل نقول : الموجب لتلك التعلقات هو نفس الذات. وعلى هذا التقدير ، لا يلزم تحقق الحاجة. وأما على قول من أثبت أمورا ثلاثة : الذات والمعنى والتعلقات ، فجوابه : لم لا يجوز أن تكون الذات موجبة للمعنى والمعنى موجبا للتعلقات؟ فان أردتم بالحاجة هذا المعنى ، فلم قلتم : ان ذلك محال؟ فان النزاع ليس الا فيه ، وان أردتم بالحاجة شيئا آخر فبينوه.

والجواب عن الشبهة الثالثة ـ وهى قولهم : حلول الشيء فى الشيء ، عبارة عن حصول الحال فى الحيز ، تبعا لحصول محله فيه ـ فنقول : هذا التفسير باطل. ويدل عليه وجهان :

الأول : ان كون الجسم حاصلا فى الحيز ، هو المسمى بالكائنية ، وهى صفة حالة فى الجسم قائمة به ، فلو كان الحلول عبارة عما ذكرتم ، لزم أن تكون هذه الكائنية حاصلة فى الحيز تبعا لحصول ذلك الجسم فيه ، فيكون كون الجسم موصوفا بكونه حاصلا فى هذا

٢٢٩

الحيز ، مشروطا بحصول آخر لهذا الجسم فى هذا الحيز. ثم الكلام فى ذلك الحصول كالكلام فى الأول. فيلزم أن يكون الجسم حاصلا فى ذلك الحيز مرارا لا نهاية لها دفعة واحدة. وذلك محال. فثبت : أن كونه حاصلا فى ذلك الحيز صفة قائمة به ، وحالة فيه. وثبت : أن ما ذكرتم من تفسير الحلول والقيام غير حاصل فيه. فثبت : أن تفسير الحلول والقيام بما ذكرتم باطل.

الثانى : وهو انكم لا تنكرون أن ذات الله تعالى موصوفة بالأحوال وبالأحكام. فقد حصل كون الشيء موصوفا وصفة بدون ما ذكرتم من التفسير ، فكان ما ذكرتموه باطلا.

واذا عرفت هذا فنقول : الذات والصفة حقيقتان مختلفتان لذاتيهما ، فقول القائل : «ليس أحدهما أن يكون موصوفا ، والآخر صفة : أولى من العكس» : ان كان المراد به : أنا لا نعرف ما به حصلت تلك الأولوية. فهذا مسلم. واكن لا يلزم من عدم علمنا به ، عدمه فى نفسه ، وان أردتم به عدم الأولوية فى نفس الأمر. فهذا غير مسلم. لأن الذات والصفة ، لما كانتا مختلفتين فى الماهية ، فلعله حصلت هذه الأولوية لنفس تلك الماهية ، وان كنا لا نعرف ما لأجله حصلت هذه الأولوية. فسقط هذا الكلام بالكلية.

والجواب عن شبهتهم الرابعة : انا لا نسلم أن القدم مفهوم ثبوتى. قوله : «القدم عبارة عن نفى العدم السابق» قلنا : لا نسلم ، بل هو عبارة عن نفى كون الشيء مسبوقا بذلك العدم ، وكونه مسبوقا بالعدم أمر وجودى.

لا يقال : لو كان كونه مسبوقا بالعدم أمرا وجوديا (٨) لكان

__________________

(٨) بالعدم لكان أمرا ثبوتيا زائدا ولكان الخ : ب

٢٣٠

ذلك الزائد ، اما أن يكون قديما ، فيلزم أن تكون الذات محدثة ، والصفة قديمة وهو محال. أو يكون محدثا فيكون مسبوقا بالعدم ، فتكون المسبوقية زائدة عليه. ولزم التسلسل. لأنا نقول : هذا معارض من وجه آخر ، وهو أن مسبوقية وجوده بالعدم ، صفة من صفات وجوده ، ونحن ندرك بالضرورة تفرقة بين هذه الصفة وبين نفس العدم المحض ، فوجب أن تكون هذه المسبوقية صفة ثبوتية.

سلمنا : أن القدم أمر ثبوتى. فلم لا يجوز أن يقال : الذات والصفة حقيقتان مختلفتان لذاتيهما الا أنهما مشتركتان فى هذا القدم ، والأشياء المختلفة لا يبعد فى العقل اشتراكها فى لازم واحد؟ والّذي يحقق ما ذكرناه : أن الحوادث مختلفة فى الماهيات ، ومشتركة فى كونها حادثة ، فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك فى القدم؟

والجواب عن شبهتهم الخامسة : ان أصحابنا قالوا : الصفة مع الذات لا هو ولا غيره ، واستبعد المخالفون ذلك. وهذا البحث لفظى ، فانا نقول : ان عنيتم بالغيرين أشياء مستقلة بالذات والحقيقة ، فلا نسلم أن الذات والصفة غيران ، على هذا التفسير. وان عنيتم بالغيرين كل شيئين سواء كانا مستقلين أو كان أحدهما صفة للآخر ، والآخر موصوفا به. فلم قلتم : ان اثبات شيئين متغايرين قديمين بهذا التفسير باطل ، فان النزاع ما وقع الا فيه؟

والجواب عن شبهتهم السادسة : ان الله تعالى انما كفر النصارى ، لأنهم أثبتوا صفات ثلاثة هى فى الحقيقة ذوات. ألا ترى أنهم جوزوا انتقال أقنوم الكلمة من ذات الله الى بدن عيسى عليه‌السلام. والشيء الّذي يكون مستقلا بالانتقال من ذات الى ذات أخرى يكون مستقلا بنفسه قائما بذاته. فهم وان سموها صفات ، الا أنهم قائلون

٢٣١

فى الحقيقة بكونها ذوات. ومن أثبت كثرة فى الذوات المستقلة بأنفسها ، فلا شك فى كفره. فلم قلتم : ان من أثبت الكثرة فى الصفات لزمه الكفر؟

وأما الشبه الأربعة التى تمسكوا بها فى نفى علم الله :

فنقول

أما الشبهة الأولى : فالجواب عنها بوجوه :

الأول : لم لا يجوز أن يقال : العلمان المتعلقان بمعلوم واحد على وجه واحد وعلى طريقة واحدة ، فانهما متساويان فى هذا التعلق ، وهذا التعلق من لوازمها. وقد ثبت أن الأشياء المختلفة فى الماهية ، لا يمتنع اشتراكها فى العقل فى لازم واحد ، واذا كان كذلك ، لم يلزم من استواء العلمين فى هذا القدر تماثلهما؟ فان قالوا : فاذا لم يلزم من هذا القدر تماثل العلمين ، فبأى طريق تعرفون تماثل العلمين فى الشاهد؟ فنقول : قد بينا أن هذا القدر لا يقتضي الجزم بالتماثل وأن لم يحصل فى الشاهد الا هذا الطريق ، وجب أن لا يقطع فى الشاهد أيضا بالتماثل ، بل يتوقف فيه. وان حصل فيه طريق آخر سوى هذا الطريق ، قطعنا به. وهذا جواب قاطع.

الثانى : لم لا يجوز أن يقال : العلم فى الشاهد غير متعلق بالمعلوم ، انما المتعلق بالمعلوم هو العالمية. واذا لم يكن العلم متعلقا بالمعلوم ، بطل قولهم العلمان المتعلقان بمعلوم واحد على وجه واحد على طريقة واحدة ، يوجب القول بكونهما متماثلين.

الثالث : ان ما ألزموه علينا فى العلمين ، يلزمهم فى العالميتين. فان عالمية الله تعالى وعالميتنا ، قد تعلقنا بالمعلوم الواحد من الوجه الواحد على الطريقة الواحدة فيلزمهم أن تكون عالمية الله تعالى مثلا لعالمية واحد منا. وتلزمهم المحالات المذكورة.

والرابع : هب أنه يلزم أن يكون علم الله تعالى مثلا لعلم الواحد منا ، لكن لم يلزم من هذا القدر التساوى فى القدم والحدوث؟

٢٣٢

أليس أن الوجود فى الشاهد والغائب له حقيقتة واحدة ، ومعقول واحد ، مع أن الوجود فى الشاهد متجدد ، وفى الغائب دائم؟ فلم لا يجوز أن يكون الأمر كذلك فى المعلوم؟

وأما الشبهة الثانية ـ وهى قولهم : اما أن يعلم المعلومات التى لا نهاية لها بعلم واحد ، أو بعلوم متناهية ، أو بعلوم غير متناهية ـ فنقول : هذه الشبهة بتمامها واردة عليكم فى العالمية. وكل ما تقولونه فى العالمية ، نقوله فى العلم.

ثم نقول : لم لا يجوز أن يعلم جميع المعلومات بعلم واحد؟ وما ذكرتموه من الوجوه فى بيان أنه لا يجوز أن يعلم بالعلم الواحد الا معلوما واحد : فهو معارض بدليل آخر. وهو أن العلم المتعلق بكون السواد ضد البياض مثلا ، لا بد أن يكون ذلك العلم بعينه متعلقا بالبياض والسواد ، لأنه اذا لم يكن ذلك العلم المتعلق متعلقا بالسواد والبياض ، فحينئذ لا يكون متعلقا بالمضادة بين السواد والبياض. بل أقصى ما فى الباب : أنه يكون متعلقا بالمضادة. ونحن لا نلزم الكلام فى العلم المتعلق بالمضادة. وانما نلزم الكلام فى العلم المتعلق بمضادة السواد والبياض.

لا يقال : هب أنه حصل من هذا الدليل ، أن كل معلومين يجوز (٩) أن يعلم أحدهما مع الذهول عن الآخر ، فانه يجوز أن يعلما بعلم واحد. لأنا نقول : لما ثبت أن العلم المتعلق بمضادة السواد والبياض ، متعلق بالسواد والبياض معا. فلا شك أن السواد يجوز أن يعلم حال الذهول عن البياض ، فلما صار السواد والبياض معلومين بهذا العلم الواحد ، حصل أن المعلومين اللذين يجوز أن يعلم أحدهما مع الذهول عن الآخر ، فانه لا يمتنع أن يعلما بعلم واحد. فثبت بهذا الدليل : أنه لا يمتنع تعلق العلم الواحد بالمعلومات الكثيرة.

__________________

(٩) يمتنع : ب

٢٣٣

وأما الشبهة الثالثة ـ وهى قولهم : اما أن يعلم علمه بنفسه ، أو بعلم آخر ـ قلنا : هذا وارد عليكم فى العالمية أيضا سواء بسواء. وأيضا : فلم لا يجوز أن يكون العلم متعلقا بنفسه ، ثم ثانيا بذلك التعلق. فيكون هناك تعلقات مترتبة كثيرة. ولا بد لكم من التزام مثل هذا الكلام فى العالمية.

وأما الشبهة الرابعة ـ وهى التمسك بقوله تعالى : (وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ)(١٠) فجوابها : انها معارضة بالآيات الدالة على اثبات العلم. وهى أربعة : قوله تعالى (أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ) (١١) (وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) (١٢) ـ (وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ) (١٣) (إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) (١٤).

وأما الشبه التى تمسكوا بها فى نفى قدرة الله تعالى : فنقول :

أما الجواب عن الشبهة الأولى : فهو أنه لا نزاع فى أن القدرة التى فى الشاهد ، لا تصلح لخلق الأجسام ، ولا نزاع فى أنه لا بد من تعليل هذا الحكم. لكن لم لا يجوز تعليل هذا الحكم بخصوصية ماهية كل واحدة من تلك القدر؟ أقصى ما فى ذلك الباب : أنه يلزم تعليل الأحكام المتساوية بالعلل المختلفة ، الا أن هذا عندكم غير ممتنع. وهذا هو الحق. لما بينا أن الأشياء المختلفة فى الماهية لا يمتنع اشتراكها فى بعض اللوازم.

سلمنا : أنه لا بد من تعليل هذه الأحكام المتساوية بوصف واحد

__________________

(١٠) يوسف ٧٦

(١١) النساء ١٦٦

(١٢) فصلت ٤٧

(١٣) البقرة ٢٥٥

(١٤) لقمان ٣٤

٢٣٤

مشترك بينها ، ولا مشترك بينها الا كونها قدرا. فلم لا يجوز أن يقال : هذه القدر (٦) مشتركة فى وصف. لأجل ذلك الوصف يمتنع خلق الجسم بها الا أن ذلك الوصف لا تندرج فيه القدرة القديمة ، وتندرج فيه جميع هذه القدر الحادثة؟ أقصى ما فى الباب : انا لا نعرف ذلك الوصف. ولكن السائل يكفيه مجرد الاحتمال. وأيضا : فهذا هو عين الدليل الّذي يتمسك به أصحابنا فى جواز الرؤية. فان صح هذا الدليل ، لزمكم القطع بجواز الرؤية على الله تعالى ، وأنتم لا تقولون به.

والجواب عن شبهتهم الثانية : لم لا يجوز أن يقال : تلك القدرة القديمة مخالفة لهذه القدرة التى فى الشاهد؟ قوله : «ليست مخالفة تلك القدرة ، لهذه القدرة ، أعظم من مخالفة بعضها لبعض» قلنا : هذا فى غاية الركاكة. لاحتمال أن تكون تلك القدرة القديمة لها خصوصية ، ولا توجد تلك الخصوصية فى شيء من القدر الموجودة فى الشاهد ، فلا جرم كانت تلك القدرة صالحة لخلق الأجسام ، ولم تكن غيرها صالحة لهذا المعنى. ومع قيام الاحتمال ، بطل ما ذكرتم.

__________________

(٦) هذا القدر المشترك : ب

٢٣٥

المسألة السادسة عشرة

فى

كونه تعالى سميعا بصيرا

وهى مرتبة على فصلين :

الفصل الأول

فى

شرح حقيقة الابصار والاسماع

أما الأبصار :

فنقول : انا اذا نظرنا الى وجه «زيد» نظرا بالاستقصاء ، ثم غمضنا العين ، فحالة التغميض نكون عالمين بتلك الصورة علما جليا خاليا عن الشك والشبهة ، واذا فتحنا العين مرة أخرى ونظرنا إليه ، علمنا بالبداهة حصول تفرقة بين الحالتين. فهذه الحالة الزائدة الحاصلة عند النظر الى ذلك المرئى ، أمر مغاير للعلم الّذي كان حاصلا حال تغميض العين. وهذا التغاير هو الأبصار. فثبت : أن الابصار أمر مغاير للعلم.

قالت الفلاسفة : لم لا يجوز أن يقال : التفاوت راجع الى أن العين تتأثر من المحسوس حال النظر إليه؟ والّذي يدل على حصول التأثير وجوه :

الأول : ان من نظر الى قرص الشمس نظرا شديدا بالاستقصاء ، ثم غمض عينيه ، فانه يتخيل كأن قرص الشمس حاضر فى خياله.

٢٣٦

ولو اراد أن يدفع ذلك الخيال ، عجز عنه. وهذا يدل على أن الحس قد يتأثر عن المحسوس.

الثانى : ان من نظر الى روضة خضراء نظرا بالاستقصاء الشديد زمانا له قدر ، ثم حول حدقته الى شيء آخر أبيض اللون ، فانه لا يراه أبيض اللون ، بل يرى لونه ممزوجا من البياض والخضرة. وما ذلك الا لأن أثر الخضرة بقى فى حدقته. فلما حول الحدقة الى الشيء الأبيض ، امتزجت الخضرة الباقية فى حدقته بذلك البياض ، فأحس بذلك اللون على وصف الامتزاج.

الثالث : ان من نظر الى المضىء القوى ارتدت حدقته (١) الباصرة مقهورة. وهذا يدل على أن الحس يقبل الأثر من المحسوس.

اذا ثبت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون التفاوت الحاصل بين ما اذا نظرنا الى الشيء ، وبين ما اذا غمضنا العين ، هو كون الحس متأثرا عن المحسوس. وعلى هذا التقدير وجب أن يمتنع الابصار (٢) على الله تعالى ، لأن الابصار لما كان عبارة عن هذا التأثر (٣) وهذا التأثر من صفات الأجسام. والله تعالى ليس بجسم ، وجب أن يكون الابصار ممتنعا على الله تعالى.

أجاب المتكلمون عنه : بأن الابصار ليس معناه هذا التأثر فقط. وذلك لأنا اذا فتحنا العين رأينا نصف كرة العالم دفعة واحدة. وحصول هذه الصورة العظيمة فى الجسم الصغير محال. ومن المعلوم أن موضع التأثر ليس الا نقطة الناظر ، فعلمنا : أن الابصار حالة مغايرة للعلم ، ومغايرة أيضا لتأثير الحس.

__________________

(١) صارت حدقته : ا

(٢) من الله : ا

(٣) التأثير : ا

٢٣٧

قالت الفلاسفة : هب أن الابصار حالة مغايرة لهذا التأثير. لكن لم لا يجوز أن يقال : هذه الحالة مشروطة بحصول هذا التأثر ، ولما كان الشرط ممتنع التحقق فى حق الله تعالى ، كان المشروط أيضا كذلك؟

أجاب المتكلمون : بأنه لما ثبت أن الابصار حالة مغايرة لهذا التأثر ، فنحن انما نعول فى اثبات هذه الحالة لله تعالى ، على الدلائل السمعية. فان ظواهرها دالة على كونه بصيرا. ونحن متمسكون بالظواهر ، الا اذا أقام الخصم دليلا على أن الابصار مشروط بهذا التأثر ، ولما كان هذا الشرط محالا فى حق الله تعالى ، كان المشروط أيضا محالا. لكن هذا اشارة الى المعارضة ، ومن ادعاها فعليه البيان.

فهذا هو الكلام فى الابصار.

* * *

وأما الكلام فى السماع :

فقد قالت الفلاسفة : انه اذا حصل قرع أو قلع ، حصل بسببهما تموج فى الهواء. وذلك التموج سبب لحدوث الصوت. واذا وصل أثر ذلك التموج الى سطح الصماخ ، أحست القوة السامعة بذلك الأثر ، وذلك الاحساس هو السماع. فالمسموع فى الحقيقة هو ذلك الأثر الواصل الى الصماخ.

قال المتكلمون : هذا الكلام باطل ، لأن القوة السامعة ، لو كانت لا تسمع الا ما يصل الى سطح الصماخ ، لما كان الانسان بقوته السامعة يدرك أنه سمع هذا الصوت من هذا الجانب أو من ذلك الجانب ، لأنه اذا كان لا يحس الا بما وصل إليه ، وجب أن لا يحس بتلك الجوانب ، التى وصل منها ذلك الأثر ، كما أن القوة اللامسة والذائقة لما كانتا لا تدركان الا ما يصل إليهما ، لا جرم لا تدركان الجهة التى وصل منها

٢٣٨

المحسوس إليهما. ولما كانت القوة السامعة تميز بين جهة وجهة ، علمنا أنها تدرك الأصوات حيث وجدت الأصوات.

فهذا هو الكلام الملخص (٤) فى حقيقة السمع والبصر.

الفصل الثانى

فى

بيان أنه تعالى موصوف بالسمع والبصر

والدليل عليه : هو أن السمع والبصر من صفات الكمال ، وضدهما من صفات النقصان. والقرآن وارد باثباتهما لله تعالى. قال الله تعالى : (إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى) (٥) وقال ابراهيم لأبيه : (يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ)؟ (٦) وقال الله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٧) واذا كانت النصوص الكثيرة واردة بذلك ، وجب اثباتهما لله تعالى. الا أن يقيم الخصم دلالة على أن ثبوت هاتين الحالتين مشروط بشرط ممتنع التحقق فى حق الله تعالى ، فيجب المصير الى التأويل. وتكون الدلالة اشارة الى المعارضة ، ومن ادعاها كان عليه البيان. هذا هو الّذي يعول عليه فى هذا الباب

واحتج جمهور الأصحاب : بأنه تعالى حي ، وكل حي فانه يصح أن يكون موصوفا بالسمع والبصر ، وكل من صح أن يكون موصوفا بصفة ، وجب أن يكون موصوفا بتلك الصفة أو بضدها. وضد السمع والبصر هو الصمم والعمى. فثبت : أنه لا بد وأن يكون البارى تعالى موصوفا بالسمع والبصر ، أو بالصمم والعمى. وهذان الوصفان من

__________________

(٤) المختصر : ب

(٥) طه ٤٦

(٦) مريم ٤٢

(٧) الأنعام ١٠٣

٢٣٩

باب النقائص والآفات. وهى على الله تعالى محال. ولما امتنع كونه تعالى موصوفا بأضداد السمع والبصر ، وجب كونه تعالى موصوفا بالسمع والبصر. وهو المطلوب.

واعلم : أن هذا الدليل مبنى على مقدمات يعسر تقريرها :

أما المقدمة الأولى : فهى قوله : «كل حي يصح أن يكون موصوفا بالسمع والبصر» فنقول : أليس كل حي يصح فى الشاهد أن يكون موصوفا بالجهل والظن والشهوة والنفرة والألم واللذة ، ثم انه تعالى حي مع أنه لا يصح عليه شيء من ذلك؟ فعلمنا : أنه لا يلزم من كونه حيا ، أن يصح عليه ما يصح على سائر الأحياء.

وتقرير القول فيه : ان ذاته تعالى مخالفة لسائر الذوات ، وحياته تعالى مخالفة لحياة سائر الأحياء. واذا كان كذلك ، لم يلزم من صحة السمع والبصر على سائر الأحياء ، صحتها على ذاته وحياته.

وأيضا : بتقدير أن لا تكون ذاته المخصوصة وحياته المخصوصة منافية للسمع والبصر ، لكن لم لا يجوز أن يقال : ان ثبوتهما مشروط بحصول هذا التأثير ، ولما كان هذا الشرط ممتنع الحصول فى حق الله تعالى ، كان المشروط أيضا كذلك؟

فهذه الاحتمالات قائمة فى قولهم : انه تعالى يصح أن يكون موصوفا بالسمع والبصر.

أما المقدمة الثانية ـ وهى قولهم : كل ما يصح اتصافه بصفة ، فانه لا بد وأن يكون موصوفا بتلك الصفة أو بضدها ـ

فنقول : ان أردتم بضد الصفة عدم الصفة ، كان المعنى أن كل ما صح اتصافه بصفة ، فاما أن يكون موصوفا بها ، واما أن لا يكون. وهذا حق. ولكن لم قلتم : ان عدم اتصافه بتلك الصفة محال؟ فان

٢٤٠