الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

الجملة مقابل بالأول من تلك الجملة ، والثانى من هذه بالثانى من تلك الجملة. فاما أن يتقابل كل واحد من آحاد الجملة الزائدة بواحد من آحاد الجملة الناقصة ، لا الى بداية. فيكون الكل مثل البعض. وذلك محال. واما أن تنقطع الجملة الناقصة من الطرف الأخير ، فتكون الجملة الناقصة متناهية من ذلك الطرف ، والزائدة زادت عليها بأربعة فتكون الجملة الزائدة أيضا متناهية من ذلك الطرف. فيكون للأسباب والمسببات ، فى سلمة التصاعد : طرف ومبدأ. وذلك يمنع من القول بأنه لا نهاية لها. ثم ذلك الطرف ان كان ممكنا لذاته ، افتقر الى مؤثر آخر ، فلم يكن طرفا. هذا خلف. وان كان واجبا لذاته فذلك هو المطلوب.

واذا ظهرت هذه المقدمات. فلنرجع الى أصل البرهان المذكور ، على وجود اثبات واجب الوجود. وهو أنه لا شك فى وجود الموجودات. وكل موجود فهو اما واجب لذاته ، واما ممكن لذاته. فان حصل فى الموجودات موجود واجب لذاته. فذلك هو المطلوب. وان كان ذلك الموجود ممكنا ، افتقر الى مؤثر. والدور والتسلسل باطلان. فلا بد من الانتهاء الى موجود واجب الوجود لذاته. وذلك هو المطلوب.

الطريق الثانى فى اثبات واجب الوجود لذاته : الاستدلال عليه بامكان الصفات.

وتقريره : أن نقول : الأجسام متساوية فى الماهية والحقيقة. ومتى كان الأمر كذلك ، كان كل صفة اتصف بها جسم ، أمكن اتصاف سائر الأجسام بها. ومتى كان الأمر كذلك ، افتقر كل واحد من الأجسام فى اتصافه بصفته المخصوصة الى مخصص ومرجح.

١٢١

وهذا البرهان مبنى على ثلاث مقدمات :

المقدمة الأولى : الأجسام متساوية فى تمام الماهية :

وأجود ما يمكن أن يذكر فى هذا الباب : أن الجسم يمكن تقسيمه الى الفلكى والى العنصرى ، والى الكثيف والى اللطيف. ومورد القسمة يجب أن يكون مشتركا فيه بين الأقسام. فاذن كونه جسما قدر مشترك فيه بين اللطيف والكثيف ، والفلك والعنصر والحار والبارد. وهذا الّذي وقع الامتياز فيه هو صفات الجسم. فثبت : أن الأجسام متساوية فى ذواتها وحقائقها ، والاختلاف الحاصل بينها ليس الا فى صفاتها وأعراضها. وفى هذا المقام أبحاث غامضة عميقة. لا تليق بهذا المختصر.

المقدمة الثانية : وهى أن الأجسام لما كانت متماثلة فى ذواتها وحقائقها ، وجب أن يصح على كل واحد منها ما صح على الآخر :

وذلك لأن قابلية هذا العرض ، ان كانت من لوازم تلك الماهية ، فاذا حصلت تلك الماهية ، لزم حصول تلك القابلية ، فوجب أن يصح على كل واحد منها ، ما صح على واحد منها. وان لم يكن من لوازمها ، كان من عوارضها. فيعود الكلام فى قبلية تلك القابلية. فان كانت أيضا من العوارض ، يلزم اما التسلسل واما الانتهاء الى قابلية لازمة لتلك الماهية. وحينئذ يحصل المطلوب.

فان قال قائل : أفراد النوع الواحد ، وان كانت متساوية فى ماهية ذلك النوع ، لكنها غير متساوية فى كون كل واحد منها (١٥) غير ذلك الشخص وذلك المعين. وذلك لأن تعين هذا ان كان حاصلا

__________________

(١٥) منها ذلك : ب.

١٢٢

لذاك ، فهذا هو عين ذاك ، فلم يكن مغايرا له. فثبت : أن تعين كل واحد من الأفراد غير حاصل للفرد الآخر.

واذا ثبت هذا ، فنقول : لم لا يجوز أن يكون ذلك التعين شرطا لتلك القابلية فى هذا الفرد ، أو يكون تعين الفرد الآخر مانعا من هذه القابلية. واذا كان الأمر كذلك ، لم يلزم أن يصح على كل واحد من أفراد النوع الواحد ، ما صح على فرد من أفراده.

الجواب : أما على قول من يقول : التعين أمر عدمى. فالسؤال ساقط ، وأما عند من يقول : انه أمر ثبوتى. فجوابه : ان ذلك التعين ليس من لوازم تلك الماهية. والا لزم أن يكون ذلك النوع فى ذلك الشخص. لكنه ليس الأمر كذلك ، لأن هذا الكلام مفروض فى نوع حصل له أفراد كثيرة بالفعل. فاذن ذلك التعين الّذي به صار ذلك الشخص ذلك المعين ، أمر غير لازم لتلك الماهية. فهو عارض جائز الزوال. وكل ما كان عارضا لذلك الشخص بسبب ذلك التعين ، وجب أيضا أن يكون جائز الزوال. وذلك يقتضي أن يكون اتصاف كل واحد من الأجسام بما اتصف به ، أمرا ممكنا جائزا.

وعند هذا ظهر أن كل ما صح على العناصر ، فمثله يصح على الأفلاك. فكان الخرق والالتئام والفطور والانشقاق جائزا على الأفلاك ، وكما يمكن انقلاب الأرض ماء ، والماء هواء ، والهواء نارا ، فكذلك يمكن انقلاب الفلك أرضا ، والأرض فلكا. وكما يمكن كون الفلك محيطا بالأرض ، والأرض مركزا ، فكذلك يمكن انقلاب كون الأرض محيطا ، والفلك مركزا ، وهذه المقدمة كما أنها عظيمة المنفعة فى معرفة المبدأ ، فهى أيضا عظيمة المنفعة فى معرفة المعاد ، وتصحيح ما ورد فى القرآن من أحوال القيامة.

المقدمة الثالثة : وهى أن كل جسم يوجد ، فلا بد له من حيز

١٢٣

معين ، ولا بد له من شكل معين ، ولا بد وأن يكون صلبا أو رخوا. وقد دللنا على أن اختصاص كل واحد من الأجسام بصفته المعينة ، لا بدّ وأن يكون من الجائزات. ولا بد للجائز من مرجح ومخصص. فثبت بهذا : افتقار جميع الأجسام فى أحيازها وصفاتها الى مخصص ومرجح ، ثم ذلك المرجح ان كان جسما افتقر هو أيضا فى حيزه المعين ، وشكله المعين ، وصفته المعينة الى مخصص ومرجح ، ثم ذلك المرجح الى مخصص ومرجح. وذلك يفضى الى التسلسل. وهو محال ـ كما سبق ـ فثبت : افتقار جميع الأجسام فى جميع صفاتها الى موجود ليس بجسم ولا بجسمانى. واذا أردنا أن نبين أن ذلك الموجود : واجب الوجود لذاته ، رجعنا الى بعض ما ذكرناه فى البرهان الأول.

الطريق (١٦) الثالث فى اثبات العلم بالصانع تعالى : الاستدلال عليه بحدوث الجواهر والأجسام :

وتقريره : ثبت أن الأجسام محدثة ، وكل محدث فله محدث. فالأجسام مفتقرة الى المحدث. أما بيان أن الأجسام محدثة ، فقد تقدم. وأما بيان أن كل محدث ، فله محدث. فللناس هاهنا طريقان :

الأول : ان كل محدث فهو جائز الوجود لذاته ، وكل ما كان جائز الوجود لذاته ، فهو مفتقر الى المؤثر. وانما قلنا : ان كل ما كان محدثا ، فهو جائز الوجود لذاته. وذلك لأن كل ما كان محدثا ، فقد كان قبل وجوده معدوما. ولو لم تكن ماهيته قابلة للعدم ، لما كان معدوما.

وأيضا : كل محدث ، فانه بعد حدوثه موصوف بالوجود ، ولو لم

__________________

(١٦) البرهان : ص.

١٢٤

تكن ماهيته قابلة للوجود ، لما كان كذلك. فثبت : أن كل ما كان محدثا ، فان ماهيته قابلة للعدم وقابلة للوجود ، ولا معنى للممكن الا ذلك. فثبت : أن كل محدث فانه ممكن الوجود والعدم لذاته. أما أن كل ممكن فانه مفتقر الى المؤثر ، فلما مر تقريره فى البرهان الأول. وبالله التوفيق.

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : انه كان معدوما ، ثم انقلب فى ذلك الوقت المعين(١٧) واجبا لذاته؟ والّذي يدل على أن هذا الّذي ذكرناه : محتمل. وجوه :

الأول : ان العرض عندكم فى الوقت الثانى مستحيل البقاء. واذا كان كذلك فوجوده فى الوقت الأول جائز الوجود ، ثم ان عدمه فى الوقت الثانى واجب لذاته. فاذا عقل أن يكون عدمه بعد وجوده عدما واجبا لذاته ، بحيث يستحيل عقلا أن لا يصير معدوما. فلم لا يجوز أن يصير وجوده بعد عدمه واجبا لذاته ، بحيث يستحيل عقلا أن لا يصير موجودا؟

والثانى : وهو أن هذا الآن الّذي هو آخر الماضى ، وأول المستقبل ، كما وجد ، يمتنع بقاؤه. لأن الحاضر لا يعقل (١٨) أن يكون هو عين المستقبل. فاذن هذا الآن واجب التجدد حين حدث ، وواجب الفناء بعد ذلك. واذا عقل هذا فى الآنات ، التى هى أجزاء الزمان ، فلم لا يعقل مثله فى جميع الحوادث؟

والثالث : العالم بشرط كونه مسبوقا بالعدم سبقا زمانيا ، يمتنع حصوله فى الأزل. لأن الجمع بين النقيضين محال ، ثم فى ما لا يزال

__________________

(١٧) معينا واجبا : أ.

(١٨) يمتنع : أ.

١٢٥

حدث ذلك الامكان. وحدوث ذلك الامكان ليس بالفاعل. لأن كل ما كان حصوله بالفاعل ، كان ممتنع الحصول عند فرض عدم الفاعل. وصحة وجود العالم فى لا يزال ، حاصلة سواء حصل الفاعل ، أو لم يحصل. فعلمنا أنه حدثت هذه الصحة لا بالفاعل ، بل لذاته. فثبت : أن حدوث الشيء لذاته معقول.

سلمنا : أن ما ذكرتم يدل على أن كل محدث ممكن لذاته ، لكنه معارض بحجج دالة على أن القول بوجود شيء ممكن الوجود : محال.

الحجة الأولى : انا اما أن نقول : الوجود نفس الماهية ، واما أن نقول : الوجود غير الماهية. وعلى كل واحد من القولين ، فالقول بالامكان والجواز غير معقول. أما على القول بأن الوجود نفس الماهية ، فنقول : الامكان غير معقول. وذلك لأن الشيء الموصوف بالامكان هو الّذي يجوز أن يكون موجودا ، ويجوز أن يكون معدوما. والحكم بجواز الوجود والعدم على تلك الماهية ، يستدعى جواز كون تلك الماهية مقارنة للوجود ، ومقارنة للعدم. ومتى كان الأمر كذلك ، امتنع أن يقال : الوجود هو نفس الماهية. وأما على القول بأن الوجود غير الماهية ، فلأن على هذا التقدير. اما أن يكون الموصوف بالامكان هو الماهية ، أو الوجود ، أو كون الماهية موصوفة بالوجود. والكل محال. واما أنه لا يجوز أن يكون الموصوف بالامكان هو الماهية. لأن كل ما كان ممكن الثبوت ، لم يمتنع تقرره ، مع عدم ذلك الشيء. فلو قلنا : السواد يمكن أن يكون سوادا ، كان معناه : السواد يمكن أن يحكم عليه بأنه سواد. ومعلوم أن ذلك محال. لأنه يقتضي أن يكون حال كونه سوادا ، محكوما عليه بأنه غير سواد. وذلك محال. واما أنه لا يجوز أن يكون الموصوف بالامكان هو الوجود ، لأنه يرجع حاصله الى أن الوجود يمكن أن لا يكون وجودا. وهذا محال باطل

١٢٦

أيضا. واما أنه لا يجوز أن يكون الموصوف بالامكان هو موصوفية الماهية بالوجود ، لأن الّذي ذكرناه فى الماهية وفى الوجود ، عائد بعينه فى موصوفية الماهية بالوجود. فثبت : أن القول بامكان الوجود غير معقول سواء قلنا : الوجود عين الماهية ، أو قلنا : انه غيرها.

الحجة الثانية : انا لو فرضنا شيئا من الأشياء ممكن الوجود ، لكان ذلك الامكان ، اما أن يكون موجودا أو معدوما. لا جائز أن يكون موجودا ، للوجوه الكثيرة التى ذكرناها فى الجواب عن شبه الفلاسفة فى قدم الأجسام ، ولا جائز أن يكون معدوما ، لأن الشيء بتقدير أن يكون ممكن الوجود ، كان موصوفا فى نفسه بالامكان. وذلك الامكان رافع للامتناع ، والامتناع عدم. ورافع العدم ثبوت. فوجب أن يكون الامكان أمرا ثبوتيا. ولما كان القول بكون الشيء ممكن الوجود ، يقتضي أن يكون الامكان اما أن يكون وصفا سلبيا ، أو وصفا وجوديا. وكان القسمان باطلين ، فكان القول بكون الشيء ممكن الوجود باطلا.

الحجة الثالثة : انا اذا قلنا : الشيء يجوز أن يكون موجودا ، ويجوز أن يكون معدوما : يقتضي تقرر ذلك الشيء حال وصفه بكونه معدوما. وهذا يقتضي كون المعدوم شيئا. وأنتم لا تقولون به.

وأيضا : القائل بأن المعدوم شيء ، لا يمكنه القول بالامكان. وذلك لأن الامكان على هذا التقدير ، اما أن يكون وصفا للماهية ، أو وصفا للوجود.

لا جائز أن يكون وصفا للماهية ، لأن الماهية يستحيل عليها الانقلاب والتغير ، فلا يعقل كون الامكان وصفا لها. ولا جائز أن يكون وصفا للوجود ، لأن الوجود قبل تجدده وحدوثه ، ما كان ثابتا ولا متعينا. والامكان عندكم ثابت قبل الحدوث. واذا كان كذلك ، امتنع القول يجعل الامكان صفة للوجود.

١٢٧

والجواب : مرادنا من الامكان هو كون الشيء بحيث يجوز أن يستمر على ما كان عليه قبل ذلك ، ويجوز أن لا يبقى على ما كان عليه قبل ذلك. واذا ظهر مرادنا من لفظ الامكان ، زالت الشبهات المذكورة.

واذا عرفت هذا ، فنقول : بقاؤه على ما كان عليه قبل ذلك ، غير ممتنع. وعدم بقائه أيضا على ما كان عليه قبل ذلك غير ممتنع أيضا. ولما جاز الأمران ، امتنع رجحان أحدهما على الآخر ، الا لمرجح. الا أنه يبقى عليه أن يقال : لم لا يجوز أن يكون محدث الأجسام محدثا ، وان كان قديما. ولكنه جائز الوجود لذاته ، الا أن الموجود كان به أولى؟ وعند هذا نفتقر فى بيان كونه تعالى واجب الوجود لذاته ، الى الرجوع الى ما ذكرناه فى البرهان الأول.

الطريق الثانى فى تقرير هذا البرهان : أن نقول ، الأجسام محدثة ، وكل محدث فهو محتاج الى المحدث ، من غير تعرض لكون ذلك المحدث جائزا ، أو واجبا ـ وأكثر مشايخ المتكلمين كانوا معولين على هذه الطريقة ـ ثم لهؤلاء طريقان :

الأول : الذين قالوا : العلم باحتياج المحدث الى المؤثر : علم ضرورى. قالوا : والّذي يدل عليه أن كل من رأى بناء رفيعا وقصرا مشيدا ، اضطر الى العلم بأن له بانيا وصانعا ، حتى أن من جوز حدوث ذلك البناء ، لا عن فاعل وبان : كل محكوما عليه بالجنون ، فعلمنا : أن هذه المقدمة بديهية.

الثانى : الذين قالوا بأن هذه المقدمة استدلالية ـ وهم أكثر شيوخ المعتزلة ك «أبى على» و «أبى هاشم» ـ وطريقهم : هو أنهم يثبتون كون العبد موجدا لأفعال نفسه ، ثم يثبتون : أن أفعالنا انما افتقرت إلينا ، لأنها حدثت بعد أن كانت معدومة. وعند هذا يظهر

١٢٨

أن الحدوث علة للافتقار الى المحدث. فالعالم لما كان محدثا ، وجب افتقاره الى الفاعل وعلى تمسكهم بهذا القياس سؤالات صعبة :

أولها : انا لا نسلم أن الواحد منا محدث لافعال نفسه. وسيأتى تقريره ان شاء الله تعالى فى مسألة خلق الأفعال. ولم لا يجوز أن يقال : ان أفعالنا تحدث عند قصودنا ودواعينا ، لا بقدرتنا وداعيتنا ، بل على سبيل الاتفاق من غير مؤثر؟ فان قالوا : الحدوث على سبيل الاتفاق محال. فليذكروا ذلك ابتداء فى حدوث العالم. حتى يدل حدوث العالم على وجود الفاعل من غير حاجة الى ذكر هذا القياس.

وثانيها : هب أن أفعالنا واقعة بقدرتنا ، لكن لا نسلم أن علة الحاجة هى الحدوث. ودليله : الوجوه الكثيرة التى قدمناها فى أن الحدوث لا يمكن أن يكون علة للحاجة ، ولا جزءا لهذه العلة ، ولا شرطا لها.

وثالثها : هب أن حدوثها علة لحاجتها إلينا ، لكن لم لا يجوز أن تكون العلة هى ذلك الحدوث اعنى : ماهية الحدوث بشرط اضافتها الى تلك الأفعال الخاصة ـ والعالم وان حصل فيه الحدوث ، لكن لم يحصل فيه ذلك الشرط الخاص ، فلا يلزم أن يحصل فيه الحاجة الى الفاعل.

البرهان الرابع فى اثبات الصانع (١٩) الاستدلال بحدوث الصفات والعلماء حصروا ذلك فى نوعين : دلائل الأنفس ، ودلائل الآفاق.

أما دلائل الأنفس : فهى الاستدلال بتكون الانسان من النطفة. والله تعالى ذكر هذه الدلالة فى القرآن العظيم ، فى آيات كثيرة.

__________________

(١٩) فى اثبات العلم بالصانع : ب.

١٢٩

وتقريرها : أن نقول : النطفة جسم متشابه الأجزاء فى الصورة والشكل. فاما أن يقال : انها متشابهة الأجزاء فى الحقيقة ، أو ليست كذلك. وذلك لأن الأطباء يقولون : ان عند استيلاء حرارة الشهوة على البدن يحصل ذوبان لجملة الأعضاء ، فبعضها ينفصل من ذوبان العظم ، وبعضها من ذوبان اللحم ، وبعضها من ذوبان العين ، وبعضها من ذوبان القلب. فهو ان كان متشابه الحقيقة والصورة (٢٠) فى الحس ، الا أنه مختلف الطبيعة فى الحقيقة. فالعظم يتولد مما ذاب من العظم ، والعصب يتولد مما ذاب من العصب. وعلى هذا القياس جميع الأعضاء.

اذا عرفت هذا فنقول : ان كانت النطفة جسما متشابه الأجزاء فى الحقيقة. فنقول : لا شك أن تأثير حرارة الرخوى المزاج ، وتأثير قوى الكواكب ، بالنسبة إليه على السوية. ومهما كان تأثير المؤثر متشابها ، وتأثير أجزاء القابل فى الماهية والطبيعة متشابهة ، وجب أن يكون الأثر متشابها. ولهذا السبب فان الفلاسفة قالوا : شكل البسيط هو الكرة. قالوا : لأن قوة الطبيعة فى البسيط واحدة ، والقابل متشابه. فوجب أن يكون الشكل شكلا متشابها. وهو الكرة. ولما دل الحس على كون البدن مركبا من أعضاء مختلفة فى الكمية والكيفية والشكل والطبيعة والخاصية ، لزم القطع بأن المؤثر فى تخليقها ليس هو الطبيعة ، ولا قوى الكواكب ، بل صانع حكيم مدبر بالقدرة والاختيار.

أما على قول من يقول : النطفة وان كان جسما. متشابه الاجزاء فى الصورة ، لكنها مختلفة الأجزاء فى الطبيعة.

فنقول : ان كل مركب لا بد وأن يكون مركبا من أجزاء ، كل

__________________

(٢٠) متشابه الصور والصفة : أ.

١٣٠

واحد منها يكون بسيطا فى نفس الأمر وفى الحقيقة. واذا كان كذلك ، فكل واحد من تلك الأجزاء يكون قابلا متشابه الأجزاء فى الحقيقة ، وتكون للقوة الطبيعية الفاعلة فيها قوة واحدة. ومتى كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون كل واحد من تلك الأجزاء على شكل الكرة ، فوجب أن يكون بدن الانسان على صورة شكل كرات مضمومة بعضها الى البعض. ومعلوم أن الأمر ليس كذلك.

وأيضا فالنطفة رطوبة رقيقة ، وما كان كذلك فانه لا يحفظ ترتيب الأجزاء ، ولا نسبة بعضها الى بعض ، فالجزء الّذي يحصل من ذوبان الرأس قد يصير أسفل ، والجزء الّذي يحصل من ذوبان القلب قد يصير فوق. وكان ينبغى أن لا يبقى ترتيب الأعضاء ووضعها على نسبة واحدة فى الأكثر ، ولما لم يكن الأمر كذلك ، عملنا : أن انخلاق كل واحد من هذه الأعضاء وبقاءها على ترتيبها ، بتخليق قادر حكيم.

الا أنه بقى هاهنا أن يقال : لم لا يجوز أن يقال : انما حصلت بتخليق بعض الملائكة ، أو بتخليق الكواكب ، فانها أحياء ناطقة فاعلة مختارة؟ وعند ذلك لا بد من الرجوع الى البراهين المتقدمة.

وأما دلائل الآفاق : فبعضها سفلية عنصرية. ومجامعها الاستدلال بأحوال الحيوان والنبات والمعادن والآثار العلوية ، وبعضها علوية فلكية. ومجامعها الاستدلال بحول الافلاك والكواكب. والاستقصاء فى هذا النوع من الدلائل ، مذكور فى القرآن العظيم ، ومشروح فى كتابنا المسمى ب «أسرار التنزيل وأنوار التأويل».

١٣١

المسألة الرابعة

فى

أن الله تعالى قديم أزلى بانه سرمدى

اعلم : أنا لما دللنا فى المسألة الثالثة على وجوب انتهاء جميع الممكنات الى موجود واجب الوجود لذاته ، وكل ما كان واجب الوجود لذاته فان حقيقته لا تقبل العدم أصلا ، وكل ما كان كذلك ، فانه يجب أن يكون قديما أزليا باقيا أبديا. فعلى هذا لا نحتاج بعد ذلك الى اقامة الدلالة على كونه تعالى أبديا. الا أن المتكلمين الذين كانوا قبلنا ، لما لم يذكروا تلك الطريقة فى اثبات واجب الوجود ، لا جرم كانوا معولين فى اثبات كونه تعالى أزليا أبديا على وجوه أخر ، فنحن أردنا أن نتبرك بايراد تلك الوجوه أيضا.

واعلم : أن مشايخ المتكلمين لما أقاموا الدلالة على افتقار العالم الى صانع. قالوا : صانع العالم ، لو كان محدثا ، لافتقر الى محدث آخر. ولزم التسلسل. وهو محال. فوجب القول بأن صانع للعالم قديم.

فان قيل : الاشكال على هذا الاستدلال من وجوه :

الأول : لم لا يجوز أن يقال : خالق هذا العالم المحسوس شيء محدث ، وخالق ذلك المحدث شيء قديم. وعلى هذا التقدير يكون صانع العالم محدثا. ولا يلزم التسلسل أيضا. وهذا هو قول المفوضة وأصحاب الوسائط. ألا ترى أن الفلاسفة يقولون : مدبر ما تحت كرة القمر ، هو العقل. وهذا العقل الفعال معلول عقل آخر ، وذلك العقل

١٣٢

معلول عقل آخر ، الى عشر مراتب ، وأكثر. ثم ذلك العقل الأول معلول وجود الله تعالى. وعند المفوضة : الاله الأكبر خلق السيارات السبع ، وفوض تدبير هذا العالم إليها. واذا كان هذا الاحتمال قائما ، فلا بد من ابطاله.

السؤال الثانى : ان كل موجودين يفرضان ، فلا بد وأن يكونا اما معا ، أو يكون أحدهما سابقا على الآخر. فان كانا معا ، لزم أن يكونا قديمين أو محدثين. لكنكم تقولون : الاله قديم ، والعالم محدث. وان كان أحدهما قبل الآخر ، فتقدم أحدهما على الآخر. اما أن يكون بمقدار متناه. أو غير متناه. فان كان بمقدار متناه. كان كل واحد منهما محدثا. وذلك محال. وان كان بمقدار غير متناه. فذلك محال. لوجوه :

الأول : انه على هذا التقدير ، قد يكون انقضاء قبل اليوم مدة غير متناهية. وانقضاء ما لا نهاية له غير معقول.

الثانى : انه ان كان يتوقف حصول اليوم على أن ينقضى قبله ما لا نهاية له ـ وانقضاء غير المتناهى محال ، والموقوف على المحال محال ـ فوجب أن يمتنع حصول اليوم. وحيث حصل اليوم ، علمنا أن المنقضى متناه. لا غير متناه.

الثالث : ان المنقضى من زمان الطوفان الى الأزل ، أقل من المنقضى من زماننا هذا الى الأزل. فاذا طبقنا بين هاتين الجملتين من هذين الطرفين اللذين يلياننا ، وجب أن يظهر التفاوت من طرف الأزل. والا لكان البعض مثل الكل فتكون المدة المنقضية متناهية ، فيكون تقدم الله تعالى على العالم متناهيا.

الرابع : انه لما كان تقدم الله على العالم أمرا واجب الثبوت. وهذا التقدم لا يتقرر الا بهذه المدة ، كان دوام ذات الله تعالى واستمرار بقائه ، مفتقرا الى تحقيق هذه المدة. والمفتقر الى الغير ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون واجب الوجود لذاته ، ممكن الوجود لذاته. وهذا خلف.

١٣٣

الخامس : ان المدة لا تعقل الا بتعاقب الآنات ، وتوالى الأزمنة والساعات. فلو كان البارى تعالى متقدما على العالم بمدة لا نهاية لها ، ولا أول لها ، لزم حصول الأزمنة المتوالية فى الأزل. وذلك محال. لأن توالى بعض الأزمنة بالبعض ، يقتضي كون كل واحد منها مسبوقا بغيره. والأزل عبارة عن نفى المسبوقية بالغير. والجمع بينهما متناقض.

لا يقال : هذه الاشكالات انما تلزم اذا قلنا : ان الله تعالى قبل العالم ، وسابق عليه بمدة موجودة وزمان متحقق. ونحن لا نقول بذلك ، بل نقول : انه تعالى سابق على العالم بمدة مفروضة موهومه ، لا تحقق لها خارج الذهن.

لأنا نقول : هذا الكلام ضعيف جدا. لأن تقدم البارى تعالى على العالم ، اذا كان حاصلا لا بحسب فرضنا واعتبارنا ، بل بحسب الحقيقة والوجود ، سواء وجد الفرض ، أو لم يوجد ، ثم ثبت أن هذا التقدم والسبق ليس الا بمدة غير متناهية ، وجب أن يكون حصول تلك المدة ، لا بحسب الفرض فقط ، بل بحسب الوجود والتحقق.

السؤال الثالث : ان الأزل والأبد متقابلان تقابل السلب والايجاب ، وتقابل المتناقضين والمتعاندين (٢١). وكل أمرين هذا شأنهما ، فلا بد وأن يتميز أحدهما عن الآخر.

فعلى هذا آخر الأزل متصل بأول الأبد ، الا أن القول بهذا أيضا محال. لأن كل نقطة فرضناها آخر الأزل وأول الأبد ، فأول الأبد كان حاصلا قبل ذلك. لأنا لو أفرضنا نقطة أخرى قبل تلك النقطة بمائة سنة ، لم يصر الأبد أزلا ، بسبب زيادة هذا القادر المتناهى

__________________

(٢١) المتعاندين : ا ـ والمتغايرين : ب

١٣٤

عليه. فاذن ليس للأزل البتة آخر ، ولا للأبد البتة أول. فاذن لا يتميز الأول عن الأبد البتة: مع كون كل واحد منهما مناقضا للآخر ، ومعاند له. هذا خلف.

السؤال الرابع : اذا قلنا : كان الله تعالى موجودا فى الأزل ، وسيكون موجودا فى الأبد. فقولنا «كان» يفيد أمرا كان موجودا حاصلا ، وقد انقضى وما بقى. وقولنا «يكون» يفيد أمرا سيصير موجودا وحاصلا وبعد ما حصل. فاذن كل ما يصدق عليه أنه كان وسيكون ، فهو محكوم عليه بكونه متجددا متغير. وذات الله تعالى لما كان واجب الدوام ممتنع التغير ، وجب أن لا يصدق عليه البتة ، أنه كان فى الأزل وسيكون فى الأبد وأنه كائن الآن. ثم انا لما جربنا عقولنا وجدناها حاكمة بأن كل ما لا يصدق عليه أنه كان قبل وسيكون بعد ، وأنه كائن الآن : فهو معدوم محض.

وعند هذا قال المنكرون : انكم لما أثبتم ذاتا منزهة عن الجهات والأكوان (٢٢) والأوضاع ، خرج هذا الاثبات عن العقل ، وقرب من العدم المحض. ثم انكم الآن لما أثبتموه منزها عن أن يصدق عليه قولنا : كان ، ويكون ، وهو كائن : فهذا تصريح بالعدم المحض. واذا أدخلتموه تحت قولنا : كان ويكون وهو كائن اقتضى ذلك الحكم عليه بكونه متجددا متغيرا ، فكيف الخلاص عن هذه العقدة المحيرة ، والمضائق المضلة المعمية؟

ونظم المعرى هذا المعنى فى شعر له. فقال :

قلتم : لنا صانع حكيم

قلنا : صدقتم. كذا نقول

ثم زعمتم : بلا زمان

ولا مكان. ألا فقولوا

هذا كلام. له خبىء

معناه : ليست لنا عقول

__________________

(٢٢) والألوان : ا.

١٣٥

والجواب عن السؤال الأول : انا سنقيم الدلالة القاهرة ان شاء الله تعالى فى باب قدرة الله تعالى ، على أنه لا خالق ولا موجد الا الله. وعند هذا يبطل القول بثبوت المتوسطات.

والجواب عن السؤال الثانى : انا ذكرنا فى أول مسألة حدوث الأجسام : أن تقدم بعض أجزاء الزمان على البعض ، ليس بالزمان. فتقدم ذات البارى تعالى على العالم يكون من هذا الجنس.

والجواب عن السؤال الثالث ـ وهو السؤال الطاعن فى قولنا : البارى تعالى سابق على العالم سبقا لا أول له ـ فاعلم : أن هذا السؤال لازم على الكل. سواء أقر ذلك الانسان بحدوث العالم وقدم الصانع ، أو أنكر ذلك. وذلك لأنه ان أقر بحدوث العالم لزمه الاقرار بعدم لا أول له. وان قال بقدم العالم ، لزمه الاقرار بوجود لا أول له. فعلى جميع التقديرات لا بد من الاقرار بمعقول لا أول له. ولا بد من الاقرار بأمر له أول. واذا كان الأمر كذلك ، زالت هذه الشبهات.

والجواب عن السؤال الرابع ـ وهو قوله : «ان كل ما يصدق عليه بأنه كان ويكون ، فهو متجدد ومتغير» ـ فنقول : المراد من قولنا : كان ويكون ، استمراره مع الأزمنة الماضية والأزمنة الآتية ، من غير أن يكون متغيرا بحسب تغير هذه الأزمنة. وهذا المعنى مما يدركه العقل ـ الّذي نوره الله تعالى بنور هدايته ـ وان كان الوهم والخيال يعجزان عنه.

واعلم : أن المشايخ ـ رحمهم‌الله ـ احتجوا على بقاء الصانع بحجتين :

الحجة الأولى : قالوا : لو عدم بعد وجوده ، لكان اما أن يكون عدمه باعدام معدم ، أو بطريان ضد ، أو بانتفاء شرط. والأول محال ،

١٣٦

لان القدرة صفة مؤثرة ، والعدم نفى محض ، فيمتنع كون الاعدام بالفاعل. ولا جائز أن يكون بطريان ضد ، لأن هذا الضد محدث ، والقديم أقوى من المحدث. فكان اندفاع هذا الضد بسبب وجوده أولى من انعدامه بسبب طريان هذا المحدث. ولا جائز أن يكون بسبب زوال شرط ، لأن ذلك الشرط يجب أن يكون قديما ، لأن المحدث يمتنع أن يكون شرطا للقديم. واذا كان كذلك ، كان الكلام فى عدمه ، كالكلام فى عدم القديم الأول. فيلزم التسلسل. وهو محال.

الحجة الثانية : انه لو صح عليه العدم ، لكانت ماهيته قابلة للعدم وللوجود ، ولو كان كذلك لكان مفتقر الى المؤثر. وكل مفتقر الى المؤثر محدث ، فيلزم : أنه لو صح العدم عليه بعد وجود ، لكان محدثا.

وتقرير هذه المقدمات قد تقدم فى مسألة حدوث الأجسام ، ولما امتنع حدوثه امتنع عدمه بعده وجوده. وبالله التوفيق.

١٣٧

المسألة الخامسة

فى

أن حقيقة الله تعالى مخالفت

لسائر الحقائق لعين ذاته المخصوصة

اعلم : أن جماعة عظيمة من مشايخ علم الأصول. زعموا : أن الذوات من حيث انها ذوات متساوية. وانما يمتاز بعض الذوات عن البعض ، لاختصاصها بصفات مخصوصة. ثم قالوا بناء على هذا الأصل : ان ذاته تعالى من حيث انها ذات ، مساوية السائر الذوات. وانما تمتاز ذاته عن سائر الذوات لاختصاص ذاته بصفات مخصوصة ، لأجلها تصح الالهية. وتلك الصفات هى : وجوب الوجود ، والقدرة التامة ، والعلم التام.

وزعم «أبو هاشم» : أنها صفة تقتضى لذاتها صفات أربعة : هى : الموجودية ، والعالمية ، والقادرية ، والحيية.

والّذي نختاره ونقول به : ان ذاته سبحانه وتعالى ـ مخالفة لسائر الذوات لنفس كونها تلك الذات المخصوصة.

واعلم : أن الخصم ربما قال فى هذا الموضع : ان كلامكم فى هذا الموضع متناقض لأنكم تقولون : انه تعالى يخالف خلقه لذاته المخصوصة فقولكم «المخصوصة» يدل على المفهوم الزائد على الذات. فكان هذا اعترافا بأن المخالفة انما وقعت بأمر زائد على الذات. فثبت : أن قولكم بأنه تعالى يخالف سائر الذوات لذاته المخصوصة ، لا لأمر زائد على الذات : كلام متناقض.

١٣٨

واعلم : أنا قبل الخوض فى الدليل ، نذكر ما يزيل هذا الاشكال. فنقول : انه لا يجب فى كل شيء يخالف شيئا آخر ، أن تكون مخالفته له ، لأجل أمر زائد عليه. والّذي يدل عليه وجوه :

الوجه الأول : ان الشيئين المختلفين. لو كان اختلافهما ، لأجل اختصاصهما بأمر زائد ، لكان ذلك الزائد ، اما أن يكون مخالفا للآخر ، أو لا يكون فان لم يكن مخالفا للآخر ، امتنع كونه سببا لأن يصير غيره مخالفا للآخر. وان كان مخالفا للآخر ، وجب أن تكون مخالفته لأجل شيء آخر. ولزم اما التسلسل واما الدور. وهما محالان. فثبت : أنه لا بد من الانتهاء الى شيئين يختلفان لنفسهما ، لا لأمر زائد.

الوجه الثانى : وهو أن الذاتين اذا كانتا متساويتين من كل الوجوه ، ثم قامت بكل واحدة منهما صفة مخالفة للصفة القائمة بالذات الأخرى ، فعند هذا الفرض بقيت الذاتان كما كانتا متساويتين ، والصفتان كما كانتا مختلفتين ، وما كانتا متساويتين لا تنقلبان البتة مختلفين ، وما كانتا مختلفتين لا تنقلبان البتة متساويتين. وعند هذا يظهر أن المختلفتين لا يعقلان (١) الا أن يكونا مختلفتين لذاتيهما. وأما فرض أمرين يختلفتان بسبب أمر زائد على ذاتيهما. فذلك غير معقول.

الوجه الثالث : انا اذا فرضنا ذاتا ، وقامت بها صفة. فالذات من حيث انها هى ، لا بد وأن تكون مخالفة لتلك الصفة ، والا لم تكن احداهما بأن تكون موصوفة ، والأخرى بأن تكون صفة أولى من العكس. واذا كانت تلك الذات مخالفة لتلك الصفة ، كانت مخالفة تلك الذات لتلك الصفة ، لنفس الذات ، لا لأمر زائد.

فثبت بهذه الوجوه : أنه لا بد من الاعتراف بأمور يخالف بعضها بعضا ، لانفسها وذواتها حيث هى هى ، لا باعتبار صفة قائمة بها.

__________________

(١) لا تعقلان : ب.

١٣٩

واذا عرفت هذا فنقول قولنا : «الله تعالى مخالف لخلقه لذاته المخصوصة» المراد منه ما ذكرناه ولخصناه (٢).

واذا لخصنا محل النزاع. فنقول : الدليل على أنه تعالى مخالف لخلقه لذاته المخصوصة : أنه لو كنت ذاته من حيث انها تلك الذات مساوية لسائر الذوات ـ وقد عرفت أن الأشياء المتساوية فى تمام الحقيقة ـ يجب أن يصح على كل واحد منهما ما صح على الآخر. واذا كذلك كان اختصاص ذاته بصفته المخصوصة ، وعدم اختصاصه بصفات المحدثات أمرا جائزا. فترجح ذلك الجائز على سائر الجائزات ، ان لم يكن لأمر فقد ترجح الممكن لا عن مؤثر. وهو محال. وان كان لأمر عاد الطلب فى اختصاص ذاته بذلك الأمر ، فيلزم اما الدور واما التسلسل وهما محالان. فثبت : أن القول بكون ذاته سبحانه وتعالى مساوية لسائر الذوات فى كونه ذاتا يفضى الى أحد هذه المحالات ، فكان القول به محالا. وبالله التوفيق.

واحتج الخصم : بأن جميع الذوات متساوية فى كونها ذوات. واذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون امتياز بعضها عن البعض ، بسبب الصفات والأحوال.

أما بيان (٣) المقدمة الأولى ـ فيدل عليه وجوه :

الأول : انه يصح تقسيم الذوات الى الواجب والى الممكن. ومورد التقسيم مشترك بين القسمين.

والثانى : انا اذا اعتقدنا. ذاتا. فسواء اعتقدناه قديما أو محدثا أو واجبا أو ممكنا ، فان اعتقاد كونه ذاتا لا يزول ولا يتبدل. وهذا يدل على أن المفهوم من الذوات واحد فى كل المواضع.

والثالث : انا نقول : المعلوم اما ذات واما صفة. وصريح العقل يشهد بأن هذا التقسيم منحصر. ولو لا أن المفهوم من كون الذوات

__________________

(٢) وتحققناه : ب.

(٣) المقدمة ... الخ : ب.

١٤٠