الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

وجوده ، فقد جعلتم القبلية صفة للعدم. وصفة العدم لا يعقل أن تكون موجودة. فالقبلية صفة غير موجودة.

وثانيها : ان التقدم اضافة ، لا تعقل الا بالإضافة (٢٤) الى التأخر. والمضافان يوجدان معا ، فلو كان التقدم صفة موجودة ، لاستحال وجودها ، الا مع وجود التأخر. واذا كان حصول التقدم والتأخر معا ، لزم أن يكون حصول المتقدم والمتأخر معا. ولكن المعية تنافى فى التقدم والتأخر ، فاذن القول بأن القبلية صفة موجودة ، يفضى الى هذا المحال. فيكون ذلك محالا.

وثالثها : انا قد دللنا فى أول المسألة على أن الأمس متقدم على اليوم. وليس ذلك التقدم بالزمان. فلم لا يجوز أن يكون تقدم العدم على الوجود جاريا مجرى تقدم اليوم على الغد؟

والجواب عن الشبهة الخامسة ـ وهى قولهم «الايجاد جود» ـ نقول : هذا ينتقض بايجاد هذه الصور والأعراض الحادثة. فانه جود. ولم يلزم منه قدم هذه الصور والأعراض.

والجواب عن الشبهة السادسة : لم لا يجوز أن يقال : الفاعل المختار يرجح أحد مقدوريه على الآخر ، من غير اكتساب كمال ولا رفع يقتضيه ، بل محض الإرادة. وبالله التوفيق.

__________________

(٢٤) بالقداس : أ.

٨١

والثاني : ان بتقدير أن تكون جوهرا قائما بالنفس ، فهذا الجوهراما أن يكون بينه وبين الأثرنسبة واضافة ، او لايكون. فأن كان الأول كان الكلام في تلك النسبة كما في الأول ، فيلزم التسلسل. وان كان الثاني لم يكن بينه وبين الأثر(٧) نسبة واضافة ولم يكن بينهما تعلق أصلا ، وكان أجنبيا باكلية عن ذلك الأثر. ولما بطل هذا القسم تعين أن المؤثرية بتقدير الثبوت ، وجب أن تكون صفة لذات المؤثر، مفتقرة الى تلك الذات. وكل ما كان مفتقرا الى غيره ، كام ممكنا لذاته مفتقرا في وجوىه الى مؤثر. فيلزم افتقارتلك المؤثرية في وجودها الى موجد (٨) آخر ، وحينئذ يعود الكلام في تأثير المؤتمرفي وجوى تلك المؤثرية. ويلزم التسلسل. وهو محال.

فثبت بما ذكرنا : انه لو فرض مؤثر في اثر ، لكان تأثيره في ذلك الأثر اما أن يكون نفس المؤثر والأثر ، واما أن يكون مغايرا لهما. والقسمان باطلان ، فكان القول بالتأثير باطلا.

السؤال الرابع : ان جواز الوجود متعلق بالطرفين ـ أعنى الوجود والعدم ـ فلو كان جواز الوجود يقتضى احتياج الوجود الى المؤثر، لكان جواز العدم يقتضى احتياج العدم الى المؤثر. لكن احتياج العدم الى المؤثرمحال. لأن العدم مستمر من الأزل الى الأبد. والباقي لايمكن اسناده حال بقائه الى المؤثر.

فثبت : انه لوكان جواز الوجود يحوج الوجود الى المؤثر ، لكان جواز العدم يحوج العدم الى المؤثر ، وثبت : أن احتياج العدم الى المؤثر محال ، فيلزم أن يكون احتياج الوجود أيضا الى المؤثر محالا.

__________________

(٧) الأول : أ.

(٨) موجود : أ.

٨٢

قلنا : لا شك فى أن العقل يتصور من معنى الثبوت مفهوما ، ومن معنى السلب مفهوما. ويجزم بأنهما لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهو عند تصور مفهوم الثبوت ومفهوم السلب ، لا يفتقر الى الاشارة الى ماهية معينة. وذلك يوجب كون مفهوم الثبوت أمرا واحدا.

الوجه الثانى : فى بيان أن المفهوم من الموجودية أمر واحد : أنه يمكننا تقسيم الموجود الى الواجب لذاته ، والى الممكن لذاته ، فمورد التقسيم مشترك بين القسمين. وهذا يقتضي أن يكون المفهوم من الموجود قدرا ، مشتركا بين القسمين.

الوجه الثالث : انا اذا اعتقدنا أن أمرا من الأمور موجود. فسواء اعتقدنا أن ذلك الأمر جوهر أو عرض. وبتقدير أن يكون جوهرا ، فهو متحيز أو غير متحيز. وبتقدير أن يكون عرضا ، فهو اما لون أو طعم. فان اعتقادنا فى كونه موجودا ، يكون باقيا ، غير متغير. ولو لا أن المفهوم من كونه موجودا ، أمر واحد فى الكل ، لوجب أن يتغير ذلك الاعتقاد ، عند تغير اعتقاد الخصوصيات. كما اذا اعتقدنا فيه أنه جوهر ، ثم اعتقدنا فيه أنه عرض. فانه يتغير الاعتقاد الأول.

الوجه الرابع : ان من قال : الوجود غير مشترك فيه بين الماهيات ، يلزمه الاعتراف بأن الوجود مشترك فيه بين الماهيات. والا لكنا نفتقر فى كل واحد واحد ، من مسمى الوجود ، بأنه غير مشترك فيه بين الماهيات الى الدليل منفصل ، ولما كان الحكم على الوجود بأنه غير مشترك فيه ، يعم كل وجود ، علمنا : أن الوجود من حيث انه وجود : مفهوم واحد.

فثبت بما ذكرناه : أن الوجود أمر واحد فى جميع الموجودات.

٨٣

وأما أن خصوصية ماهية كل واحد من الماهيات غير مشترك فيها (١) بين الماهيات. فمعلوم بالضرورة. فثبت بمجموع هاتين المقدمتين : أن وجود كل شيء مغاير لماهيته.

الحجة الثانية : على أن الوجود مغاير للماهية : هى أنه لا شك أن فى الموجودات ما هو ممكن لذاته. فنقول : ذلك الموجود الّذي هو ممكن لذاته. ان أخذناه مع اعتبار الوجود كان غير قابل للعدم. لأن الشيء حال كونه موجودا لا يقبل العدم. وما لا يقبل العدم لا لكون ممكن الوجود والعدم. وان أخذناه مع اعتبار العدم ، كان غير قابل للوجود. لأن الشيء حال كونه معدوما ، لا يقبل الوجود. وما لا يقبل الوجود لا يكون ممكن الوجود والعدم. فلو لم تكن ماهيته مغايرة للوجود والعدم ، لما كانت الماهية ممكنة أصلا. ولما كانت ممكنة ، علمنا أنها مغايرة للوجود والعدم.

ويمكن تقرير هذه الحجة بعبارة أخرى : وهى ان قولنا فى الشيء : انه ممكن الوجود والعدم : أنه لا يمتنع أن يحكم على تلك الماهية بكونها موجودة وبكونها معدومة. والمحكوم عليه بحكم لا بد وأن يكون متقررا (٢) مع ذلك الحكم. فوجب أن تكون تلك الماهية الممكنة متقررة ، حالتى الوجود والعدم. وذلك يقتضي كون الماهية مغايرة للوجود.

فان قيل : هذه الحجة انما تلزم لو قلنا : الماهية حال وجودها ، أو حال عدمها ، يكون محكوما عليها فى ذلك الوقت بأنها ممكنة الوجود. نحن لا نقول بذلك. بل نزعم أنها حال وجودها يمكن وجودها وعدمها فى الزمان الثانى ، من ذلك الزمان الحاضر والحاصل : انا لا نسلم ثبوت الامكان بالنسبة الى الحال ، بل نسلم ثبوته بالنسبة الى زمان الاستقبال.

__________________

(١) فيها : أ.

(٢) مفترنا : أ.

٨٤

والجواب من وجهين :

الأول : ان الموجود فى الحال ، اذا حكم العقل عليه بأنه يمكن أن يصير معدوما فى الاستقبال ، فالمحكوم عليه بالعدم فى الاستقبال ، هو هذه الماهية والمحكوم عليه بحكم لا بد وأن يكون متقررا مع ذلك الحكم ، فتلك الماهية ممكنة التقرر مع العدم فى الاستقبال. واذا حصلت الماهية بدون الوجود ، كانت الماهية مغايرة للوجود.

الثانى : هو ان قولكم الشيء يمكن أن يصير معدوما فى الاستقبال ، يحتمل وجهين :

أحدهما : ان امكان العدم فى الاستقبال ، حاصل فى الحال.

والآخر : ان امكان العدم فى الاستقبال يحصل فى الاستقبال.

والأول باطل. لأن امكان العدم فى الاستقبال ، مشروط بحصول الاستقبال ، والاستقبال ممتنع الحصول فى الحال. فامكان العدم فى الاستقبال ، موقوف على شرط ممتنع الحصول لذاته. وما توقف على مثل هذا الشرط ، كان ممتنع الحصول فى الحال. فثبت : أنه يمتنع أن يحصل فى الحال امكان العدم فى الاستقبال. ولما بطل هذا الاحتمال بقى الاحتمال الثانى. وهو أن الموجود فى الحال يمكن أن يصير معدوما فى الاستقبال ، عند حضور الاستقبال. لكن الاستقبال اذا حضر ، صار حاضرا. فحينئذ يعود الأمر الى ان الممكن انما يكون محكوما عليه بالامكان بالنسبة الى الحال ، لا بالنسبة الى الاستقبال. وذلك يبطل ما ذكرتم من السؤال.

الحجة الثالثة على أن الوجود زائد على الماهية : وهو أنه يمكننا أن نعقل الماهية مع الذهول عن وجودها. ولو كان الوجود نفس الماهية ، أو جزءا من أجزاء الماهية. لكان ذلك ممتنعا.

٨٥

فان قيل : هذه الحجة منقوضة على قول الفلاسفة. فان عندهم وجود البارى سبحانه نفس حقيقته ، مع أنا نعقل وجوده ولا نعقل ماهيته. وأيضا : فانا نتصور أن الوجود ما هو؟ ثم نصدق بأن ذلك المفهوم حاصل وكائن وواقع. والتصور غير التصديق. فيلزم أن يكون تصديقنا بأن الوجود واقع وحاصل ، دالا على حصول وجود الوجود. ويلزم منه التسلسل.

وأيضا : فانا قد نعقل ذاتين مع الذهول عن كون أحدهما لازما للآخر ، أو ملزوما له ، أو كون أحدهما مؤثرا فى الآخر ، أو اثر له ، أو كون أحدهما حالا فى الآخر ، أو محلا له. فيلزم أن يكون كون الشيء لازما للآخر ، وملزوما له ، ومؤثرا فيه وأثرا له ، وحالا فيه ومحلا له. زائدا على الذات. وذلك محال لافضاء ذلك الى التسلسل. وأيضا : فهب أن ما ذكرتم يدل على أن الوجود الخارجى زائد على الماهية. ولكنه لا يفيد أن الوجود الذهنى زائد على الماهية.

والجواب : انه اذا صدق على أحد الأمرين كونه معلوما ، وعلى الآخر أنه غير معلوم : فلو لم يثبت التغير بينهما ، لكان قد صدق على الأمر الواحد ، أنه معلوم وأنه غير معلوم. فيلزم اجتماع النفى والاثبات. وانه محال فى بداهة العقول. واذا كانت هذه المقدمة من أقوى البديهيات ، كان ايراد النقض عليها تشكيكا فى البديهيات. فلا يستحق الجواب.

وأيضا : فعندنا أن وجود الله زائد على ماهيته (١) وأما تصديقنا بأن الوجود قد وقع ، فليس المراد منه أن الوجود حصل له وجود آخر ، بل المراد منه : أن الوجود هل حصل للماهية أم لا؟ وهذا عين الدليل الّذي تمسكنا به وأما حديث اللازمية والملزومية ، وأمثالها. فهى

__________________

(١) مقترنا : أ.

٨٦

اعتبارات ذهنية ، بخلاف الوجود الخارجى. فانه لا يمكن أن يقال : انه اعتبار ذهنى ، والا لزم أن يقال : انه لا موجود فى الأعيان ، وأن يقال : وجوده فى الأعيان نفس الماهية. فحينئذ يرجع ما ذكرتم من اجتماع النفى والاثبات على الشيء الواحد. وهو محال.

وأما الوجود الذهنى. فجوابه : ان الماهية كما وجدت فى الأذهان عارية عن الوجود الخارجى ، فقد وجدت فى الأعيان عارية عن الوجود الذهنى. وذلك يوجب التغاير.

الحجة الرابعة : على أن الوجود زائد على الماهية : هى أنا فى بداهة العقول ندرك الفرق بين التصور والتصديق. فالفرق بين قولنا : السواد. وبين قولنا : السواد موجود : معلوم بالبداهة. ولذلك فان (٣) من قال السواد وسكت ، حكم كل عاقل بأنه ما نفى ، وما أثبت ، وما ذكر كلاما مفيدا. واذا قال السواد موجود أو غير موجود ، فقد نفى ، أو أثبت وادعى ويطالب على صحة ما ذكره بالحجة. ولو كان كونه. موجودا هو نفس كونه سوادا ، لما حصل الفرق المذكور المعلوم بالبداهة.

فان قيل : هذا الفرق الّذي ذكرتم واقع بحسب اللفظ ، لا بحسب المعنى. فالجواب : انا نعلم بالبداهة أن من ادعى أن للعالم صانعا ، ثم أقام الدليل على دعواه ، لم يكن مطلوبة بهذه الحجة نفس اللفظ ، بل المعنى. فسقط ما ذكروه من السؤال.

واحتج من قال : الوجود غير زائد على الماهية. بأن قال : لو كان الوجود زائدا على الماهية ، لكان قيام الوجود بالماهية. وان توقف على كون الماهية موجودة ، لزم اما كون الشيء مشروطا بنفسه ،

__________________

(٣) كان : أ.

٨٧

أو وقوع التسلسل. وان لم يتوقف عليه فحينئذ يلزم قيام الصفة الثبوتية بالعدم المحض. وذلك محال. لأن المحسوس عندنا من الذوات ، ليس الا الصفات. واذا جوزنا قيام الموجود بالمعدوم ، فالجدار الّذي نشاهده لا نشاهد منه الا لونه وكثافته وثقله. فاذا لم يبعد قيام الصفة الموجودة بالمحل المعدوم ، لم يبعد أن يكون الموصوف بالكثافة والثقل واللون المخصوص معدوما محضا. وذلك يقتضي وقوع الشك فى أن ذات الجدار وذات الانسان. هل موجودة أم لا؟ ومعلوم أن ذلك فاسد.

والجواب عنه : ان محل الوجود هو الماهية. ثم ان الماهية من حيث هى هى ، ماهية مغايرة للوجود والعدم ، فلا يلزم من ذلك قيام الموجود بالمعدوم.

واذا عرفت هذه المسألة. فلنرجع الى المقصود. فنقول : أما من قال : وجود كل شيء نفس ماهيته ، لزمه القطع بأنه متى زال الوجود ، فقد زالت الماهية ، فالقول بأن المعدوم شيء لا يتصور على مذهب هذا القائل. أما من قال : الوجود زائد على الماهية. فقد اختلفوا فى أنه هل يمكن تقرير الماهية عند زوال صفة الوجود؟ فمن جوز ذلك قال : المعدوم شيء. وعنى به : أن الماهية من حيث هى هى ، تكون متقررة حال ما لا تكون موجودة. ومن لم يجوز ذلك ، قال : المعدوم ليس بشيء.

اذا عرفت هذا ، فلنرجع الى تعيين محل النزاع فى هذه المسألة فنقول : المعدوم. اما أن يكون واجب العدم ممتنع الوجود ، واما أن يكون جائز الوجود جائز العدم.

أما الممتنع. فقد اتفقوا على أنه محض ، وعدم صرف ، وليس بذات ولا بشيء. وأما المعدوم الّذي يجوز وجوده ويجوز عدمه ، فقد ذهب أصحابنا الى أنه قبل الوجود نفى محض ، وعدم صرف ، وليس

٨٨

بشيء ولا بذات. وهذا قول «أبى الحسن البصرى» من المعتزلة وذهب أكثر شيوخ المعتزلة: الى أنها ماهيات وذوات وحقائق ، حالتى وجودها وعدمها. فهذا هو تلخيص محل النزاع.

ولنا فى بيان أن المعدوم ليس بشيء وجوه :

البرهان الأول : ان هذه الماهيات لو كانت متحققة فى الخارج حال عرائها عن الوجود ، لكانت متساوية فى كونها متحققة خارج الذهن. ومباينة لخصوصياتها المعينة. وما به المشاركة غير ما به الممايزة (٤) فيلزم أن يكون تحقق كل ماهية تقررها زائدا على خصوصيتها. ولا معنى للوجود الا هذا التحقق والتقرر ، فيلزم كونها موجودة حال كونها معدومة. وذلك محال.

ومما يدل على أن كونها متحققة خارج الذهن أمر زائد على ماهيتها المخصوصة : انا اذا قلنا : السواد. ثم قلنا : السواد متقرر حال العدم. فنحن ندرك تفرقة بديهية بين ذلك التصور ، وهذا التصديق. ولو لا أن تقررها خارج الذهن حال عدمها أمر زائد على ماهيتها ، والا لما بقى فرق بين التصور والتصديق. وذلك محال على ما قررناه. فثبت : أن الماهيات لو كانت متقررة حال عدمها ، لكانت موجودة حال عدمها ، ولما كان ذلك محالا ، علمنا : أن القول بأن الماهيات متقررة حال عدمها محال.

البرهان الثانى : ان الذوات الثابتة فى العدم ، اما أن تكون متناهية ، أو غير متناهية والقسمان باطلان ، فبطل القول بثبوت الذوات المعدومة : اما أن كونها متناهية باطل ، فبالاتفاق. وأما أن كونها غير متناهية باطل. فذلك لأن مجموع الذوات المعدومة حين ما لم يخرج منها شيء الى الوجود ، كانت أكثر مما يبقى منها فى

__________________

(٤) المباينة : أ.

٨٩

العدم بعد خروج بعضها الى الوجود. والا لكان الشيء مع غيره ، كهو لا مع غيره. وذلك محال. واذا كان كذلك ، كانت الذوات التى بقيت الآن فى العدم ، أقل من مجموع الذوات التى كانت معدومة عند ما لم يخرج شيء منها الى الوجود. وما كان أقل من غيره فهو متناه. فالذوات التى بقيت الآن فى العدم متناهية ، والتى خرج منها الى الوجود متناهية. ومجموع المتناهى مع المتناهى يكون متناهيا. فثبت : أن القول بكون الذوات غير متناهية محال.

البرهان الثالث : هذه الماهيات من حيث انها هى : ممكنة لذواتها. وكل ممكن محدث فهذه الماهيات من حيث هى هى ، محدثة فيلزم أن تكون هذه الماهيات مسبوقة بالنفى المحض والعدم الصرف. وهو المطلوب.

وانما قلنا : بأن هذه الماهيات ممكنة لذواتها ، وذلك لأنها لو كانت واجبة التقرر لذواتها فى الخارج ، لكانت واجبة التقرر فى الخارج ممتنعة الزوال ، ولا معنى لواجب الوجود الا ذلك. وحينئذ يكون واجب الوجود أكثر من واحد. وذلك محال. واذا ثبت أنها فى كونها متقررة فى الأعيان ، ممكنة ، وثبت أن كل ممكن محدث ، ثبت : أنها من حيث انها ماهيات: محدثة. وذلك يبطل القول بأن المعدوم شيء. وتمام تقرير هذا البرهان قد تقدم فى مسألة حدوث الأجسام.

البرهان الرابع : قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (٥) وجه الاستدلال بالآية: ان اسم الشيء يتناول الماهيات ، فوجب أن يكون الله تعالى قادرا على تلك الماهيات. وانما يكون قادرا عليها لو كان لقدرته صلاحية ، أن تؤثر فى تلك الماهيات تقريرا وابطالا. ومتى كان

__________________

(٥) البقرة ٢٨٤.

٩٠

الأمر كذلك ، كان وجود الله تعالى متقدما على تقرير تلك الماهيات ، لوجوب تقدم المؤثر على الأثر. ومتى كان الأمر كذلك ، ثبت أن الماهيات بأسرها نفى محض ، وعدم صرف فى الأزل. وذلك هو المطلوب.

واحتج القائلون : بأن المعدوم شيء بأمور :

الحجة الأولى : ان المعدومات متميزة فى أنفسها. وكل ما يتميز بعضه عن البعض ، فلا بد وأن تكون فى أنفسها حقائق متعينة. ولا معنى لقولنا المعدوم شيء الا ذلك. والّذي يدل على أن المعدومات متميزة بعضها عن البعض حال عدمها وجوه :

الأول : وهو انا نعلم أن غدا تطلع الشمس من المشرق ، ولا تطلع من المغرب. وهذان المطلوعان معدومان فى الحال. ونحن الآن نعلم امتياز كل واحد منهما عن الآخر. وهذا يدل على وقوع الامتياز فى المعدومات.

الثانى : هو أنا قادرون على الحركة يمنة ويسرة ، ولسنا قادرين على الطيران الى السماء. فقد تميز أحد المعدومين عن الثانى ، من حيث ان أحدهما مقدور لنا ، والآخر غير مقدور لنا. وهذا الامتياز واقع حال العدم. فثبت : وقوع الامتياز فى المعدومات.

الثالث : هو أنا نجد من أنفسنا أنا نريد أن تحدث لنا أموال وأولاد وخيرات وسعادات وأن لا تحدث لنا أنواع الأمراض والآفات ، مع كون كل واحد من هذين القسمين معدوما ، فلولا تميز أحد المعدومين عن الآخر ، حال كونه معدوما بماهيته المعينة ، وحقيقته المخصوصة ، والا لامتنع كون أحدهما مراد الوقوع ، والآخر مكروه الوقوع.

الرابع : هو أن المعدوم قسمان ممتنع وجائز. ولا شك أن كل واحد

٩١

من هذين القسمين متميز عن الآخر فى نفسه وحقيقته. ولذلك كان القادر المختار لا يمكنه ايجاد الممتنعات ويمكنه ايجاد الممكنات. فلولا امتياز الممكن عن الممتنع فى نفسه ، والا لما صح ذلك.

لا يقال : هذه الأمور ، وان كانت معدومة فى الخارج ، الا أنها موجودة فى الذهن ، فلهذا صح وقوع الامتياز فيها. لأنا نقول : انكم اما أن تقولوا هذه المعلومات (٦) موجودة فى الذهن ، أو تقولوا : العلم بها موجود فى الذهن. والأول باطل. لأنا انما نعلم الشمس والقمر. فلو كانت هذه المعلومات موجودة فى الذهن ، لزم فيمن تصور شموسا كثيرة ، وأقمارا كثيرة ، وبحرا من زئبق ، وجبلا من زبرجد : أن توجد فى ذهنه هذه الأشياء. والقول بفساده معلوم بالضرورة. وأما الثانى وهو أن الحاضر فى الذهن هو العلم بهذه الأشياء. فهذا مسلم. الا أن بحثنا عن المعلوم ، لا عن العلم. فهذه المعلومات لما لم تكن موجودة فى الذهن ، علمنا أنها فى أنفسها وحقائقها متميزة ، سواء وجدت فى الذهن أو لم توجد. وذلك هو المطلوب.

فثبت بهذه البراهين الأربعة : تميز بعض المعدومات ، عن البعض ، حال كونها معدومة.

واذا ثبت هذا فنقول : امتياز أحد الأمرين عن الآخر ، يتوقف على كون كل واحد منهما فى نفسه حقيقة معينة ، وماهية معينة. فان تميز البعض عن البعض : حكم من أحكام تلك الحقائق ، وصفة من أوصافها. وثبوت الصفة والحكم بدون تقرير الموصوف : محال. فثبت : أن المعدومات متميزة متقررة ، وثبت أن المتميز لا يتحقق الا عند كون الحقائق والماهيات متقررة. وهذا يوجب القطع بكون المعدومات ذوات وماهيات وحقائق. وذلك هو المطلوب.

__________________

(٦) المعلومات : ب.

٩٢

الحجة الثانية : للمعتزلة على أن المعدوم شيء : وهى أنه لا نزاع فى وجود موجودات ، ممكنة الوجود لذواتها. ولا معنى للممكن الا الّذي يصح عليه الوجود والعدم. وكل ما كان كذلك ، كانت ماهيته ممكنة التقرر ، مع الوجود ، ومع العدم تارة أخرى. واذا عقل تقرر ماهيته مع العدم ، ثبت أن المعدوم شيء.

لا يقال : المراد من قولنا : انه يمكن أن يكون معدوما ، هو أنه لا يمتنع بقاء ماهيته متقررة متحققة ، ولا يمتنع أيضا بطلان تلك الماهية وخروجها عن كونها ماهية وحقيقة. فهذا هو المراد من الامكان. ومعلوم أن هذا القدر لا يدل على أن المعدوم شيء. لأنا نقول : اذا قلنا : هذه الماهية يمكن بطلانها وزوالها ، فلا شك أن هذه قضية موضوعها : قولنا هذه الماهية. ومحمولها : قولنا يمكن بطلانها وزوالها. ولا شك أن ماهية القضية مركبة من الموضوع والمحمول والنسبة الخاصة. ولا شك أن المركب لا يوجد الا عند وجود جميع مفرداته. فاذن هذه القضية لا توجد ولا تتقرر الا اذا حصل موضوعها مقارنا لمحمولها. فاذا قلنا : الموضوع نفس تلك الماهية. وجعلنا المحمول امكان بطلان الماهية ، كان معنى هذا الكلام : أن هذه الماهية يمكن تقررها حال بطلانها. ومعلوم أن ذلك محال. فثبت : أن كون الممكن ممكنا يستحيل أن يكون مفسرا بهذا المعنى ، بل لا بد وأن يكون مفسرا بأنه يجوز كون الماهية موصوفة بالوجود ، ويجوز كونها خالية عن الوجود. ومهما كان الأمر كذلك ، ثبت أن المعدوم شيء.

الحجة الثالثة : ان كل موجود. فهو اما أن يكون ممتنع الوجود لذاته ، واما أن يكون متصور الوجود لذاته. سواء كان ذلك الّذي هو متصور الوجود ، واجب الوجود أو غير واجب الوجود. فاذن كونه ممتنع الوجود وكونه متصور الوجود ، أمران متقابلان لا واسطة بينهما. فنقول : امتناع صفة موجودة. اذ لو كان الامتناع صفة موجوده

٩٣

لكان الممتنع الموصوف بهذا الامتناع موجودا ، ضرورة الوجود لا يمكن أن يكون امتناع قيام الصفة الموجودة بالنفى المحض والعدم الصرف ، وحينئذ يلزم أن يكون ممتنع الوجود موجودا. وهو محال. فثبت أن امتناع الوجود ليس صفة موجودة ، فوجب أن يكون تصور الوجود صفة موجودة ضرورة أنه لا بد فى أحد النقيضين من أن يكون أمرا ثبوتيا.

اذا ثبت هذا ، فنقول : لا شك أن كل محدث فانه قبل حدوثه ممكن الحدوث لذاته. اذ لو لم يكن ممكنا لذاته ، لكان اما واجبا لذاته ، فيكون موجودا قبل أن كان موجودا. وهو محال. أو ممتنعا لذاته. فيلزم انقلاب الماهية من الامتناع الذاتى الى الا مكان الذاتى. وهما محالان. فثبت : أن كل محدث فهو قبل حدوثه ممكن لذاته ، وثبت أن الامكان صفة ثابتة ، وثبت أن الصفة الثابتة تستدعى موصوفا ثابتا. فاذن لا بد وأن تكون الماهية متقررة قبل حدوثها ، حتى تكون موصوفة بهذا الامكان. وذلك يوجب القول بكون المعدوم شيئا.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون الا مكان عبارة عن كون القادر متمكنا من ايجاده؟ لأنا نقول : القادر متمكن من ايجاد المعدوم الممكن ، وغير متمكن من ايجاد المعدوم الممتنع ، فلو لا امتياز الممكن عن الممتنع فى نفسه بأمر عائد إليه ، والا لما كان الأمر كذلك.

الحجة الرابعة : الماهيات لو كانت متجددة ، لكان تجددها باحداث محدث ، وايقاع قادر ، وهذا محال فذلك مثله. بيان الملازمة. أن كل ما حدث بعد أن لم يكن ، فلا بد له من مكون ومحقق. وبيان أنه يمتنع أن يكون تحقق تلك الماهيات وتقررها باحداث محدث. وذلك لأن كل ما كان تحققه بسبب غير. لزم من فرض عدم ذلك الغير ، عدم ذلك الأثر. فلو كان كون الجوهر جوهرا ، وكون السواد سوادا ، لأجل سبب منفصل ، لزم عند فرض عدم ذلك السبب المنفصل ، أن يخرج الجوهر عن كونه جوهرا ، والسواد عن كونه سوادا. وذلك محال.

٩٤

لأن قولنا : «السواد خرج عن كونه سوادا». و «بطل كونه سوادا» قضية موضوعها «السواد» ومحمولها «خرج عن كونه سوادا» أو «بطل كونه سوادا» ومن شرط صحة القضية امكان اجتماع موضوعها ومحمولها معا. ومعلوم أن اجتماع النقيضين محال فثبت : أنه يستحيل قولنا : السواد خرج عن كونه سوادا ، وبطل كونه سوادا. واذا كان الأمر كذلك ، ثبت : أنه يمتنع اسناد تقرر الماهية وتكونها الى ايجاد موجد ، وايقاع فاعل.

الحجة الخامسة : قوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ : إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً) (٧) الآية. سمى الأمر الّذي سيفعله غدا فى الحال باسم الشيء. وذلك يقتضي أن يكون المعدوم شيئا.

والجواب عن الحجة الأولى : أن نقول : انا نجد من أنفسنا شعورا وادراكا فى صور كثيرة ، مع حصول الاتفاق بيننا وبينكم على أنها ليست بماهيات ولا حقائق ، بل هى نفى محض ، وعدم صرف :

الصورة الأولى : العلم بالممتنعات. وذلك لأنا نحكم بأن شريك الله ممتنع ونقيم الدلائل على ذلك. ولو لا أنا تصورنا شريك الإله. والا لاستحال منا أن نحكم عليه بالامتناع. لأن التصديق بدون التصور محال. ولأنا نقول : شريك الاله محال. والجمع بين الوجود والعدم محال ، وحصول الجسم الواحد فى أن واحد فى مكانين محال ، ونميز بين كل واحد من هذه التصديقات ، وبين الآخر. والشعور الذهنى والامتياز العقلى حاصل فى هذه الصور ، مع حصول الاتفاق بين جميع العلماء (٨) على أن هذه الممتنعات ليست ذوات ولا حقائق ولا ماهيات.

__________________

(٧) الكهف : ٢٣.

(٨) العقلاء : ب.

٩٥

الصورة الثانية : العلم بالمركبات ، كما اذا تصورنا بحرا من زئبق ، وجبلا من زبرجد (٩) فان البحر والجبل عبارة عن جواهر موصوفة بالتركيب والتأليف ، وموصوفة بألوان مختلفة ، وأشكال مخصوصة. وعندكم الثابت فى العدم ، انما هو ذوات الجواهر والأعراض. فأما أن يكون الجوهر موصوفا بالعرض ، فذلك غير ثابت فى العدم البتة والجبل انما يكون جبلا بكون الجواهر موصوفة بالأعراض والتركيبات. فاذن الشعور الذهنى حاصل فى هذه الصورة ، مع أن المشعور به غير حاصل البتة ، لا فى العدم ولا فى الوجود.

الصورة الثالثة : العلم بالنسب والاضافات. مثل علمنا بحصول هذا الجسم فى هذا الحيز ، دون ذلك الحيز ، وطلوع الشمس غدا من المشرق لا من المغرب. ولا معنى لطلوع الشمس من المشرق الا حصول ذاتها فى ذلك الحيز دون هذا الحيز ولا شك ولا نزاع أن هذه النسب غير ثابتة فى العدم ، لأن كون الشمس المعدوم حاصلة فى المكان المعدوم محال فى بداهة العقل ، وأنتم ساعدتم أيضا على أنه لا حصول ولا تقرر لأمثال هذه النسب فى العدم.

الصورة الرابعة : انا نعلم امتياز العدم عن الوجود ، وامتياز النفى المحض والسلب الصرف عن الثبوت. ومسمى النفى الصرف والسلب المحض محكوم عليه بكونه متميزا عن الثبوت ، مع أنه يستحيل أن يكون لمسمى النفى المحض ثبوت. لأن المراد من النفى المحض ما هو مقابل لمسمى الثبوت ومناف له. فلو كان له ثبوت بوجه ما ، لكان منافى الشيء ومناقضه ، نفس ذلك الشيء. وهو محال. ولأن الخصم يساعد على أن مسمى العدم غير ثابت فى العدم.

الصورة الخامسة : انا نحكم على الماهية المعدومة بأنها غير

__________________

(٩) ياقوت : ب.

٩٦

موجودة. فقبل اتصاف تلك الماهية بالوجود نحن نتصور ماهية الوجود ، ونميز فى أذهاننا بين مسمى الوجود وبين مسمى الجوهر والسواد. ولذلك فان الخصم يقول : مسمى الجوهر والسواد ثابت فى العدم ، ومسمى الوجود غير ثابت فى العدم. فثبت : أنا نتصور ماهية الوجود وحقيقته قبل صيرورة الماهية موصوفة بالوجود. فلو لزم من مجرد هذا التمييز الذهنى والشعور العقلى ، كون المشعور به حاصلا فى العدم ، لزم كون ماهية الوجود متقررة فى العدم. وذلك محال. لأن العدم نقيض الوجود. والنقيضان لا يجتمعان ولأن الخصم أيضا يساعد على أن ماهية الوجود غير متقررة فى العدم.

الصورة السادسة : نحن نعقل الماهية المؤثرية ، وماهية المتأثرية ، ونميز بين كل واحد منهما وبين الآخر ، وبينهما وبين غيرهما. مع أن الخصم يساعد على أن المعدوم لا يكون مؤثرا ولا متأثرا ، ولا يتقرر حال العدم بمسمى المؤثرية ومسمى المتأثرية. فالشعور الذهنى والادراك العقلى حاصل. مع أن المشعور به غير حاصل. وكذا كون الشيء فوق غيره وتحت غيره ويمينا وشمالا. ويدخل فيه جميع النسب والاضافات.

واذا عرفت هذا فنقول : تعنى بكون المعدوم معلوما ، هذا القدر من التمييز الذهنى الحاصل فى هذه الصورة ، أم تعنى به أمرا وراء هذا القدر؟ فان عنيت به الأول تعذر الاستدلال بكونه معلوما (١٠) على كونه شيئا ، لأن هذا القدر من المعلومية حاصل فى هذه الصور ، مع أنها ليست بماهيات ولا ذوات ولا حقائق بالاتفاق. وان عنيت يكون المعدوم معلوما ، أمرا وراء هذا القدر ، فلا بد من تفسير كون المعدوم معلوما ، ثم اقامة الدلالة على كونه معلوما بذلك التفسير. فانا من وراء النزاع فى المقامين. واعلم : أنك متى أوردت هذا السؤال على هذا الوجه ، ضاق الكلام على الخصم جدا.

__________________

(١٠) معدوما : ب.

٩٧

أما دليلهم الثانى على قولهم ان المعدوم متميز ، وهو أن المقدور قبل دخوله فى الوجود متميز عن غير المقدور ، وذلك يقتضي وقوع الامتياز فى المعدومات.

فالجواب : ان المقدور هو الّذي يكون للقادر فيه تأثير اما بالتحقيق ، واما بالابطال. وعندكم هذه الماهيات ثابتة فى العدم ، ولا تأثير للقادر فيها البتة. وانما تأثير القادر فى اعطاء صفة الوجود لتلك الماهيات. فالمقدور اما الوجود واما موصوفية الماهية بالوجود وأياما كان ، فهو غير ثابت حال العدم. فثبت : أن الّذي يمكن جعله مقدورا استحال القول بكونه ثابتا فى العدم. والّذي يمكن القول بكونه ثابتا فى العدم ، استحال القول بكونه مقدورا للقادر. فقد سقطت هذه الشبهة.

وأما دليلهم الثالث : على قولهم المعدومات يتميز بعضها عن البعض ، وهو التمسك بكون بعض المعدومات مرادا ، وبعضها مكروها.

فجوابه : ان الماهيات يمتنع عليها التبدل والتغير ، فيمتنع كونها متعلقة للارادة والكراهة. بل متعلق الإرادة والكراهة صيرورتها موجودة ، لكن صيرورتها موجودة لا يتقرر حال العدم ، فعاد ما ذكرنا من أن الّذي يمكن جعله متعلق الإرادة والكراهة ، لا يمكن القول بثبوته فى العدم ، والّذي يمكن القول بثبوته فى العدم ، لا يمكن جعله متعلق الإرادة والكراهة.

وأما دليلهم الرابع على ذلك ، وهو تميز المعدوم الممكن عن المعدوم الممتنع.

فجوابه : ان المعدومات الممتنعة أقسام كثيرة. مثل شريك الاله ، والجمع بين الضدين وحصول الجسم الواحد فى الآن الواحد فى مكانين

٩٨

وكل واحد من هذه الأقسام متميز عن الآخر فى الذهن ولم يلزم من ذلك كونها ثابتة فى العدم ، فكذلك هاهنا.

وأما الحجة الثانية التى عولوا عليها فى أن المعدوم شيء. وهو قولهم : ان الممكن هو الّذي يمكن تقرر ماهيته تارة مع العدم ، وأخرى مع الوجود. وذلك يقتضي جواز تقرر الماهية بدون الوجود.

فجوابها : ان الماهية اذا كانت واجبة التقرر حالتى العدم والوجود ، ممتنعة التغير فى نفسها ، أمتنع جعل الامكان صفة لها ، بل الامكان يكون صفة للوجود. ثم انا توافقنا على أن الوجود غير ثابت فى العدم ، فعاد ما ذكرنا من أن الّذي يمكن جعل الامكان وصفا له لا يعقل اثباته فى العدم ، وما يمكن اثباته فى العدم ، لا يمكن جعل الامكان وصفا له.

وأما الحجة الثالثة : وهى قولهم : الامكان صفة موجودة حاصلة قبل الوجود ، فوجب تحقق الماهية قبل الوجود.

فجوابها : قد تقدم فى مسألة حدوث العالم.

وأما الحجة الرابعة : وهى قولهم : لو كانت الماهية متجددة ، لكان وقوعها بالفاعل ممكنا. لكن وقوعها بالفاعل محال.

فجوابها : ان القادر كما يجعل الماهية موجودة ، فهو يجعل الماهية ماهية. والحجة التى تمسكتم بها فى امتناع وقوع الماهية بالفاعل ، فهى بعينها تقتضى امتناع وقوع الوجود بالفاعل ، فانه لو وقع الوجود بالفاعل ، لزم عند تقدير عدم ذلك الفاعل ، أن يخرج الوجود عن كونه وجودا. وهو محال.

فان التزموا أن الوجود لا يقع بالفاعل ، وزعموا : أن الواقع

٩٩

بالفاعل هو موصوفية الماهية بالوجود ، أوردنا عليهم ذلك الكلام فى نفس تلك الموصوفية. وذلك يقتضي أن لا يقع بالفاعل لا الماهية ولا الوجود ولا موصوفية الماهية بالوجود. وذلك يوجب أن لا يكون للمؤثر أثر البتة. وهو يوجب نفى الصانع. فثبت : أن هذه الحجة ساقطة.

واما الحجة الخامسة : هى التمسك بقوله تعالى : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) (١١).

فهذا يقتضي اطلاق اسم الشيء على المعدوم. ولا يقتضي كون المعدوم ذاتا وماهية وحقيقة. وأما قوله تعالى : (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٢) فانه يقتضي وقوع الماهيات بالقادر. وذلك يفيد (١٣) نفى كون الذوات والماهيات متحققة فى الأزل.

والآية التى عول الخصم عليها لا تفيد الا مجرد اللفظ. والآية التى عولنا عليها تفيد المعنى. فكان قولنا أولى.

__________________

(١١) الكهف ٢٣.

(١٢) البقرة ٢٨٤.

(١٣) لا يفيد كون ... الخ : ب.

١٠٠