الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

الحجر هابطا بالطبع ، والنار صاعدة بالطبع. وتوقف صدور الفعل عن القادر على المرجح ، يقتضي بأن لا يبقى بين الموجب وبين المختار فرق البتة. وكل نظرى أفضى الى الفساد الضرورى كان باطلا. فعلمنا : أنه لا بد من الاعتراف بأن صدور الفعل عن القادر ، لا يتوقف على المرجح. فهذا منتهى البحث فى هذا الباب.

وأما الجواب عن السؤال الثانى : فهو أنه ليس القادر عبارة عن الّذي عند اختيار الفعل يتصور منه اختيار الترك ، فان ذلك يجرى مجرى (٥) الجمع بين الضدين. وهو محال. بل القادر هو الّذي يتصور منه اختيار الترك ، بدلا عن اختيار الفعل. وبالعكس. وهذا المعنى معقول فى حق الله تعالى ، فكان قادرا.

لا يقال : نفرض الكلام فى الشيء الّذي تعلقت ارادته وقدرته فى الأزل بايجاده فى لا يزال. فنقول : لا حال من الأحوال يشار إليه ، الا ويمتنع من الله تعالى فى ذلك الوقت أن لا يوجد ذلك الفعل. اذ لو لم يوجد ، لا نقطع ذلك التعلق المستمر من الأزل الى ذلك الوقت. وذلك يقتضي تغير صفات الله تعالى ، وزوال ذلك التعلق القديم. وكل ذلك محال. واذا كان كذلك ، فلا حال يشار إليه الا ويجب عقلا كونه تعالى موجدا لذلك الفعل فى ذلك الوقت الخاص ، ويمتنع أن لا يكون مؤثرا فيه. فهذا يكون موجبا لا قادرا.

لأنا نقول : الصلاحية الأصلية كانت حاصلة. وهذا القدر يكفى فى الفرق بين الموجب والمختار.

وأما الجواب عن السؤال الثالث : فهو ان تعلق العلم بوقوع الفعل فى ذلك الزمان المعين ، تبع لوقوع الفعل فى ذلك الزمان المعين ،

__________________

(٥) اجتماع الضدين : ا

١٨١

ووقوعه فى ذلك الزمان المعين ، تبع لتأثير القدرة والإرادة بايقاعه فى ذلك الزمان. واذا كن الأمر كذلك ، كان تعلق العلم بوقوعه فى ذلك الزمان المعين تبعا لتبع تعلق القدرة والإرادة بايقاعه فى ذلك الزمان. فيمتنع أن يكون تعلق العلم مانعا من تعلق القدرة والإرادة.

وأما الجواب عن السؤال الرابع : فهو ان المراد من قولنا : انه قادر على الفعل والترك ، هو أنه يمكنه أن يفعل ويمكنه أن لا يفعل ، بل يتركه كما كان. وعلى هذا الوجه يسقط هذا السؤال.

فهذا مجموع الكلام فى الفرق بين القادر ، وبين الموجب. وهو من أدق المباحث العقلية.

الفصل الثانى

فى

اقامة الدلائل (٦) على أنه تعالى قادر

اتفق أرباب الملل والأديان : على أن تأثير البارى تعالى فى ايجاد العالم بالقدرة والاختيار. وزعمت الفلاسفة : ان تأثيره فى وجود العالم بالايجاب كتأثير الشمس فى الاضاءة ، وتأثير النار فى التسخين والاحراق.

فنقول : الدليل على أنه تعالى قادر لا موجب : أنه لو كان البارى تعالى موجبا بالذات ، لكان تأثيره فى وجود العالم : اما أن لا يكون موقوفا على شرط ، واما أن يكون موقوفا على شرط. فان لم يكن موقوفا على شرط ، لزم من قدمه قدم العالم ، أو من حدوث العالم حدوثه. وكلاهما باطلان. وأما ان كان موقوفا على شرط ، فذلك

__________________

(٦) الدلالة : ا

١٨٢

الشرط ان كان قديما ، لزم أيضا قدم العالم. وان كان حادثا ، كان الكلام فيه كما فى الأول. فيفضى الى التسلسل. وهو أن يكون كل حادث مسبوقا بحادث آخر قبله. وذلك قول بحوادث لا أول لها. وقد أبطلناه فى مسألة حدوث الأجسام. فثبت : أن القول بكونه تعالى موجبا بالذات ، يفضى الى هذه الأقسام الباطلة ، فيكون باطلا ، واذا بطل هذا ، ثبت : أنه تعالى قادر فاعل مختار.

فان قيل : وجود العالم فى الأزل اما أن يكون جائزا أو ممتنعا. فان كان جائزا فحينئذ يلزم قدم العالم. وعلى هذا التقدير ليس لكم أن تقولوا بأن قدم العالم محال. لأن هذا التقدير هو تقدير أن قدم العالم ليس بمحال. واما ان كان قدم العالم محالا ، فنقول : ان العلة الموجبة قد يتخلف عنها أثرها عند تخلف الشرائط ، أو حصول الموانع. ومن أقوى الشرائط : كون المعلول فى نفسه ممكن الوقوع : ومن أقوى الموانع : كونه ممتنع الوقوع. فلم لا يجوز أن يقال : ان الله تعالى موجب بالذات ، لوجود العالم ، الا أنه لم يوجد العالم فى الأزل. لأن تحقق الأزل كالمانع من وجود العالم ، فلما زال المانع ، حصل المعلول؟

والّذي يحقق هذا السؤال : هو أن القدرة. وان لم تكن موجبة لوجود الفعل عنها ، الا أنها موجبة لصحة وجود الفعل. ثم انه تعالى قادر فى الأزل مع أن صحة الفعل غير حاصلة فى الأزل. ولا جواب لكم عن هذا السؤال ، الا أن تقولوا : القدرة توجب صحة الفعل ، بشرط عدم المانع. والأزل مانع من هذه الصحة. ولهذا المعنى حصلت القدرة فى الأزل ، مع أنه لم تحصل صحة الفعل فى الأزل. واذا صح منكم هذا الجواب فى القدرة ، فلم لا يصح مثله فى جانب الموجب؟ ثم نقول : لم لا يجوز أن يقال : انه تعالى موجب

١٨٣

لذاته. وجود العالم فى الوقت المخصوص فى الأزل؟ واذا كان كونه موجبا انما حصل على هذا الوجه ، لم يلزم من قدم العلة قدم المعلول.

لا يقال : نسبة ذات الموجب الى جميع الأوقات المقدورة على السوية. فاختصاص الايجاب بذلك الوقت المعين ، يكون ترجيحا للممكن من غير مرجح. وهو محال.

لأنا نقول : ألستم تقولون فى القادر : أنه صدر عنه فعله فى وقت دون وقت ، لا لمرجح أصلا ، مع أن نسبة صلاحية القدرة والإرادة بالنسبة الى كل الأوقات على السوية؟ فلم لا يجوز مثله فى الموجب بالذات؟

والجواب عن الأول : ثبت أن الأزل مناف لحدوث العالم. ولكن اذا كان العالم محدثا ، كان حدوثه مختصا بوقت معين. ولو كان حادثا قبل أن حدث بتقدير عشرة أيام ، لم يصر بهذا القدر أزليا ، واذا كان كذلك ، فلا وقت يفرض حدوثه فيه ، الا وكان المانع ـ وهو الأزل ـ زائلا قبل ذلك الوقت. واذا كان المانع زائلا قبل ذلك الوقت ، وكانت العلة للموجبة حاصلة قبل ذلك ، لزم حدوثه قبل أن حدث. وذلك محال. فوجب القول بأنه تعالى فاعل بالاختيار ، لا أنه موجب بالذات.

وقوله ثانيا : «لم لا يجوز أن يقال : انه تعالى موجب لذاته وقوع العالم فى ذلك الوقت المعين».

قلنا : اذن على هذا التقدير ، يكون تأثير ذات الله تعالى فى وجود العالم مشروطا بحضور ذلك الوقت. وعند هذا يعود القسم الّذي ذكرناه ، من أن ذلك الشرط. ان كان قديما لزم قدم المعلول ، وان حادثا كان الكلام فيه كما فى الأول. وهذا يقتضي اشتراط كل حادث

١٨٤

بحادث آخر ، لا الى أول. وهذا هو القول بوجود حوادث لا أول لها. وقد ابطلناه.

واحتج المخالف على قوله بوجوه :

الحجة الأولى : لا شك أنه تعالى مؤثر فى وجود العالم. فكونه مؤثرا فى العالم اما أن يكون لذاته ، أو لصفة قديمة أو لصفة محدثة. والقسم الثالث باطل. لأن تلك الصفة المحدثة. ان وقعت لا عن مؤثر ، لزم نفى الصانع. وان افتقرت الى المؤثر ، لزم التسلسل. ولما بطل هذا القسم تعين أحد القسمين الأولين. وهو أن يكون كونه مؤثرا فى العالم. اما لذاته واما الصفة قديمة. واذا كانت هذه المؤثرية اما لأجل الذات واما لأجل الصفة القديمة بالذات ، لزم من دوام الذات ودوام تلك الصفة ، وجوب دوام تلك المؤثرية. اذ لو لم تجب لزم أن يحصل الأثر تارة ، وأن لا يحصل أخرى. فيكون تمييز احدى الحالتين عن الأخرى لا لمرجح.

وهو محال. واذا كانت تلك المؤثرية واجبة الثبوت ، ممتنعة الزوال ، كان موجبا بالذات ، لا فاعلا بالقدرة والاختيار.

الحجة الثانية : القول بكون المؤثر قادرا ، يفضى الى التناقض. فيكون القول به باطلا. انما قلنا : أنه يفضى الى التناقض ، لأن كون قادرا على المقدور ، موقوف على تميز ذلك المقدور فى نفسه عن الممتنعات ، لأنه لو لا ذلك التميز ، لم تكن قدرته عليها أولى من قدرته على الممتنعات. وهذا يقتضي أن يكون تميز المقدور عن غيره سابقا على تعلق قدرة القادرية.

وأيضا : المقدور هو الّذي يقع بتأثير القادر وتكوينه. وهذا يقتضي أن يكون تحقق ذات المقدور متأخرا عن تعلق قدرة القادرية. واذا كان تحقق ذاته متأخرا عن تعلق قدرة القادرية ، كان تميزه عن غيره أولى بأن يكون متأخرا عن تحقق ذاته. لأن التميز حكم من أحكام ذاته ،

١٨٥

وحالة من حوال ذاته. وحكم الشيء وحاله متأخر عن تحقق ذاته. وهذا يقتضي أن يكون تميز المقدور عن غيره ، مقدما على تعلق قدرة القادرية وأن يكون متأخرا عنه. وذلك محال.

فثبت : أن القول بكون القادر قادرا على الشيء ، يفضى الى هذا المحال. فكان القول بكون القادر : قادرا على الشيء ، محالا.

لا يقال : ماهية المقدور (٧) متقدمة على تعلق القدرة ، ووجوده متأخر عن تعلق القدرة : كما هو مذهب القائلين بأن المعدوم شيء.

لأنا نقول : اذا كنت الماهية متقررة فى العدم وفى الوجود ، ولا تأثير للقدرة فيها البتة ، لم تكن الماهية مقدورة البتة ، بل كان المقدور ، اما الوجود ، واما جعل الماهية موصوفة بالوجود. وهذا من حيث ان متعلق القدرة يجب أن يكون متقدما على القدرة ، ومن حيث ان أثر القدرة يجب أن يكون متأخرا عن القدرة. فيعود المحال المذكور.

الحجة الثالثة : وجود المخلوق اما أن يكون معللا بأن القادر قادر ، أو بأن الخالق (٨) خلقه وقدره. فان كان الأول لزم أن يقال : انه ما دام يكون قادرا ، يكون المخلوق موجودا. واذا كان كذلك امتنع انفكاك القادر عن وجود المخلوق. وان كان الثانى لزم أن يكون كونه خالقا مغايرا ، لكونه قادر ، لأنه لما صدق أن وجود المخلوق ليس لكونه قادرا ، بل لكونه خالقا. فصدق هذا النفى والاثبات يوجب المغايرة.

ثم نقول : كونه خالقا اما أن يكون حادثا ، وحينئذ يفتقر الى خالقية أخرى. وهو محال. أو يكون قديما ، فنقول الخالقية صفة

__________________

(٧) لم لا يجوز أن يقال : ماهية : ب

(٨) القادر : ب

١٨٦

قديمة فتكون ممتنعة الزوال ، واستلزام الخالقية للخلق أمر واجب بالذات. لأن الخلق بدون المخلوق محال. فاذن الذات مستلزمة للخلق ، والخلق مستلزم للمخلوق ، ومستلزم المستلزم مستلزم ، فذات الله مستلزمة لوجود المخلوق. ومتى كان الأمر كذلك ، كان موجبا بالذات لا قادرا بالاختيار.

الجواب عن الأول : ان حدوث الآثار لأجل الصفة القديمة المسمّاة بالقدرة قوله : «لو كان المقدور قديما ، كان الأثر قديما» وقلنا هذا انما يلزم فى الموجب بالذات ، أما فى القادر بالاختيار فهو ممنوع.

والجواب عن الثانى : ان ما ذكرتموه وارد عليكم فى الموجب ، لأن الموجب لا يوجب الا أثرا معينا. ولو لا امتياز ذلك الأثر عن غيره ، والا لم يكن كونه موجبا لذلك الأثر ، أولى من كونه موجبا لغيره. فيلزم أن يكون تميز ماهية المعلول عن غيرها ، متقدما على تأثير الموجب فيه. ولما كان تحققه بتأثير تلك العلة ، لزم تأخره عنه. فيلزمكم فى الموجب ما ألزمتم علينا فى القادر.

والجواب عن الثالث : انه لا معنى لكونه تعالى خالقا ، الا وقوع المخلوق بقدرته. وعلى هذا التقدير تسقط الشبهة التى ذكرتموها ، وعولتم عليها.

١٨٧

المسألة الثانية عشرة

فى

إثبات أنه تعالى عالم

وهذه المسألة مرتبة على فصلين :

الفصل الأول

فى

اقامة الدلالة على أنه سبحانه وتعالى عالم

وبرهانه : ان أفعال الله تعالى محكمة متقنة. وكل من كان فعله متقنا محكما ، كان عالما بتلك الأفعال. فثبت : أنه تعالى عالم : أما أن أفعاله محكمة متقنة ، فيدل عليه تشريح بدن الانسان. وقد لخصنا هذا العلم فى «الطب الكبير» الّذي صنفناه ، وبلغنا فيه غاية لم يبلغ فيها أكثر من تقدمنا. وأما أن كل من كان فعله محكما متقنا ، وجب أن يكون عالما بتلك الأفعال. فهذه مقدمة بديهية بعد الاستقراء والاختبار.

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : المبدأ الأول الواجب الوجود لذاته ، يوجب بالذات موجودا. وذلك الموجود هو الخالق لهذا العالم. وهو عالم بما فيه من المصالح. الا أن الواجب الوجود الّذي هو المبدأ الأول لا يكون عالما.

سلمنا : أن فاعل هذه الأفعال الحادثة فى هذا العالم. هو الله تعالى. لكن ما المراد من كونها محكمة متقنة؟ ان عنيتم بها كونها مطابقة للمصلحة. فنقول : تدعون كنها مطابقة للمصلحة من بعض الوجوه أو تدعون كونها مطابقة للمصلحة من كل الوجوه؟ فان

١٨٨

أردتم الأول فهو مسلم. لكن لا نسلم أن فعل من كان مطابقا للمصلحة من بعض الوجوه ، يدل على كون الفاعل عالما. لأن الأفعال الصادرة عن النائم والساهى ، قد تكون مطابقة للمصلحة من بعض الوجوه ، مع انها لا تدل على علم فاعلها البتة. وان أردتم الثانى ، فلا نسلم أن هذه الحوادث والتركيبات مطابقة للمصلحة من كل الوجوه. وظاهر أن الأمر ليس كذلك. فانه لا شيء من مفردات هذا العالم ومركباته. الا وهو مصلحة من وجه ومفسدة من وجه آخر.

نزلنا عن مقام الاستفسار ، لكن لا نسلم أن الفعل المحكم يدل على كون فاعله عالما. والدليل عليه وجوه :

الأول : وهو أن البيوت المسدسة التى بنتها النحل من غير مسطرة ولا بركار ، لا يقدر عليها الانسان. والبيت الّذي يتخذه العنكبوت من تلك الخيوط من غير شيء من الآلات والأدوات لا يقدر عليه الانسان. فلو دل ذلك على علم الفاعل ، لزم أن تكون هذه الحيوانات أكثر علما من الانسان. ومعلوم أن ذلك باطل.

الثانى : وهو أن الفعل المحكم المتقن قد يصدر مرة واحدة من الجاهل. وهذا مشاهد. واذا جاز صدوره مرة واحدة ، جاز صدوره ثانيا وثالثا. لأن الأشياء المتماثلة حكمها حكم واحد. واذا كان كذلك ، بطلت دلالة الفعل المحكم على علم الفاعل.

سلمنا : أن فاعل الفعل المحكم لا بد له من ادراك وشعور ، لكن لم لا يكفى فيه الظن؟ ولم قلتم : انه لا بد له من العلم؟ والدليل عليه : هو أن أكثر هذه الأفاعيل العجيبة الصادرة من الناس ، انما تصدر عنهم حال كونهم ظانين ، لا حال كونهم قاطعين. أقصى ما فى الباب : أن يقال : أن الظان قد يخطئ كثيرا ، الا أنا نقول : المصالح الحاصلة فى تركيبات هذا العالم غير خالية عن المفاسد. ولعل هذه المفاسد انما وقعت لأجل أن فاعلها ظان لا عالم.

١٨٩

والجواب عن السؤال الأول : ان من استدل فى حدوث العالم بدليل الحركة والسكون ، كان هذا السؤال لازما عليه. أما نحن لما بينا أن كل ما سوى الله تعالى محدث ، سواء كان متحيزا أو قائما بالمتحيز ، أولا متحيزا ولا قائما بالمتحيز ، سقط عنا هذا السؤال. لأنه لما كان كل ما سوى الله محدثا ، كان تأثيره سبحانه وتعالى فى ايجادها (١) بالقدرة والاختيار ، لا بالطبع ولايجاب. والموجد للشىء على سبيل القدرة والاختيار ، لا بد وأن يكون له شعور بما يقصد على ايجاده واختراعه. وهذا القدر يكفى فى اثبات كونه تعالى عالما. وأما أنه تعالى عالم بكل الأشياء. فتلك مسألة أخرى. وبهذا الجواب (٢) سقط جميع ما ذكروه من الأسئلة.

واحتج قدماء الفلاسفة على انكار العلم بوجوه :

الشبهة الأولى : قالوا : لو كان عالما ، لكان علمه اما أن يكون عين ذاته ، أو زائد على ذاته. والقسمان باطلان.

أما أنه لا يجوز أن يكون علمه عين ذاته ، فلوجوه :

أحدها : انا ندرك التفرقة بين قولنا : ذاته. ذاته. وبين قولنا : ذاته علمه. وهذا يوجب التغاير.

والثانى : أنا بعد معرفة أنه موجود ، واجب الوجود لذاته ، نفتقر فى معرفة كونه تعالى عالما الى دليل منفصل. والمعلوم مغاير لغير المعلوم.

الثالث : ان حقيقة العلم مغايرة لحقيقة القدرة ولحقيقة الحياة. فلو كان الكل عبارة عن حقيقة ذاته ، لزم القول بأن الحقائق الثلاثة

__________________

(١) ايجاد ما : ا

(٢) السؤال : ا

١٩٠

حقيقة واحدة. وذلك باطل بالبداهة. وأما أنه لا يجوز أن يكون علمه زائدا على ذاته. فلأنه لو كان زائدا على ذاته ، مع أنه صفة قائمة بتلك الذات ، وجب أن يكون ذلك العلم مفتقرا فى تحققه الى تلك الذات. لأن الصفة مفتقرة الى الموصوف ، والمفتقر الى الغير ممكن لذاته ، مفتقر الى المؤثر. والمؤثر فيه ليس الا تلك الذات ، فتكون تلك الذات موصوفة به ، ومؤثرة فيه ، مع أن تلك الذات بسيطة منزهة عن جميع جهات (٣) التركيبات. فيكون البسيط قابلا وفاعلا معا. وذلك محال.

لأن المفهوم من كونه قابلا ، غير المفهوم من كونه فاعلا. وهذان المفهومان. ان كانا خارجين عن الذات ، كان المفهوم من استلزام الذات لأحدهما ، غير المفهوم من استلزامها للآخر ، فيعود التقسيم الأول فيه. ولا يتسلسل ، بل ينتهى الى كثرة تقع فى الذات ، فتكون ذاته مركبة من الأجزاء. وكل ما كان كذلك كان ممكنا لذاته ، فيكون الواجب لذاته ممكنا لذاته. وهذا خلف. محال.

الشبهة الثانية : انهم قالوا : ذاته سبحانه وتعالى بدون هذا العلم. اما أن تكون كاملة على الاطلاق. وحينئذ لا يكون فى حصول هذا العلم كمال وجلال. ويجب نفيه. واما أن لا تكون الذات بدون هذا العلم كاملة. وحينئذ تكون الذات الواجبة الوجود : ناقصة بذاتها ، وكاملة بغيرها. وهو محال.

الشبهة الثالثة : كونه إلها للعالم. ان لم يتوقف على اثبات هذا العلم ، لم يجز اثباته. وان توقف عليه ، كان مبدأ العالم مركبا من الذات والعلم. وكل مركب ممكن. فكان مبدأ كل الممكنات ممكنا. وذلك محال.

__________________

(٣) جميع تلك : ا

١٩١

والجواب عن الشبهة الأولى : لم لا يجوز أن يكون البسيط حقا ، قابلا وفاعلا معا؟ قوله : «تغاير المفهومين يدل على وقوع الكثرة فى الذات».

قلنا : هذا ينتقض بالوحدة. فانها نصف الاثنين وثلث الثلاثة وربع الأربعة. وهكذا. الى غير النهاية. مع أن الوحدة أبعد الأشياء عن الكثرة. وكذلك النقطة محاذية لجملة أجزاء الدائرة ، مع أنها غير قابلة للقسمة.

والجواب عن الشبهة الثانية : لم لا يجوز أن يقال : ان كون تلك الذات كاملة ، يقتضي كونها مستلزمة لحصول هذا العلم. ولا نقول : الذات ناقصة بذاتها ، مستكملة بغير هابل ، نقول : كونها كاملة لذاتها يستلزم حصول صفات الكمال.

والجواب عن الشبهة الثالثة : مبدأ العالم هو الذات الواجبة الوجود ، الموصوفة بالعلم والقدرة. والذات هى الواجبة لذاتها ، وبذاتها وهى مستلزمة لهذه الصفات. فلم قلتم : ان ذلك محال؟

الفصل الثانى

فى

بيان أنه سبحانه وتعالى عالم بكل المعلومات

برهانه : أنه سبحانه وتعالى حي. وكل من كان حيا ، فانه يصح منه أن يعلم كل واحد من المعلومات. والموجب أيضا لهذه العالمية : هو ذاته. ونسبة الذات الى الكل على السوية. فلم يكن بأن توجب ذاته كونه عالما بالبعض ، أولى من أن توجب كونه عالما بالباقى. فلما أوجب كونه عالما بالبعض ، وجب أن يوجب كونه عالما بالباقى. فثبت : كونه تعالى عالما بكل المعلومات.

١٩٢

واعلم : أن المخالفين فى هذه المسألة طوائف. ونحن نشير الى شبهة كل واحد منهم اشارة خفية :

النوع الأول من المخالفين : الذين يقولون : انه يمتنع كونه تعالى عالما بذاته. احتجوا عليه : بأن كون الشيء عالما بالشيء : اضافة مخصوصة بين العالم ، وبين المعلوم. وهذا لا يحصل الا بين الشيئين. فالشيء الواحد من جميع الوجوه يمتنع كونه عالما بنفسه. وهذا بخلاف علم الواحد منا بنفسه ، فان نفس الواحد منا ليست منزهة عن جميع جهات التركب. فلا جرم صح فى الواحد منا أن يعلم نفسه.

لا يقال : كونه تعالى عالما ، مغايرا لكونه معلوما. فلم لا يكفى هذا القدر من التغاير فى حصول علمه بذاته؟ لأنا نقول : كونه عالما ومعلوما : فرع عن قيام العلم به ، وقيام العلم به : فرع عن هذه التغاير ، فيلزم وقوع الدور.

والجواب : قد دللنا على أنه تعالى عالم بشيء ما ، وكل من علم الشيء أمكنه أن يعلم كونه عالما بذلك الشيء. ومن علم ذلك فقد علم نفسه. فثبت : أنه تعالى عالم بنفسه: قوله : «ان العلم اضافة مخصوصة ، واضافة الشيء الى نفسه محال (٤)» قلنا : لا نسلم. بدليل : أنه يصح أن يقال : علم ذاته : حقيقته.

النوع الثانى من المخالفين : الذين يسلمون كونه تعالى عالما بذاته المخصوصة ، لكنهم ينكرون كونه عالما بغيره. واحتجوا عليه : بأن العلم بأحد المعلومين : مغاير للعلم بالمعلوم الآخر ، بدليل : أنه لا يصح أن يعلم كون زيد عالما بأحد المعلومين ، مع الشك فى كونه عالما بالمعلوم الآخر. والمعلوم غير المشكوك. فكونه عالما بأحد المعلومين ، يوجب أن يكون مغايرا ، لكونه عالما بالمعلوم الآخر.

__________________

(٤) واضافة حقيقة الشيء الى نفسه محال : ب

١٩٣

اذا ثبت هذا ، فنقول : لو كان البارى تعالى عالما بالمعلومات الكثيرة ، لوجب أن يحصل فى ذاته بحسب كل معلوم : علم على حدة. وعلى هذا التقدير يحصل فى ذاته كثرة لا نهاية لها. وذلك محال.

الجواب : ليس العلم عبارة عن الصور المساوية للماهيات المعلومات المنطبعة فى ذات العالم ، بل العلم عبارة عن نسب مخصوصة ، واضافات مخصوصة بين ذات العالم وذات المعلوم. واذا كان كذلك ، فكونه عالما بالمعلومات الكثيرة ، يقتضي أن يحصل لذاته نسب كثيرة ، واضافات كثيرة. وهذا لا يقدح فى وحدة الذات. بدليل : أن الواحد نصف الاثنين وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة. وهكذا. الى ما لا نهاية له من النسب ولم يقدح فى كون الوحدة وحدة ، فكذلك القول فى هذه المسألة.

النوع الثالث من المخالفين : الذين سلموا كونه تعالى عالما بالماهيات الكلية ، لكنهم منعوا من كونه تعالى عالما بالمتغيرات ، من حيث هى متغيرة. واحتجوا عليه : بأنه تعالى لو علم أن زيدا جالس الآن فى هذا المكان. فاذا قام زيد من ذلك المكان ، فان بقى ذلك العلم كان جهلا ، لأن اعتقاده أنه جالس هاهنا مع أنه غير جالس هاهنا : جهل. وان لم يبق ذلك العلم ، كان تغيرا. والتغير على الله تعالى محال.

واعلم : ان المتكلمين صاروا فريقين بسبب هذه الشبهة.

الفريق الأول ـ وهم جمهور المشايخ من أهل السنة ومن المعتزلة ـ قالوا : ان العلم بأن الشيء سيوجد : نفس العلم بوجوده اذا وجد. واحتجوا على قولهم : بأنا اذا علمنا : أن زيدا سيدخل البلد غدا. فاذا استمر هذا العلم الى الغد والى أن دخل زيد البلد. فانا بهذا العلم نعلم أن زيدا دخل الآن البلد. فعلمنا بأن العلم بأن الشيء

١٩٤

سيوجد ، نفس العلم بوجوده اذا وجد. وانما يحتاج الواحد منا الى علم آخر ، لأجل طريان الغفلة على العلم الأول. والبارى تعالى لما امتنع طريان الغفلة عليه ، لا جرم يكون علمه بأن الشيء الفلانى سيوجد ، هو نفس علمه بوجود ذلك الشيء ، حال ما يوجد.

وأما «أبو الحسين البصرى» فقال : هذا المذهب باطل. ويمتنع أن يقال : العلم بأن الشيء سيوجد ، هو نفس العلم بوجوده حال ما يصير موجودا. وله أن يحتج على ذلك بوجوه :

الحجة الأولى : ان من شرط المثلين أن يقوم كل واحد منهما مقام الآخر. والعلم (٥) بأن الشيء سيوجد ، لا يقوم مقام العلم بأنه موجود الآن. فان قبل وقوع المعلوم لو اعتقدنا بأنه سيقع بعد ذلك ، كان علما. ولو اعتقدنا أنه واقع الآن كان جهلا. وأما حال وقوعه ، فانه ينقلب الأمر. فلو اعتقدنا بأنه سيقع بعد ذلك ، وأنه الآن غير واقع ، كان جهلا. ولو اعتقدنا أنه الآن واقع ، كان علما. فثبت : أن كل واحد منهما لا يقوم مقام الآخر. وذلك يقتضي كون هذين الاعتقادين مختلفين فى الحقيقة. ومع هذا الاختلاف فى الماهية والحقيقة ، كيف يمكن دعوى الاتحاد؟

الحجة الثانية : ان كونه عالما بأنه سيقع ، غير مشروط بكونه واقعا فى الحال. وكونه عالما بوقوعه مشروط بوقوعه فى الحال. والشيئان اللذان يكون أحدهما مشروطا بشيء ، والآخر لا يكون مشروطا بذلك الشيء ، يمتنع أن يكون أحدهما نفس الآخر.

الحجة الثالثة ـ وهى التى عول عليها «أبو الحسين» ـ فقال : مجرد العلم بأن الشيء سيقع. لا يكون علما بوقوعه اذا وقع. فان

__________________

(٥) العلم بأنه موجود الآن لا يجوز أن يقوم مقام العلم بأنه سيوجد : ب

١٩٥

من علم أن زيدا سيدخل البلد (٦) غدا. ثم انه جلس فى بيت مظلم لا يميز فيه بين الليل والنهار. وبقى مستديما لذلك العلم ، حتى جاء الغد (٧) ودخل «زيد» البلد. فههنا هذا الشخص بمجرد علمه بأن زيدا سيدخل البلد غدا ، لا يصير عالما بأنه دخل الآن فى البلد. فثبت بهذا : أن العلم بأن الشيء سيوجد غدا ، لا يكون نفس العلم بوجوده اذا وجد.

بلى. من علم أن زيدا سيدخل البلد غدا ، ثم علم حصول الغد. فحينئذ يتولد من هذين العلمين علم ثالث. وهو العلم بأن زيدا دخل البلد الآن.

الحجة الرابعة : ان العلم بالشيء صورة مطابقة لذلك الشيء ولا شك أن حقيقة أنه سيقع بعد ذلك ـ وهو الآن غير واقع ـ مغايرة لحقيقة انه واقع فى الحال وحاصل. واذا اختلفت المعلومات (٨) وجب اختلاف العلمين.

الحجة الخامسة : وهو أنه يمكننا أن نعلم كونه عالما بأن الشيء الفلانى سيقع غدا ، حال ما نجهل كونه عالما بوقوعه حال وقوعه. ولما حصل العلم بأحد هذين العلمين حال ما حصل الشك فى حصول العلم الآخر ، علمنا تغاير العلم.

واعلم : أن «أبا الحسين البصرى» كما أبطل بهذه الدلائل قول المشايخ ، التزم وقوع التغير فى علم الله تعالى بالجزئيات المتغيرة. فقال : «الموجب لكونه تعالى عالما بالمعلومات هو ذاته ، لكن شرط هذا الايجاب : حضور تلك المعلومات. فاذا حصل المعلوم واقعا على وجه معين ، حصل شرط كونه الذات. موجبة للعلم بوقوع ذلك الشيء

__________________

(٦) الدار : ب

(٧) النهار : ب

(٨) اختلف المعلومات : ب

١٩٦

على ذلك الوجه ، فيحصل ذلك العلم. واذا عدم وقوع ذلك المعلوم على هذا الوجه زال شرط الايجاب. ولا جرم يزول ذلك العلم ، ويحدث علم آخر بوقوع ذلك المعلوم على الوجه الثانى».

فهذا مذهبه فى هذا الباب. الا أنه يتوجه عليه سؤالان صعبان :

السؤال الأول : انه تعالى قبل أن خلق العالم كان عالما بأنه سيخلقه ، فاذا خلق العالم فهل زال العلم الأول أو لم يزل؟ فان لم يزل كان عالما بأنه سيخلقه الآن ، مع أنه فى نفسه مخلوق. وذلك محال. وأما ان زال العلم الأول ، فذلك العلم الّذي زال ، كان قديما أو حادثا؟ فان كان قديما كان هذا قولا بجواز عدم القديم. وحينئذ يبطل دليله على حدوث الأجسام لأن مبنى ذلك على أن عدم القديم لا يجوز. وأما ان كان ذلك العلم محدثا. فهذا العلم المحدث. هل كان مسبوقا بعلم آخر لا الى أول ، أو لم يكن كذلك؟ فان كان الأول. كان هذا قول بحوادث لا أول لها. وهذا يبطل عليه دليل حدوث الأجسام. وأما ان انتهت هذه العلوم الى علم محدث غير مسبوق بعلم آخر ، كان هذا قولا بأنه تعالى ما كان فى الأزل عالما بأحوال هذه التغيرات ، فيكون هذا جهلا مطلقا لله تعالى. وذلك باطل قطعا.

السؤال الثانى : وهو أن الفلاسفة أقاموا البرهان المطلق على امتناع وقوع التغيرات فى ذات الله تعالى وفى صفاته. فقالوا : كل صفة يفرض ثبوتها فذات الله تعالى من حيث هى هى ، اما أن تكون كافية فى ثبوتها ، أو كافية فى انتفائها ، أو لا تكون كافية لا فى ثبوتها. ولا فى انتفائها. فان كانت ذاته سبحانه كافية فى ثبوتها ، وجب ثبوتها للذات وأبدا. حتى تكون تلك الصفة دائمة الثبوت بدوام ذاته. وان كانت ذاته سبحانه وتعالى كافية فى انتفائها ، وجب انتفاؤها عن الذات أزلا وأبدا ، حتى تكون دائمة الانتفاء بدوام

١٩٧

ذاته. وأما القسم الثالث ، وهو أن يقال : ان ذاته سبحانه غير كافية فى ثبوت تلك الصفة ولا فى انتفائها ، فعلى هذا التقدير يكون ثبوت تلك الصفة وعدمها ، موقوفين على ثبوت شيء منفصل ، وعلى عدمه.

فنقول : ذات الله تعالى لا تنفك عن ثبوت هذه الصفة ، وعن عدمها. وثبوت هذه الصفة وعدمها موقوفان على ثبوت ذلك الشيء المنفصل وعدمه. والموقوف على الموقوف على الغير ، موقوف على الغير فذات الله تعالى مفتقرة فى تحققها الى الغير. والمفتقر فى تحققه الى الغير ممكن لذاته ، فيلزم أن يكون واجب الوجوب لذاته ، ممكن الوجود لذاته. وذلك محال. فثبت : أن التغير فى صفات الله تعالى محال. فهذا حاصل هذه المباحث فى هذا الباب.

وللفريق الثانى (٩) أن يقولوا : ما ذكرتم من الدليل المانع من التغير ، انما يجرى فى الصفات الحقيقية. أما الصفات الاضافية فلا يمكن منع التغير فيها. وكيف لا نقول هذا ، واذا وجد حادث فان الله تعالى يكون معه. فاذا فنى ذلك الحادث ، بطلت تلك المعية؟ وهذا يقتضي وقوع التغير فى الاضافات. واذا ثبت هذا فنقول : هذه التعلقات من باب النسب والاضافات. واذا كان الأمر كذلك ، لم يمتنع وقوع التغيرات فيها.

النوع الرابع من المخالفين : الذين قالوا : انه تعالى فى الأزل كان عالما بحقائق الأشياء وماهياتها ، وأما العلم بالأشخاص والأحوال ، فذلك انما يحصل عند حدوث تلك الأشخاص. وهذا مذهب «هشام

__________________

(٩) وللفريق الأول : ب

١٩٨

ابن الحكم» ومذهب «أبى الحسين البصرى» كأنه لا يتمشى الا بالتزام هذا المذهب.

واحتج «هشام بن الحكم» على هذا المذهب بوجوه :

الأول : لو كان تعالى عالما فى الأزل بجميع الجزئيات التى توجد فى لا يزال ، لكان عالما بكل ما يصدر من الناس من أفعالهم ، وعالما بما لا يصدر عنهم. وكل ما علم الله تعالى وقوعه ، كان واجب الوقوع ، وكل ما علم الله تعالى وعدم وقوعه ، كان ممتنع الوقوع. فيلزم : أن يقال : جميع أفعال الخلق اما واجبة الوقوع أو ممتنعة الوقوع. ولو كان الأمر كذلك ، لم يكن لشيء من الحيوانات قدرة على الفعل.

لأن الّذي كان معلوم الله تعالى أنه يوجد ، يكون واجب الوقوع. والّذي علم أنه لا يصدر منه ، يكون ممتنع الوقوع. ولا قدرة البتة لا على ما يكون واجب الوقوع ، ولا على ما يكون ممتنع الوقوع. وهذا يقتضي أن لا يكون لله تعالى قدرة البتة ، وأن لا يكون لشيء من المخلوقات قدرة البتة ، وأن تكون التكاليف وبعثة الرسل كلها عبثا ضائعا ، وأن يكون الوعد والوعيد والثواب والعقاب كلها عبثا وجورا. وهذا يبطل القول بالربوبية.

لأن نفى القدرة عن الله تعالى يبطل القول بالربوبية ، ويبطل القول أيضا بالعبودية. لأن العبد اذا لم تكن له قدرة على العبودية ، كان الأمر والنهى عبثا ، واذا كان الأمر كذلك ، وجب أن يقال : انه تعالى كان عالما فى الأزل بذاته وبصفاته وبماهيات الأشياء وحقائقها وصفاتها ، وأما العلم بالأشخاص وأحوالها المتغيرة فذلك لا يحصل الا عند دخولها فى الوجود ، حتى تندفع هذه الاشكالات.

١٩٩

الشبهة الثانية : كل ما كان معلوما ، فهو متميز عن غيره. وكل ما له تميز وتخصص وتعين ، فهو ثابت متحقق. وما لا يكون ثابتا ولا متعينا ولا متحققا ، وجب أن لا يكون معلوما. وهذه الأشخاص وصفاتها وأحوالها ، كانت نفيا محضا وعدما صرفا ، قبل دخولها فى الوجود. فوجب أن لا تكون معلومة.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : المعدوم شيء وذات. فلا جرم لم يمتنع كونها معلومة؟

لأنا نقول : القول بأن المعدوم شيء (هو) باطل. وبتقدير تسليمه فالثابت فى العدم انما هى الذوات والحقائق والماهيات ، أما الذوات بنعت كونها مركبة مؤلفة موصوفة بالأعراض ، فغير ثابتة فى العدم بالاتفاق. واذا كان الأمر كذلك ، وجب أن لا تكون هذه الأشخاص والأحوال معلومة قبل تحققها.

الشبهة الثالثة : لو كان عالما بكل ما سيدخل فى الوجود. لكان عالما بعدد ما يدخل فى الوجود من حركات أهل الجنة وأهل النار ، وكل ما كان عدده معلوما ، كان متناهيا. فيلزم اثبات النهاية لثواب أهل الجنة ، ولعقاب أهل النار. وذلك محال. فعلمنا : أنه تعالى لا يعلم هذه المتغيرات الا عند وقوعها.

والجواب عن الشبهة الثانية : انه منقوص بأن كل واحد منا يعلم والقدرة على الايقاع أصل الوقوع. والتبع للشىء لا يكون مانعا من الأصل.

والجواب عن الشبهة الثانية : انه منقوض بأن كل واحد منا يعلم أن الشمس غدا تطلع من مشرقها لا من مغربها. وهذا المعدوم معلوم.

٢٠٠