الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

فان قطعنا (٩) انه كان شاكا فى الجواز لزم كونه جاهلا بالله تعالى. وهذا لا يليق بالأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ وان قلنا : انه كان قاطعا بامتناع الرؤية على الله تعالى ، كان الأدب أن يقول : رب زدنى دليلا على امتناع الرؤية : فأما أن يسأل الرؤية ، مع العلم بامتناعها. فهذا لا يليق بالعقلاء.

وأما السؤال الرابع : فجوابه : ان الأمة مجمعة على أن علم الأنبياء والرسل ـ عليهم‌السلام ـ بذات الله تعالى وصفاته ، أتم وأكمل من علم كل واحد من آحاد الأمة. واذا ثبت هذا ، فنقول : لما كان العلم بامتناع الرؤية حاصلا لكل واحد من آحاد المعتزلة ، فلو لم يكن حاصلا لموسى عليه‌السلام لكان كل واحد من [آحاد] المعتزلة ، أعرف بذات الله تعالى وبصفاته من موسى عليه‌السلام. ولما كان هذا باطلا بالاجماع ، سقط هذا السؤال.

الحجة الثانية : رؤية الله تعالى معلقة على شرط جائز ، والمعلق على الشرط الجائز جائز. فرؤية الله تعالى جائزة.

وانما قلنا : ان رؤية الله معلقة على شرط جائز ، لأن رؤية الله تعالى معلقة على استقرار الجبل. واستقرار الجبل جائز. فيلزم أن تكون رؤية الله تعالى جائزة. وانما قلنا : ان رؤية الله تعالى معلقة على استقرار الجبل ، لقوله تعالى : (فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ ، فَسَوْفَ تَرانِي) [الأعراف ١٤٣] وانما قلنا : ان استقرار الجبل جائز ، لأن الجبل جسم ، وكل جسم فإنه يمكن أن يكون ساكنا. وانما قلنا : ان المعلق على الجائز جائز ، لأن بتقدير وقوع ذلك الشرط الجائز ، ان لم يحصل الشروط ، لزم الكذب فى كلام الله تعالى ، وان حصل كان الجواز قبله حاصلا. وهذه نكتة حسنة (١٠).

__________________

(٩) قلنا : ب

(١٠) هى ليست حسنة. لأن الرؤية ليست معلقة على أمر ممكن ، ـ

٢٨١

فان قيل : لا نسلم أن رؤية الله تعالى معلقة على شرط جائز ، قوله : «لأنها معلقة على استقرار الجبل. وانه جائز» قلنا : بل هى معلقة على استقرار الجبل ، حال كون الجبل متحركا ، واستقرار الجبل حال كون متحركا محال.

وانما قلنا : ان الرؤية معلقة على استقرار الجبل حال كونه متحركا ، لأنه لو كان معلقا على استقراره لا حال كونه متحركا ، فاستقراره فى غير حال حركته ، يكون واقعا حاصلا. لا محالة. لأن الجسم كلما لم يكن متحركا ، كان ساكنا. لا محالة. وعلى هذا التقدير يكون شرط وقوع الرؤية حاصلا ، فكان يجب أن تحصل الرؤية ، وحيث لم تحصل الرؤية ، علمنا : أن الشرط لم يحصل. وانما يصح أن يقال : لم يحصل الشرط ، اذا قلنا : ان الشرط هو استقراره حال حركته. واذا كان ذلك ، كان هذا الشرط محالا. فثبت : أن رؤية الله معلقة على شرط محال. فلم يلزم القول بجواز رؤية الله تعالى.

والجواب : ان الشرط هو استقرار الجبل. واستقرار الجبل هذا ، من حيث هذا المفهوم ، أمر جائز الوجود. فثبت : أن الرؤية معلقة على شرط جائز الوجود.

وأقصى ما فى الباب : أن يقال : دل دليل منفصل على أنه وجد فى ذلك الوقت مانع ، الا أن الّذي دل اللفظ على كونه شرطا للرؤية ، أمر جائز. فكان المقصود حاصلا.

__________________

ـ بل هى معلقة على أمر مستحيل. مثل (حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ) ومثل :

ومن طلب العلوم بغير كد

سيدركها اذا شاب الغراب

٢٨٢

الفصل الرابع

فى

بيان أن النظر المقرون بحرف الى.

هل هو موضوع للرؤية أم لا؟

وقد اختلف الناس فيه. فزعم بعض أصحابنا : أنه للرؤية. وأنكر ذلك بعض المحققين منا ، وجمهور المعتزلة. وقالوا : لفظ النظر موضوع. اما لكون الحدقة مقابلة للمرئى. كما يقال : جبلان متناظران ، أى متقابلان. واما لتقليب الحدقة السليمة نحو المرئى ، طلبا للرؤية.

واحتج من قال بأن لفظ النظر المقرون ب «الى» للرؤية ، بالقرآن والشعر.

أما القرآن : فآيتان :

الأولى : قوله تعالى : (رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ) والاستدلال به من وجهين :

الأول : انه لو كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة الى جهة المرئى ، لكان معنى الآية: أرنى حتى أقلب حدقتى الى جهتك. وهذا يتقضى أن يكون موسى عليه‌السلام قد أثبت الجهة لله تعالى. وذلك باطل.

والثانى : انه رتب النظر على الإراءة. والمرتب على الإراءة : هو الرؤية ، لا تقليب الحدقة. فيدل هذا : على أن النظر هو الرؤية.

الآية الثانية : قوله تعالى : (أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ)؟ [الغاشية ١٧] والّذي يفيد معرفة كيفية الخلقة : هو الرؤية. لا تقليب الحدقة.

٢٨٣

وأما الشعر :

فقول النابغة :

وما رأيتك الا نظرة عرضت

يوم الامارة. والمأمور معذور

استثنى النظر عن الرؤية ، فوجب أن يكون النظر من جنس الرؤية.

وقال آخر :

نظرت الى من حسن الله وجهه

فيا نظرة كادت على وامق : تقضى

ومعلوم : أن الّذي يقضى على الوامق : هو رؤية المعشوق ، لا تقليب الحدقة نحوه.

وأما الذين أنكروا كون النظر المقرون ب «الى» مفيدا للرؤية. فقد احتجوا بخمسة وعشرين وجها :

الحجة الأولى : قوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ ، وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) [الأعراف ١٩٨] وجه الاستدلال من وجهين.

الأول : انه أثبت النظر ونفى الأبصار. وهذا يدل على أن النظر غير الأبصار : الثانى: أنه تعالى حكم بأنه يرى نظرهم إليه.

ولا شك أن الرؤية لا ترى. ولما كان النظر مرئيا ، والرؤية غير مرئية ، والرؤية غير مرئية ، وجب أن لا يكون النظر هو الرؤية.

فان قيل : انه تعالى أثبت النظر للأصنام بقوله تعالى : (وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) ولا شك أنه لم يحصل للأصنام تقليب الحدقة الى جهة المرئى ، فوجب أن لا يكون النظر عبارة عن تقليب الحدقة.

قلنا : النظر هاهنا مفسر بالتقابل. يقال : جبلان متناظران ، أى متقابلان. وهذا المعنى كان حاصلا للأصنام.

الحجة الثانية : قوله تعالى فى صفة الكفار : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) [البقرة ٧٧] نفى كونه تعالى ناظرا إليهم ، ولا شك أنه كان يراهم ، فيلزم أن يكون النظر غير الرؤية.

٢٨٤

وان قيل : لو كان النظر عبارة عن تقليب الحدقة ، لكان معنى الآية : انه تعالى لا يقلب حدقته إليهم. ومعلوم أن ذلك باطل.

قلنا : لو جعلنا النظر حقيقة فى تقليب الحدقة ، أمكن حمل قوله تعالى : (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) على ترك الرحمة. أما لو جعلناه حقيقة فى الرؤية ، لا يمكن حمله على ترك الرحمة. فكان الأول أولى.

والّذي يدل على ما قلناه : أن تقليب الحدقة الى جانب الشيء لا يختاره الانسان الا اذا أحبه. ومتى أحبه فانه يرحمه ظاهرا ، فحصل بين تقليب الحدقة الى جهة الشيء وبين ايصال الرحمة إليه هذه الملازمة.

وأيضا : تقليب الحدقة الى جهة الشيء ، وايصال الرحمة إليه ، فعلان اختياريان .. فحصل بينهما هذه المشابهة والملازمة. وكل واحد منهما سبب مستقل لحسن المجاز. أما لو جعلنا النظر عبارة عن الرؤية ، لم يحصل بينه وبين الرحمة ، لا الملازمة ولا المشاكلة. أما الملازمة فلأنه ليس كل ما يراه الانسان أحبه ، بل الّذي يختاره الانسان فانه يحبه. لكن اختيار الرؤية ، ليس الا تقليب الحدقة نحوه. فثبت : أن حمل النظر على تقليب الحدقة أولى.

الحجة الثالثة : لو كان النظر عبارة عن الرؤية ، لوجب أن يقال : رأيت إليه. كما يقال : نظرت إليه. وأجمع المفسرون على أن قوله تعالى : (أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ) [الفرقان ٤٥] : مجاز. ولجاز أن يقال : نظرته. كما يقال : رأيته. ولما لم يصح ذلك ، علمنا : أن النظر غير الرؤية.

الحجة الرابعة : يقال : نظرت الى الهلال فلم أره. أثبت : النظر مع عدم الرؤية.

٢٨٥

الحجة الخامسة : يقال : أما ترى كيف ينظر فلان الى الهلال؟ وكيف ينظر فلان الى فلان؟ وهذا يدل على أن النظر مرئى. ولا شك أن الرؤية غير مرئية. فوجب أن يكون النظر مغايرا للرؤية.

الحجة السادسة : يقال : ما زلت أنظر الى الهلال حتى رأيته. ولا شك أن غاية الشيء غير ذلك الشيء.

الحجة السابعة : قول الشاعر :

نظرت إليها من وراء خصاص

فأبصرت وجها ، داعيا لمعاصى

ربت الابصار على النظر ، بفاء التعقيب. وهذا يدل على أن الابصار غير النظر.

الحجة الثامنة : يقال : انظر الى زيد حتى ترى وجهه. ولو كان النظر عبارة عن الرؤية والأبصار ، لنزل هذا الكلام منزلة قوله : أبصر زيدا حتى تبصره.

الحجة التاسعة : ان قوله : نظرت الى زيد ، يفيد أن نظرة انتهى إليه. لأن حرف «الى» لانتهاء الغاية ، فجرى ذلك مجرى قوله : أشرت إليه ، وأو مات إليه. وذلك يفيد الحركة الى الشيء على وجه ينتهى إليه. وهذا انما يصح لو كان النظر عبارة عن تحريك الحدقة الى مقابلة المرئى.

الحجة العاشرة : انهم يقسمون النظر الى أقسام كثيرة. فيقولون : نظر فلان الى نظر راض ، ونظر غضبان ، ونظر متحيز. قال النابغة :

نظر أليك لحاجة لم تقضها

نظر المريض الى وجوه العود.

وقال آخر :

نظر التيوس الى شفار المجازر

٢٨٦

ومعلوم : أن رؤية هؤلاء واحدة. لأنهم يرون الشيء على ما هو عليه. ومن الممتنع وقوع التفاوت فى نفس الرؤية ، بل المراد من قوله : نظر الى نظر غضبان : وصف عينه بما تكون عليه عين الغضبان من الانحراف والازورار ، ولا يعارض هذا بقولهم : فلان يرانى بعين الرضا وبعين الغضب وبعين الذل ، لأن فى هذا الكلام ما أدخلوا التقسيم على الرؤية ، بل أضافوا الرؤية تارة الى عين الرضا وتارة الى عين الغضب.

الحجة الحادية عشرة : انهم يصفون النظر بما لا يمكن أن توصف به الرؤية. وذلك يوجب التباين بينهما. فانه يوصف النظر بكونه شزرا.

قال الشاعر :

ولا خير بالبغضاء والنظر الشرز.

ومعلوم : أن الشزر كيفية فى موضع العين وتحريكها.

ومنها : أنهم يصفون النظر بالشدة والصلابة. أنشد ابن قتيبة :

يتقارضون اذا التقوا فى موطن

نظرا يزيل مواطن الاقدام

قال ابن قتيبة : يكاد يزيلها من شدته وصلابته. والمراد من تلك الشدة : الاعتماد على الحدقة فى تقليبها وتحريكها.

الحجة الثانية عشر : ان الّذي يقدر عليه الانسان فى باب الرؤية ، انما هو تقليب الحدقة الى جهة المرئى. فأما حصول الرؤية فليس ذلك فى قدرة الانسان. اذا ثبت هذا فنقول : لو حملنا لفظ النظر على تقليب الحدقة ، كان قولنا فى الأمر والنهى : انظر ، ولا تنظر. محمولا على الحقيقة. أما لو حملنا النظر على الرؤية ، لوجب حمل قولنا أانظر ولا تنظر ، على مقدمات الرؤية ، لا على نفس الرؤية. فيصير هذا اللفظ مجازا. ومعلوم : أن حمل للكلام على معنى يبقى اللفظ

٢٨٧

معه حقيقة ، أولى من حمله على معنى يبقى اللفظ معه مجازا. وهذا يقتضي كون لفظ النظر حقيقة فى تقليب الحدقة لا فى الرؤية.

الحجة الثالثة عشر : ان النظر معناه بالفارسية (نگريستن) والرؤية معناه بالفارسية (ديدن) والفرق بين قولنا (نگريستن) وبين قولنا (ديدن) معلوم فى الفارسية بالبداهة ، فانهم يقولون : (بسيار نگريستم والبتة نديدم) وآخرون يقولون : (بسيار نگريستم وآخر نديدم) ومعلوم : أنهم يريدون بقولهم : (نگريستم) تحريك الحدقة الى تلك الجهة التى يعتقدون حضور المرئى فيها. وذلك يحقق ما قلناه.

الحجة الرابعة عشر : ما أنشد بعضهم :

وقفت كأنى من وراء زجاجة

الى الدار من فرط الصبابة ، أنظر

فعيناى طورا تغرقان من البكا

فأغشى. وطورا يحسران فأبصر

جعل نفسه ناظرا حال كونه مبصرا ، وغير مبصر. وهذا يدل على أن النظر غير الابصار.

الحجة الخامسة عشر : ما أنشده «أبو على الفارسى» فى كتاب «الحجة».

فيا «مى» هل تجزى بكائى بمثله

مرارا ، وأنفاسى عليك الزوافر

وانى متى أشرف من الجنب الّذي

به أنت من بين الجوانب ناظر

قال أبو على الفارسى : يطلب منها الجزاء على كونه ناظرا إليها. ولو كان النظر عبارة عن الرؤية لها ، لكان قد طلب الجزاء على منفعته ولذته وحصول غرضه. وذلك لا يقوله عاقل.

الحجة السادسة عشر : أنشد بعضهم :

اذا نظر الواشون صدت وأعرضت

وان غفلوا قلت : ألست على العهد

٢٨٨

جعل قوله : وان غفلوا فى مقابلة قوله : نظروا. وانما يغفل الانسان عن أمر يفعله ويشتغل بتحصيله ، وما ذلك الا تقليب الحدقة.

الحجة السابعة عشر : أنشد بعضهم :

ونظرة ذى شجن وامق

اذا ما الركائب ، جاوزن ميلا

أثبت النظر بعد مجاوزة الركائب ميلا. ومعلوم : أن الرؤية غير حاصلة فى هذا الوقت ، ولما أثبت النظر حال عدم الرؤية ، ثبت أن النظر حال عدم الرؤية ، ثبت أن النظر غير الرؤية.

* * *

الحجة الثامنة عشر ـ ومن هاهنا نذكر الوجوه الدالة على أن النظر المقرون بحرف «الى» قد يجيء بمعنى الانتظار ، لا بمعنى الرؤية ـ

فنقول : قوله تعالى : (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٢٣] معناه : أنها تنظر الى الرب لا الى غيره. وذلك لأن تقديم المفعول يفيد الحصر ، كما فى قوله تعالى : (أَلا إِلَى اللهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ) [الشورى ٥٢] و (عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) [هود ٨٨] و (أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) [النجم ٤٢] و (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) [العلق ٨] و (إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ) [القيامة ٣٠] اذا ثبت هذا فنقول : مقتضى الآية : أنهم لا ينظرون الى غير الله تعالى. ولا شك أنهم يرون غير الله تعالى. وذلك لأنهم يرون الجنة والنار ومرافق القيامة. وذلك لأن المؤمنين نظارة فى ذلك اليوم ، لأنهم هم الآمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون. ولما دلت الآية على أنهم لا ينظرون الى غير الله تعالى ، ودل العقل على أنهم يرون غير الله ، علمنا : أن النظر غير الرؤية. أما اذا حملنا هذا اللفظ على الانتظار ، صح هذا الحصر. وذلك لأنهم لا ينتظرون الا رحمة الله ، ولا يتوقعونها الا منه.

٢٨٩

الحجة التاسعة عشر : حكى عن «الخليل» أنه قال : نظرت الى فلان ، بمعنى انتظرته. وعن «ابن عباس» ـ رضى الله عنه ـ أنه قال : تقول العرب : انما أنظر الى الله تعالى ، ثم الى فلان. وهذا الاستعمال أيضا حاصل فى الفارسية. فانهم يقولون فيمن يطمع فى أمر يتوقعه : «فلان را چشم بر فلان كار است ونظرا وبر فلان كار است وفلان كارى را مى نگرد» فثبت : أن هذا الاستعمال متعارف مشهور فى العربية ، وفى الفارسية ، حتى أن الأعمى قد يذكر هذا اللفظ ، فيقول : عينى شاخصة أليك ، ونظرى الى الله تعالى ، ثم أليك.

الحجة العشرون : قول الشاعر :

وجوه ناظرات يوم بدر

الى الرحمن تنتظر الخلاصا

أثبت النظر المقرون بحرف «الى» لا بمعنى الرؤية ، بل بمعنى الانتظار.

لا يقال : ان بعض الرواة روى هذا البيت على وجه آخر :

وجوه ناظرات يوم بكر.

وزعم : أن مراد الشاعر يوم اليمامة. وسمى يوم بكر ، لأن القتال وقع بين عسكر أبى بكر رضى الله عنه. وبين مسيلمة الكذاب. والمراد من الرحمن فى البيت : مسيلمة الكذاب. فانهم كانوا يسمونه رحمن اليامة. وكانوا ينظرون الى وجهه ، ويطمعون فيه أن يخلصهم من ذلك البلاء. لأنا نقول : لا منافاة بين الروايتين. فنقبلهما.

الحجة الحادية والعشرون : قول الكميت :

وشعث ينظرون الى بلال

كما نظر الظماء الى الغمام

ومعلوم : أن الظماء ينتظرون حيا الغمام ، فعلمنا أن نظر الشعث الى بلال ، هو بمعنى الانتظار. الا أنه شبه نظرهم الى بلال ينظرهم الى حيا الغمام.

٢٩٠

الحجة الثانية والعشرون : قال آخر :

واذا نظرت أليك من ملك

والبحر دونك. زدتنى نعما

وصف نفسه بكونه ناظرا الى الملك حال ما كان البحر حائلا بينهما. وذلك لا يحتمل الرؤية. فعلمنا : أن المراد هو الانتظار.

الحجة الثالثة والعشرون : قال البعيث :

وجوه بهاليل الحجاز على النوى

الى ملك زان المغارب ناظرة

أثبت : أن «بهاليل» الحجاز ينظرون الى ملك المغرب. وذلك لا يحتمل الرؤية ، بل يحتمل الانتظار.

الحجة الرابعة والعشرون : قال بعضهم :

ويوم بذى قار ، رأيت وجوههم

الى الموت من وقع السيوف نواظرا

والمراد : الانتظار لأن الموت لا خلاف فى أنه لا يرى.

لا يقال : المراد من الموت الرجل القتال ، كما فى قوله :

انى أنا الموت.

لأنا نقول : لا شك أن تسمية الرجل القاتل بالموت ، مجاز. فلا يصار إليه الا عند الضرورة.

الحجة الخامسة والعشرون : قول «الأبيوردى» فى صفة عين ممدوحه :

هى التى لا تزال الدهر ناظرة

الى العلى ، ولزوار ، وفى كتب

فقوله : ناظرة الى العلى. معناه كونها طالبة للعلى ومتوقعة له.

* * *

فجملة هذه الوجوه الأول : دالة على أن النظر المقرون بحرف الى ليس للرؤية وهذه الوجوه الأخيرة دالة على أنه للانتظار.

لا يقال : قد اشتهر من علماء اللغة أنهم قالوا : النظر اذا لم يكن مقرونا بحرف الى ، أفاد الانتظار ، يقال نظرته أى انتظرته. أما اذا مقرونا بحرف الى ، فانه ليس للانتظار.

٢٩١

لأنا نقول : لما حصل التعارض بين دلائلنا ودلائلكم ، فلا بد من التوفيق. وطريقه : أن قولهم : نظرته بمعنى انتظرته ، انما يقال فى انتظار مجىء الانسان بنفسه ، أما اذا كان منتظر الرفد أو المعونة. فقد يقال فيه : نظرت إليه. ومنه قولهم : انما نظرى الى الله ، ثم أليك. فهذا مجموع البحث فى هذه المسألة اللفظية.

* * *

واعلم : أن الأقرب أن يقال : الأصل فى قول القائل : نظرت أليك : تقليب الحدقة نحوه. ثم قد يستعمل فى الرؤية ، من حيث ان تقليب الحدقة سبب للرؤية ، ويستعمل أيضا فى الانتظار ، من حيث ان تقليب الحدقة سبب للانتظار ، فان من انتظر شيئا فانه يقلب الحدقة نحو الجهة التى ينتظر المقصود منها.

فهذا ما عندى فى هذا البحث اللفظى.

الفصل الخامس

فى

اقامة الدلالة على أن المؤمنين

يرون الله تعالى يوم القيامة

ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : قوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٢٢ ـ ٢٣] فنقول : النظر ان كان هو الرؤية ، فالمطلوب حاصل. وان كان عبارة عن تقليب الحدقة الى جهة المرئى ، فنقول : هذا فى حق الله تعالى محال ، فوجب حمل لفظة النظر على الرؤية اطلاقا للفظ السبب على المسبب ، فان النظر سبب للرؤية ، ولأن المقصود من تقليب الحدقة انما هو الرؤية.

فان قيل : لا نسلم أنه حصل فى هذه الآية لفظ النظر مقرونا بحرف الى. وقوله (إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) فلا نسلم ان الى هاهنا من حروف الجر ، بل هو عندنا اسم. وبيانه من وجهين:

٢٩٢

الأول : انه واحد الآلاء ، على ما ذكره «الأزهرى» فى كتاب «التهذيب» قال الشاعر. وهو «الأعشى» :

أبيض لا يرهب الهزال ولا

يقطع رحما ، ولا يخون الى

أى لا يخون نعمه.

اذا ثبت هذا فنقول : انا توافقنا على أن لفظ (ناظِرَةٌ) اذا اذا كان عاريا عن حرف «الى» أفاد معنى الانتظار ، كقوله تعالى : (فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ) [النمل ٣٥] اذا عرفت هذا فنقول : لم لا يجوز أن يكون تقدير الآية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) أى نعمة ربها منتظرة؟

الثانى : ان لفظ الى جاء بمعنى عند ، قال الشاعر وهو «أوس» :

فهل لكم فيما الى ، فاننى

طبيب بما أعيى النطاسى حذيما؟

أى فهل لكم فيما عندى؟ اذا ثبت هذا ، فلم لا يجوز أن يكون تقرير الآية : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ). عند ربها ثم قال بعد ذلك (ناظِرَةٌ) أى منظرة. وهو خبر عن الوجوه. والتقدير : وجوه يومئذ ناضرة عند ربها ، منتظرة نعمة ربها؟ سلمنا : أنه حصل فى هذه الآية لفظ النظر مقرونا بحرف الى ، لكن لا نسلم أنه للرؤية. قوله : «لفظ النظر لتقليب الحدقة ، ولا يمكن حمله هاهنا على هذا المعنى ، فوجب حمله على لازمه ، وهو الرؤي».

قلنا : حصل هاهنا وجهان آخران من المجاز :

الأول : اضمار المضاف. والتقدير الى ثواب ربها ناظرة.

والثانى : ان تقليب الحدقة الى جهة. كما يلزمه الرؤية ، فكذلك يلزمه نوع النفع. وهو الانتظار. فلم كان حمل اللفظ على المجاز الّذي ذكرتم ، أولى من حمله على أحد هذين المجازين؟

والجواب : أما حمل لفظ الى على واحد الآلاء ، أو على معنى عند. فانه يقتضي حمل قوله (ناظِرَةٌ) على الانتظار. وذلك غير

٢٩٣

جائز. لأن الانتظار يلزمه الغم ، كما قيل : الانتظار الموت الأحمر ، والبشارة بما يوجب الغم غير لائقة بالحكمة. قوله : «المراد من الآية : الى ثواب ربها ناظرة» قلنا : هذا مدفوع من وجهين :

الأول : ان ما ذهبتم إليه يوجب الاضمار فى الآية. وما ذهبنا إليه يوجب المجاز. والمجاز خير من الإضمار ـ على ما بيناه فى أصول الفقه ـ

والثانى : ان النظر الى الثواب لا يفيد الفرح. فلا بد من اضمار زيادة أخرى. وهى كون ذلك الثواب واصلا إليه ، وتكثير الاضمارات خلاف الأصل. قوله : «نحمله على الانتظار» قلنا : أنه غير جائز.

الحجة الثانية : قوله تعالى : (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا : الْحُسْنى ، وَزِيادَةٌ) [يونس ٢٦] والاستدلال به من وجهين :

الأول : ان الألف واللام : فى (الْحُسْنى) اما أن يكونا للاستغراق أو للمعهود. ولا يجوز حملهما على الاستغراق ، والا لدخلت الزيادة فيها. وذلك يمنع من عطف الزيادة عليها. فوجب حملهما على المعهود. ولا معهود بين المسلمين الا الجنة ، وما فيها من الثواب المشتمل على المنفعة وعلى التعظيم. واذا كان كذلك وجب أن تكون الزيادة (١١) شيئا مغايرا للثواب المشتمل على المنفعة وعلى التعظيم. وكل من أثبت شيئا زائدا على المنفعة وعلى التعظيم الموعود به فى يوم القيامة ، قال : انه هو الرؤية. فوجب أن يكون المراد من هذه الزيادة. الرؤية.

الثانى : ان النقل المستفيض صح عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم أنه قال : «الزيادة هى النظر الى الله تعالى»

__________________

(١١) لمنفعة : ا

٢٩٤

الحجة الثالثة : قوله تعالى (كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) [المطففين ١٥] ذكر كون الكفار محجوبين عن الرب سبحانه وتعالى فى معرض التحقير لشأنهم. وهذا يقتضي أن يكون المؤمن المعظم مبرأ منه.

الفصل السادس

فى

حكاية شبه المعتزلة فى انكار الرؤية والجواب عنها

اعلم : أنهم يتمسكون بوجوه عقلية ، وبوجوه نقلية.

أما الشبه النقلية فأربع :

الشبهة الأولى : التمسك بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام ١٠٣] اعلم أنهم تارة يتمسكون بهذه الآية فى بيان أنه تعالى لا يراه أحد ، وأخرى فى بيان أنه يمتنع أن يراه أحد.

أما الوجه الأول : فتقريره أن نقول : الادراك المضاف الى البصر هو الرؤية والابصار ، بدليل : أنه لا يصح اثبات أحدهما مع نفى الآخر ، فلا يصح أن يقال : رأيته وما أدركته بعينى ، وأن يقال : أدركته بعينى وما رأيته. وهذا يدل على أن ادراك البصر والرؤية شيء واحد. اذا ثبت هذا فنقول : انه تعالى نفى أن يدركه أحد من الأبصار. وهذا يتناول جميع الأبصار فى جميع الأوقات. وذلك يقتضي أن لا يراه أحد فى شيء من الأوقات.

واما الوجه الثانى : فهو أنه تعالى يمدح نفسه بأنه لا يدركه شيء من الأبصار ، وكل ما كان عدمه مدحا كان وجوده نقصا. والنقص على الله تعالى محال. فوجب أن تكون الرؤية ممتنعة على الله تعالى.

٢٩٥

الشبهة الثانية : تمسكوا بقوله تعالى لموسى عليه‌السلام : (لَنْ تَرانِي) [الأعراف ١٤٣] وهذه الكلمة للتأبيد ، بدليل قوله تعالى : (قُلْ : لَنْ تَتَّبِعُونا) [الفتح ١٥] نثبت : أن موسى عليه‌السلام لا يراه قط. واذا ثبت هذا فى حق موسى ، ثبت فى حق غيره ، لانعقاد الاجماع على أنه لا قائل بالفرق.

الشبهة الثالثة : تمسكوا بقوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلَّا وَحْياً ، أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) [الشورى ٥١] دلت هذه الآية : على أن كل من يكلم الله تعالى ، فانه لا يراه. واذا ثبت عدم الرؤية فى وقت الكلام ، ثبت عدم الرؤية فى غير الوقت الكلام. ضرورة. أنه لا قائل بالفرق.

الشبهة الرابعة : انه تعالى ما ذكر الرؤية فى القرآن ، الا وقد استعظمها. وذلك فى ثلاث آيات : أولها : قوله تعالى : (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى : لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ ، حَتَّى نَرَى اللهَ جَهْرَةً. فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ) [البقرة ٥٥] وثانيها : قوله تعالى : (يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ : أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ. فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ. فَقالُوا : أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً. فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) [النساء ١٥٣] وثالثها : قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا : لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ ، أَوْ نَرى رَبَّنا. لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ. وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً) [الفرقان ٢١]. وهذا الاستعظام يدل على أن رؤية الله تعالى ممتنعة.

* * *

وأما الشبه العقلية : فهى أيضا أربع :

الشبهة الأولى ـ وهى شبهة الموانع ـ وقبل تقريرها لا بد من مقدمة. وهى أن الأشياء التى يجب حصول الابصار فى الشاهد عند حصولها : ثمانية :

٢٩٦

أحدها : سلامة الحاسة. وثانيها : كون الشيء بحيث أن يكون جائز الرؤية. وثالثها : أن لا يكون فى غلية البعد. والرابع : أن لا يكون فى غاية القرب. والخامس : أن يكون مقابلا للمرئى ، أو فى حكم المقابل. والسادس : أن لا يكون فى غاية اللطافة. والسابع : أن لا يكون بين الرائى والمرئى حجاب. والثامن : أن لا يكون فى غاية الصغر.

قالوا : عند حصول هذه الأمور الثمانية ، يجب حصول الابصار. اذ لو لم يجب لجاز أن يحصل بحضرتنا جبال عالية وشموس مضيئة وأصوات هائلة ، ونحن لا نراها ولا نسمعها وذلك يقتضي دخول الانسان فى الجهالات.

اذا عرفت هذه المقدمة ، فلنرجع الى تقرير الشبهة ، ونقول : أما الشرائط الستة الأخيرة ، فلا يمكن اعتبارها الا فى رؤية الأجسام. والله تعالى ليس بجسم ، فلا يمكن اعتبار هذه الشرائط فى رؤيته. فعلى هذا لو صحت رؤيته ، لوجب أن لا يصير فى حصول رؤيته الا أمران سلامة الحاسة ، وكونه بحيث يصح أن يرى. وهذان الأمران حاصلان الآن. فثبت : أنه لو صحت رؤيته ، لوجب أن نراه الآن. ولما لم يكن الأمر كذلك ، وجب أن يقال : انما لا نراه الآن ، لأنه لا تصح رؤيته.

الشبهة الثانية ـ وهى شبهة المقابلة ـ وهى أن كل ما كان مرئيا ، وجب أن يكون مقابلا للرائى ، أو فى حكم المقابل له. وذلك لا يصح الا فى (١٢) الشيء الّذي يكون حاصلا فى الحيز والمكان. والله تعالى ليس فى المكان والحيز ، فامتنع كونه مقابلا للرائى أو فى حكم المقابل له ، فامتنع كونه مرئيا. وانما قلنا : ان المرئى يجب أن يكون مقابلا أو فى حكم المقابل ، احترازا عن صور ثلاث :

__________________

(١٢) فى حكم وهو الشيء : ا

٢٩٧

أحدها : انا نرى الأعراض مقابلة للجسم ، الا أنها حالة فى الأجسام المقابلة للرائى. فكانت فى حكم المقابلة. وثانيها : انا نرى وجوهنا فى المرآة ، ويستحيل أن يكون الوجه مقابل لنفسه ، الا أن الشعاع يخرج من العين الى المرآة ، ثم ينعكس من المرآة الى الوجه ، وبهذا الطريق يكون الوجه جاريا مجرى المقابل لنفسه. وثالثها : الشيء الّذي يوضع فى الرطوبة. فانه وان لم يكن فى مقابلة العين ، الا أن شعاع العين ينعطف عليه ويصير مرئيا. فهو أيضا فى حكم المقابل. اذا عرفت هذا فنقول : ان «أبا الحسين البصرى» ادعى العلم الضرورى بأن ما لا يكون مقابلا ، ولا فى حكم المقابل ، يمتنع أن يرى.

الشبهة الثالثة ـ وهى شبهة الانطباع ـ وهى أن كل ما يصير مرئيا ، لا بد وأن تنطبع صورته ومثاله فى العين. والله تعالى لا صورة له ولا مثال ، فوجب أن تمتنع رؤيته.

الشبهة الرابعة : ان كل ما كان مرئيا ، فلا بد له من لون وشكل. ودليله : الاستقراء. والله تعالى منزه عن ذلك ، فوجب أن لا يرى.

فهذا مجموع شبههم فى نفى الرؤية.

* * *

والجواب عن الشبهة الأولى ـ وهى تمسكهم بقوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام ١٠٣] من وجوه :

الأول : لا نسلم أن الادراك عبارة عن الرؤية ، بل هو عبارة عن الوصول. يقال : أدرك الغلام اذا صار بالغا ، وأدركت الثمرة اذا وصلت الى حد النضج. قال تعالى : (قالَ أَصْحابُ مُوسى : إِنَّا لَمُدْرَكُونَ) [الشعراء ٦١] أى لملحقون. اذا عرفت هذا فنقول : ان من رأى شيئا ورأى أطرافه ونهاياته. قيل : انه أدركه ـ على تقدير أن يكون قد أحاط به من جملة جوانبه ـ وهذا المعنى انما يتحقق فى الشيء الّذي له أطراف ونهايات. والبارى تعالى منزه عن ذلك. فلم تكن

٢٩٨

رؤيته ادراكا البتة. فلم يلزم من نفى الادراك نفى الرؤية. فالحاصل : أن الادراك رؤية مكفية (١٣) ولا يلزم من نفى الرؤية المكفية ، نفى أصل الرؤية. وكما أنا نعرف الله ولا نحيط به. فكذلك نراه ولا ندركه.

الوجه الثانى فى الجواب : هب أن ادراك العين عبارة عن الرؤية ، الا أن قوله تعالى : (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) نقيض لقولنا : تدركه الأبصار. وقولنا : تدركه الأبصار ، يقتضي أن يدركه كل أحد. لأن الألف واللام اذا دخلا على اسم الجمع ، يفيدان الاستغراق. ونقيض الموجبة الكلية : السالبة الجزئية. فكان قوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) معناه : أنه لا تدركه جميع الأبصار ، ونحن نقول بموجبه. فانه لا يراه جميع المبصرين. فان الكافرين لا يرونه بل يراه بعض الأبصار.

الوجه الثالث فى الجواب : انا نقول بموجب الآية : أنه لا تدركه الأبصار. فلم قلتم بأنه لا يدركه المبصرون؟ فان قالوا : المراد من الابصار فى الآية : المبصرون ، والا خرجت الآية عن أن تكون مفيدة. فنقول : اذا حملنا الأبصار على المبصرين ، وجب أن يكون معنى قوله تعالى : (وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) : أنه يدرك جميع المبصرين. ولا نزاع فى أنه تعالى مبصر ، فيلزم بحكم هذه الآية : أن يبصر نفسه. وأنتم لا تقولون به.

الوجه الرابع فى الجواب : هب أن ظاهره يدل على نفى الرؤية عن جميع المبصرين. الا أنه عام. وقوله تعالى : (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ، إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ) [القيامة ٢٢ ـ ٢٣] خاص. والخاص مقدم على العام.

__________________

(١٣) التعبير بأصحاب موسى هو غير التعبير ببنى اسرائيل وهذا يدل على أنه كان معه من غير بنى اسرائيل. وهذا قد صرحت به التوراة ومستفاد أيضا من قوله تعالى : (فَما آمَنَ لِمُوسى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ) أى من قوم فرعون ، لأن بنى اسرائيل كانوا مؤمنين بموسى عليه‌السلام.

٢٩٩

وأما الوجه الثانى فى تمسكهم بالآية : فنقول : ذلك انما يلزم لو حملنا الادراك على الاحاطة. قلنا : هب أن الادراك محال على الله تعالى ، فلم قلتم : بأن الرؤية ممتنعة؟ وأيضا : نقول هذا الاستدلال معارض بأن رؤية الله تعالى لو كانت ممتنعة ، لما حصل المدح بأنه لا يرى. ألا ترى أن المعدومات تمتنع رؤيتها ، وليس لها مدح ، بل المدح انما يحصل لو كانت رؤيته جائزة. ثم انه سبحانه وتعالى يقدر على منع الأبصار عن ذلك.

اذا ثبت هذا فنقول : هذه الآية تدل على أن رؤية الله تعالى جائزة من هذا الوجه. واذا ثبت الجواز ، وجب القول بالوقوع فى القيامة. ضرورة أنه لا قائل بالفرق. وأيضا : فقولهم : ان كل ما كان عدمه مدحا ، كان وجوده ممتنعا : منقوض بأنه تعالى يمدح بنفى الظلم والعبث عن نفسه. حيث قال : (وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) [فصلت ٤٦](وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً) [ص ٢٧] مع ان مذهب المعتزلة أنه تعالى قادر على فعل الظلم والعبث.

واما الجواب عن الشبهة الثانية ـ وهى التمسك بقوله تعالى : (لَنْ تَرانِي) ـ فنقول : كلمة (لَنْ) لا تدل على التأبيد ، بدليل قوله تعالى : (وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً) [البقرة ٩٦] مع أنهم يتمنونه فى الآخرة.

والجواب عن الشبهة الثالثة ـ وهى التمسك بقوله تعالى : (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ ، إِلَّا وَحْياً) فنقول : الوحى هو أن يسمع ذلك الكلام بسرعة ، وليس فيه أن يكون محجوبا عن رؤية الله تعالى أم لا؟

وأما الجواب عن الشبهة الرابعة : أن نقول لم لا يجوز أن يكون ذلك الاستعظام لأجل أنهم طلبوا الرؤية على سبيل التعنت والعناد.

٣٠٠