الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

هذا عين المتنازع فيه. ولا يمكن جعله مقدمة فى اثبات المتنازع. وان أردتم بضد الصفة معنى وجوديا ، منافيا لتلك الصفة على وزان المنافيات الحاصلة من السواد والبياض. فلم قلتم : ان السمع والبصر ضدان بهذا المعنى؟ ولم لا يجوز أن يقال : ان العمى عبارة عن عدم البصر عما من شأنه أن يبصر ، والصمم عبارة عن عدم السمع عما من شأنه أن يسمع؟ فأنتم فى هذا المقام محتاجون الى اثبات أن الصمم والعمى معنيان موجودان ، مضادان للسمع والبصر.

والفلاسفة ينازعون فيه أشد المنازعة. فانهم يقولون : تقابل البصر والعمى ، وتقابل السمع والصمم ، تقابل العدم والملكة ، لا تقابل الضدين. وقول من قال : ليس جعل العمى عد ما للبصر ، أولى من العكس : ظاهر البطلان. لأنه ان أريد بعدم هذه الأولوية : عدمها فى أذهاننا وعقولنا. فهذا مسلم ، الا أن هذا لا ينتج الا أن نتوقف فيه ، ولا نقطع على أحد الجانبين. وان أريد بعدم هذه الأولوية عدمها فى نفس الأمر وفى الحقيقة. فهذا ممنوع ولعل هذه الأولوية حاصلة فى نفس الأمر ، وان كنا لا نعرف كيفية (٨) تلك الأولوية.

أما المقدمة الثالثة ـ وهى ان بتقدير أن يكون العمى والصمم متقابلين تقابل التضاد ـ لم قلتم : ان كل ذات تكون قابلة للضدين بهذا التفسير ، فانه لا بد أن تكون موصوفة بأحدهما؟ ولم لا يجوز أن يقال : انه قد تكون خالية عنهما؟ فهم مطالبون باقامة الدلالة على اثبات هذه المقدمة.

ثم انا ننقض هذه المقدمة : بأن الهواء خال عن جميع الألوان وعن جميع الطعوم ، والواحد قد لا يكون مريدا لأفعال أهل الفسوق (٩) ولا كارها لها ، فبطلت هذه المقدمة.

__________________

(٨) كيف : ا : ب

(٩) السوق : ب

٢٤١

أما المقدمة الرابعة ـ وهى قولهم : انه لا يمكن اتصافه تعالى والعمى والصمم ، لأن ذلك من صفات النقص وصفات النقص على الله تعالى محال ـ انهم عولوا فى تنزيه الله تعالى عن النقائض على الاجماع ، ثم أنهم يثبتون كون الاجماع حجة ، بظواهر الآيات والأحاديث.

فصارت هذه الدلالة بالآخرة (١٠) سمعية. ثم انا نرى أن الظواهر الدلالة على كونه سميعا بصيرا ، أقوى من الظواهر الدالة على أن الاجماع حجة وأكثر. واذا كان الأمر كذلك ، فبأن (١١) نتمسك فى اثبات كونه تعالى سميعا بصيرا بهذه الظواهر القوية ، ونسقط عن أنفسنا التزام تقرير هذه المقدمات الخفية المظلمة ، كان أولى. فهذا ما نقوله فى هذا الباب.

واحتج المنكرون لكونه تعالى سميعا بصيرا بوجهين :

الشبهة الأولى : لو كان الله تعالى سميعا بصيرا ، لكان سمعه وبصره ، اما أن يكون قديما أو محدثا. والقسمان باطلان ، فبطل القول بكونه تعالى سميعا بصيرا. انما قلنا : انه لا يجوز أن يكون قديما ، لأن العالم كان معدوما فى الأزل. ورؤية المعدوم وسمع المعدوم محال. وان التزم جاهل أن يكون المعدوم مرئيا ومسموعا ، فنقول : انه تعالى يرى العالم وقت عدمه معدوما ، اذ لو رآه موجودا ، لكان ذلك غلطا وجهلا. وهو على الله تعالى محال. ثم اذا وجد العالم فلا بد وأن يراه موجودا ، وإلا عاد حديث الغلط. وعلى هذا التقدير ، يزلم التبديل والتغير (١) وانما قلنا : انه لا يجوز أن يكون سمعه وبصره محدثا ، لأنه لو كان كذلك لصار محلا للحوادث. وهو محال.

__________________

(١٠) الأخيرة : ا والمراد بالأخرة : الآيات والأحاديث.

(١١) فأنا : ا

(١) التغير والتجدد : ب

٢٤٢

الشبهة الثانية ـ السمع والبصر لا يحصلان الا مع تأثير الحاسة. وذلك من صفات الأجسام. وهو على الله تعالى محال.

والجواب عن الشبهة الأولى : ان السمع والبصر صفتان مستعدتان لادراك المسموعات والمبصرات عند وجودها. فالتغير يقع فى المسموع والمبصر لا فى السمع والبصر.

ولقائل أن يقول : أليس أن كون السمع والبصر مدركين للمسموع والمبصر ، موقوف على حضور المبصر والمسموع؟ وهذا الادراك الّذي هو موقوف على حضور المسموع والمبصر ، مغاير لتلك الصفة التى هى غير موقوفة على حضور المسموع والمبصر ، فيلزمكم أن يكون كون الله تعالى مدركا للمسموعات والمبصرات ، صفة متجددة.

والجواب عن الشبهة الثانية : انكم ما ذكرتم دليلا على أن الابصار والسماع مشروطان بحصول تأثير الحاسة ، بل نجد فى الشاهد أن الابصار والسماع لا يحصلان الا عند هذا التأثير ، ولكن مجرد الاقتران لا يدل على الاشتراط. بدليل : أن الحياة والقدرة لا تحصلان الا عند المزاج ، ثم انا نثبتهما فى حق الله تعالى مع القطع بكونه تعالى منزها عن الجسمية والمزاج ، فعلمنا : أن مجرد المقارنة لا تدل على الاشتراط.

٢٤٣

المسألة السّابعة عشرة

فى

كونه تعالى متكلما

والكلام فى هذه المسألة مرتب على فصلين :

الفصل الأول

فى

حقيقة الكلام

اعلم (١) : أن الانسان اذا أراد أن يقول : اسقني الماء. فانه قبل أن يتلفظ بهذا اللفظ ، يجد فى نفسه طلبا واقتضاء لذلك الفعل. وماهية ذلك الطلب مغايرة لذلك اللفظ.

والّذي يدل عليه وجوه :

الأول : ان ماهية ذلك الطلب لا تتبدل باختلاف الأزمنة والأمكنة. والألفاظ الدالة على هذا المعنى تختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة.

الثانى : ان جميع العقلاء يعلمون بالضرورة أن قول القائل «افعل» دليل على ذلك الطلب القائم بالقلب. ولا شك أن الدليل مغاير للمدلول.

الثالث : ان جميع العقلاء يعلمون بالضرورة. أن قول القائل «افعل» : لا يكون طلبا وأمرا ، الا عند اصطلاح الناس على هذا

__________________

(١) كان يجب على المؤلف أن يذكر حد الكلام. ثم يذكر لفظ الكلام على الحقيقة ، ولفظ الكلام على المجاز. وفى هذه الحالة يعلم المقصود بسهولة.

٢٤٤

الموضوع. وأما كون ذلك المعنى القائم بالقلب طلبا ، فانه أمر ذاتى حقيقى لا يحتاج فيه الى الوضع والاصطلاح.

الرابع : وهو أنهم قالوا : ان قولنا : ضرب يضرب : اخبار. وقولنا : اضرب لا تضرب: أمر ونهى. ولو أن الواضعين قلبوا الأمر ، وقالوا : ان قولنا ضرب يضرب : أمر ونهى. وقولنا اضرب لا تضرب : اخبار. لكان ذلك ممكنا جائزا. اما لو قالوا : حقيقة الطلب يمكن أن تتقلب خبرا ، وحقيقة الخبر يمكن أن تنقلب طلبا ، لكان ذلك محالا. فهذه الوجوه الظاهرة دالة على أن حقيقة الطلب وحقيقة الخبر : أمر مغاير لهذه الألفاظ وهذه العبارات ، بل هذه الألفاظ وهذه العبارات ، دالة عليها معرفة لها.

اذا عرفت هذا ، فلنبحث عن ماهية هذا الطلب ، وماهية الحكم الذهنى الّذي يسمى بالخبر. فنقول : (٢) هذا الطلب اما أن يكون هو الإرادة ، واما أن يكون معنى مغايرا للارادة. والأول باطل ، فتعين الثانى. وهو المطلوب.

وانما قلنا : انه لا يجوز أن يكون عبارة عن الإرادة لوجوه :

الحجة الأولى : انه لا نزاع فى أنه تعالى أمر بايمان من يعلم أنه لا يؤمن ، ويمتنع أن يقال : انه يريد الايمان منه ، لأنه تعالى عالم الغيب. فان (٣) خلاف المعلوم ممتنع الوقوع ، وكل ما كان ممتنع الوقوع ، لا يكون مراد الوقوع. فلما تحقق الأمر والطلب ، مع عدم الإرادة علمنا : أن ماهية هذا الطلب مغايرة لماهية الإرادة. وهذه النكتة هى النكتة القوية فى اثبات هذا المطلوب.

الحجة الثانية : انه قد يوجد الأمر بدون الإرادة ، وقد توجد الإرادة بدون الأمر. أما أنه قد يوجد الأمر بدون الإرادة ، ففى صور :

__________________

(٢) فيكون : ا

(٣) علم بأن : ا

٢٤٥

احداها : ان السلطان اذا أمر «زيدا» أن يأمر عموا بشيء ، فقد يكون «زيد» كارها لصدور ذلك الفعل من «عمرو» الا أنه يأمره لأجله أن السلطان أمره بذلك. فههنا الأمر حاصل ، والإرادة غير حاصلة.

ثانيها : ما ذكره أصحابنا ـ رحمهم‌الله ـ من أن الرجل اذا ضرب عبده ، فشكى العبد ذلك الى السلطان ، فقال السلطان لم ضربت عبدك؟ فقال : انه لا يطيعنى ، ثم لأجل هذا العذر قال للعبد : افعل كذا وكذا. فالأمر قد حصل هاهنا. مع أنه لا يريد اقدامه على ذلك الفعل ، لأنه لو أقدم عليه لما تمهد عذره عند السلطان.

وثالثها : انه تعالى لما أخبر عن أبى جهل وأبى لهب أنهما يموتان على الكفر. والنبيعليه‌السلام ـ ما كان يريد الايمان منهما لأن من لوازم صدور الايمان منهما ، دخول الكذب فى الكلام الله تعالى. ومريد الشيء مريد لما هو من لوازمه ومن ضروراته. فثبت : أنه عليه‌السلام ما كان يريد الايمان منهما ، وكان صلى‌الله‌عليه‌وسلم يأمرهما بالايمان ، فعلمنا : أن الأمر قد يحصل بدون الإرادة. وأما أن الإرادة قد تحصل بدون الأمر فظاهر. فان الانسان قد يصرح بذلك. ويقول: أريد منك أن تفعل هذا. الا أنى لا آمرك به.

فثبت بهذه الوجوه : أن هذا الطلب القائم بالنفس والاقتضاء الموجود فى القلب : أمر مغاير للارادة.

وأما الخبر الذهنى : فنقول : لا شك أن قولنا باللسان «قام زيد» و «ضرب عمرو» يدل على حكم ذهنى ، واسناد عقلى. وهذا الحكم الذهنى والاسناد العقلى : ظاهر أنه ليس من جنس القدرة والإرادة ، انما الّذي يقع فيه الاشتباه أن يقال : ان هذا الحكم الذهنى هو الاعتقاد أو العلم. فاذا بينا بالبرهان أنه ليس الأمر كذلك ، ظهر أن

٢٤٦

الخبر القائم بالنفس ، معنى مغاير للعلوم والاعتقادات ، ومغاير للقدر والارادات. وذلك هو المراد من الخبر القائم بالنفس.

وانما قلنا : ان هذا الحكم الذهنى ليس من جنس العلوم والاعتقادات : وذلك لأنى حال ما أكون عالما بأن العالم ليس بتقديم ، يمكننى أن أقول فى الذهن : العالم قديم. وذلك لأن الذهن كما يمكنه تركيب القضايا الصادقة ، فكذلك يمكنه تركيب القضايا الكاذبة. والقضايا الكاذبة الذهنية يكون ذلك الحكم الكاذب فيها حاصلا فى الذهن ، والعلم بها والاعتقاد فيها غير حاصل. فههنا الكلام فى القضايا الكاذبة التى يكون كذبها معلوما ، حصل الحكم الذهنى ، ولم يحصل العلم والاعتقاد. وهذا يدل قطعا : على أن الحكم الذهنى ، مغاير للعلم والاعتقاد.

فان قيل : هذا الحكم الذهنى عبارة عن فرض يفرضه الذهن ، وتقدير يقدره.

قلنا : هب أن الأمر على ما قلتم ، الا أن هذا الفرض وهذا التقدير ، ليس من باب العلوم والاعتقادات ، ولا من باب القدر والارادات ، فكان معنى مغاير لها. وهو المطلوب. وذلك لا يختلف بأن سميتموه فرضنا وتقديرا ، أو لا تسمونه بذلك. فثبت بما ذكرنا : أن الطلب الذهنى مغاير للارادة ، وأن الحكم الذهنى مغاير للعلم والاعتقاد.

ومن أنصف : علم أن هذا التقدير والتلخيص لم يتيسر لأحد ممن تقدمنا.

الفصل الثانى

فى

اثبات كونه تعالى متكلما

اعلم : أن الأمة متفقة على اطلاق لفظ المتكلم على الله تعالى ، الا أن هذا الاتفاق ليس الا فى اللفظ. وأما المعنى فغير متفق عليه.

٢٤٧

أما المعتزلة : فقالوا : ان الانسان لا يمكنه أن يعيش وحده ، بل ما لم يشتغل كل واحد باعانة الآخر ، لم يحصل لكل واحد منهم مقصوده بالتمام ، وما لم يعرف كل أحد ما فى قلب الآخر من جهات الحاجات ، لا يمكنه الاشتغال باعانته. فاحتاج الانسان الى وضع طريق يعرف به غيره ما فى قلبه ، من فنون الحاجات. فاصطلحوا على جعل هذه الأصوات المقطعة بهذه التقطيعات المخصوصة ، معرفة لما فى قلوبهم من الأحوال. وقد كان يمكنهم وضع طريق آخر سوى هذا الطريق من الاشارة والايماء وتصفيق اليد والكتابة. الا أن هذا الطريق كان أسهل وأيسر.

اذا عرفت هذا فنقول : انه تعالى اذا أراد شيئا أو كره شيئا ، خلق هذه الأصوات المخصوصة فى جسم من الأجسام ، لتدل هذه الأصوات على كونه تعالى مريدا لذلك الشيء المعين ، أو كارها له ، أو كونه حاكما به بالنفى أو بالاثبات. وهذا هو المراد من كونه تعالى متكلما.

وقد نازعهم أصحابنا فيه : وقالوا : انه يمتنع أن يكون متكلما بكلام قائم بالغير ، كما أنه يمتنع أن يكون متحركا بحركة قائمة بالغير ، وساكنا بسكون قائم بالغير. وعندى : أن هذه المنازعة ضعيفة. لأن هذه المنازعة ، اما أن تكون فى المعنى ، أو فى اللفظ. أما المعنى:

فهنا شيئان :

أحدهما : أنه تعالى قادر على خلق هذه الأصوات المقطعة بالتقطيعات المخصوصة فى جسم جمادى أو حيوانى (٤) وهذا أمر لا يمكن النزاع فيه. لأن خلق هذه الأصوات والحروف فى الجسم الجمادى أو الحيوانى ممكن ، والله تعالى قادر على كل الممكنات.

__________________

(٤) نباتى : ب

٢٤٨

والثانى : ان الله تعالى جعل تلك الأصوات المخصوصة ، معرفة لكونه تعالى مريدا لبعض الأشياء وكارها لبعضها. وهذا أيضا غير ممتنع. واذا سلم هذان المقامان عن الطعن ، فقد سلمنا لهم صحة كونه تعالى متكلما بالمعنى الّذي أرادوه.

وأما المنازعة فى اللفظ : فهو أن من فعل هذه الأصوات المخصوصة ـ وهى الحروف المركبة فى جسم ـ لغرض أن يعرف غيره ما يريده أو يكرهه ، فهل يسمى متكلما فى اللغة أم لا؟ ومعلوم : أن هذا البحث بحث لغوى محض ، وليس للمعنى به تعلق البتة.

فثبت بما ذكرنا : أن كونه تعالى متكلما بالمعنى الّذي يقوله «المعتزلة» مما نقول به ونعترف به ولا ننكره بوجه من الوجوه. انما الخلاف بيننا وبينهم فى أنا نثبت أمرا آخر ، وراء ذلك. وهم ينكرونه. وسنذكر ، أن ذلك الشيء ما هو؟ وأما «الكرامية» فهم يقولون : انه تعالى يخلق الأصوات والحروف فى ذاته. وهذا يرجع الى أنه تعالى هل يجوز أن يكون محلا للحوادث أم لا؟ وأما أصحابنا. فقد قالوا : ثبت أن الكلام القائم بالنفس معنى مغاير للقدر والارادات والعلوم والاعتقادات. وندعى : أن البارى تعالى موصوف بهذا المعنى ، وندعى : أن هذا المعنى قديم. وندعى : أنه معنى واحد ، وهو مع كونه واحدا ، أمر ونهى وخبر واستخبار ونداء.

والمعتزلة والكرامية ينازعون أصحابنا فى كل واحد من هذه المواضع الأربعة. فأولا : ينكرون اثبات معنى مغاير للاعتقادات والارادات وبتقدير تسليمه ، ينكرون كونه موصوفا به ، وبتقدير تسليمه ، ينكرون كونه قديما. وبتقدير تسليمه ، ينكرون كونه واحدا. فهذا تلخيص محل النزاع فى هذا الباب.

أما المقام الأول : وهو اثبات أن كلام النفس أمر مغاير للارادات والاعتقادات. فقد تقدم تقريره على أحسن الوجوه.

٢٤٩

وأما المقام الثانى : وهو أن البارى تعالى موصوف بكلام النفس. فالذى يدل عليه : ما ثبت عندنا بالتواتر الظاهر (٥) من جميع الأنبياء والرسل عليهم‌السلام : أنه تعالى أمر عباده بكذا ونهاهم عن كذا وأخبرهم بكذا. ولما ثبت بالمعجزات صدق الأنبياء والرسل عليهم‌السلام ، وجب القطع بكونه تعالى آمرا وناهيا ومخبرا.

واذا ثبت هذا فنقول : هذا الأمر والنهى والخبر ، اما أن يكون من باب الألفاظ والعبارات ، واما أن يكون من باب المعانى والحقائق. فان كان الأول ، فتلك العبارات والألفاظ لا بد وأن تكون دالة على المعانى والمدلولات. فمدلول هذه العبارات فى حق الله تعالى اما أن يكون هو الارادات والاعتقادات ، واما أن يكون معنى مغايرا لها. لا جائز أن تكون تلك المعانى هى الارادات والاعتقادات. لأنا بينا أن الأمر قد يوجد بدون الإرادة. والخبر قد يوجد بدون الاعتقادات.

فثبت : أن مدلول هذه العبارات فى حق الله تعالى : معنى وراء الاعتقادات والارادات. فثبت : أنه تعالى موصوف بمعنى حقيقى. هو مدلول قوله : «افعل» وهو مغاير لارادته ، وانه تعالى موصوف بمعنى حقيقى ، هو مدلول قوله «الحمد لله» وهو مغاير لعلمه. ونحن نسمى ذلك المعنى بالأمر الحقيقى والخبر الحقيقى. وهو المطلوب.

فان قيل : كيف يمكنكم أن تستدلوا بقول الأنبياء والرسل عليهم‌السلام على كونه تعالى متكلما ، مع أن نبوة الأنبياء ـ عليهم‌السلام ـ لا يمكن اثباتها الا بعد العلم بكونه تعالى متكلما. قلنا : لا نسلم أن العلم بصحة نبوة الأنبياء موقوف على العلم بكونه تعالى متكلما. وذلك لأنه

__________________

(٥) بالتواتر والظواهر : ا

٢٥٠

لما ظهرت المعجزات على وفق دعاويهم ، ثبت كونهم صادقين ، سواء علمنا كونه تعالى متكلما أو لم نعلم ذلك.

وأما المقام الثالث ـ وهو أنا ندعى ان هذه الصفة قديمة ـ فنقول : لو كانت محدثة ، لكانت اما قائمة به أو بغيره ، أولا فى محل. فان كانت قائمة به كان الله تعالى محلا للحوادث. وهو محال. وان كانت قائمة بغيره ، فهو أيضا محال [وان لم تكن قائمة بشيء ، أو كانت قائمة. بغيره ، أو كانت موجودة لا فى محل. فهو محال] (٦) لأنا بينا : أن هذا الكلام صفة الله تعالى ونعته. ومن المحال أن تحصل صفة الشيء ونعته ، لا فيه بل فى غيره. والّذي يقوله المعتزلة من أنه يجوز أن يكون كلامه قائما بغيره ، فليس من هذا الباب. وذلك لأنهم فسروا الكلام القائم بغيره بأنه يخلق أصواتا وحروفا دالة بالوضع والاصطلاح ، على كونه تعالى مريدا لبعض الأشياء وكارها لبعضها. وهذا غير ممتنع البتة.

وأما نحن فى هذا المقام فقد بينا : أنه لو خلق ألفاظا دالة على الطلب وألفاظا دالة على الحكم والاسناد ، فلا بد من مدلولات لتلك الألفاظ ومفهومات. وبينا : أن الألفاظ الدالة على الطلب لا يمكن أن يكون مدلولها الإرادة ، والألفاظ الدالة على الخبر لا يمكن أن يكون مدلولها العلم ، فلا بد من صفات أخرى قائمة بذات الله تعالى ، تكون تلك الصفات مدلولة الألفاظ الدالة على الطلب ، والألفاظ الدالة على الخبر ، وتلك المدلولات يمتنع كونها مباينة عن ذات الله تعالى ، بل يجب كونها قائمة بذات الله تعالى.

فالذى يقوله المعتزلة من أنه يجوز أن يكون الحى متكلما بكلام قائم بالغير : حق وصدق. والّذي يقوله أصحابنا من أنه يمتنع أن يكون

__________________

(٦) ما بين القوسين : من ب

٢٥١

الحى متكلما بكلام قائم بالغير : حق وصدق. الا أن الكلام الّذي يشير إليه المعتزلة له معنى ، والكلام الّذي يشير إليه أصحابنا له معنى آخر ، والفريقان لما لم يشتغلوا بتلخيص محل النزاع ، لا جرم خفيت هذه المباحث والمطالب.

وأما المقام الرابع : وهو أن كلام الله تعالى واحد ، ومع كونه واحدا ، فهو أمر ونهى وخبر. فتحقيق الكلام فيه : يرجع الى حرف واحد ، وهو أن الكلام كله خبر ، لأن الأمر عبارة عن تعريف الغير أنه لو فعله ، لصار مستحقا للمدح ، ولو تركه لصار مستحقا للذم. وكذا القول فى النهى. واذا كان المرجع بالكل الى شيء واحد ، وهو الخبر ، صح قولنا : ان كلام الله تعالى واحد. فهذا مجموع ما تلخص فى هذا الباب.

* * *

واحتج القائلون بحدوث كلام الله تعالى بالمنقول والمعقول.

أما الشبه النقلية : فمن وجوه :

الشبهة الأولى : ان القرآن ذكر. وكل ذكر : محدث. فالقرآن محدث. وانما قلنا : ان القرآن ذكر ، لقوله تعالى : (ص. وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ) [ص ١ ـ ٢] وقوله تعالى : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) [الأنبياء ٥٠] وقوله تعالى : (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ) [الزخرف ٤٤] وأما أن كل ذكر محدث ، ففى سورة الأنبياء : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) [الأنبياء ٢] وفى سورة الشعراء : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ) [الشعراء ٥].

الشبهة الثانية : تمسكوا بقوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ : أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) [النحل ٤٠] وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه :

٢٥٢

الأول : ان قوله تعالى : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ : كُنْ فَيَكُونُ) جملة مركبة من شرط وجزاء. والشرط هو قوله : (إِذا أَرَدْناهُ) والجزاء هو قوله : (كُنْ) والجزاء لا بد وأن يكون متأخرا عن الشرط. فوجب أن يكون قول الله تعالى ، متأخرا عن ارادته. والمتأخر عن الغير محدث ، فوجب أن يكون قول الله محدثا.

والثانى : وهو ان الفاء فى قوله : (فَيَكُونُ) فاء التعقيب. وهذا يقتضي أن يكون المكون حاصلا عقيب قوله من غير فصل ولا تراخ ، فيلزم أن يكون قوله : (كُنْ) متقدما على المكون من غير فصل. والمقدم على المحدث بزمان واحد ، يجب أن يكون محدثا ، فيلزم أن يكون قوله (كُنْ) محدثا.

الثالث : ان الآية صريحة فى أن قول الله تعالى : (كُنْ) كلمة مركبة من الكاف والنون. وهما حرفان متعاقبان. فتكون هذه الكلمة محدثة ، فيلزم أن يكون قول الله محدثا.

الشبهة الثالثة : قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ) [البقرة ٣٠] فكلمة (إِذْ) ظرف زمان وهذا يدل على أن قول الله تعالى مختص بذلك الوقت. وكل ما كان وجوده مختصا بوقت معين ، كان محدثا ، فيلزم أن يكون قوله الله تعالى محدثا.

الشبهة الرابعة : انه تعالى وصف القرآن بقوله : (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ، ثُمَّ فُصِّلَتْ) [هود ٢] وقال أيضا : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) [يوسف ٢٠] وهذا يدل على أن القرآن مركب من السور والآيات والحروف والعبارات ، ويدل على أن كلام الله تعالى تارة يكون عربيا وتارة يكون عبريا. وكل ذلك يدل على أنه محدث مخلوق.

الشبهة الخامسة : ان كلام الله تعالى مسموع ، ويدل عليه قوله تعالى : (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ ، فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ

٢٥٣

كَلامَ اللهِ) [التوبة ٦] والّذي يسمعه ليس الا هذه الحروف والأصوات. ولا شك أن هذه الحروف والأصوات محدثة ، فيلزم القطع بأن كلام الله تعالى محدث.

الشبهة السادسة : أجمعت الأمة على أن القرآن واحد ، وأجمعوا على أن القرآن معجزة لمحمد عليه‌السلام. والدليل العقلى : دل على أن المعجزات يمتنع أن تكون قديمة ، بل يجب أن تكون محدثة. والا لكانت المعجزة سابقة على الدعوى ، وحينئذ لا يكون له اختصاص بالدعوى ، فلا يكون دليلا على صدق الدعوى. واذا ثبت أن القرآن معجز وثبت أن المعجز محدث ، ثبت أن القرآن محدث واذا ثبت أن القرآن قول واحد ، ثبت أن كل ما كان قرآنا فهو محدث.

الشبهة السابعة : ان القرآن موصوف بكونه تنزيلا ومنزلا. وذلك يقتضي كونه محدثا.

الشبهة الثامنة : صح فى الأخبار أنه عليه‌السلام كان يقول : «يا رب القرآن العظيم ، ويا رب طه ويسن» وكل ما كان مربوبا فهو محدث مخلوق.

فهذا جملة الكلام فى الشبه النقلية.

* * *

وأما الشبه العقلية :

فمن وجوه :

الشبهة الأولى : ان الأمر سواء قلنا بأنه عبارة عن الحروف والأصوات ، أو قلنا : انه معنى قائم بالنفس ، فانه يمتنع أن يكون قديما. وذلك لأنه ما كان فى الأزل مأمورا ولا منهيا ، فلو حصل الأمر والنهى من غير حضور المأمور والمنهى ، كان هذا سفها وجنونا. والدليل عليه : ان الواحد منا لو جلس فى بيته وحده ، ويقول : يا زيد

٢٥٤

قم ، ويا عمرو اجلس ، من غير أن يكون هناك أحد ، قضى كل عاقل بكونه مجنونا. وما كان كذلك كيف يعقل اثباته فى حق الله تعالى؟

وكيف يحسن فى العقل أن يقول : (يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ) [طه ١٢] مع أنه لم يكن هناك موسى ، ولا أحد. وأيضا : لو كان تعالى مخبرا فى الأزل عن كيفيات الأشياء ، لكان ذلك الخبر اما أن يكون المقصود منه اخبار نفسه ـ وهو عبث ـ أو أخبار غيره ، أو لا يكون المقصود منه اخبار نفسه ولا اخبار غيره. أما اخبار نفسه فهو عبث. وأما اخبار غيره مع أنه ليس هناك غيره فهو جنون. وأما أن لا يكون المقصود منه ، لا هذا ولا ذلك ، فهو محض العبث والسفه.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : ان ذلك الأمر الأزلى كان أمرا فى الأزل للأشخاص الذين سيوجدون فى لا يزال ، كما أنه تعالى كان قادرا فى الأزل على أن يوجد الخلق فى لا يزال؟

وأيضا : أليس أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم كان يأمر وينهى حال حياته كل من سيوجد بعده الى قيام القيامة؟ فثبت : أن تقدم الأمر على المأمور ، غير ممتنع.

لأنا نقول : الأمر عبارة عن الطلب. وتحقق وجود الطلب مع أنه ليس هناك من يطلب منه شيء : محال فى العقول. بل العزم على الطلب قد يتقدم على الطلب. مثل أن الواحد منا اذا علم أنه سيوجد له ولد ، فانه فى الحال يعزم على أنه اذا وجد له ذلك الولد ، فبعد وجوده ويطلب منه تحصيل العلم والأدب. فأما أن يقال : انه قبل وجود الولد ، يطلب منه تحصيل العلم والأدب ، فهذا البتة غير معقول.

وأما أن قوله بأن النبي عليه‌السلام كان يأمر حال حياته وينهى كل من يوجد بعده الى قيام القيامة.

٢٥٥

فنقول : هذه مغالطة. وذلك لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم [ما كان له أمر ونهى على الخلق ، بل هو عليه‌السلام] كان يخبرنا : (٧) أن أولئك الذين سيوجدون بعدى يحدث الله عليهم حال وجودهم وكمال عقلهم ، أنواعا من الأمر والنهى. وذلك الاخبار انما حسن من الرسول عليه‌السلام لأنه حضر هناك من يسمع ذلك الخبر ، ويبلغه الى الذين سيوجدون بعد ذلك. أما فى الأزل فليس هناك أحد البتة يسمع ذلك الخبر ، ويبلغه الى الذين سيوجدون بعد ذلك. فظهر أن هذا المثال مغالطه محضة.

الشبهة الثانية : أنه سبحانه وتعالى أخبر بلفظ الماضى فى مواضع كثيرة من القرآن. كقوله : (إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً) [نوح ١] و (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) [القدر ١] و (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا. سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ ، أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ. لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة ٦] فلو كان هذا الاخبار قديما أزليا ، لكان قد أخبر فى الأزل عن شيء مضى قبله. وهذا يقتضي أن يكون الأزل مسبوقا بغيره ، وأن يكون كلام الله تعالى كذبا ، ولما كان كل واحد منهما محالا ، علمنا : أن هذا الاخبار يمتنع كونه أزليا.

الشبهة الثالثة : ان كلام الله تعالى لو كان قديما أزليا ، لكان باقيا أبديا. لأن ما ثبت قدمه يمتنع عدمه ، فيكون قوله تعالى ل «زيد» : «صل» باقيا ، بعد أن صلى زيد صلاة الصبح ، وبعد أن مات ، وبعد أن قامت القيامة. وهكذا يكون باقيا أبدا الآباد ودهر الداهرين ، ومعلوم أن ذلك على خلاف المعقول ، فانه تعالى اذا أمر عبده بفعل من الأفعال فاذا أتى ذلك العبد بذلك الفعل ، لم يبق ذلك الأمر متوجها عليه. واذا ثبت أن ذلك الأمر قد زال ، ثبت أنه كان محدثا لا قديما.

__________________

(٧) كان يخبرنا : ا

٢٥٦

الشبهة الرابعة : أجمعت الأمة على أن النسخ حق ، والنسخ عبارة اما عن ارتفاع الحكم بعد ثبوته ، واما عند انتهائه. وأيا ما كان ، فهو يقتضي زوال ذلك الأمر وذلك الخطاب بعد ثبوته. وكل ما زال بعد ثبوته ، لم يكن قديما. لأن ما ثبت قدمه ، استحال عدمه.

الشبهة الخامسة : لو كان كلام الله قديما أزليا ، لكان تعلقه بمتعلقاته ثابتا له لذاته. ولو كان كذلك لكان عام التعلق بكل ما يصح تعلقه به ، ولما كان من مذهبكم أن الحسن والقبح لا يثبتان الا بالشرع ، فاذن كل ما كان مأمورا لا يمتنع أن يكون منهيا. وكل ما كان منهيا ، لا يمتنع أن يكون مأمورا. فيلزم تعلق أمر الله تعالى بجميع الأشياء ، وتعلق نهيه بجميعها. ويلزم أن تكون جميع الأشياء مأمورة منهية حسنة قبيحة. وكل ذلك محال. فثبت : أن كلام الله يمتنع أن يكون أزليا.

* * *

والجواب : أما جميع الشبه السمعية فالجواب عنها :

شيء واحد. وهو أن تصرف كل تلك الوجوه الى هذه الحروف والأصوات. فانا معترفون بأنها محدثة. وعندهم القرآن ليس الا ما تركب عن هذه الحروف والأصوات ، فكانت الدلائل التى ذكروها دالة على حدوث هذه الحروف والأصوات. ونحن لا ننازع فى ذلك. وانما ندعى قدم القرآن ، بمعنى آخر (٨). فكانت كل هذه الشبهة ساقطة عن محل النزاع.

وأما الجواب عن الشبه العقلية :

فالجواب عن الشبهة الأولى : هو أنها معارضة بالقدرة. فانها صفة تقتضى صحة الفعل ، ثم انها كانت ثابتة فى الأزل مع أن الفعل

__________________

(٨) ما هو المعنى الآخر؟

٢٥٧

كان ممتنعا. فلم لا يجوز أن يقال : الأمر عبارة عن الصفة المقتضية لطلب الفعل ، ثم انها كانت ثابتة فى الأزل ، مع أن طلب الفعل كان فى الأزل محالا؟

والجواب عن الشبهة الثانية : انه تعالى كان عالما فى الأزل بأنه سيخلق العالم ، ثم لما خلقه فى لا يزال ، صار العلم متعلقا بأنه قد خلقه فى الماضى. ولما لم يقتض هذا حدوث هذا العالم وتغيره ، فكذا فى الخبر.

والجواب عن الشبهة الثالثة والرابعة : هو أن قدرته تعالى كانت متعلقة من الأزل الى الأبد بايجاد العالم ولما أوجد العالم لم يبق ذلك التعلق ، لأن ايجاد الموجود محال. ولما زال هذا التعلق ، ولم يقتض ذلك حدوث قدرة الله تعالى ، فكذا القول فى الكلام.

والجواب عن الشبهة الخامسة : ان قدرة الله تعالى لها صلاحية التعلق بايجاد كل الممكنات ، ثم أنها تعلقت بايجاد البعض دون البعض ، مع أن هذه القدرة قديمة. واذا عقل ذلك فى القدرة ، فلم لا يعقل مثله فى الكلام؟

فهذا جملة الكلام فى هذه المسألة.

٢٥٨

المسألة الثّامنة عشرة

فى

بقاء الله تعالى

والكلام فيه مرتب على فصلين :

الفصل الأول

فى

حقيقة البقاء

اعلم : أن الشيء اذا كان معدوما ، ثم صار موجودا. فوجوده فى الزمان الأول هو الحدوث ، ثم وجوده فى الّذي بعد ذلك هو البقاء.

وأكثر المحققين اتفقوا على أن الحدوث لا يمكن أن يكون صفة زائدة على ذات الحادث. وأما البقاء. فقد اختلفوا فى أنه هل هو زائد على ذات الباقى أم لا؟ فذهب «القاضى أبو بكر» و «امام الحرمين» ـ من أصحابنا ـ وجمهور معتزلة البصرة الى أن كون الباقى باقيا ، ليس صفة زائدة على الذات. وذهب «الشيخ أبو الحسن الأشعرى» وأكثر أتباعه ، وجمهور معتزلة بغداد ، الى أنه صفة زائدة على الذات.

واعلم : أن فى هذه المسألة أبحاثا ثلاثة :

البحث الأول : ان استمرار الذات. هل هو مفهوم زائد على الذات أم لا؟

فقال قوم : انه مفهوم زائد على الذات. وذلك لأن الذات كانت حاصلة فى الزمان الأول ، ولم يكن استمرار الذات حاصلا فى الزمان

٢٥٩

الأول. فلما حصل فى الزمان الثانى حصل الذات وحصل استمرار الذات. وهذا يقتضي أن يكون استمرار الذات مغايرا لنفس الذات.

وعلى هذا الكلام اشكال. وهو أنه كلما صدق على الذات أنها صارت مستمرة بعد أن لم تكن كذلك ، صدق عليها أنها كانت متجددة فى الزمان الأول ، ثم فى الزمان الثانى صارت غير متجددة ، فقد صارت غير (١) متجددة ، بعد أن كانت موصوفة بأنها متجددة ، فيلزم أن يكون حدوثها وتجددها صفة زائدة على ذاتها. وهذا محال. لأنه لو كان الحدوث صفة زائدة ، لكانت تلك الصفة حادثة ، ويلزم التسلسل.

وقال آخرون : استمرار الذات ليس صفة زائدة على الذات. وذلك لأن العدم يوصف بالاستمرار ، فلو كان الاستمرار وصفا ثابتا ، لزم اتصاف النفى بالصفة الثابتة. وذلك محال.

البحث الثانى : هو ان الجوهر فى الزمان الثانى ، هل يحتاج الى معنى يقتضي وجوده فى الزمان الثانى أم لا؟

فمن الناس من أثبته وسماه بالبقاء. والحق : أنه محال : ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : ان وجود الجوهر فى الزمان الثانى ، غير وجوده فى الزمان الأول. لكن وجوده فى الزمان الأول كان غنيا عن هذا العرض. فوجوده فى الزمان الثانى يحب أن يكون غنيا عنه. لأن حكم الشيء الواحد ، يمتنع أن يتبدل بالحاجة والاستغناء.

الحجة الثانية : وجود الجوهر فى الزمان الثانى ، لو كان معللا بهذا العرض ، لكان هذا العرض مؤثرا فى ايجاد الموجود. وهو محال.

__________________

(١) فقد زال عنها كونها : ب

٢٦٠