الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

١

٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام وعلى خاتم النبيين محمد ، وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بخير الى يوم الدين.

أما بعد

فهذا هو كتاب «الاربعين فى أصول الدين» للامام فخر الدين الرازى. شيخ الاسلام محمد بن عمر بن الحسين ـ رضى الله عنه ـ المتوفى فى مدينة «هراة» سنة ست وستمائة من الهجرة ، والمؤلف كان شافعى المذهب ، أشعرى العقيدة. وكان مبدأ اشتغاله بالعلم على والده. الشيخ «عمر» الملقب بضياء الدين ، وخطيب «الرى».

وقد ولد فى سنة أربع وأربعين وخمسمائة فى مدينة «الرى».

وفى مخطوطة فى مكتبة «طوبقابى» فى تركيا. رقم ١٣٦١ (١٣٧ ـ ١ ـ ١٣٧ ب) تنسب الى الشيخ نصير الدين الطوسى عد المؤلف كتب الامام فخر الدين كما يلى :

١ ـ نهاية العقول فى دراية الأصول ٢ ـ شرح الاشارات ٣ ـ المباحث المشرقية ٤ ـ الملخص ٥ ـ البراهين البهائية ٦ ـ الأربعين فى أصول الدين (١) ٧ ـ المحصول فى علم أصول الفقه ٨ ـ أحكام القياس الشرعى

__________________

(١) الكتب ٦ ، ١٥ ، ٢٤ ، ٣٦ ، ٥١ ، ٥٢ حققها وطبعها الدكتور أحمد حجازى السقا.

٥

٩ ـ الرسالة الكمالية ١٠ ـ تعجيز الفلاسفة ١١ ـ السر المكتوم ١٢ ـ الخلق والبعث ١٣ ـ معالم أصول الدين ١٤ ـ المسائل الخمسين ١٥ ـ تأسيس التقديس ١٦ ـ الجوهر الفرد ١٧ ـ الطب الكبير ١٨ ـ شرح كليات القانون ١٩ ـ التفسير الكبير المسمى بمفاتيح الغيب ٢٠ ـ اسرار التنزيل وانوار التأويل ٢١ ـ الخلافيات الصغيرة ٢٢ ـ الخلافيات الكبيرة ٢٣ ـ شرح الوجيز ٢٤ ـ لباب الاشارات ٢٥ ـ المحصل فى علم الأصول ٢٦ ـ الرياض المؤنقة ٢٧ ـ المحرر فى حقائق النحو ٢٨ ـ الاختيارات العلائية ٢٩ ـ اشارات النظام ٣٠ ـ مختصر الأخلاق ٣١ ـ أقليدس ٣٢ ـ الهيئة ٣٣ ـ عصمة الأنبياء ٣٤ ـ نهاية الايجاز ٣٥ ـ رسالة فى نفى الجهة ٣٦ ـ مناقب الشافعى ٣٧ ـ تعزيز التقدير ٣٨ ـ لوامع البينات ٣٩ ـ رسالة فى الهيولى ٤٠ ـ اللطائف الغياثية فى المباحث الالهية ٤١ ـ كتاب فى الحيز والأزل ٤٢ ـ شرح سقط الزند ٤٣ ـ الآيات والبينات ٤٤ ـ شرح المصادرات لأقليدس ٤٥ ـ المنطق الكبير ٤٦ ـ تتمة الأربعين ٤٧ ـ الجامع الكبير ٤٨ ـ الجامع الصغير ٤٩ ـ شرح النجاة ٥٠ ـ شرح الارشاد ٥١ ـ شرح عيون الحكمة ٥٢ ـ المطالب العالية من العلم الإلهي ٥٣ ـ كتاب فى الرمل ٥٤ ـ كتاب الفراسة ـ ٥٥ ـ جامع العلوم ٥٦ ـ البراهين المحدثة ٥٧ ـ رسالة فى اثبات المعراج الجسمانى.

بين الرازى وابن تيمية

وقد تعقب الامام ابن تيمية ٨٢٧ ه‍ ـ ١٣٢٦ م أهم كتب الامام فخر الدين العقائدية بالبيان والنقد. وذكر فى صفحة ٢٢ من درء تعارض العقل والنقل أنه نقد محصل أفكار المتقدمين فى كتاب مفرد. ويقال فى مجالس العلم : ان ابن زكنون الحنبلى وهو يشرح البخارى ، وضع نقد المحصل لابن تيمية فى ثنايا شرحه ، خوفا من خصومه على الكتاب. وكتاب ابن زكنون يسمى الكواكب الدرارى وهو فى المكتبة

٦

الظاهرية بدمشق. ونقد تأسيس التقديس فى كتاب مفرد ، ونقد مسائل من «شرح عيون الحكمة» فى «الرد على المنطقيين»

وكتاب «الأربعين فى أصول الدين» من الكتب القيمة فى علم الكلام وقد انتفع بما فيه كثيرون من أهل العلم. منهم الشيخ «ابن تيمية» فقد جاء فى سيرته أنه كان يدرس «الاربعين» لطلاب العلم. وقد جاء فى بعض كتبه عبارات منه للاستشهاد والنقد.

يقول عنه «ابن رجب» فى ص ١٤ فى «العقود الدرية» : «ولازم الشيخ تقى الدين بن تيمية مدة ، وقرأ عليه قطعة من «الأربعين فى أصول الدين» للرازى» ا. ه

ومنهم الشيخ «ابن الوزير» المتوفى سنة ٨٤٠ ه‍ فى كتابه ايثار الحق على الخلق. يقول فى ص ٦٩ ـ ٧٠ ما نصه : «ثم انه ظهر لنا فى حق نبينا صلى‌الله‌عليه‌وسلم أمور كثيرة تميزه عن السحرة والمحتالين منها : ورود البشارة به فى التوراة والإنجيل قال : «الرازى» فى كتابه «الأربعين» : والدليل على ذلك : أنه ادعى أن ذكره موجود فيهما قال الله تعالى : (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ. الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ) وقال حكاية عن عيسى المسيح : (وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) وقال : (الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ) ومعلوم : أنه لو لم يكن صادقا فى ذلك ، لكان هذا من أعظم المنفرات عنه لليهود والنصارى. ولا يمكن أن يقدم العاقل على فعل يمنعه من مطلوبه ، ويبطل عليه مقصوده. ولا نزاع بين العقلاء أنه كان أعقل الناس وأحلمهم» ا. ه

وهذا الكتاب يذكر مسائل فى أصول الدين قد اختلف فيها المسلمون الخوارج والشيعة والمعتزلة والمرجئة ، وأهل السنة السلف منهم والخلف ، وغيرهم. وأدى اختلاف المسلمين الى ضعفهم بعد طول زمان. كما يقول شوقى الشاعر :

٧

اذا زرت ـ يا مولاى ـ قبر محمد

وقبلت مثوى الأعظم العطرات

وفاضت مع الدمع العيون مهابة

لأحمد بين الستر والحجرات

وأشرق نور تحت كل ثنية

وضاع أريج تحت كل حصاة

لمظهر دين الله فوق تنوفة

وبانى صريح المجد فوق فلاة

فقل لرسول الله : يا خير مرسل

أبثك ما تدرى من الحسرات

شعوبك فى شرق البلاد وغربها

كأصحاب كهف فى عميق سبات

بأيمانهم نوران ذكر وسنة

فما ضرهم لو يعملون لآتى؟

وذلك ماضى مجدهم وفخارهم

فما بالهم فى حالك الظلمات؟

وهذا زمان أرضه وسماؤه

مجال لمقدام كبير حياة

مشى فيه قوم فى السماء وأنشئوا

بوارج فى الأبراج ممتنعات

فقل : رب وفق للعظائم أمتى

وزين لها الأفعال والعزمات

وان أذكر أمثلة على جدل عنيف بين المسلمين بسببه قطعت أرزاق وسفكت دماء. أذكر ما يلى :

نقد شيخ الاسلام ابن تيمية يرحمه‌الله مؤلف هذا الكتاب فى أمرين :

أولهما : أن المؤلف نصر المتصوفة

وثانيهما : أن المؤلف أول يد الله بقدرته ، وغضبه واستحيائه ومكره بأنها صفات نسبها الله الى نفسه ليقرب بها ذاته الى عقول الناس. وليس من يد جارحة ولا جسم ، وليس من مكان لذات الله تعالى. بل الله فى كل مكان بعلمه. لا بذاته.

وشيخ الاسلام ابن تيمية رد عليه بأن الدين عند الله الاسلام وليس التصوف. والّذي يأتى للمريد ويقول له : أنا شيخك. ليس هو «الشيخ» وانما هو «شيطان» تمثل به. والأحلام لا تدل على «الشيخ» حقيقة ، فانها صور تتراءى. وحقائق الأشياء فى مكانها

٨

ثابتة لا تنتقل. فمن يرى نهرا أو شجرا أو أسدا فى حلم الليل لم ير النهر الحقيقى أو الشجر أو الأسد ، وانما رأى صورا. وكذلك «الشيخ» مع مريديه ، لم يكن معهم حقيقة فى حلم الليل ، حتى يدعوا أنهم وصلوا ، وصارت لهم مقامات ودرجات عاليات.

ورد عليه فى صفات الله تعالى بأن الله ليس كمثله شيء. ولا نقول هو جسم. وانما نقول : هو إله واحد ، فوق عرشه مستوى. وله يد ـ كما قال ـ لا نعلم كيفيتها. وكل صفة أوردها عن نفسه فى القرآن ، نقر بها ـ كما نطق بها ـ بلا تأويل ولا تشبيه ولا تمثيل.

هذا هو الفرق بين الشيخين العظيمين الجليلين. وهما مسبوقان بما قالا. فابن تيمية أخذ من «ابن خزيمة» وغيره. والرازى أخذ عن ائمة معروفين ، منهم الأشعرى والشيعى والمعتزلى والسلفى المتأخر. الّذي يقال عنه انه من أهل الخلف.

وقد قال الشيخ محمد أبو زهرة عن مذهب الشيخ ابن تيمية فى صفات الله تعالى : ان مذهبه محير. والشيخ محمد لم يقل حقا. فان مذهبه واضح ، وله أتباع يفسرونه ويقنعون به. انه يقول : ان الله تعالى كلم موسى عليه‌السلام فى جبل طور سيناء. والمتكلم هو الّذي يفعل الكلام. والّذي يفعل الكلام ذات. وقد تجلت حقيقة لجبل طور سيناء ولما تجلت الذات صار الجبل دكا من هيبتها. فهو أثبت ذاتا ، وأثبت لها تجليا ، وأثبت لها كلاما. وأكد أن الذات تتجلى من قوله تعالى : («هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ)؟ فقد منع التأويل بمجيء أمره ، من التنويع المذكور ، فان الملائكة قد تأتى بالأمر.

وأكد الشيخ ابن تيمية مذهبه بقوله : ان آيات الصفات فى القرآن تؤخذ على ظاهرها بدون تأويل. فاليد فى قوله (يُرِيدُ اللهُ) هى يد ، وكيفيتها مجهولة. لقوله : (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ») هذا هو مذهب الشيخ

٩

ابن تيمية وهو واضح. ولو أن أصحاب المذهب صرحوا بالمجاز فى لغة العرب ، لما وجد هذا المذهب من يعارضه. بشدة وهو ليس بمحير فى فهمه. وان كان غير مستقيم حين يتحتم التأويل ولا يكون منه مفر.

فقوله تعالى : (يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ، ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ) نص فى ظاهره على صحة المذهب ، وقوله تعالى : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) يلزمه تأويل المعية بالنصر والتأييد.

وغيره من الكرامية قالوا : ان المتكلم ذات. ولا بد للمتكلم من مكان يتكلم منه. فنحن نثبت لله جسما لأنه متكلم ، ونثبت له مكانا هو فوق العرش. لأنه هو اللائق به. ولأنه قال : (أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ؟) ولكن نؤول «يد الله» بقدرته. ونسيانه باهماله المنافقين. وعينه : بعلمه. وهكذا ، لأن لغة العرب التى نزل بها القرآن فيها الحقيقة وفيها المجاز ، والعقل لا يصدق أن سفينة نوح عليه‌السلام قد جرت بعينيه ، ولا أن الله كان بجسمه فى الغار مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم وأبى بكر رضى الله عنه.

والامام فخر الدين الرازى وافق «الكرامية» على التأويل ، ولم يوافقهم على قولهم بأن الله جسم وهو فى السماء. وقال : ان الله ليس جسما وليس له مكان. ولذلك قتلوه بالسم ـ كما جاء فى بعض الروايات ـ

والمعتزلة لما قالوا : ان الله ليس جسما وليس له مكان ، نفوا رؤية الله بالأدلة العقلية. ونفوها بالأدلة القرآنية على طريقة المحكم والمتشابه. اما الرازى فقال : أنا غير قادر على اثبات رؤية الله بالعقل. وذلك لانه يثبت الرؤية وفى الوقت ذاته ينفى الجسمية بكيف أو بلا كيف. وقال : ان الرؤية لا تثبت الا بأدلة القرآن.

١٠

والخطا ليس فى اختلاف الرأى. بل فى تفرق المسلمين الى أحزاب متعادية وفرق متناحرة ، بسبب اختلاف الرأى. وقد تفرقوا وسب بعضهم بعضا وقتل بعضهم بعضا. مع أنهم قد سمعوا قول الله تعالى : (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) وسمعوا قول الله تعالى : (أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ) وزاد عليه بعضهم سفاهة : والنفس بالمخالفة فى الرأى. وهذا لا يليق بأهل الاسلام. الذين هم خير أمة أخرجت للناس. ورسولها ليس رحمة لهم وحدهم ، بل لهم وللعالمين جميعا.

ولذلك. أرى اعادة النظر فى «مناهج الأدلة» وذلك ليسهل على المسلمين أن يتحدوا وأن يتعاونوا. فأهل التصوف طرائق قددا ، مثل الجن. وكل طريقة تدعى أنها هى الواصلة بالسلسلة الذهبية الى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم ويحتقر بعضهم عبادة بعض. وهم وان اجتهدوا لن يعبدوا الله مثل الملائكة ، الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون. وأدلتهم : اما احاديث آحاد ، أو أقوال شيوخ ، أو رؤى منام.

كان النحس (١) حين جرى عليهم

أطار بكل مملكة غرابا

ولو حفظوا سبيلك كان نورا

وكان من النحوس لهم حجابا

بنيت لهم من الاخلاق ركنا

فخانوا الركن فانهدم اضطرابا

وأهل التشيع هم والمتصوفون اخوة بعضهم أولياء بعض ، يقدسون أضرحة الموتى ويستغيثون بهم ، وهم فرق لا يحدها حد ، ولا يحيط بها عد. وكل فرقة تقتدى بشيخ حي. واذا مات زينت قبره وعظمت قدره. وأدلتهم : من مشايخهم أحيانا ، وأحيانا من أحاديث نبوية ، قالوا : انها مروية عن آل البيت رضوان الله عليهم.

__________________

(١) الشاعر أحمد شوقى يخاطب المسلمين فى قصيدته التى مطلعها

سلوا قلبى غداة سلا وتابا

لعل على الجمال له عتابا

١١

فلو أننا أعدنا النظر فى «مناهج الأدلة» واكتفينا بالقرآن الكريم ، وبالسنة النبوية المفسرة للقرآن الكريم. أما القرآن فلأن الله قال فيه : (وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ ، وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) والرسول قد آتى بالقرآن ، وأتى بالسنة المفسرة ، لقوله تعالى فى القرآن : (وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ ، لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) لو أننا اكتفينا بهذين الأصلين العظيمين ، لسهلنا على المسلمين أن يتحدوا وأن يتعاونوا ، ولقللنا من عدد الفرق ، والأحزاب ، ولسهلنا على غير المسلمين الدخول فى دين الاسلام. واذا قل الخلاف وقل الكلام ، كثر العمل ، وعمرت الدنيا ونعم المسلمون بالخير.

وقد ارتد نصرانى (١) من أهل خراسان عن نصرانيته الى الاسلام ، ثم رجع الى دينه ، فحمل الى الخليفة «المأمون» حتى وافاه ـ «العراق» وسأله عن رجوعه الى النصرانية. فقال له : أوحشنى ما رأيت من الاختلاف فيكم. فقال له المأمون : لنا اختلافان :

أحدهما. كالاختلاف فى الأذان وتكبير الجنائز والاختلاف فى التشهد وصلاة الأعياد وتكبير التشريق ووجوه الفتيا ، وما أشبه ذلك. وليس هذا باختلاف انما هو تخيير وتوسعة وتخفيف من المحنة. فمن أذن مثنى وأقام مثنى ، لم يؤثم. ومن أذن مثنى وأقام فرادى ، لم يحوب. لا يتعايرون ولا يتعايبون. أنت ترى ذلك عيانا. وتشهد عليه تبيانا.

والاختلاف الآخر : كنحو اختلافنا فى تأويل الآية من كتابنا وتأويل الحديث عن نبينا ، مع اجماعنا على أصل التنزيل واتفاقنا على عين الخبر.

فان كان الّذي أوحشك هو هذا ، حتى أنكرت من أجله هذا

__________________

(١) هذه الرواية فى كتاب تاريخ الجدل للشيخ محمد أبو زهرة.

١٢

الكتاب ، فقد ينبغى أن يكون اللفظ بجميع التوراة والإنجيل متفقا على تأويله ، كما يكون متفقا على تنزيله ، ولا يكون بين جميع النصارى واليهود اختلاف فى شيء من التأويلات. وينبغى لك ألا ترجع الا الى لغة ، لا اختلاف فى تأويل ألفاظها. ولو شاء الله أن ينزل كتبه ويجعل كلام أنبيائه وورثة رسله لا يحتاج الى تفسير ، لفعل. ولكنا لم نر شيئا من الدين والدنيا ، دفع إلينا على الكفاية. ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة ، وذهبت المسابقة والمنافسة ، ولم يكن تفاضل. وليس على هذا بنى الله الدنيا.

فقال النصرانى : أشهد أن الله واحد. لا ند له ولا ولد ، وأن المسيح عبده ، وأن محمدا صادق ، وأنك أمير المؤمنين حقا». ا ه

هذا شيء ذكرته كدليل على نظرة غير المسلمين الى دين الاسلام.

وفى زمان المأمون أمير المؤمنين ظهرت جماعة فى المسلمين تقول : ان القرآن كان مع الله فى الأزل وانه لقديم قدم الله. اذ هو كلامه. وظهرت جماعة تقول : انه مخلوق محدث. ولو كان خلافهم كالخلاف فى «القرء» هل هو الحيض أو الطهر ، لكان خلافا هينا بسيطا ، كما قال المأمون أمير المؤمنين رضى الله عنه للنصرانى المرتد. وانما كان خلافهم ضد معانى آيات محكمات فى القرآن هى فى نظره واضحة الدلالة على المعنى المراد فى نظر العامى والعالم. فلذلك عد القائلين يقدمه فى عداد المشاغبين والمرجفين فى المدينة.

«واحتج عليهم (١) : بقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا) «وكل ما جعله الله فقد خلقه.» وقال : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ

__________________

(١) خطابا المامون الى إسحاق ابن ابراهيم الّذي رواهما الطبرى ، فيهما مجموع حجج المامون على المعتزلة فى خلق القرآن. وقد نقلنا من كتاب الجدل للشيخ محمد أبو زهرة رحمة الله.

١٣

وَالْأَرْضَ ، وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ) وقال عزوجل : (كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ) فأخبر أنه قصص لأمور أحدثه بعدها ، وتلا به متقدمها. وقال سبحانه : (الر. كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ. ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وكل محكم مفصل ، دخله محكم مفصل. والله محكم كتبه ومفصله ، فهو خالقه ومبتدعة. وقال : (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) فدل ذلك على احاطة اللوح بالقرآن ، ولا يحاط الا بمخلوق. وقال لنبيهصلى‌الله‌عليه‌وسلم : (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ) وقال جل شأنه : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ) وقال تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ) وأخبر عن قوم ذمهم بكذبهم أنهم قالوا : (ما أَنْزَلَ اللهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ) ثم أكذبهم على لسان رسوله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فقال لرسوله : (قُلْ : مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ) وقال : (وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ) فسمى الله تعالى القرآن ذكرا وايمانا ونورا وهدى ومباركا وعربيا وجعل فيه قصصا ، فقال : (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ) وقال جل وجلاله : (قُلْ : لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ) وقال تعالى : (قُلْ : فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ) وقال سبحانه : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) فجعل له أولا وآخرا ، ودل عليه أنه محدود مخلوق» ا. ه

هذا ما احتج به المأمون رضى الله عنه على القول بأن القرآن مخلوق. فى الخطاب الّذي وجهه الى نائبه إسحاق بن ابراهيم فى شهر ربيع الأول سنة ثمان عشرة ومائتين.

ومنه يتبين أن الرئيس الأعلى على المسلمين يجب أن يكون حافظا للقرآن وملما بمعانيه وحاثا على العمل به. ومنه يتبين أن الخلافات المذهبية كانت فى المسلمين وكانت لهم سبب محنة.

١٤

ولذلك نرى اعادة النظر فى «مناهج الأدلة» لتوحيد المسلمين ، فقد أخذوا دروسا من الماضى.

والله نسأل أن يوفقنا لخدمة العلم والدين.

ا. د / أحمد حجازى أحمد السقا

درجة الدكتوراه من كلية أصول الدين ـ جامعة الأزهر

فى موضوع : «البشارة بنبي الاسلام فى التوراة والإنجيل»

١٥
١٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

[اللهم انفعنا بما علمتنا ، وعلمنا ما ينفعنا]

قال (١) الامام حجة الاسلام ، فخر الدين أبو عبد الله : محمد ابن عمر الرازى ـ برد الله مضجعه ـ :

سبحان المتفرد فى قيوميته بوجوب الأزلية والبقاء ، المتوحد فى ديمومية ألوهيته بامتناع التغير والفناء ، المتعالى بجلال هوية صمديته عن التركيب من الابعاض والاجزاء ، المنزه بسمو سر مديته عن مشاكلة الأشباه ومماثلة الأشياء ، والعالم الّذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء.

المحسن الّذي لا تنقطع موائد كرمه عن عبيده فى طورى السراء والضراء ، وحالتى الشدة والرخاء ، الجليل الّذي غرقت فى بحار جلاله غايات عقول العقلاء ، العظيم الّذي تضاءلت فى سرادقات كما له نهايات علوم العلماء ، الكريم الّذي تجاوزت أنواع آلائه ونعمائه عن التحديد والاحصاء ، الحكيم الّذي تحيرت فى كيفية حكمته فى خلقة أصغر ذرة من ذرات مبدعاته ومكوناته : ألباب الألباء ، وحكمة الحكماء.

أحمده على ما أعطى من النعماء ، ورفع من البلاء.

__________________

(١) عبارة الأصل : وبه نستعين. قال الامام حجة الاسلام فخر الدين محمد بن عمر الرازى برد الله مضجعه اللهم انفعنا بما علمتنا وعلمنا ما ينفعنا. سبحان المتفرد ... الخ

١٧

وأشهد أن لا إله الا الله ، وحده لا شريك له شهادة أتوسل بها الى رحمته يوم اللقاء فى دار البقاء ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله خاتم الأنبياء ، وسيد الأصفياء والأتقياء. صلى‌الله‌عليه‌وسلم وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا.

أما بعد

فان الله تعالى لما وفقنى ، حتى صنفت فى أكثر العلوم الدينية ، والمباحث اليقينية : كتبا مشتملة (٢) على تقرير الدلائل والبينات ، والأجوبة عن الشكوك والشبهات ، أردت أن اكتب هذا الكتاب ، لأجل أكبر أولادى ، وأعزهم على «محمد» ـ رزقه الله الوصول الى أسرار المعالم الحكمية والحكمية ، والاطلاع على حقائق المباحث العقلية والنقلية أشرح فيه المسائل الالهية ، وأنبه على الغوامض العقلية. ليكون هذا الكتاب دستورا له. يرجع في المضائق إليه ، ويعول عليه. وسميته : ب «الأربعين فى أصول الدين».

والله سبحانه وتعالى يوفقنا للصدق والصواب ، ويصون عقولنا عن الزيغ والارتياب. وبالله التوفيق.

__________________

(٢) مشتملة : أ ـ منبهة : ب.

١٨

المسألة الأولى

فى

حدوث العالم

اعلم : أنا اذا ادعينا أن العالم محدث ، فلا بد وأن نعلم أن العالم ما هو؟ وأن المحدث ما هو؟ وأن نعرف مذاهب الناس فى هذه المسألة ، حتى يمكننا أن نشرع بعد ذلك فى تقرير الدلائل. فلا جرم وجب علينا قبل الخوض فى تقرير الدلائل ، تقديم ثلاث مقدمات :

المقدمة الأولى : فى حقيقة العالم

قال المتكلمون : العالم كل موجود سوى الله تعالى. وتحقيق الكلام فى هذا الباب : أن نقول : الموجود على قسمين. وذلك لأن الموجود ، اما أن يكون من حيث هو هو غير قابل للعدم البتة ، واما أن يكون من حيث هو هو قابلا للعدم. فالموجود الّذي تكون حقيقته من حيث هى هى غير قابلة للعدم البتة ، فهو المسمى بواجب الوجود لذاته. وهو الله سبحانه وتعالى. وأما الموجود الّذي تكون حقيقته من حيث هى هى قابلة للعدم ، فهو المسمى بممكن الوجود لذاته وهو بحسب القسمة العقلية على ثلاثة أقسام : المتحيز ، والحال فى المتحيز ، والّذي لا يكون متحيزا ولا حالا فى المتحيز.

أما القسم الأول وهو المتحيز. فاعلم أن المراد من المتحيز الّذي يمكن أن يشار إليه ، اشارة حسية بأنه هاهنا أو هناك.

واذا عرفت حقيقة المتحيز. فنقول : المتحيز اما أن يكون قابلا للقسمة ، واما أن لا يكون. فالمتحيز الّذي يكون قابلا للقسمة هو المسمى

١٩

بالجسم. فعلى هذا : الجسم ما يكون مؤلفا من جزءين فصاعدا. والمعتزلة يقولون : الجسم هو الّذي يكون طويلا عريضا عميقا واقل (٣) الجسم انما يحصل من ثمانية أجزاء. وهذا النزاع لغوى لا عقلى. وأما المتحيز الّذي لا يكون منقسما. فهو المسمى بالجواهر الفرد. والناس قد اختلفوا فى اثباته. وسنذكر هذه المسألة على الاستقصاء. ان شاء الله تعالى.

وأما القسم الثانى من اقسام الممكن. وهو الّذي يكون حالا فى المتحيز. وتفسير الحلول هو : أن الشيئين اذا اختص أحدهما بالآخر ، فقد يكونان بحيث تكون الاشارة الى أحدهما غير الاشارة الى الآخر. مثل : كون الماء فى الكوز ، فان ذات الماء مباينة لذات الكوز ، فى الاشارة الحسية ، الا أنهما متماسان بسطحيهما. وقد يكونان بحيث تكون الاشارة الى أحدهما ، اشارة الى الآخر ، تحقيقا أو تقديرا. وهو مثل كون اللون فى المتلون. فان اللون ليس له ذات مباينة عن ذات (٤) المتلون فى الاشارة الحسية ، بل الاشارة الى اللون نفس الاشارة الى المتلون.

اذا عرفت هذا ، فنقول : الشيئان اذا اختص أحدهما بالآخر على القسم الثانى ثم يكون احدهما محتاجا فى وجوده الى الآخر ، ويكون الآخر غنيا فى وجوده عن الأول : يسمى المحتاج حالا ، والغنى محلا. فان الجسم غنى فى وجوده عن اللون واللون محتاج فى وجوده الى الجسم. فلا جرم قلنا : ان اللون حال فى الجسم ، والجسم محل اللون.

اذا عرفت معنى الحلول. فنقول : كل ما كان حالا فى المتحيز ، فذلك الحال يسمى بالعرض. ثم نقول : العرض قسمان : أحدهما الّذي

__________________

(٣) أقول : ب

(٤) لذات : ب

٢٠