الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

والدليل عليه : أنه تعالى استعظم أيضا طلبهم لا نزال الملائكة. ولا نزاع فى جواز ذلك ، الا أنهم لما طلبوه على سبيل العناد ، استعظم الله ذلك. فكذا فى سؤال الرؤية.

* * *

وأما الشبه العقلية : فنقول :

أما الشبهة الأولى ـ وهى شبهة الموانع ـ فالجواب عنها : على مقامين :

المقام الأول : لا نسلم أن عند حصول الشرائط الثمانية ، يجب حصول الأبصار. ويدل على أنه غير واجب عقلا : وجهان :

الحجة الأولى : انا نرى الجسم الكبير من البعد صغير. وان رأينا جميع أجزائه وجب أن لا نراه صغير ، بل كبيرا. وان لم نر شيئا من أجزائه ، وجب أن لا نراه البتة. وان رأينا بعض أجزائه دون البعض ، مع أن جميع الأجزاء بالنسبة الى القرب والبعد واللطافة والكثافة وعدم الحجاب وسلامة الحاسة وصحة الرؤية ، متساوية ، لزم أن لا يكون الادراك مع حصول هذه الشرائط واجبا.

لا يقال : انا اذا أبصرنا شيئا ، اتصل بطرفيه من العين خطان شعاعيان كساقى المثلث ، وصار عرض المرئى كالخط الثالث ، فحصل هناك مثلث. ثم يخرج من نقطة الناظر خط آخر الى وسط المرئى ، قائم عليه ، يقسم ذلك المثلث الأول الى مثلثين. وكل واحد منهما مثلث قائم الزاوية. وهذا يصلح أن يكون وترا ، لكل واحد من الزاويتين الحادتين الواقعتين على طرفى المثلث الأول الكبير ، والخطان الطرفيان كل واحد منهما وتر للزاويتين القائمتين. ولا شك أن وتر القائمة أعظم من وتر الحادة. فالخطان الطرفيان كل واحد منهما أطول من الخط الوسطى. واذا كان كذلك ، لم تكن أجزاء المرئى بالنسبة الى الرائى متساوية فى القرب والبعد. لأنا نقول :

٣٠١

لنفرض أن هذا التفاوت واقع بمقدار شبر ، فلو كان المانع من الرؤية هذا القدر من التفاوت فى البعد ، لكنا اذا جعلنا المرئى أبعد مما كان قبل ذلك بمقدار شبر ، وجب أن لا نراه البتة. لكنا نراه. فعلمنا : أنه ليس السبب فى عدم رؤية بعض الأجزاء : ذلك القدر من التفاوت فى البعد.

الحجة الثانية : اذا نظرنا الى مجموع كف من التراب ، رأيناه وذلك الكيف من التراب عبارة عن مجموع تلك الذوات وتلك الأجزاء الصغيرة. فاما أن يكون ادراك كل واحد من تلك الذوات مشروطا. بإدراك الآخر ، فيلزم الدور. واما أن لا يكون ادراك شيء منها مشروطا بادراك الآخر ، وحينئذ يكون ادراك كل واحد من تلك الذوات حالتى الانفراد والاجتماع على السوية (١) مع أنا نراها حال الاجتماع ولا نراها حال الانفراد. وحينئذ لا يكون الادراك واجب الحصول عند حصول تلك الشرائط. واما أن يكون ادراك البعض مشروطا بادراك الباقى. ولا ينعكس. وهذا محال. ومع أنه محال فالمقصود حاصل.

أما أنه محال ، فلأن الأجزاء متساوية فيكون هذا مفتقرا الى ذاك ، مع أن ذاك غنى عن هذا. وهذا ترجيح من غير مرجح. وهو محال. وأما ان المقصود حاصل ، فلأن ادراك أحد تلك الأجزاء اذا كان غنيا عن ادراك الآخر ، كان حالة عند الاجتماع وعند الانفراد فى صحة الادراك على السوية. وحينئذ يعود المحذور.

فهذان برهانان قويان فى بيان أن عند حصول هذه الشرائط : يكون الادراك غير واجب الحصول.

وقولهم : لو لم يجب الادراك ، لجاز أن يكون بحضرتنا جبال وبوقات ، ونحن لا نراها ولا نسمعها.

__________________

(١) من هنا ساقط من ا الى : على وفق ماهية المكشوف

٣٠٢

قلنا : هذا معارض بجملة العاديات. سلمنا : أن عند حضور هذه الشرائط فى الشاهد ، يكون الادراك واجب الحصول ، فلم قلتم : ان فى حق الله تعالى يجب أن يكون كذلك؟ وتحقيقه : هو أن ذات الله تعالى مخالفة بالحقيقة والماهية لهذه الحوادث. والمختلفان فى الماهية لا يجب استواؤهما فى اللوازم. فلم يلزم من كون الادراك واجبا فى الشاهد عند حضور هذه الشرائط ، كونه واجبا فى الغائب عند حضورها؟ ومما يدل عليه : أن الادراك فى الشاهد مشروط بشرائط ثمانية ، وفى الغائب نقطع بأنه لا يمكن اعتباره. فكذلك لا يمتنع أن يكون الادراك فى الشاهد واجب الحصول ، وفى الغائب لا يكون واجبا. وهذا سؤال متعين لم يتنبه له أحد من المعتزلة ، ولا نبه أحد من أصحابنا عليه.

وأما الشبهة الثانية : فالجواب عنها من وجهين :

الأول : انا بينا فى المقدمة : أن ذكر الدلائل لا بد أن يكون مسبوقا بتعيين محل النزاع. فنقول : محل النزاع : ان الموجود المنزه عن المكان والجهة. هل تجوز رؤيته أم لا؟ فان ادعيتم أن العلم بامتناع رؤيته ضرورى ، فذلك باطل ـ على ما بيناه فى المقدمة ـ وان ادعيتم أن هذا العلم استدلالى. فلا بد فيه من الدليل. وقولكم «ان كل مرئى ، لا بد وأن يكون مقابلا» : يقرب من أنه اعادة للدعوى. لأن المقابل هو الّذي يكون مختصا بجهة قدام الرائى فكأنكم قلتم : الدليل على أن ما لا يكون فى الجهة لا يكون مرئيا : هو أن كل ما كان مرئيا فى جهة. والمنطقيون يسمون هذه القضية الثانية : عكس نقيض القضية الأولى. وفى الحقيقة لا فرق بين القضيتين فى الظهور والخفاء. فلم يجز جعل أحدهما حجة فى صحة الأخرى ، بل يقرب هذا من أن يكون اعادة للمطلوب بعبارة أخرى.

والوجه الثانى فى الجواب : ثبت أن المقابلة شرط للرؤية فى الشاهد. فلم قلتم : انه فى الغائب كذلك؟ وتقريره : ما ذكرناه فى

٣٠٣

الجواب عن الشبهة الأولى. وتمام الكشف والتحقيق : انا ذكرنا فى المقدمات : أن المراد من الرؤية : أن يحصل لنا انكشاف بالنسبة الى ذاته مخصوصة. وهو يجرى مجرى الانكشاف الحاصل عند ابصار الألوان والأضواء. واذا كان الأمر كذلك ، فاذا الانكشاف يجب أن يكون على وفق المكشوف. فان كان المكشوف مخصوصا بالجهة ، والحيز ، وجب أن يكون الانكشاف كذلك. وان كان المكشوف منزها عن الجهة ، وجب أن يكون انكشافه منزها عن الحيز والجهة.

وأما الشبهة الثالثة : فجوابها أيضا على هذا القانون. فالرؤية عبارة عن هذا الانكشاف التام. فان كان الشيء له صورة كان انكشافه بانكشاف صورته ولونه ، وان كان منزها عن الصورة واللون ، كان انكشاف كذلك أيضا. لأن شرط الانكشاف أن يحصل على وفق ماهية المكشوف (١٤)].

وهذا هو الجواب بعينه عن الشبهة الرابعة.

* * *

واعلم : أن من تأمل فى هذه الكلمات على سبيل الانصاف ، علم قطعا : أنه ليس للمعتزلة فى نفى الرؤية شبهة تحيله البتة. وبالله التوفيق (١٥).

__________________

(١٤) من أول مع أنا نراها حال الاجتماع الى ماهية المكشوف ساقط من ب

(١٥) اعلم : أن علماء بنى اسرائيل يصرحون فى كتبهم بأنهم اخذوا علم الكلام عن معتزلة المسلمين. ولم يأخذوا عن الأشاعرة شيئا. وسأبين هنا : أنهم أخذوا عن علماء المعتزلة فى خلق القرآن ، وفى نفى رؤية الله تعالى.

أولا : يقول مؤلف دلالة الحائرين المتوفى سنة ٦٠٣ ه‍ : اعلم : أن العلوم الكثيرة التى كانت فى ملتنا فى تحقيق هذه الأمور ، تلفت

٣٠٤

__________________

بطول الأزمان ، وباستيلاء الملل الجاهلية علينا ، وبكون تلك الأمور لم تكن مباحة للناس كلهم. فما كان الشيء المباح للناس كلهم : الا نصوص الكتب فقط. والفقه المروى ما كان مدونا فى القديم ، للأمر المستفاض فى الملة. وهو : «الأمور التى أخبرتك بها شفاها ، لا يجوز لك أن تكتبها» وذلك كان فى غاية الحكمة من الشريعة ، لأنه هرب مما وقع فيه الناس أخيرا. وهو كثرة الآراء وتشعب المذاهب ، بسبب اشكالات تقع فى عبارة المدون للسهو الّذي يصحبه. ويحدث بسببه الانقسام بين الناس ويصيرون فرقا ، ويتحيرون فى الأعمال الشرعية ...

واتفق فى ابتداء الاسلام أن أصحابنا أخذوا عن المعتزلة ما أخذوا. ولم يأخذوا عن الأشعرية شيئا. لأنهم ظنوا أن آراء المعتزلة مقبولة للبرهنة عليها ... الخ (ج ١ ص ١٧٩ فصل : عا)

ثانيا : يقول مؤلف دلالة الحائرين : ان رؤية الله تعالى ممتنعة. كما يقول المعتزلة. ويذكر الحقيقة والمجاز فى الألفاظ الدالة على الرؤية هكذا :

«اعلم : أن «رأى» و «نظر» و «حزى» ثلاثة هذه الألفاظ تقع على رؤية العين ، واستعيرت ثلاثتها : لادراك العقل. اما ذلك فى «رأى» فمشهور عند الجمهور. قال : «ونظر فاذا بئر فى الصحراء» (تك ٢٩ : ٢) وهذه رؤية عين على الحقيقة لا على المجاز وجاءت «رأى» على المجاز : «وفى قلبى رأى كثير من الحكمة والعلم» (جاء ١ : ١٦) وهذا ادراك عقلى ، لا رؤية عين. وبحسب هذه الاستعارة ، تكون كل لفظة جاءت عن الرؤية فى الله تعالى. مثل قوله : «رأيت الرب» (١ مل ٢٢ : ١٩) «يرى له الرب» (تك ١٨ : ١) «ورأى الله ذلك أنه حسن» (تك : ١٠) «أرنى مجدك» (خر ٣٣ : ١٨) «فرأوا إله اسرائيل» (خر ٢٤ : ١٠) كل ذلك ادراك عقلى ، لا رؤية عين بوجه. اذ لا تدرك الأعين الا جسما ، وفى جهة. وبعض أعراضه أيضا. أعنى ألوان الجسم وشكله ونحوها. وكذلك هو تعالى لا يدرك بآلة.

٣٠٥

__________________

وكذلك «نظر» يقع حقيقة على الالتفات بالعين للشىء. مثل : «لا تلتفت الى ورائك» (تك ١٩ : ١٧) «فالتفت امرأته الى ورائها» (١٩ : ٢٦) «وينظر الى الأرض» (أش ٥ : ٣٠) واستعير مجازا الى التفات الذهن واقباله على تأمل الشيء حتى يدركه. مثل قوله : «لم ير اثما فى يعقوب» (عد ٢٣ : ٢١) لان «الاثم» لا يرى بالعين. وكذلك قوله : «وينظرون الى موسى» (خر ٣٣ : ٨) قال الحكماء ـ عليهم‌السلام ـ : ان فيه أيضا هذا المعنى ، وانه اخبار عن كونهم يتعقبون أفعاله وأقواله ويتأملونها. ومن هذا المعنى قوله : «انظر الى السماء» (تك ١٥ : ٥) لأن ذلك كان رؤى النبوة.

وعلى هذه الاستعارة تكون كل لفظة «النظر» التى جاءت فى الله تعالى. مثل : «أن ينظر الى الله» (خر ٢ : ٦) «وصورة الرب يعاين» (عد ١٢ : ٨) و «ولست تطيق النظر الى الأصر» (حب ١ : ١٣ وكذلك «حزى» يقع على رؤية العين حقيقة. مثل : «ولتنظر عيوننا الى صهيون» (ميخا ٤ : ٧) واستعير مجازا لادراك القلب. مثل : «التى رآها على يهوذا وأورشليم» (أش ١ : ١) «كان كلام الرب الى ابراهيم فى الرؤيا» (تك ١٥ : ١) وعلى هذه الاستعارة قيل : «فرأوا الله» (خر ٢٤ : ١١) فاعلم ذلك» ا. ه (ج ١ ص ٢٩ فصل د)

ثالثا : أما عن كلام الله تعالى ، فقد فصل فيه صاحب «دلالة الحائرين» القول فى فصل ٤٦ و ٦٥ أعنى فصل «مو» وفصل «سه» وقال : ان الله تعالى موجود وواحد. ومتكلم. ثم حكى اجماع علماء بنى اسرائيل على أن التوراة مخلوقة. قال : «ولا سيما باجماع أمتنا : أن التوراة مخلوقة والقصد بذلك : أن كلامه المنسوب إليه : مخلوق» والألفاظ المنسوبة إليه التى سمعها موسى. فان الله خلقها وابتدعها ، كما نسب إليه كل ما خلق وابتدع. ووصف الله بالكلام مثل وصفه بالأفعال كلها ، الشبيهة بأفعالنا. وكلام الله الى أنبيائه معناه : أن هناك علما إلهيا ، يدركه النبيون بأن الله كلمهم وقال لهم. حتى نعلم

٣٠٦

__________________

أن هذه المعانى التى أوصلوها إلينا ، هى من قبل الله ، لا من مجرد فكرهم ورؤيتهم.

ولفظ «الكلام» ولفظ «القول» على الحقيقة يأتى ، وأيضا على المجاز يأتى.

ولفظ الكلام والقول على الحقيقة. وقعا على النطق باللسان. مثل قوله : «موسى يتكلم» و «قال فرعون» ووقعا على المجاز ، على المعنى المتصور فى العقل من غير أن ينطق به. مثل : «فقلت فى قلبى» ـ «فتكلمت فى قلبى» ـ «وينطق قلبك»! «لك نطق قلبى» ـ «وقال عيسو فى قلبه» وهذا كثير. ووقعا أيضا مجازا على الإرادة. مل : «وهم أن يقتل داود» فكأنه قال : وأراد قتله. أى هم به. ومثل : «أتريد أن تقتلنى»؟ أى تهم به وتريده وقال المؤلف ما نصه : «فكل قولة وكلام ، جاءت منسوبة لله ، فهى من المعنيين الأخيرين. أعنى : أنها اما كناية عن المشيئة والإرادة ، واما كناية عن المعنى المفهوم من قبل الله ، سواء علم بصوت مخلوق ، أو علم بطريق من طرق النبوة ، لا أنه تعالى تكلم بحرف وصوت. ولا أنه تعالى ذو نفس. فترتسم المعانى فى نفسه ، وتكون فى ذاته معنى زائدا على ذاته. بل تعلق تلك المعانى به ونسبتها إليه ، كنسبة الأفعال كلها» ا. ه

هذا ما أردت بيانه هاهنا. لأبين أن للمعتزلة تأثيرا فى علماء بنى اسرائيل. لا أن علماء بنى اسرائيل قد تأثروا بالمعتزلة. ذلك لأن ابن ميمون توفى فى سنة ستمائة وثلاث من الهجرة. و «واصل بن عطاء الغزال» رئيس المعتزلة ، توفى فى سنة مائة واحدى وثلاثين من الهجرة ولأن موسى ابن ميمون قد صرح بأن كتب علماء بنى اسرائيل الأوائل قد تلفت بطول الأزمان وباستيلاء الملل الجاهلة ـ فى نظره ـ عليهم ، وبكون تلك الأمور لم تكن مباحة للناس كلهم.

٣٠٧

المسألة العشرون

فى

بيان أن كنه حقيقة الله تعالى

هل هو معلوم للبشر أم لا؟

والكلام فيه مرتب على فصلين :

الفصل الأول

فى

أن العلم بالكنه هل هو الآن حاصل أم لا؟

قال الكثيرون من المتكلمين : هذا العلم حاصل. وقال جمهور المحققين : بأنه غير حاصل. وهو المختار. ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : ان المعلوم منه ليس الا الوجود ، والصفات السلبية ، والصفات الاضافية. والعلم بهذه الأمور مغاير للعلم بالذات المخصوصة والحقيقة المخصوصة. فوجب أن لا يكون العلم بالحقيقة المخصوصة حاصلا. انما قلنا : ان المعلوم ليس الا الوجود والسلوب والاضافيات. وذلك لأنا اذا استدللنا بوجود الممكنات على وجود واجب الوجود ، علمنا : أنه موجود. وما وراء ذلك فهو من باب الصفات. مثل : أن نقول : انه واجب الوجود. ومعناه : أنه الموجود الّذي لا يقبل العدم. ونقول : أنه قديم. ومعناه : انه كان موجودا من الأزل الى الآن. ونقول : انه أبدى. ومعناه : انه موجود من الآن لا الى آخر ونهاية. ونقول : انه ليس بجسم ، ولا بجوهر ، ولا فى مكان ، وليس له ضد ولا ند ، وكل ذلك سلوب. ونقول : انه قادر ، أى أنه يصح منه الفعل والترك ونقول انه عالم أى أنه يصح منه ايقاع الفعل على وجه الاحكام. ونقول : انه مريد ، أى أنه يصح منه ايقاع الفعل على سبيل التخصيص. وكل ذلك اضافات.

٣٠٨

فثبت : أنه ليس المعلوم للخلق منه ، الا الوجود والسلوب والاضافات. وانما قلنا : ان العلم بهذه الأمور لا يقتضي العلم بالحقيقة المخصوصة. لأنا اذا رجعنا الى أنفسنا لم نجد عقلنا جازما ، بأنه متى كانت الصفات هى هذه. وجب أن تكون الذات هى الحقيقة المخصوصة الفلانية على التعيين ، بل نجد عقلنا جازما بأنه لا بد وأن تكون تلك الحقيقة فى نفسها حقيقة مخصوصة متميزة عن سائر الحقائق [واما (١) أن يعرف العقل تعين تلك الحقيقة. فهذا غير حاصل. وهذا كما أنا لما شاهدنا الأثر المخصوص عن المغناطيس. قلنا : ان له حقيقة مخصوصة مميزة عن سائر الحقائق. فأما أن نعلم تلك الحقيقة بعينها ، فهذا غير حاصل. فكذا هاهنا : لما علمنا اختصاص ذاته بهذه الصفات على أصل الوجوب واللزوم ، علمنا أن له حقيقة متميزة عن سائر الحقائق ، فأما أن نعلم من هذه الصفات تلك الحقيقة المخصوصة بعينها ، فهذا غير حاصل. والعلم به ضرورى. فعلمنا : ان العلم بحقيقته المخصوصة : غير حاصل] (٢).

الحجة الثانية : من البين : أن التصديق فرع التصور ، فما لا نتصور حقيقته لا يمكننا أن نعلم أنها حاصلة أم غير حاصلة. ونحن لا يمكننا أن نتصور حقيقته الا اذا أدركناها من أنفسنا ادراكا ضروريا ، كالعلم بالألم واللذة والفرح والغم والغضب ، وأدركناها باحدى الحواس الخمس ، كالعلم بالألوان. فانه حصل من الابصار ، والعلم بالأصوات فانه حصل بالسماع. وكذا القول فى بقية المحسوسات. وأما الماهية التى ما أدركناها بواحد من هذين الطريقين فاننا نعلم أنها غير متصورة (٣).

__________________

(١) ما بين القوسين : ساقط من ب

(٢) تعذر علينا أن نتصور : ب ـ فعلمنا أنها غير متصورة : ا

٣٠٩

اذا عرفت هذا ، فنقول : حقيقة الله وكنه ماهيته غير مدركة بأحد هذين الطريقين. فوجب أن لا تكون متصورة عند العقول.

الحجة الثالثة : ان كل ما نعلمه منه سبحانه وتعالى ، فان مجرد تصوره غير ما تبين من وقوع الشركة فيه. ولذلك فانا بعد معرفة هذه الصفات ، نفتقر الى اقامة الدلائل على أنه سبحانه وتعالى واحد ، وأما ذاته المخصوصة فانها من حيث انها هى مانعة من الشركة. واذا كان كذلك ، وجب القطع بأنه من حيث انه هو غير معلوم للبشر. وهذا قياس جلى من الشكل الثانى.

* * *

واحتج القائلون بأن تلك الحقيقة معلومة بوجهين :

الحجة الأولى : ان التصديق مسبوق بالتصور ، ولو لم تكن تلك الحقيقة معلومة ، لامتنع الحكم عليها بأنها غير معلومة.

الحجة الثانية : انا نحكم على تلك الذات المخصوصة بأنها موصوفة بالوجود والقدم والدوام والوجوب والوحدة وصفات الجلال والاكرام. ولو لا أن تلك الحقيقة من حيث هى هى معلومة ، والا لما أمكن الحكم عليها بهذه الصفات.

والجواب : تنتقض هاتان الحجتان بخواص الاغذية والأدوية فانها من حيث هى هى مجهولة ، مع العلم بكونها مستلزمة للآثار المخصوصة. وكذا هاهنا.

واعلم : أن هذا الب حث ينتج (١) اشكالات عظيمة ، لا يليق ذكرها بهذه المواضع.

__________________

(١) يفتح أبواب : ب

٣١٠

الفصل الثانى

فى

بيان أن كنه حقيقة الله تعالى ، وان لم يكن

الآن معلوما. فهل يصح أن يصير معلوما للبشر؟

اعلم : أنا اذا رأينا الاحتراق حاصلا فى الجسم ، علمنا : أنه لا بد لذلك الاحتراق من محرق. وذلك المحرق معلوم ، لكن علمنا (يكون) بالتبع والعرض. فانا لا نعلم فى هذا الوقت أن ذلك المحرق ما هو؟ بل أنه شيء ما ، معين فى نفسه ، مجهول التعين عند العقل. ومن لوازمه : حصول هذا الاحتراق. وأيضا : اذا وجدنا فى أنفسنا ألما ولذة وغما وفرحا. فهذه الماهيات معلومة علما لا بالتبع والعرض ، بل بالذات والحقيقة. وهذه المرتبة أقوى وأجلى من المرتبة الأولى. وأيضا : اذا أدركنا بالعين لونا وضوءا ، ثم غمضنا العين ، فانا ندرك تفرقة بديهية بين الحالتين ، مع أن العلم بذلك اللون المخصوص حاصل فى الحالتين. وتلك التفرقة هى المسماة بالرؤية.

اذا عرفت هذا فنقول : انا اذا استدللنا بوجود الممكنات على وجود الصانع ، فقد حصل النوع الأول من العلم والمعرفة. أما النوع الثانى والثالث فهل هو ممكن الحصول؟ قال بعضهم : هذا غير ممكن. لأنه غير متناه ، والعقل متناه ، وادراك غير المتناهى بالمتناهى محال.

ومن المحققين من توقف فى جوازه وامتناعه. وقال : لا سبيل للعقل الى معرفة هذه المضايق ، بل السمع لما دل على أن المؤمنين يرون الله تعالى يوم القيامة ، دل ذلك على كون هاتين المرتبتين ممكنتين. ولا شك أنه لا حال للبشر أشرف من هاتين الحالتين. فنسأل الله أن يجعلنا بفضله أهلا لها. والله الموفق والمعين.

٣١١

المسألة الحادية والعشرون

فى

بيان أن صانع العالم سبحانه وتعالى واحد

ويدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : لو كان فى الوجود شيئان ، كل واحد منهما واجب الوجود لذاته ، لكانا مشتركين فى الوجوب بالذات ، ومتباينين بالتعين. فيلزم وقوع التركيب فى ذات كل واحد منهما. وكل مركب فهو ممكن لذاته. فيلزم أن يكون الواجب لذاته ممكنا لذاته. وهو محال. وتمام البحث فيه قد تقدم فى مسألة حدوث الأجسام.

الحجة الثانية : الاله هو الّذي يكون قادرا على المقدورات. ولو فرضنا إلهين ، أراد أحدهما حركة زيد والآخر سكونه. فاما أن يحصل المرادان. وهو محال ، أو لا يحصل مراد واحد منهما. وذلك أيضا محال. لأن المانع لكل واحد منهما عن حصول مراده ليس هو مجرد كون الآخر قادرا ، بل حصول مقدور الآخر. فاذن لا يمتنع حصول مراد هذا ، الا اذا حصل مقدور ذاك. ولا يمتنع حصول مراد ذاك ، الا اذا حصل مقدور هذا. فلو حصل مراد كل واحد منهما لحصل مقدور كل واحد منهما. وحينئذ يرجع هذا القسم الثانى الى القسم الأول. وقد بينا أنه محال. أو يحصل مراد أحدهما دون الآخر.

وهذا أيضا محال لوجهين :

الأول : ان الّذي حصل مراده. فهو قادر. والّذي لم يحصل مراده. فهو عاجز. والعاجز لا يصلح للالهية.

٣١٢

والثانى : لما كانت لقدرة كل واحد منهما صلاحية التأثير فى ايجاد ذلك المقدور. فنقول : انه يستحيل أن يقال : ان احدى هاتين الصلاحيتين أقوى من الأخرى. وذلك لأن المقدور شيء واحد ، لا يقبل القسمة أصلا. واذا كان كذلك ، فهو اما أن يكون موجودا ، أو معدوما. فأما القسم الثالث. وهو أن يقال : انه يصير بعضه موجودا وبعضه معدوما. فذلك محال. واذا كان الأمر كذلك ، لم يكن ايجاد مثل هذا المقدور قابلا للتفاوت. واذا لم يقبل التفاوت ، امتنع كون احدى القدرتين أقوى من الأخرى.

اذا ثبت هذا ، فنقول : لما حصل التساوى فى قدرة هذين القادرين ، فلو حصل مقدور أحدهما دون الثانى ، لكان هذا ترجيحا لأحد المتساويين على الآخر ، من غير مرجح البتة. وذلك محال. فكان هذا القسم محالا. فثبت : أن القول بوجود إلهين : يفضى الى أحد هذه الأقسام الثلاثة. ولما ثبت أن كل واحد منهما محال باطل ، كان القول بوجود إلهين محالا باطلا.

فان قيل : هذه الأقسام الثلاثة متفرعة على وقوع المخالفة بين الالهين. فنقول : لم لا يجوز وجود الالهين ، بحيث يمتنع وقوع المخالفة بينهما ، فعليكم أن تدلوا على صحة هذه المخالفة. ولا يقال : الّذي يدل على صحة وقوع المخالفة بينهما : هو أنا لو قدرنا أحد هذين الالهين منفردا بالوجود ، لصح منه أن يريد حركة زيد. ولو قدرنا الاله الثانى منفردا بالوجود ، لصح منه أن يريد سكون زيد. واذا ثبت هذا حال الانفراد ، وجب أيضا حال الاجتماع. لأن ما لكل واحد من الذات والصفات. قديم. والقديم لا يجوز عليه التغير والتبدل. وهذا يقتضي أن يكون كل واحد منهما حال الاجتماع ، كما كان حال الانفراد. وهذا يوجب القطع بجواز المخالفة لأنا نقول :

٣١٣

أليس أنه انفرد أحد الالهين ، لصح منه ايجاد الحركة. ولو انفرد الثانى لصح منه ايجاد السكون. ثم انهما لما اجتمعا تعذر على كل واحد منهما ايجاد ما لم يكن متعذرا عليه وقت الانفراد؟ واذا كان الحال كذلك فى القدرتين ، فلم لا يجوز مثله فى الارادتين؟

سلمنا : أن ما ذكرتم يدل على جواز المخالفة بينهما ، لكن معنا ما يدل على أن مع القول بوجود الالهين ، يمتنع وقوع المخالفة بينهما. وهو من وجهين :

أحدهما : هو انا لو فرضنا إلهين ، لوجب كون كل واحد منها حكيما. والحكيم هو الّذي لا يفعل الا الأفضل والأولى. ولا شك أن الأفضل والأولى فى كل شيء واحد. واذا كان كذلك ، كان كل واحد منهما لكونه حكيما ، لا يريد الا ذلك الوجه الواحد. واذا كان الأمر كذلك ، امتنع وقوع المخالفة بينهما.

الوجه الثانى : هو أن كل واحد منهما ، لما كان إلها ، وجب أن يكون كل واحد منهما عالما بكل المعلومات. وكان كل واحد منهما عالما بأن أى المعلومات يقع؟ وأيها لا يقع؟ وإرادة ما علم أنه لا يقع يكون محالا. واذا كان الشيء الّذي هو معلوم الوقوع ، ليس الا الواحد ، ويستحيل أن يريد الا ما كان معلوم الوقوع ، وجب أن يكون كل واحد منهما مريدا لوقوع شيء واحد بعينه. وعلى هذا التقدير فانه يمتنع وقوع المخالفة بينهما.

سلمنا : أنه يصح وقوع المخالفة بينهما ، لكن المحالات التى الزمتمونا انما تلزم من وقوع المخالفة ، لا من صحة المخالفة. فلما لم تثبتوا أن هذه المخالفة لا بد وأن تحصل وتدخل فى الوجود ، لا يمكنكم أن تلزموا علينا تلك المحالات. فأنتم وأن

٣١٤

أقمتم الدلائل على صحة المخالفة ، الا أنكم تحتاجون بعدها الى اقامة الدلالة على وقوع تلك المخالفة. حتى يتم دليلكم.

والجواب : الدليل على صحة المخالفة بينهما : أنه لو انفرد هذا صحت منه إرادة الحركة ، ولو انفرد ذلك صحت منه إرادة السكون. وعند اجتماعهما ، وجب القول ببقاء هاتين الصحتين. ويدل عليه وجهان :

الأول : ان كل واحد من هاتين الصحتين أزلى. والأزلى يمتنع زواله.

والثانى : ان زوال احدى الصحتين بالأخرى ، انما يصح لو حصل بينهما نوع منافاة. والا لم يلزم من حصول أحدهما زوال الثانى. واذا حصلت المنافاة من الجانبين ، لم يكن تأثير حصول أحدهما فى عدم الآخر (١) أولى من العكس. فلا بد وأن تزول كل واحدة من هاتين الصحتين بالأخرى. الا أن هذا محال. لأن المؤثر فى عدم كل واحدة من هاتين الصحتين وجود الأخرى. والعلة واجبة الحصول عند حصول المعلول. فلو عدمت الصحتان معا ، لزم من عدمهما معا ، لزومهما (٢) معا. وهذا محال. فعلمنا : أنه لا تزول هذه الصحة ، ولا تلك الصحة عند اجتماعهما. فثبت : أن صحة المخالفة حاصلة عند الاجتماع.

وأما قوله : «ان هذا ينتقض بالقدرتين ، فانه يصح على كل واحدة منهما ايجاد أحد الضدين عند الانفراد ، ولا يصح منهما ايجادهما عند الاجتماع» قلنا : هذا عين دليلنا على كون الله تعالى واحدا. لأنا

__________________

(١) حصول احداهما فى الأخرى : ب

(٢) حصولهما : ب

٣١٥

نقول : هذه الصحة كانت ثابتة لكل واحدة من القدرتين عند الانفراد. فاذا بقيتا عند الاجتماع ، يلزم منه صحة الجمع بين الضدين. وهو محال وان زالتا أو زالت احداهما. فهو محال للوجوه التى ذكرناها. فعلم : أن القول بوجود الالهين يفضى الى هذا المحال. فكان القول به محالا.

قوله : «لو حصل فى الوجود إلهان ، لكان كل واحد منهما حكيما. وذلك يوجب توافقهما» قلنا : الفعل اما أن يتوقف على الداعى أو لا يتوقف. فان توقف لزم الجبر. واذا لزم الجبر لم تكن فاعلية الله تعالى موقوفة على رعاية المصالح ، فلم يلزم من خلو الفعل عن المصلحة ، أن لا يكون مراد الوقوع لله تعالى. فلم يلزم من كون المصلحة واحدة ، عدم المخالفة. وان لم يتوقف الفعل على الداعى ، لم يلزم من استواء الضدين فى المصلحة والمفسدة ، عدم الترجيح فى القصد والإرادة. فثبت : أن هذا السؤال لا يمنع من صحة المخالفة.

قوله : «الشيء الّذي هو معلوم الوقوع واحد. وذلك يمنع من الاختلاف فى الإرادة» قلنا : إرادة الوقوع متقدمة على الوقوع ، الّذي هو متقدم على العلم بالوقوع. فيمتنع أن يكون العلم بالوقوع سببا لارادة الوقوع ، والا لزم الدور.

قوله : «هذه الأقسام الثلاثة انما تتولد من حصول المخالفة لا من صحة المخالفة».

قلنا : هاهنا مقدمة يقينية. وهى أن كل ما كان ممكنا ، لا يلزم من فرض وقوعه محال ، فلو كانت المخالفة ممكنة ، لم يلزم من فرض وقوعها محال. لكنه قد لزم المحال من فرض وقوعها. وعند هذا نقول : لو فرضنا إلهين ، لكانت المخالفة بينهما. اما أن تكون ممكنة ، واما أن لا تكون ممكنة. والقسمان باطلان ، فبطل القول بوجود الالهين.

٣١٦

الحجة الثالثة على امتناع وجود الالهين : هى أنا لو فرضنا إلهين ، لكان كل واحد منهما قادرا على جميع الممكنات ، لأن صفة القادرية لما كانت فى حق كل واحد منهما من لوازم الذات ، وكانت نسبة تلك القادرية الى جميع الممكنات على السوية ، وجب كونه تعالى قادرا على جميع الممكنات. واذا ثبت هذا ، لزم أن كل ما كان مقدورا لأحدهما فهو بعينه مقدور للآخر من جهة واحدة. وهى جهة الايجاد والاختراع. الا أن ذلك محال ، لأن كل ما كان مقدورا لقادر ، صح منه ايجاده. واذا قصد كل واحد منهما الى ايجاده. فاما أن يقع ذلك المقدور بهما معا ، أو لا يقع بواحد منهما ، أو يقع بأحدهما دون الثانى. والأقسام الثلاثة باطلة.

أما القسم الأول ـ وهو وقوعه بهما جميعا ـ فهذا محال. لأن اسناد الأثر الى المؤثر ، انما كان لامكانه وجوازه. والأثر اذا أخذ مع المؤثر التام ، كان واجب الوجود. وكونه واجب الوجود يمنعه من اسناده الى القدرة الثانية. فكون الفعل مع القدرة الثانية ، يمنع من الاسناد الى القدرة الاولى. فيلزم أن يكون حال وقوعه بكل واحدة من القدرتين أن يكون واجب الانقطاع عن كل واحد منهما. وهو جمع بين النقيضين. وهو محال.

وأما القسم الثانى ـ وهو أن لا يقع بواحد منهما ـ فهو أيضا محال. لأن المانع من وقوعه بهذه القدرة ، وقوعه بتلك القدرة. والمانع من وقوعه بتلك القدرة : وقوعه بهذه القدرة. فلا يمتنع هذا الا اذا وجد ذلك ، ولا يمتنع ذلك الا اذا وجد هذا. فلو امتنعا معا ، لوجدا معا. وذلك محال. فيلزم اجتماع النفى والاثبات. وهو محال.

وأما القسم الثالث ـ وهو أن يقع بأحدهما دون الآخر ـ فهذا أيضا محال لوجهين :

٣١٧

الأول : ان كل واحد منهما فرضناه قادرا على جميع الممكنات ، فلا يكون أحدهما أقدر من الثانى. واذا كان كذلك ، امتنع رجحان أحدهما على الآخر.

الثانى : ان وقوع التفاوت فى القدرة على ايجاد المقدور الواحد محال ، لما بينا أن التفاوت فى الاقتدار ، يستدعى امكان وقوع التفاوت فى المقدور. والشيء الّذي يكون واحدا وحدة حقيقية يمتنع وقوع التفاوت فيه ، فامتنع وقوع التفاوت فى القدرة عليه. فثبت :

أن القول بوجود الالهين يفضى الى أحد هذه الأقسام الثلاثة. وثبت : أن كل واحد منها محال ، فكان القول بوجود الالهين محالا.

شبهة للخصم : انا نجد فى العالم شرا وخيرا. والفاعل الواحد لا يكون خيرا وشريرا معا فلا بد من القول بالاثنين.

والجواب : ان الخير ان لم يقدر على دفع الشر ، فهو عاجز لا يصلح للالهية ، وان قدر ولم يفعل فهو أيضا شرير ، لأن الراضى بأفعال الشر شرير. فثبت : أن هذه الشبهة ساقطة والله أعلم.

٣١٨

المسألة الثانية والعشرون

فى

خلق الأفعال (١)

اعلم : أن للعقلاء فى الأفعال الاختيارية التى للحيوانات قولين :

القول الأول : ان ذلك الحيوان غير مستقل بايجاده وتكوينه.

وأصحاب هذا القول : فرق أربع :

الفرقة الأولى : الذين يقولون : ان الفعل موقوف على الداعى. فاذا حصلت القدرة وانضم إليها الداعى ، صار مجموعهما علة موجبة للفعل. وهذا قول جمهور الفلاسفة. واختيار «أبى الحسين البصرى» ـ من المعتزلة ـ وهو وان كان يدعى الغلو فى الاعتزال ، حتى ادعى أن العلم ـ بأن العبد يوجد ويستقل بالفعل ـ ضرورى. الا أنه لما كان من مذهبه : أن الفعل موقوف على الداعى. واذا كان عند الاستواء ، يمتنع وقوعه. وحال المرجوحية أولى بالامتناع. واذا امتنع المرجوح وجب الراجح. لأنه لا خروج عن النقيضين : كان هذا عين القول بالجبر. لأن الفعل واجب الوقوع عند حصول المرجح ، وممتنع الوقوع عند عدم المرجح. فثبت : أن «أبا الحسين» كان شديد الغلو فى القول بالجبر ، وان كان يدعى فى ظاهر الأمر : أنه عظيم الغلو فى الاعتزال.

الفرقة الثانية : الذين يقولون : المؤثر فى وجود الفعل هو مجموع قدرة الله تعالى وقدرة العبد. ويشبه أن يكون هذا قول «الأستاذ

__________________

(١) انظر تقديمنا لكتاب لباب الاشارات والتنبيهات. ولكتاب القضاء والقدر للرازى. وهو الجزء التاسع من كتابه «المطالب العالية من العلم الالهى» ـ طبعة مستقلة ـ

٣١٩

أبى اسحاق الأسفرائيني» فانه نقل عنه : أنه قال : «قدرة العبد تؤثر بمعين».

الفرقة الثالثة : الذين يقولون : الصلاة والزنا ، يشتركان فى كون كل واحد منهما حركة ، وتمتاز احدى الحركتين عن الأخرى بكون احداهما صلاة ، والأخرى زنا. فاذن الصلاة عبارة عن حركة موصوفة بوصف كونها صلاة ، والزنا عبارة عن حركة موصوفة بوصف كونها زنا. اذا عرفت هذا فنقول : أصل الحركة انما يوجد بقدرة الله تعالى. أما وصف كونها صلاة ، وكونها زنا ، فانما يقع بقدرة العبد. وهذا قول «القاضى أبى بكر ابن الباقلانى».

الفرقة الرابعة : الذين يقولون لا تأثير لقدرة العبد فى الفعل وفى صفة من صفات الفعل ، بل الله تعالى يخلق الفعل ويخلق قدرة متعلقة بذلك الفعل. ولا تأثير لتلك القدرة البتة فى ذلك الفعل. وهذا قول «أبى الحسن الأشعرى».

فهذا كله تفصيل مذاهب القائلين بأن الحيوان غير مستقل بايجاد فعله.

* * *

والقول الثانى : قول من قال : الحيوان مستقل بايجاد فعله. وهو قول جمهور المعتزلة وهم طائفتان :

* * *

الطائفة الأولى : الذين يقولون : نحن نعلم بالضرورة كوننا موجدين لأفعالنا. وهذا القول اختيار «أبى الحسين البصرى».

قال صاحب الكتاب : أنا شديد التعجب منه (٢). انه كيف جمع بين هذا القول ، وبين قوله : «الفعل موقوف على الداعى»؟ فان هذا غلو فى الجبر. وكيف جمع معه الغلو فى القدر؟ وأما «محمود

__________________

(٢) هو شديد التعجب لأنه لم يفهم قصده. فان غرضة بالداعى :

٣٢٠