الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

ذاتا أمر واحد. والا لم يكن هذا التقسيم منحصرا. فثبت بهذه الوجوه : أن الذوات متساوية فى كونها ذوات.

وأما المقدمة الثانية ـ وهى أنه لما كان الأمر كذلك ، وجب أن يكون امتياز بعض الذوات عن بعض بسبب الصفات ـ فذلك لأنه لأنه لا شك أن الله تعالى متميز عن سائر الموجودات. وثبت أن ذاته مساوية لسائر الذوات. وما به الامتياز غير ما به المشاركة ، فوجب أن يكون امتياز ذاته عن سائر الذوات بأمور زائدة على الذات. يكون بالصفة.

لا يقال : لم لا يجوز أن يكون امتياز ذوات المحدثات عن ذاته ، بسبب اختصاص ذوات المحدثات بصفات ثبوتية ، وامتياز ذاته سبحانه عن ذوات المحدثات ، بسبب سلب تلك الصفات عن ذاته؟

لأنا نقول : الذات من حيث انها ذات ، لو كانت مستقلة بنفسها فى التحقق ، غنية عن الصفات ، لزم جواز أن ينقلب ذات السواد بياضا ، وذات البياض سوادا ، وذات الواجب عرضا حالا فى المحل. وبالعكس. وكل ذلك محال. وان لم تكن الذات من حيث انها ذات مستقلة الا مع الصفات ، وجب أن يكون امتياز ذات الحق تعالى عن غيره ، بسبب ثبوت الصفات ، لا بسبب سلب الصفات.

والجواب : لا نسلم أن الذوات متساوية فى كونها ذوات. والوجوه الثلاثة التى عولتم عليها قائمة بعينها فى الصفات ، فيلزمكم أن تكون الصفات متساوية فى كونها صفات ، فيلزمكم أن يكون امتياز بعض الصفات عن بعض بصفات أخرى. ويلزم التسلسل. وأيضا : فالمفهوم من كونها ذوات كونها أمور قائمة بأنفسها. والقيام بالنفس عبارة عن الاستغناء عن المحل. وهو مفهوم سلبى. ولا نزاع فى كون هذا المفهوم السلبى أمرا مشتركا فيه بين الذوات كلها. وانما النزاع فى أن تلك الحقائق

١٤١

المحكوم عليها بهذا القيد السلبى. هل هى متساوية من حيث انها هى؟ ودليلكم لا يفيد ذلك. واعلم : أن الخصوم زعموا : أن الذوات متساوية فى تمام كونها ذوات ، ثم اثبتوا لكل واحد من تلك الذوات صفة لازمة. فحاصل قولهم يرجع الى أن الأشياء المتساوية فى تمام الماهية ، يلزمها لوازم مختلفة. وذلك مما لا يقبله العقل.

أما على ما قلنا فانا زعمنا : أن الذوات والحقائق مختلفة فى أنفسها ، الا أنه يلزمها لازم مشترك ، وهو كونها أمورا قائمة بأنفسها ، غنية عن محال تحل فيها. فحاصل قولنا يرجع الى أن الأشياء المختلفة يلزمها لوازم متساوية. وهذا غير ممتنع فى المعقول. اذ المختلفات متشاركة فى كونها مختلفة ، والمتضادات (٤) متساوية فى كونها متضادة.

__________________

(٤) والحوادث : ب.

١٤٢

المسألة السادسة

فى

أن وجود الله تعالى

هل هو نفس حقيقة أم لا؟

المذاهب الممكنة فى هذه المسألة لا تزيد على ثلاثة :

أحدها : قول من يقول : اطلاق لفظ الموجود على واجب الوجود ، وعلى ممكن الوجود ، ليس بحسب معنى واحد ، بل بحسب مفهومين. وهذا هو قول «أبى الحسن الأشعرى» و «أبى الحسين البصرى» وأتباعهما.

والقول الثانى : هو أن وقوع لفظ الموجود على الواجب ، وعلى الممكن ، بحسب مفهوم واحد ، الا أن ذلك المفهوم غير مقارن لشيء الماهيات ، بل هو وجود مجرد ، وانما يتميز عن سائر الوجودات بقيد سلبى ، وهو أنه غير عارض لشيء من الماهيات. ووجودات الممكنات أوصاف عارضة لماهيات الممكنات. وهذا القول هو اختيار «أبى على بن سينا» فى جميع كتبه.

والقول الثالث : وهو أن وقوع لفظ الموجود على الواجب ، وعلى الممكن ، بحسب مفهوم واحد. وذلك المفهوم صفة عارضة لماهية الحق ـ سبحانه وتعالى وتقدس ـ ولحقيقته المخصوصة. وهو المختار عندنا ، وعند طائفة عظيمة من علماء الأصول.

فأما القول الأول فقد تكلمنا فيه فى مسألة أن المعدوم شيء أم لا؟ فلا نعيده.

١٤٣

وأما القول الثانى الّذي اختاره «أبو على بن سينا» فنقول : انه باطل ويدل عليه وجوه : الأول : ان الوجود من حيث انه وجود ، مفهوم واحد على ما دلت عليه الدلائل ، ووافقنا فيه «أبو على بن سينا»

وأيضا : هذه المسألة متفرعة على هذا القول. فنقول : الوجود من حيث انه وجود اما أن يقتضي أن يكون عارضا الماهية ، أو يقتضي أن لا يكون عارضا لماهية ، أو لا يقتضي لا أن يكون عارضا ولا أن يكون غير عارض ، بل الأمر ان جائزان عليه. فان اقتضى الوجود من حيث انه وجود ، أن يكون عارضا لماهية من الماهيات ، وجب أن يكون وجود واجب الوجود عارضا الماهية من الماهيات. فقوله : أنه وجود مجرد ، غير عارض الشيء من الماهيات : قول باطل. وما ان اقتضى الوجود ، أن يكون غير عارض الشيء من الماهيات ، وجب أن لا يكون شيء من الوجودات عارضا لشيء من الماهيات البتة. فهذه الممكنات اما أن لا تكون موجودة أصلا ، وان كانت موجودة كانت وجوداتها نفس ماهياتها. فيكون لفظ الوجود واقعا على الموجودات بالاشتراك اللفظى ، لا بالاشتراك المعنوى. وقد بينا أن ذلك باطل ، وأن هذا البحث متفرع على أن لفظ الموجود واقع على الواجب والممكن بالاشتراك المعنوى.

وأما ان قلنا : الوجود من حيث انه وجود لا يقتضي أن يكون عارضا لماهية ، ولا أن يكون غير عارض لها. فحينئذ يمتنع أن يصير عارضا أو غير عارض ، الا لسبب منفصل. فوجود واجب الوجود لا يصير مجردا الا بسبب منفصل ، فيكون واجب الوجود لذاته ، واجب الوجود لغيره. وهو محال.

وأيضا : قد عرفت أن الماهيات المتساوية فى تمام تلك الماهية ، كل ما صح على كل واحد منها ، صح على كلها. فاذن كل ما صح

١٤٤

على جميع الموجودات العارضة ، لماهيات الممكنات ، وجب أن يصح على واجب الوجود. وكل ما ثبت لواجب الوجود ، وجب أن يثبت لوجودات جميع الماهيات الممكنات. وكل ذلك باطل قطعا. ولما ثبت بهذا البرهان القطعى (٥) امتنع هذه الأقسام ، ثبت أن القول الّذي اختاره «أبو على بن سينا» قول مردود.

الحجة الثانية على فساد هذا المذهب : انه لو لم تكن للبارى تعالى ماهية وحقيقة ، الا الوجود المقيد بالقيد السلبى ، وهو أنه غير عارض لشيء من الماهيات ، فمبدأ وجودات الممكنات اما أن يكون هو ذلك الوجود لا بشركة من ذلك السلب ، واما أن يكون بشركة من ذلك السلب. فان المبدأ هو ذلك الوجود لا بمشاركة من ذلك السلب ، وجب أن يكون أخس الموجودات مشاركا لذات الحق سبحانه وتعالى فى تلك المبدئية وان كانت المبدئية بمشاركة من ذلك السلب ، كان السلب جزءا من مبدأ الثبوت وذلك محال. اذ لو جاز فى العقل أن يكون العدم جزء العلة الثبوت ، فليتجه أيضا أن يكون تمام علة الثبوت. وحينئذ لا يمكننا أن نستدل بوجود الممكنات على وجود واجب الوجود.

فان قيل : لم لا يجوز أن يكون ذلك الوجود المجرد مستلزما لصفة ، ويكون الوجود مع تلك الصفة مبدءا للممكنات؟

قلنا : التقسيم المذكور عائد فى كيفية استلزام الوجود لتلك الصفة ، وهو أن المؤثر فى ذلك الاستلزام اما الوجود لا بمشاركة ذلك السلب ، أو بمشاركة ذلك السلب. الحجة الثالثة: اتفق الحكماء على أن الوجود بديهى التصور ، والدلائل العقلية ناطقة بذلك. واتفق الحكماء على أن كنه ماهية الحق سبحانه غير معقول للبشر. والبراهين العقلية ناطقة بذلك. واذا كان الوجود معلوم التصور ، وحقيقة الحق

__________________

(٥) القاطع : ب.

١٤٥

سبحانه وتعالى غير معلومة التصور ، وجب أن تكون حقيقة الحق سبحانه غير الوجود.

فان قيل : لم لا يجوز أن يكون المجهول من حقيقة الحق قيوده السلبية؟

قلنا : هذا باطل لأن القيود السلبية معلومة. ولذلك فانا يمكننا أن نعقل أن وجوده غير عارض لشيء من الماهيات أصلا.

واتفقت الفلاسفة على أن المعلوم من الحق سبحانه هو السلوب والاضافات.

الحجة الرابعة : ثبت فى علم «علم المنطق» أن الوجوب والامتناع والامكان كيفيات لنسب المحمولات الى الموضوعات. مثلا : اذا قلنا : «الانسان يجب أن يكون حيوانا» فالانسان هو الموضوع ، والحيوان والحيوان هو المحمول ، وثبوت الحيوان للانسان هو النسبة. وهى المسماة بالرابطة. ثم هذه النسبة موصوفة بالوجوب. وهذا الوجوب كيفية لهذه النسبة. وهذا كلام حق معقول.

اذا عرفت هذا فنقول : اذا قلنا : «يجب أن يكون البارى تعالى موجودا» فالبارى هو الموضوع ، والموجود هو المحمول ، واسناد الموجود الى تلك الحقيقة هو الرابطة. والوجوب كيفية لهذه النسبة والرابطة. واذا كان الأمر كذلك ، لم يصر اثبات وجوب الوجود (٦) فى حق الله تعالى معقولا ، الا اذا قلنا : ان حقيقته مغايرة لوجوده.

الحجة الخامسة : احتج «أبو على بن سينا» على أن وجود الممكنات مغاير لماهياتها بأن قال : «يمكننا أن نعقل هذه

__________________

(٦) اثبات الوجود : ا

١٤٦

الماهيات عند ما نشك فى وجودها ، الى أن يقوم البرهان على كونها موجودة. والمعلوم غير ما هو غير معلوم. فماهياتها مغايرة لوجوداتها. فكذا هاهنا يمكننا أن نعقل أن إله العالم ما هو؟ وموجد الممكنات ما هو؟ حال ما نشك فى وجوده الى أن يثبت بالبرهان كونه موجودا. والمعلوم غير ما هو غير معلوم. فهذا يقتضي أن تكون حقيقته غير وجوده».

واعلم : أنه يمكنه أن يجيب عن هذا الوجه بفرق لطيف.

الحجة السادسة : هاهنا مقدمة سلم «أبو على بن سينا» وأكثر العقلاء صحتها واستقامتها. وهى أن أفراد النوع الأخير كل ما صح على واحد منها ، صح على كلها. وقد بنى «أبو على» على هذه المقدمة فى كتبه الحكمية : مطالب كثيرة.

اذا عرفت هذا ، فنقول : لو كانت حقيقة البارى تعالى هى محض الوجود ، كان كل ما كان من لوازم ذاته ، وجب أن يكون حاصلا لجميع الموجودات. وان كان وجوده أخص الموجودات (٧) وكل ما كان ممتنعا على ذاته ، وجب أن يكون ممتنعا على سائر الموجودات ، وهو يفضى الى التناقض. لأنه كما أن وجود هذه المحدثات للكائنات الفاسدات ، وجود ضعيف سريع الزوال والعدم ، وجب أن يكون وجود الحق سبحانه كذلك ، وكما (٨) أن وجود الحق واجب الدوام ، ممتنع التغير ، وجب أن تكون هذه الموجودات (٩) الحسية كذلك. وذلك يفضى الى التناقض. وكل ذلك باطل.

__________________

(٧) الموجودات :

(٨) ولما : ب

(٩) الوجودات :

١٤٧

واحتج «أبو على بن سينا» على صحة قوله بأن وجود البارى سبحانه وتعالى ، لو كان صفة عارضة لماهيته ، لكان مفتقرا الى تلك الماهية. والمفتقر الى الغير هو الممكن لذاته. فذلك الوجود ممكن لذاته. والممكن لذاته لا بد له من مؤثر. والمؤثر فيه اما تلك الماهية أو غير تلك الماهية. لا جائز أن يكون المؤثر فى ذلك الوجود هو تلك الماهية. لأن المؤثر متقدم بالوجود على الأثر ، فيلزم أن تكون تلك الماهية متقدمة بوجودها ، على وجودها ، وذلك محال.

ولا جائز أن يكون المؤثر فى ذلك الوجود غير تلك الماهية ، لأنه يلزم أن يكون الواجب لذاته مفتقرا فى وجوده الى سبب منفصل. وذلك محال والجواب : كما أن المؤثر متقدم بالوجود على الأثر ، فكذلك القابل متقدم بالوجود على المقبول. ولا نزاع أن وجود الممكنات زائد على ماهياتها ، فيلزم أن تكون تلك الماهيات القابلة لتلك الوجودات متقدمة بوجودها على وجودها. وذلك محال.

فان قلتم : لم لا يجوز أن تكون هذه الماهيات متقدمة على وجوداتها بنفس تلك الماهيات لا بوجود آخر؟

قلنا : فلم لا يجوز أن يكون الحال كذلك فى جانب المؤثر؟

١٤٨

المسألة السابعة

فى

أن الله تعالى ليس بمتحيز

الحجة الأولى : ويدل عليه وجوه. كل متحيز منقسم وكل منقسم ممكن الوجود لذاته. فكان متحيز فهو ممكن الوجود لذاته. وهذا يستلزم أن كل ما لا يكون ممكن الوجود لذاته ، وجب أن لا يكون متحيزا. أما أن كل متحيز فهو منقسم لذاته ، فهذا بناء على نفى الجوهر الفرد. وسيأتى الكلام عليه فى هذه المسألة ، وأما أن كل منقسم لذاته فهو ممكن لذاته ، وذلك لأن كل منقسم فهو مركب ، وكل مركب فهو مفتقر فى تحققه الى تحقق كل واحد من أجزائه ، وكل واحد من أجزاء الشيء غير ذلك الشيء فكل منقسم فهو مفتقر فى تحققه الى غيره ، وكل مفتقر فى تحققه الى غيره ، فهو ممكن لذاته. فثبت : أن كل منقسم فهو ممكن لذاته.

الحجة الثانية : انا ذكرنا فى مسألة حدوث الأجسام : أن كل متحيز فهو محدث. فلو كان البارى تعالى متحيز ، لكان محدثا ، لكنه يمتنع أن يكون محدثا ، فيمتنع أن يكون متحيزا.

الحجة الثالثة : وذكرنا فى مسألة حدوث الأجسام : أن كل متحيز فهو متناهى المقدار ، وكل متناهى المقدار فهو محدث ، ينتج أن كل متحيز فهو محدث. والبارى تعالى ليس بمحدث ، فلا يكون متحيزا.

الحجة الرابعة : ذكرنا فى مسألة اثبات الصانع : أن المتحيزات متساوية فى تمام الماهية ، فلو كان البارى تعالى متحيزا ، لكانت

١٤٩

ماهيته مساويه لسائر الماهيات فى تمام الماهية ، ولو كان كذلك لافتقر فى اختصاصه بصفات الالهية الى مرجح ومخصص. وذلك محال. فالقول بكونه متحيزا محال.

الحجة الخامسة : لو كان جسما ، لكان منقسما. فاما أن يقوم علم واحد وقدرة واحدة بجميع تلك الاجزاء. وهذا محال. لامتناع حاول الصفة الواحدة فى المحال المتعددة ، واما أن يقوم بكل واحد من تلك الأجزاء علم على حدة وقدرة على حدة ، فيكون كل واحد من تلك الأجزاء موصوفا بجميع صفات الالهية ، فكان هذا تصريحا باثبات الآلهة الكثيرة. وذلك محال ـ على ما سيأتى بيانه.

الحجة السادسة : لو كان جسما ومتحيزا ، لكان مساويا الأجسام فى كونه متحيزا وجسما وبعد هذا اما أن يكون مباينا لها فى أمر ذاتى واما أن لا يكون. فان باينها فى أمر ذاتى ، كانت الجسمية التى بها المشاركة ، مغايرة لذلك الأمر الّذي حصلت به المباينة. فكانت ذاته مركبة من جزءين ، بهما قوام حقيقته. وكل ما كان كذلك ، فهو ممكن الوجود لذاته ، فيلزم أن يكون واجب الوجود لذاته ، ممكن الوجود لذاته. هذا خلف. وأما ان لم يبين هذه الأجسام المحدثة فى وصف ذاتى أصلا ، لزم من حدوث هذه الأجسام وقبولها للعفونة والفساد ، أن يكون كل جسم كذلك ـ تعالى الله عنه علوا كبيرا.

الحجة السابعة : لو كان جسما لكان مركبا من الأجزاء. وتلك الأجزاء اما أن تكون متساوية فى الماهية أو مختلفة فى الماهية. فان فان كان الأول فكما صح فى الجزء الفوقانى أن يكون فوق ، صح فى السفلانى أن يكون فوق. فاختصاص كل واحد منهما بما له من

١٥٠

الترتيب والوضع ، يكون أمرا جائزا ومفتقر الى المخصص والمرجح ، فيكون ذلك الجسم ـ لا محالة ـ مفتقرا الى المركب والمؤلف. وما كان كذلك امتنع أن يكون صانعا للعالم. وأما الثانى وهو أن تكون تلك الأجزاء مختلفة بالماهية ، وكل واحد من تلك الأجزاء المفروضة تكون له طبعية واحدة وخاصية واحدة ، فالذى يصح أن يكون ممسوس (١) يمين الجزء الفرد من تلك الأجزاء ، صح أيضا أن يكون مموس يساره. وبالضد. واذا كان كذلك ، كان التفرق على تلك الأجزاء جائزا. واذا كان كذلك ، فتلك الأجزاء قد تركبت واجتمعت ، مع جواز أن تكون متفرقة متباينة. ومتى كان الأمر كذلك ، افتقرت فى تألفها وتركبها الى المؤلف والمركب. وكل ذلك على خالق كل العالم محال.

الحجة الثامنة : انه لو لم تكن الجسمية والتناهى فى المقدار مانعا من الالهية ، لتعذر القدح فى إلهية الشمس والقمر ، لأنه لا سبيل لنا الى القدح فى إلهية كل واحد منهما ، الا لكونه جسما مركبا من الأجزاء متناهيا فى القدر ، فاذا جوزنا كون الاله تعالى جسما متناهيا ، انسد هذا الطريق. فلا يمكننا القدح فى إلهية الشمس والقمر ، ولما كان ذلك باطلا ، علمنا أن القول بأن الاله تعالى جسم : قول باطل.

__________________

(١) محسوس :

١٥١

المسألة الثامنة

فى

أنه تعالى ليس فى مكان ولا فى جهة

أعلم : أن كثيرا ممن يثبت كونه تعالى فى الجهة ، يزعم أن كل موجودين متحيزين (١) فلا بد وأن يكون أحدهما ساريا فى الآخر ، مثل العرض والجوهر ، أو يكون مباينا عن الآخر فى الجهة ، مثل موجودين يكون كل واحد منهما قائما بالنفس. ويدعى أن العلم بأن كل موجودين فلا بد وأن يكونا على أحد هذين القسمين علم ضرورى ، فان العلم بامتناع وجود موجودين ، لا يكون أحدهما ساريا فى الآخر ، ولا مباينا عنه فى الجهة : علم ضرورى بديهى ، لا يقبل الشك واعلم : أنا نحتاج الى أن نبين أن هذه المقدمات (٢) ليست بديهية. والّذي يدل عليه وجوه :

الحجة الأولى : ان العلوم البديهية لا يجوز وقوع الاختلاف فيها للجمع العظيم. فلو كان وقوع هذه المقدمة بديهيا ، لامتنع اطباق الجمع العظيم على انكاره. ونرى جمهور الأذكياء من العقلاء متفقين على بطلان هذه المقدمة ، فان اثبات الجهة لله تعالى ، لم يقل به الا الحنبلة والكرامية. وأما كل من سواهم فهم متفقون على أن ذاته سبحانه وتعالى منزه عن الاختصاص بالحيز والجهة ، نظهر أن هذه المقدمة لبست بديهية.

__________________

(١) موجودين فلا بد : ا

(٢) المقدمة : ب.

١٥٢

الحجة الثانية : ان صريح العقل يشهد بأن زيدا وعمرا وخالدا ، يشتركون فى معنى الانسانية ، ويمتاز كل واحد منهم عن الآخر بطوله وقصره وسواده وبياضه. وما به المشاركة مغاير لما به المباينة. فاذن مفهوم الانسان من حيث انه انسان مغاير للطول والقصر ، ولكونه هنا وهناك ، ولكونه أسود أو أبيض. ثم الانسان من حيث انه انسان ، اما أن يكون له قدر معين وحيز معين ، واما أن لا يكون كذلك. والأول والأول باطل. والا لما كان مشتركا فيه بين الأشخاص ذوات الأحياز المختلفة ، والمقادير المختلفة. فثبت : أن الانسان من حيث انه انسان ليس له قدر معين ولا حيز معين ولا شكل معين. واذا كان كذلك فالتفتيش قد أخرج من المحسوس ما ليس بمحسوس. فكيف يبعد فى خالق كل المحسوسات ، أن يكون منزها عن الشكل والقدر والخير؟

فان قيل : الانسان من حيث انه انسان لا وجود له فى الخارج ، بل فى العقل. ونحن ندعى أن كل موجودين فى الخارج ، فلا بد وأن يكون أحدهما ساريا فى الآخر ، أو مباينا منه فى الجهة. فأين أحد المتباينين عن الآخر؟

قلنا : نحن لا نستدل بهذا الكلام على وجود موجود فى الخارج ، منزه عن المقدار والجهة ، بل غرضنا منه أنه يمكننا أن نعقل أمرا من الأمور ، مع أن العقل لا يثبت له تعالى جهة ولا قدرا. وقد ثبت لنا بهذا الدليل : هذا القدر. واذا لم يكن تصور مثل هذا الموجود مستبعدا فى العقل ، فبعد ذلك ادعاء أن هذا الموجود ، هل هو موجود خارج الذهن أو لا يكون؟ موقوفا على دليل منفصل.

الحجة الثالثة : انا ندرك المبصرات بالقوة الباصرة ، ثم الخيال لا يمكنه أن يتخيل للقوة الباصرة كيفية وشكلا ، بل الخيال يستحضر المتخيلات أشكالا وصورا ، ويعجز عن أن يستحضر لنفسه صورة وشكلا ، فذات الوهم والخيال من أصدق الدلائل على انه لا يجب أن يكون لكل

١٥٣

موجود صورة وشكل ، لأنه لا صورة عند الخيال من نفسه ولا شكل عند الوهم من نفسه.

الحجة الرابعة : ان أجلى (٣) العلوم البديهية الأولية : أن النفى والاثبات لا يجتمعان ولا يرتفعان. وهذا العلم لا بد وأن يكون مسبوقا بتصور معنى النفى والاثبات. فهل يتمكن العقل من أن يقول : ان معنى النفى لا بد وأن يكون ساريا فى معنى الاثبات أو مباينا عنه بالجهة والحيز ، بل هذا الحكم ممتنع لذاته؟ فعلمنا : أن استحضار متصورين فى العقل بحيث لا يكون أحدهما ساريا فى الآخر ، أو مباينا عنه بالجهة أمر جائز.

الحجة الخامسة : ان صريح العقل يشهد بأن كل موجودين يفرضان. فاما أن يكون أحدهما ساريا فى الآخر ، او مباينا عنه فى الجهة ، أو لا سريا فى الآخر ، ولا مباينا عنه بالجهة. وهذا القسم الثالث لا شك أنه حاصل بحسب القسمة العقلية. واذا رجعنا الى أنفسنا لم نجد البتة فى عقولنا نبوة عن اثبات هذا القسم الثالث ، بل نجد العقل متوقفا فيه بالنفى (٤) والاثبات ، طالبا للحجة على الجزم باثباته ، (٥) الجزم بامتناعه. فعلمنا أن امتناع هذا القسم ليس من الأوليات.

الحجة السادسة : ان عقلنا يشير الى ماهيات. مع أنا نعلم بالضرورة : أن ليس لتلك الماهيات أحياز ، ولا جهات. فان ماهيات الأعداد مثل مسمى الواحد ومسمى الاثنين ، وكذا مسمى مراتب الأعداد ، أمور يدركها العقل. ولا يمكنه أن يحكم على ماهية الواحد من حيث انه واحد ، بأن مكانه هو موضع كذا ومقداره هو مقدار كذا ، بل يعقل العقل هذه الماهيات ، ولا يعتبر معها البتة لا مقدارا ،

__________________

(٣) آجل : ا

(٤) بين : ب

(٥) أو : ا

١٥٤

ولا شكلا ، ولا مكانا ، ولا حيزا. فثبت بمجموع هذه الوجوه : أن أن العقل من حيث انه هو ، لا يستبعد تصور معقول حال ما لا يعتبر له مكانا ولا جهة ولا قدرا ولا شكلا. فثبت: أن العلم بما تناع هذا الموجود ليس من العلوم البديهية.

المقدمة الثانية : ان مرادنا بقولنا : ان الشيء الفلانى مختص بالمكان والجهة ، أنه يمكن أن يشار إليه اشارة حسية بأنه هنا أو هناك. ولا شك أن العالم فى المكان والجهة بهذا التفسير ، فلو كان البارى تعالى مختصا بالمكان والجهة بهذا التفسير ، لم يخل الحال من أحد أمرين. وهو اما أن يكون البارى تعالى مماسا للعالم ، أو محاذيا له. فأما أن يكون البارى تعالى مشارا إليه بحسب الحس بأنه هنا أو هناك ، مع أنه لا يكون مماسا للعالم ولا محاذيا له فهذا غير معقول.

المقدمة الثالثة : ذهب السواد الأعظم من العقلاء الى أنه تعالى منزه فى وجوده عن المكان والحيز والجهة : وقالت «الكرامية» : انه مختص بجهة فوق. وهذا القول بحسب القسمة العقلية يحتمل ثلاثة أوجه :

أحدها : أن يقال : انه مماس للعرش.

وثانيها : انه مباين للعرش ببعد متناه ، وأكثر طوائف «الكرامية» قائلون بأحد هذين القولين.

وثالثها : أن يقال : انه تعالى مباين للعرش ببعد لا نهاية له. وهذا هو قول «الهيضمية» واعلم : أن هذا القول اما أن يكون نفيا لكونه تعالى فى الجهة ، أو يكون قولا غير معقول. وذلك لأنه اذا كان العالم فى أحد الجانبين ، وذات البارى تعالى فى الجانب الآخر ، كان البعد بينهما محصورا. والقول بأن ما لا نهاية له محصور بين حاصرين ، لا يقوله من يفهم معانى هذه الألفاظ.

١٥٥

واذ قد لخصنا هذه المقدمات. فلنرجع الى ذكر الدلائل :

الحجة الأولى : كل ما كان فى جهة فاما أن يكون غير محتمل للقسمة ، واما أن يكون محتملا للقسمة. فان لم يكن محتملا للقسمة ، مع أنه مشار إليه بحسب الحس ، كان فى الصغر والحقرة كالجوهر الفرد. والخصوم وافقوا على أنه يجب تنزيه الله تعالى عن هذه الصفة. وأما ان كان مشارا إليه مع أنه محتمل للقسمة ، كان جسما مركبا من الأجزاء والأبعاض. وحينئذ يرجع الكلام الى المسألة الأولى ولهذا اسر اتفق أصحابنا على أن كل من أثبت الله تعالى فى الحيز والجهة ، لا بد وأن يعترف بكونه مركبا من الأجزاء والأبعاض.

واعلم : أن أصحابنا عبروا عن هذه الدلالة بأن قالوا : او كان فى جهة فوق ، لكان اما أن يكون أكبر من العرش ، أو مساويا له. أو اصغر منه. فان كان أكبر من العرش كان القدر المساوى منه العرش ، مغايرا للقدر الفاضل منه من العرش. فيكون مركبا من الأجزاء والأبعاض ، وان كان مساويا للعرش ـ وثبت أن العرش منقسم من الأجزاء والأبعاض ـ كان المساوى له فى المقدار منقسما ، مركبا من الأجزاء والأبعاض. وان كان أصغر من العرش ، فاما أن يكون قد بلغ فى الصغر الى أن كان مساويا للجوهر الفرد ، والجزء الّذي لا يتجزأ ، فيكون فى غاية الصغر والحقارة ـ وجل ربنا عن ذلك باتفاق العقلاء ـ واما أن يكون أكبر من الجوهر الفرد ، ويعود القول بالتركيب والقسمة.

واعلم : أن على قول من يقول : كل متحيز فهو قابل للقسمة أبدا ، لا نحتج الى ذكر هذا التقسيم ، بل نقول : كل ما كان مشار إليه بحسب الحس ، فانه لا بد وأن يتميز يمينه عن يساره وقدامه عن ورائه وفوقه عن تحته ، فيكون منقسما مركبا من الأجزاء وإلا بعض وذلك مما بينا امتناعه فى المسألة السابقة.

١٥٦

الحجة الثانية : كل ما كان مشارا إليه بحسب الحس ، فانه لا بد وأن يتميز يمينه عن يساره. فهو متناه من جميع الجوانب. وكل ما كان متناهيا من جميع الجوانب ، فهو محدث. وانما قلنا : ان كل ما كان مشار إليه بحسب الحس فهو متناه من جميع الجوانب لوجهين :

الأول : البرهان المذكور وفى مسألة حدوث الأجسام على تناهى الأبعاد. وذلك هو العمدة القوية التى لا ريب فيها.

الثانى : انه تعالى لو كان غير متناه ، لكان اما أن يكون غير متناه من جميع الجوانب ، أو بعض الجوانب. لا جائز أن يكون غير متناه من جميع الجوانب. لأن على هذا التقدير ، يلزم أن يكون العالم ساريا فى ذات الله تعالى وحالا فيه. ويلزم : أن تكون ذاته مخالطة للقذورات ـ تعالى الله عن هذا المقال ، وعن هذا الوهم والخيال ـ ولا جائز أن يقال : انه غير متناه من بعض الجهات دون البعض. وذلك لأن الجانب المتناهى من ذاته ، اما أن يكون مساويا للجانب الآخر ـ الّذي هو غير متناه فى الحقيقة والماهية ـ واما أن لا يكونا متساويين. فان كان الأول فكل شيئين متساويين من جميع الوجوه ، فكل ما يصح على أحدهما يصح على الآخر ، فيلزم ان يقال : الجانب الّذي هو غير متناه ، يصح أن ينقلب متناهيا ، والجانب الّذي هو متناه يصح أن ينقلب غير متناه فيكون الفصل والوصل والتركيب والتفرق جائزا على ذات الله تعالى ، فيفتقر ذلك التأليف الى مؤلف ، وذلك التركيب الى مركب. وذلك على خالق العالم محال ممتنع. واما ان كان الجانب المتناهى مخالفا فى الماهية للجانب الّذي هو غير متناه ، فكل ذات كانت مركبة من اجزاء مختلفة فى الماهية والطبيعة ، فلا بد وأن ينتهى فى ذلك التركيب الى أجزاء يكون كل واحد منها فى نفسه بسيطا خاليا من التركيب فالجزء الواحد من تلك الاجزاء البسيطة لا بد وأن يماس بيمينه شيئا ، وبيساره شيئا آخر

١٥٧

ذلك الّذي ماسه بيمينه يمكن أن يماسه بيساره ، وبالضد. واذا كان ذلك جائزا كان التفرق على تلك الاجزاء جائزا. فحينئذ يكون التأليف والتركيب والتفرق جائزا على تلك الأجزاء ومتى كان الأمر كذلك ، افتقر تأليفها وتركيبها الى مؤلف ومركب. وكل ذلك محال.

نثبت بما ذكرنا : أنه تعالى لو كان مشارا إليه بحسب الحس ، لكان متناهيا من جميع الجوانب. ونقول : انه متى كان كذلك ، وجب أن يكون محدثا. وذلك لأن كل ما كان متناهيا من جميع الجوانب ، كان وجوده أزيد مما وجد ، أو أنقص مما وجد ـ جائزا ـ واذا كان كذلك ، كان اختصاصه بذلك القدر المعين من الجائزات ، مفتقرا الى مخصص ومقدر. وذلك على خالق العالم محال.

وأيضا اذا كان متناهيا من كل الجوانب ، لم يكن فوق كل الموجودات. لأن فوقه أمكنة خالية عنه. فلم يكن فوق لكل. والخصم ينكر ذلك ولا يرضاه. فثبت : أن كونه تعالى مشارا إليه بحسب الحس : محال.

الحجة الثالثة : لو كان ذاته مختصا بمكان وجهة ، لكان اما أن يصح عليه أن يخرج منها ، أو لا يصح. فان صح لزم كونه محلا للحركة والسكون. وكل ما كان كذلك كان محدثا ـ على ما بيناه فى مسألة حدوث الأجسام ـ وان تعذر عليه الخروج منها ، كان كالزمن المقعد العاجز عن الحركة. وذلك صفة نقص. وهو على الله تعالى محال.

الحجة الرابعة : وهو انه تعالى لو كان فى مكان وجهة. فهذا المكان الّذي حكم الخصم بأنه تعالى فيه اما أن يكون موجودا ، أو معدوما. فان كان موجودا فالبارى تعالى مختص بالمكان والجهة من الأزل الى الأبد ، فحينئذ كان ذلك المكان موجودا مع الله فى الأزل. وهو محال. لان ذلك المكان لما كان موجودا ، وكان قابلا للقسمة ، كان ذلك عين الجسم فكان هذا قولا بقدم الأجسام.

١٥٨

وأيضا : المكان لا يفتقر فى وجوده الى المتمكن. لأن الخلاء جائز بالاتفاق ، وأما البارى تعالى فانه عند الخصم يمتنع وجوده فى غير الحيز والجهة. فعلى هذا يكون البارى تعالى مفتقرا فى وجوده وتحققه الى وجود المكان ، ووجود المكان غنيا عنه ، فكان تعالى على هذا التقدير ممكنا لذاته ، مفتقرا الى غيره. وكان المكان واجبا لذاته غنيا عن غيره ، فكان المكان أولى بأن يكون هو الاله ـ سبحانه وتعالى ـ والاله أولى بأن يكون العبد. وكل ذلك ساقط من القول.

وأما : ان قيل : بأن المكان الّذي حكم الخصم بكونه تعالى حالا فيه ، معدوم صرف ونفى محض. فهذا محال من القول. لأن النفى المحض والعدم الصرف لا تخصص له ولا تعين له ، وما كان كذلك استحال القول بحصول الموجود فيه فثبت : أن القول بحصول البارى تعالى فى المكان محال.

فان قيل : فهذا الاشكال بعينه وارد فى كون الجسم فى المكان.

قلنا : المراد بكون الجسم فى المكان كونه بحيث يمكن الاشارة الى كل واحد من جوانبه بأنه غير الآخر ، وبأنه متصل به ومماس له. ويرجع حاصل كونه فى المكان والجهة الى مقداره واتصال بعض أجزائه بالبعض. فان أردتم بقولكم : «الله تعالى فى المكان» : هذا المعنى. كان هذا تصريحا بكونه تعالى مركبا من الاجزاء والأبعاض. وحينئذ يرجع الكلام الى المسألة الأولى.

الحجة الخامسة : الأحياز والجهات اما ن تكون متساوية فى الماهية ، أو مختلفة فى الماهية. فان كان الأول لزم من صحة اختصاص البارى تعالى ببعض الأحياز ، صحة اختصاصه بسائر الأحياز ، بدلا عن ذلك الحيز ، واذا كان حصوله فى كل واحد منها بدلا عن الآخر ،

١٥٩

أمرا جائزا ، كان حصوله فى بعض تلك الاحياز امرا جائزا ـ فيفتقر ذلك الاختصاص الى المخصص وهو على القديم محال. وأما ان قلنا بأن الاحياز مختلفة فى الماهية والحقيقة ، فلعل خاصية بعض تلك الاحياز ، اقتضى حصول ذات الله تعالى فيه ، وخاصية بعضها اقتضى امتناع حصول ذات الله فيه.

فنقول : هذه الأحياز أشياء متباينة بالعدد ومتباينة بالماهية ، ولكل واحد منها خاصية معينة وصفة معينة. فهى اشياء موجودة قائمة بأنفسها ، موجودة فى الأزل. فاذا كانت هذه الأحياز غير متناهية ، كان قد وجد مع الله تعالى فى الأزل : موجودات قائمة بالنفس ، غير متناهية. وذلك لا يرتضيه المسلم (٦) فثبت : أن القول بأن الله تعالى فى الجهة محال.

الحجة السادسة : العالم كره. واذا كان كذلك ، وجب أن لا يكون فى الجهة أصلا. انما قلنا : ان العالم كرة. وذلك لأنا اذ ارصدنا كسوفا قمريا. فاذا وجدناه فى البلاد الشرقية فى أول الليل ، وجدناه فى البلاد الغربية فى الآخر الليل. فعلمنا : أن أول الليل فى المشرق ، هو آخر الليل بعينه فى المغرب. وذلك يدل على أن العالم كرة.

اذا ثبت هذا فنقول : الجهة التى فوق رأسنا ، هى بعينها أسفل لأولئك الذين يكونون على ذلك الوجه الآخر من الأرض. فلو كان تعالى فوقا لنا ، لكان أسفل بالنسبة الى سكان ذلك الجانب الآخر من الأرض. ولو كان فوقا لهم ، لكان أسفل بالنسبة إلينا. فثبت : أنه لو كان فى جهة لوجب أن يكون أسفل بالنسبة الى بعض الجوانب. ولما كان ذلك باطلا ، ثبت : أنه يمتنع كونه تعالى فى المكان والجهة.

احتج الخصم بالعقل والنقل.

__________________

(٦) الخصم المسلم : ب.

١٦٠