الأربعين في أصول الدين - ج ١

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]

الأربعين في أصول الدين - ج ١

المؤلف:

محمّد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري [ فخر الدين الرازي ]


المحقق: الدكتور أحمد حجازي السقا
الموضوع : العقائد والكلام
الناشر: مكتبة الكليّات الأزهريّة
المطبعة: مطبعة دار التضامن
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥٤
الجزء ١ الجزء ٢

الخوارزمى» فانه لما أراد الجمع بين هذين القولين ، قال : «الفعل مع الداعى يصير أولى بالوقوع ، ولا ينتهى الى حد الوجوب» وسنبين أن هذا القدر ضعيف (٣).

الطائفة الثانية : الذين يقولون : ان علمنا بكوننا موجدين لأفعالنا ، علم استدلالى. وهذا مذهب جمهور مشايخ المعتزلة.

فهذا تفصيل مذاهب الناس فى هذه المسألة.

* * *

ولنا : دلائل :

الحجة الأولى : ان العبد حال ما رجح الفعل. هل يصح منه ترجيح الترك بدلا عن الفعل ، أو لا يصح؟ فان كان حال كونه مصدرا للفعل ، لا يصح منه الترك. وحال كونه مصدرا للترك ، لا يصح منه الفعل ، فحينئذ العبد غير مستقل لا بالفعل ولا بالترك. وذلك هو المطلوب. واما ان صح منه الترك بدلا عن الفعل ، فترجيح أحد الطرفين على الآخر ، اما أن يتوقف على مرجح أو لا يتوقف. فان توقف على مرجح ، فذلك المرجح اما أن يكون من العبد ، أو من الله تعالى ، أو لا من العبد ولا من الله. فان كان من العبد عاد التقسيم الأول. ويلزم التسلسل. وان كان من الله تعالى. فنقول : عند حصول ذلك المرجح ، قد صار الفعل راجحا على الترك. ونقول : ذلك الرجحان اما أن يقال : انه انتهى الى حد الوجوب ، أو ما انتهى الى حد الوجوب. فان كان الأول هو الحق ، لزم الجبر ، لأنه على

__________________

ـ هو الحاجة التى يهواها الانسان ويريدها. أو يكون ملجأ إليها كالهارب من السبع اذا ظهر له طريقان. والجائع اذا خير بين رغيفين. فان الجوع أو الهرب يدعوه الى اختيار أحدهما.

(٣) هذا فى حالة الاختيار. وأما فى حالة الاضطرار كالهارب من السبع فانه ينتهى الى حد الوجوب.

٣٢١

تقدير حصول ذلك المرجح ، صار الفعل واجب الوقوع ، وعلى تقدير أن لا يحصل ، كان الفعل ممتنع الوقوع. وان كان الثانى ، هو الحق ، وهو أنه ما انتهى الى حد الوجوب. فنقول : اذا كان الأمر كذلك ، كان عند حصول ذلك المرجح ، لا يمتنع حصول ذلك الفعل تارة وعدم حصوله أخرى. وكل ما كان ممكنا لا يلزم من فرض وقوعه محال.

فلنفرضه تارة واقعا ، وأخرى غير واقع. فاختصاص أحد الوقتين بالوقوع ، والثانى بعدم الوقوع. اما أن يتوقف على انضمام قيد زائد إليه ، أو لا يتوقف. فان توقف لم يكن الّذي حصل أو لا ، تمام المرجح ، لأنه كان لا بد معه من هذا القيد. لكنا كنا فرضنا ما حصل أو لا ، تمام المرجح. هذا خلف.

وأيضا : فانه يعود التقسيم فى المجموع الحاصل من المرجح الأول ، ومن هذا القيد. فان لم يصر الرجحان واجبا ، افتقر الى مرجح آخر ، ولزم التسلسل. وهو محال. وان وجب ، عاد ما ذكرناه من لزوم الجبر. وأما ان كان اختصاص أحد الوقتين بالوقوع ، لا يتوقف على انضمام قيد زائد الى ما كان حاصلا أولا ، مع أن نسبة ذلك المرجح الّذي كان حاصلا أولا ، الى وقتى الوقوع واللاوقوع على السوية ، لزم رجحان أحد طرفى الممكن المتساوى على الآخر من غير مرجح. وهو محال. وأما القسم الثالث : وهو أن يحدث ذلك المرجح. لا من العبد ولا من الله تعالى. فهذا يقتضي حدوث الحادثات لا عن محدث. وتجويزه يبطل القول بالاستدلال بحدوث الحوادث على وجود الله تعالى. وهذا باطل.

هذا كله اذا قلنا بأن العبد حال كونه مصدرا للفعل ، يصح منه الترك بدلا عن الفعل ، الا أن هذا الرجحان يتوقف على مرجح. أما اذا قلنا : انه لا يتوقف على المرجح ، فحينئذ قد حصل الرجحان لا عن

٣٢٢

مؤثر. وتجويزه يبطل القول بافتقار الجائزات الى المؤثر والمرجح ، ويلزم منه نفى الصانع. وأيضا : فبتقدير أن يكون الأمر كذلك ، وجب أن يكون ذلك الرجحان واقعا بالاتفاق ، بمعنى أنه يكون واقعا لا لأمر صدر عن الفاعل. وهذا أيضا يقتضي الجبر ، لأنه اذا وقع ذلك الاتفاق ، حصل الفعل سواء أراد أو لم يرد. واذا لم يقع لم يحصل الفعل ، سواء أراد أو لم يرد. فيكون الجبر لازما أيضا على هذا التقدير.

اذا عرفت هذا فنقول : ثبت أن العبد حال كونه مصدرا للفعل. ان صح منه الترك. فاما أن يتوقف ذلك الترجيح على المرجح ، أو لا يتوقف. وثبت أن القسمين باطلان ، فثبت أن العبد حال كونه مصدرا للفعل ، يمتنع منه الترك. وحال كونه مصدرا للترك ، يمتنع منه الفعل.

فان قيل : هذا الّذي ذكرتم فى الشاهد ، يلزمكم مثله فى الغائب. فوجب أن يكون البارى تعالى علة موجبة بالذات ، لا فاعلا بالاختيار.

قلنا : الفرق بين الشاهد والغائب : أن صدور الفعل عن القادر موقوف على الإرادة. وهذه الإرادة فى الشاهد محدثة ، فافتقرت الى محدث. فان كان ذلك المحدث هو العبد ، لزم التسلسل. وهو محال. فوجب القول بانتهاء الارادات الى إرادة ضرورية ، يخلقها الله تعالى فى العبد (٤) ابتداء. وعند هذا يصير الجبر لازما. أما إرادة الله تعالى فهى قديمة عندنا ، فاستغنت تلك الإرادة لأجل قدمها عن إرادة أخرى. فظهر الفرق بين الصورتين.

الحجة الثانية : لو كان العبد موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل أفعاله. وهو غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه ، فوجب أن لا يكون موجدا لها. بيان الملازمة : انه لكونه قادرا يصح منه وقوع

__________________

(٤) فى القلب : ب

٣٢٣

ذلك الفعل بذلك المقدار ، ويصح وقوعه أزيد منه أو أنقص منه. فوقوع ذلك المقدار دون ما هو أزيد منه ، أو دون ما هو أنقص منه ، لا يكون الا لأجل القصد والاختيار. والقصد والاختيار مشروط بالعلم ، لأن القصد الى ايجاد العشرة فوق الخمسة ، ودون العشرين ، لا يتأتى الا مع العلم بأنه عشرة ، وليس بخمسة ، وليس بعشرين.

فثبت : أن العبد لو كان موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل أفعال نفسه. وهذا هو معنى قوله سبحانه وتعالى : (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ؟ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك ١٤)

أحدها : ان النائم والمغمى عليه قد ينقلب من أحد جنبيه الى وانما قلنا : ان العبد غير عالم بتفاصيل أفعال نفسه لوجوه :

الجنب الآخر ، مع أنه ليس له من كمية تلك الأفعال ولا كيفيتها خبر البتة.

والثانى : ان أكثر المتكلمين متوافقون فى اثبات الجوهر الفرد ، ومتى ثبت القول بالجوهر الفرد ، كان التفاوت بين الحركات فى البطء والسرعة ، لأجل تخلل السكنات فيما بين الحركات. وسيأتى البرهان على ذلك فى تقرير مسألة الجوهر الفرد.

واذا ثبت هذا فنقول : النملة اذا تحركت بحركة بطيئة ، فذاك لأنها تحركت فى بعض الأحياز وسكنت فى بعضها. ومعلوم أنه ليس عند النملة خبر من كمية عدد تلك الأحياز ، وليس عندها خبر من أنها سكنت هاهنا ، وتحركت هناك ، والحال فى الآدمى الّذي هو أعقل الحيوانات كذلك ، فانه اذا مشى فلا شك أن مشيه أبطأ من حركة الفلك. وذلك لأنه سكن فى بعض الأحياز ، وتحرك فى بعضها. وهذا الّذي هو أعقل الخلق ، لو أراد أن يعرف أنه أين سكن؟ واين تحرك؟ لم يعرف. فعلمنا : أن العبد غير عالم بتفاصيل أحوال فعله.

٣٢٤

الثالث : ان مذهب «أبى على» و «أبى هاشم» : أن الجسم. اذا تحرك ، فهناك ثلاثة أمور : الجسم ، والمتحركية ، والحركة. وهذه الحركة معنى توجب المتحركية. وتأثير قدرة العبد ليس فى نفس المتحركية ، بل فى هذا المعنى الّذي يوجب تلك المتحركية. ومعلوم أن أكثر العقلاء غافلون عن هذا الثالث. ولا يخطر ببالهم ، ولا يدور فى خيالهم تصور هذا الثالث. واذا ثبت كونهم غافلين عن ماهيته ، استحال منهم القصد الى ايجاده وتكوينه. فان ما لا يكون متصورا عند الذهن ، امتنع القصد الى ايجاده. وهذا الوجه الثانى والثالث مختص بمشايخ المعتزلة. فأما «أبو الحسين» فانه متوقف فى الجوهر الفرد ، وناف لهذا المعنى الثالث. فلا يلزمه ذلك.

الرابع : ان من حرك اصبعه. فلا شك أن ذلك الاصبع مركب من الأجزاء. وقامت بكل واحدة منها حركة على حدة. فاذا لزم فيمن يوجد الشيء أن يكون عالما بتفاصيله من الكمية والكيفية ، وجب فى محرك هذا الاصبع أن يكون عالما بأن أجزاء هذا الاصبع. كم هى؟ حتى يمكنه القصد الى ايجاد الحركة فى كل واحد من تلك الأجزاء ، ويكون عالما بعدد الأحياز الواقعة من مبدأ الحركة الى منتهاها ، حتى يمكنه القصد الى ايجاد الحركات فى تلك الأحياز ، ولما لم يكن شيء من هذه الأحوال معلوما ، علمنا : أن العبد غير عالم بتفاصيل افعال نفسه.

واذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنه لو كان موجدا لأفعال نفسه ، لكان عالما بتفاصيل تلك الأفعال ، وظهر أنه غير عالم بتفاصيلها ، فوجب القطع بأن العبد غير موجد لها.

الحجة الثالثة : على أن العبد غير موجد لأفعال نفسه : هو ان ذاته سبحانه وتعالى مستلزمة للقادرية. اما لنفس ذاته عند من يقول : انه تعالى قادر لذاته ، أو بواسطة كونها مستلزمة لمعنى ، وذلك المعنى

٣٢٥

يستلزم القادرية ـ عند من يقول : انه تعالى قادر لمعنى ـ وعلى التقديرين فان نسبة ذاته الى جميع الممكنات على السوية. فيلزم أن يكون الله تعالى قادرا على جميع الممكنات ، وأن يكون تعالى قادرا على جميع المقدورات ، وعلى مقدورات العباد.

اذا ثبت هذا فنقول : ذلك المقدور اما أن يقع بمجموع القدرتين ـ أعنى قدرة الله وقدرة العبد ـ واما أن لا يقع بواحدة منهما ، واما أن يقع باحدى القدرتين دون الأخرى. وهذه الأقسام الثلاثة باطلة ، بعين الدليل الّذي ذكرناه فى مسألة التوحيد ، فوجب أن لا يكون العبد قادرا على الايجاد والتكوين.

الحجة الرابعة : لو كانت قدرة العبد صالحة للايجاد ، فاذا أراد الله تعالى تسكين جسم ، وقدرنا أن العبد أراد تحريكه. فاما أن يقع المرادان. وهو محال. أو لا يقع واحد منهما. وهو أيضا محال ـ على ما بيناه فى مسألة التوحيد ـ لأنه خروج عن النقيضين. أو يقع مراد الله تعالى دون مراد العبد (٥) وهو أيضا محال. لأن وقوع أحدهما ليس أولى من وقوع الآخر ، لأن الله تعالى ، وان كان قادرا على ما لا نهاية له ، والعبد ليس كذلك. الا أن ذلك لا يوجب التفاوت بين قدرة الله تعالى وقدرة العبد ، فى هذه الصورة. لأن الحركة الواحدة والسكون الواحد ماهية غير قابلة للقسمة والتفاوت بوجه من الوجوه. واذا كان المقدور غير قابل للتفاوت ، لم تكن القدرة على مثل هذا المقدور قابلة للتفاوت ، فيمتنع أن تكون قدرة الله على ايجاد هذه الحركة أقوى من قدرة العبد على ايجاد السكون ، بل الله تعالى قادر على سائر المقدورات ، والعبد غير قادر عليها. لكن ذلك التفاوت لا يوجب التفاوت فى القدرة على تلك الحركة ، والقدرة على هذا السكون.

__________________

(٥) أو يقع أحدهما دون الآخر : ب

٣٢٦

واذا ثبت أن قدرة الله تعالى على ايجاد هذه الحركة المعينة لا يمكن أن تكون أقوى من قدرة العبد على ايجاد هذا السكون ، استحال أن يقال : ان مقدور الله تعالى أولى بالوقوع من مقدور العبد ، وثبت أن التفاوت الحاصل بسبب أن قدرة الله تعالى متعلقة بما لا نهاية له وقدرة العبد متعلقة بالمتناهى ، لا يقدح فى ذلك التساوى. فثبت : أن بتقدير أن تكون قدرة العبد صالحة للايجاد ، يلزم أحد هذه الأقسام الثلاثة. وثبت : أن كل واحد منها باطل ، فلزم القطع بأن قدرة العبد غير صالحة للايجاد.

الحجة الخامسة : ان الفعل الاختيارى لا يقع منه ، الا ما تعلق به القصد والاختيار. والكافر لا يقصد ولا يختار احداث الجهل ، بل لا يقصد الا العلم والصدق ، فكان يجب أن لا يحصل له الا العلم والصدق. ولما قصد العلم وحصل له الجهل ، علمنا : أن وقوعه ليس بايقاعه بل بايقاع غيره.

فان قيل : انما حصل ذلك الجهل ، لأنه ظن أنه علم ، فلا جرم قصد ايقاعه.

قلنا : فهو انما اختار الجهل بسبب أنه كان ذلك الجهل المتقدم حاصلا له. فان كان القول فيه كما فى الأول ، لزم أن يكون كل جهل مسبوقا بجهل آخر ، لا الى بداية وذلك محال. فاذن لا بد من انتهاء هذه الجهالات الى جهل أول ، غير مسبوق بجهل آخر. وذلك الجهل الأول يستحيل أن يكون بسبب أن الانسان اختاره. لأن الإنسان لا يختار ذلك البتة. فثبت : أن ذلك الجهل الأول انما حصل بايجاد الله تعالى وتخليقه ، وسائر الجهالات تفرعت عليه. فكان الكل مستندا بالحقيقة الى تخليق الله تعالى وتكوينه.

وأما المعتزلة. فكلامهم فى هذا الباب فى غاية الكثرة والبسط ،

٣٢٧

الا أنه يرجع الكل الى حرف واحد ، وهو أنه لو لا الاستقلال بالفعل ، لكان الأمر والنهى والمدح والذم والثواب والعقاب : باطلا.

والجواب : ان هذا السؤال لازم عليكم أيضا ، من ستة أوجه :

الأول ـ هو أن العلم بعدم الايمان ووجود الايمان ، متضادان متنافيان لذاتيهما ، كما أن الحركة والسكون متنافيان متضادان لذاتيهما. وذلك لأن العلم بعدم الايمان لا يكون علما ، الا مع عدم الايمان ، وعدم الايمان ووجوده متنافيان ، فوجب القول بأن العلم بعدم الايمان. مناف ومضاد لوجود الايمان ، وكما أن الأمر بالجمع بين الحركة والسكون ، أمر بايجاد ما يمتنع وجوده ، فكذلك الأمر بالايمان ، مع قيام العلم بعدم الايمان أمر بالجمع بين الضدين.

اذا عرفت هذا ، فنقول : انه تعالى كان عالما من الأزل الى الأبد ، بأن «أبا لهب» لا يؤمن. ثم انه كان يأمره بالايمان ، فكان هذا أمرا بالجمع بين النقيضين. وهو محال. فالقول بتكليف ما لا يطاق لازم عليه فى مسألة العلم ، كما أنه لازم علينا فى مسألة خلق الأفعال.

ولو أن جملة العقلاء اجتمعوا وأرادوا ، أن يوردوا على هذا الكلام حرفا ، لم يقدروا عليه. الا أن يلتزموا مذهب «هشام بن الحكم» وهو أنه تعالى لا يعلم الأشياء قبل وقوعها ، لا بالوجود ولا بالعدم. الا أن أكثر (٦) المعتزلة يكفرون من يقول بهذا القول. والله أعلم.

الوجه الثانى فى الالزام : انه تعالى قال : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا ، سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) [البقرة ٦] ، فأولئك الذين أخبر الله عنهم بهذا الخبر ، لو آمنوا لانقلب هذا الخبر كذبا ،

__________________

(٦) أكثر : ب ـ والمعتزلة يكفرون بناء على تغير العلم المستلزم قيام الحوادث بالذات. لكن اذا فسرت قوله تعالى (فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ) على معنى أن الله يكلم الناس على قدر عقولهم فان المعتزلة لا يكفرون على هذا التفسير.

٣٢٨

والكذب على الله تعالى محال. والمفضى الى المحال محال. فكان صدور الايمان عنهم محالا ، مع أن الله تعالى كان يأمرهم بالايمان.

الوجه الثالث : انه تعالى كلف «أبا لهب» بالايمان. ومن جملة الايمان تصديق الله تعالى فى كل ما أخبر عنه. ومما أخبر عنه : أن «أبا لهب» لا يؤمن. فقد صار «أبو لهب» مكلفا بأن يؤمن ، بأنه لا يؤمن. وهذا تكليف بالجمع بين النقيضين.

الوجه الرابع : هو ان توجه التكليف على العبد. اما أن يكون حال استواء الداعى الى الفعل أو الترك ، أو حال رجحان أحد الداعيين على الآخر. أما الأول فهو تكليف بما لا يطاق. لأن الاستواء والرجحان متناقضان ، فلو كلف حال الاستواء بالترجيح ، لكان قد وقع التكليف بالجمع بين النقيضين. وأما الثانى فهو أيضا تكليف بما لا يطاق ، لأنه ان كلف بالراجح ، فالراجح واجب الوقوع ـ على ما بيناه ـ وما كان واجب الوقوع لنفسه ، استحال أن يكون وقوعه بايقاع موقع منفصل ، فكان أمره بايقاعه ، أمرا له بما ليس فى وسعه ، وان كلف بالمرجوح فالمرجوح ممتنع الوقوع ، فكان هذا أمرا بايقاع ما يكون ممتنع الوقوع. والله أعلم.

فان قيل : لم لا يجوز أن يقال : انه حال استواء الداعيين ، يكون مأمورا بالترجيح لا فى هذه الحالة التى هى حالة الاستواء ، بل فى الحالة الثانية منهما؟ قلنا : اذا توجه عليه هذا التكليف فى حال الاستواء. فاما أن يؤمر حال الاستواء بأن يحصل الترجيح فى هذه الحالة التى هى حال الاستواء ، فيكون هذا جمعا بين النقيضين. واما أن يقال : انه فى هذه الحالة مأمور بأن يوقع الترجيح فى الحالة الثانية من هذه الحالة. ونقول : هذا القسم أيضا ينقسم الى قسمين. وذلك لأنه اما أن يكون المراد منه : أنه حال الاستواء أعلمه أنه اذا

٣٢٩

جاءت الحالة الثانية ، فهو فى تلك الحالة الثانية مأمور بايقاع الترجيح ، لكن على هذا التقدير لا تكليف عليه فى حال الاستواء ، بل أعلمه أنه فى الحالة الثانية سيصير مكلفا. واذا كان كذلك فنحن نقول : عند مجىء الحالة الثانية ، اما أن يكون الحال حال الاستواء ، أو حال الترجيح. ويعود الاشكال المذكور ، واما أن يكون المراد منه : أنه فى حالة الاستواء مأمور فى هذه الحالة ، بأن يوقع الرجحان فى الحالة الثانية.

لكن على هذا التقدير يتوجه تكليف ما لا يطاق. لأن ايقاع الرجحان فى الزمان الثانى ، مشروط بحصول الزمان الثانى. وحصول الزمان الثانى فى الزمان الأول محال ، فكان ايقاع الترجيح فى الزمان الثانى عند حصول الزمان الأول ، موقوفا على شرط محال ، والموقوف على المحال محال. فقول القائل : انه كلف حال الاستواء بأن يوقع الترجيح فى الزمان الثانى : يكون تكليفا بما لا يطاق.

الوجه الخامس : أن نقول : ان شيئا من التصورات غير مكتسب ، فشيء من التصديقات البديهية غير مكتسب ، فشيء من التصديقات غير مكتسب. مع أنه ورد الأمر بتحصيل المعرفة ، فكان هذا تكليفا بما لا يطاق. وانما قلنا : ان شيئا من التصورات غير مكتسب ، لأن من طلب اكتسابه ، فاما أن يكون له شعور بتلك الماهية ، واما أن لا يكون فان كان له شعور بتلك الماهية ، كان تصورها حاصلا له ، وطلب الحاصل محال ، وان لم يكن له شعور بتلك الماهية ، استحال طلبها ، لأن الغافل عن الشيء ، يمتنع أن يكون طالبا له.

فان قلت : انه مشعور به من وجه دون وجه. قلت : الوجه الشعور به مغاير للوجه الغير مشعور به ، فالمشعور به أمتنع طلبه ، لكونه حاصلا ، وغير المشعور به ، امتنع طلبه ، لكونه مغفولا عنه.

٣٣٠

وانما قلنا : انه لما كانت التصورات غير مكتسبة ، كانت التصديقات البديهية غير مكتسبة. وذلك أن التصديقات البديهية هى التى يكون مجرد طرفى موضوعها ومحمولها ، كافيا فى جزم الذهن باثبات أحدهما للآخر أو سلبه عنه.

وعلى هذا التقدير : ان حضرت التصورات ، كان ذلك التصديق واجب الحصول ، وان لم تحضر كان ذلك التصديق ممتنع الحصول. واذا كان هذا التصديق واجب الحصول ، لزم الدوران ، نفيا واثباتا عند حضور تلك التصورات نفيا واثباتا. وثبت : أن حضور تلك التصورات نفيا واثباتا ليس باختيار الانسان ، فلزم أن يكون حصول هذه التصديقات نفيا واثباتا ، ليس باختيار الانسان. فثبت : أن هذه التصديقات البديهية ، ليس شيء منها مكتسبا.

وانما قلنا : انه لما كان الأمر كذلك ، امتنع أن يكون شيء من التصديقات مكتسبا. وذلك لأن التصديقات المكتسبة لا تتسلسل ولا تدور ، بل لا بد من انتهائها الى المكتسب الأول ، فيكون التصور المكتسب الأول هو تلك البديهيات لا محالة ، فتلك البديهيات اما أن تكون تامة فى استلزام المكتسب الأول ، واما أن لا تكون. فان كانت البديهيات تامة ، لزم من حصولها حصول المكتسب الأول ، ويلزم من عدمها امتناع حصول المكتسب الأول ، لأنه لا سبب للمكتسب الأول الا تلك البديهيات وحينئذ يكون المكتسب الأول واجب الدوران ، نفيا واثباتا ، مع ما لا يكون باختياره ، لا نفيا ولا اثباتا. وحينئذ يخرج المكتسب الأول عن أن يكون باختياره.

واذا عرفت هذا فنقول : حال المكتسب الثانى بالنسبة الى المكتسب الأول ـ كما ذكرناه ـ وعلى هذا التقدير ، لا يكون شيء من العلوم مكتسبا.

٣٣١

وأما ان قلنا بأن تلك البديهيات غير تامة فى استلزام المكتسب الأول ، فحينئذ لا بد مع تلك البديهيات من شيء من المكتسبات ، فحينئذ يكون ذلك المكتسب مقدما على أول المكتسبات. وذلك محال. فثبت وما ذكرنا : أن جميع العلوم ، اما بديهية ، واما أن تكون من لوازم البديهيات. وشيء منها ليس بمكتسب ، فاذن شيء من المعلوم غير مكتسب. ولا شك فى ورود الأمر بها ، لقوله تعالى : (فَاعْلَمْ : أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللهُ) [محمد ١٩] فثبت : أن تكليف ما لا يطاق لازم على الكل.

الوجه السادس : انه ورد الأمر بتحصيل معرفة الله تعالى. فنقول : اما أن يقال : انه توجه هذا الأمر على من يعرف الله ، أو على من لا يعرف الله تعالى. فان كان الأول كان هذا أمرا بتحصيل الحاصل. وانه محال. وان كان الثانى كان هذا توجها لأمر الله تعالى على من لم يكن عارفا بالله تعالى. والجاهل بالذات جاهل بالصفات ، فاذن هذا الأمر متوجه على شخص لا يمكنه حال بقاء ذلك الأمر : ان يعرف الآمر والأمر. وذلك عين تكليف ما لا يطاق.

فثبت بهذه الوجوه السنة : أن تكليف ما لا يطاق لازم على الكل. والاستقصاء فى هذا الباب ، مذكور فيما صنفناه فى أصول الفقه.

فان قيل : هب أن هذا الاشكال لازم على الكل. فما الحيلة لنا ولهم فى دفعه؟

قلنا : الحيلة ترك الحيلة ، والاعتراف بأنه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وأنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون.

وهذا آخر المباحث المحصلة فى هذا الباب. وبالله التوفيق.

٣٣٢

المسألة الثالثة والعشرون

فى

أنه لا يخرج شيء من العدم إلى

الوجود إلا بقدرة الله تعالى

اعلم : ان أكثر أرباب (١) الملل يخالفوننا فى هذه المسألة ولو أطنبنا فى شرح المذاهب وابطالها ، لطال الكتاب الا أنا هاهنا نكتفى بالاختصار.

فنقول : الّذي يدل على صحة قولنا وجوه :

الأول : ان علة صحة المقدورية هى الامكان ، والامكان حكم مشترك فيه بين كل الممكنات ، واذا كانت العلة مشتركة فيها ، كان الحكم كذلك. فاذن كل حكم (٢) الممكنات مشتركة فى كونها بحيث يصح أن تكون مقدورة لله تعالى. والمقتضى لكونه قادرا على المقدور ، هو ذاته. ونسبة الذات الى الكل على السوية. فلما اقتضت الذات كونه تعالى قادرا على البعض ، وجب أن تقتضى كونه قادرا على الكل. فثبت : أنه تعالى قادر على كل الممكنات ، فلو فرضنا شيئا آخر يصلح لأن يكون مؤثرا فى الوجود ، فعند فرض اجتماع هذين المؤثرين. اما أن يقع الأثر بهما ، أو لا يقع بواحد منهما ، أو يقع بأحدهما دون الثانى. والأقسام الثلاثة باطلة ، لما مرت الاشارة إليه فى مسألة التوحيد ، ومسألة خلق الأفعال (٣) فوجب القطع بأنه لا شيء سوى قدرة الله تعالى يصلح للتأثير والتكوين.

__________________

(١) أكثر : ب

(٢) حكم : ا

(٣) الأعمال : ا

٣٣٣

الثانى : ان صفة الامكان صفة واحدة فى الممكنات ، وانها محوجة الى المؤثر. فاما أن يقال : الامكان يحوج الى مؤثر معين ، أو يحوج الى مؤثر غير معين. والثانى محال. لأن ما لا يكون معينا فى نفسه ، لا يكون موجودا ، وما لا يكون موجودا استحال احتياج غيره إليه فى الوجود. فاذن الامكان يحوج الى شيء معين.

وذلك المعين اما أن يكون من الممكنات ، واما أن لا يكون. لا جائز أن يكون من الممكنات والا لكان امكان ذلك الشيء ، يحوجه الى نفسه ، وحينئذ يكون موجدا لنفسه. وكل ما كان موجدا لنفسه ، كان واجبا لذاته ، فيكون الممكن لذاته واجبا لذاته. وهو محال. ولما بطل أن يكون ذلك الشيء من الممكنات ، ثبت : أنه واجب لذاته. فثبت : أن الامكان يحوج جميع الممكنات الى الموجود الواجب لذاته ، فيكون الواجب لذاته هو المبدأ لوجود جميع الممكنات. وهو المطلوب.

فان قيل : لم لا يجوز ان يكون الامكان علة للحاجة الى المؤثر ، من حيث انه مؤثر. والمؤثر من حيث هو مؤثر ، له ماهية واحدة ، بالنوع. وهى لا تمنع دخول أشياء كثيرة تحتها بالعدد.

والجواب : لما كان المؤثر من حيث انه مؤثر ، مفهوما واحدا ، مشتركا فيه بين ذوات الماهيات المختلفة ، يلزم أن تكون المؤثرية لاحقا من لواحق تلك الماهيات المختلفة. وكل ما كان كذلك ، كان مفتقرا الى المؤثر : ويعود التقسيم الأول فيه ، ولا ينقطع الافتقار والاستناد ، الا عند الانتهاء الى الذات. ويجب أن تكون تلك الذات معينة ـ كما بيناه ـ وحينئذ يحصل المطلوب.

الحجة الثالثة ـ هى مبنية على أصول الحكماء ـ : هى أن كل ما كان ممكنا لذاته ، فهو قابل للوجود والعدم ، فلو كان شيء من

٣٣٤

الممكنات مؤثرا فى وجود شيء آخر ، لزم كون الشيء الواحد قابلا وفاعلا معا. وهو محال. فاذن الممكن له خاصية القبول ، وليس له صلاحية التأثير ، كما أن الواجب لذاته ، له خاصية التأثير ، وليس له صلاحية القبول.

واعلم : أن المخالفين فى هذه المسألة فرق كثيرة :

الفرقة الأولى من المخالفين فى هذه المسألة : الفلاسفة. الذين يقولون : المعلول الأول لذات الله تعالى من غير واسطة شيء واحد ، وهو العقل الأول. وأما سائر الأشياء فهى معلولات معلولاته. ولهم فيه شبه :

الشبهة الأولى : ان مفهوم أنه تعالى مصدر (ا) غير مفهوم أنه مصدر (ب) بدليل: أنه يصح العلم بأحدهما مع الجهل بالآخر. وهذان المفهومان اما أن يكونا داخلين فى الماهية ، أو خارجين عنها ، أو يكون أحدهما داخلا فى الماهية ، والآخر خارجا عنها.

فان كانا داخلين فى الماهية ـ وهو القسم الأول ـ كانت الماهية مركبة. وهذا فى حق واجب الوجود محال.

وان كانا خارجين عن الماهية ـ وهو القسم الثانى ـ فلا شك انهما من لواحق هذه الماهية. وكل ما كان خارجا عن الماهية لاحقا لها غير مستقل بنفسه ، فانه يكون ممكنا بذاته واجبا بغيره ، وحينئذ يعود التقسيم من أن تكون تلك الماهية مصدرا لأحد هذين اللازمين مغايرة لكونها مصدرا للازم الثانى. وان كان هذان المفهومان أيضا خارجين عن الماهية ، لزم اما التسلسل واما الانتهاء الى الكثرة فى الماهية ـ وهو القسم الأول ـ

٣٣٥

وأما القسم الثالث : وهو أن يكون أحد القسمين داخلا فى الماهية والآخر خارجا(٣) عنها فهذا يقتضي أن تكون هذه الماهية مركبة. لأن كل ما له جزء ، فأقله أنه مركب من جزءين. وذلك يقتضي أن يكون المعلول واحدا ، لأن الجزء متقدم والمعلول متأخر ، والجزء لا يكون معلولا.

فثبت : أن القول بصدور الشيئين عنه ، يفضى الى هذه الأقسام الباطلة ، فيكون باطلا.

الشبهة الثانية : اذا صدر عن الشيء الواحد باعتبار واحد ، الألف والباء ـ والألف لا شك أنه غير الباء ـ فمن حيث انه صدر عنه الألف لم يصدر عنه الباء ، لأنه من ذلك الحيث صدر عنه الباء ، والباء ليس بالألف. ومن حيث انه صدر عنه الباء ، لم يصدر عنه الألف.

الشبهة الثالثة : العلة لا بد أن تكون ملائمة للمعلول ، والشيء الواحد بالاعتبار الواحد ، لو أوجب الشيئين المختلفين ، لزم أن يكون الشيء الواحد بالاعتبار الواحد ملائما لشيئين مختلفين. والملائم للشيئين المختلفين مختلف ، فيلزم أن يكون الشيء الواحد بالاعتبار الواحد ، مخالفا لنفسه. وهو محال.

الشبهة الرابعة : لما شاهدنا أن تأثير النار هو التسخين ، وتأثير الماء هو التبريد ، استدللنا بهذين الأثرين (٤) على أن طبيعة الماء مخالفة لطبيعة النار ، واذا كان اختلاف الأثر ، دالا على اختلاف المؤثر ، فبأن يدل على تعدد المؤثر أولى.

__________________

(٣) لا خارجا : ا

(٤) الأمرين : ا

٣٣٦

والجواب عن الشبهة الأولى : ان الوحدة يصدق عليها أنها نصف الاثنين ، وثلث الثلاثة ، وربع الأربعة. فنقول : مفهوم أنها نصف الاثنين ، مغاير لمفهوم أنها ثلث الثلاثة ، ويعود التقسيم الّذي ذكرتم فيها ، فيلزم وقوع الكثرة فى الوحدة. وذلك محال. ولما كان هذا الكلام باطلا ، فكذا ما ذكرتم.

والجواب عن الشبهة الثانية : ان نقيض أنه صدر عنه الألف ، هو أنه ما صدر عنه الألف ، لا أنه صدر عنه ما ليس بألف. والفرق ظاهر بين قولك ما حصل بالألف وبين قولك حصل ما ليس بالألف. ولو صح ما ذكرتم لزم أن لا يقبل الواحد الا الواحد ، لأنه قبل الألف وقبل الباء ـ والباء ليس بألف ـ فحين قبل الألف لم يقبل الباء (٥) وذلك محال. ولما كان هذا الكلام باطلا فى جانب القابل ، فكذا فى جانب الفاعل.

والجواب عن الشبهة الثالثة : ان الملائم غير ملخص المعنى. فان أردتم به كون العلة مماثلة للمعلول ، فهذا خطأ. لأن المعلول لذاته محتاج الى العلة ، والعلة لذاتها مؤثرة فى المعلول ، فلو كانت العلة والمعلول مثلين ، لزم كون العلة معلولا والمعلول علة. وهو محال. وان كان المراد من الملائمة شيئا آخر ، فلا بد من بيانه.

والجواب عن الشبهة الرابعة : ان الّذي به عرفنا أن طبيعة الماء تخالف طبيعة النار ، ليس هو مجرد اختلاف الأثرين ، بل لما رأينا الماء حاصلا بدون التسخين ، والنار حاصلة بدون التبريد ، علمنا بهذا : اختلاف طبيعتيهما. فالحاصل : أن المعرف لاختلاف الطبيعتين هو تخلف الآثار ، لا اختلاف الآثار (٦).

__________________

(٥) فى الأصل : الألف

(٦) تخلف الآثار لانها من اختلاف المؤثر : ا ـ وبعدها فى الأصل : النوع الثانى من المخالفين الثنوية الذين ... الخ

٣٣٧

والفرقة الثانية من المخالفين فى هذه المسألة : الثنوية الذين ينسبون الخير الى النور ، والشر الى الظلمة. واعلم : أن النور كيفية قائمة بالجسم. ونحن قد دللنا على أن الجسم محدث ، فكان القول بحدوث النور الّذي هو كيفية قائمة بالجسم أولى.

وقدماء المشايخ أبطلوا مذهبهم : بأن من قال أخطأت. فقائل هذا القول اما أن يكون هو النور ، أو الظلمة. فان كان هو النور ، فان كان صدقا ، فالنور قد فعل الشر ، وان كان كذبا ـ والكذب شر ـ فالنور قد فعل الشر ، وان كان قائل هذا القول هو الظلمة ، فان كان صدقا ـ والصدق خير ـ فالظلمة فعلت الخير ، وان كان كذبا ، فالظلمة ما فعلت الخطأ. وترك الخطأ خير ، فالظلمة فعلت الخير.

الفرقة الثالثة من المخالفين فى هذه المسألة : المنجمون الذين يقولون : المدبر فى هذا العالم السفلى هو الأفلاك والكواكب. والّذي يدل على بطلان قولهم : ان الأفلاك. اما أن تكون بسائط أو مركبة من أجزاء (٧) كل واحد منها بسيط فى نفسه. وكل بسيط فانه يحصل له جانبان بحيث يكون كل واحد منهما مساويا للآخر فى تمام الماهية. وكل ما كان كذلك ، فكل ما صح على أحد جانبيه صح على الآخر ـ بكل ما كان كذلك ـ فما كان ممسوس يمينه صح أن ينقلب ممسوس يساره ، وبالعكس. وكل ما كان كذلك ، فان التركيب والانحلال جائزان عليه. فاذن التركيب والانحلال جائزان على أجرام الفلك والكواكب. فيلزم من هذه النكتة : فساد أصول الفلاسفة ، اصحاب المجسطى فى أجرام الفلك. ويلزم القول بافتقارها فى ذواتها وصفاتها وأشكالها الى تقدير فاعل مختار.

__________________

(٧) أجرام : ب

٣٣٨

واحتجوا بأنا نشاهد أن تغيرات أحوال هذا العالم مربوطة بتغيرات أحوال الكواكب. ويدل عليه : حال الليل والنهار ، وحال الفصول الأربعة.

والجواب : ثبت فى المنطق أنه لا يلزم من حصول شيء عند شيء ، ومن عدمه عند عدمه ، كونه معللا به ، لاحتمال حصول هذا الدوران مع شطر العلة وشرط العلة ، ومع صفة لازمة للعلة طردا وعكسا ، مع أنه يكون أجنبيا عن التأثير.

الفرقة الرابعة من المخالفين فى هذه المسألة : الطبيعيون وهم يقولون : ان حوادث هذا العالم من المعادن والنبات والحيوان ، معللة بامتزاج هذه العناصر بعضها مع بعض.

واعلم ـ ان القول بالمزاج باطل. وذلك لأن هذه العناصر اذا اختلطت وامتزجت فاما أن يكون تأثير كل واحد منها فى الآخر ، وتأثر كل واحد منها عن الآخر : يقع دفعة ، واما أن يوجد تأثير أحدهما فى الآخر ، ثم بعد ذلك يعود ذلك المغلوب غالبا.

والأول باطل. لأن المؤثر فى انكسار كل واحد منهما : قوة الآخر. فالحار والبارد لو حصل انكسارهما معا ـ وحال حصول المعلول لا بدّ من حصول العلة ـ يلزم أن يكونا فى غاية القوة حال كونهما منكسرين ، وذلك محال. والثانى باطل أيضا. لأن المغلوب بعد صيرورته مغلوبا ، يمتنع أن يعود غالبا مع أنه حال قوته ، كان عاجزا عن قهره.

لا يقال : لم لا يجوز أن يقال : النارية صفة قائمة بجسم النار ، وتلك الصفة علة للحرارة واليبوسة ، وكذا المائية صفة قائمة بالماء ،

٣٣٩

وتلك الصفة علة للبرودة والرطوبة. فالكاسر لبرد الماء ورطوبته ، ليس هو حر النار ويبسها ، بل ناريتها ، والكاسر لحر النار ويبسها ، ليس هو برد الماء ورطوبته ، بل مائيته؟

وعلى هذا التقدير يزول السؤال لأنا نقول : النارية والمائية انما يتنافيان بواسطة ما بين أثريهما من التنافى. وحينئذ يعود الكلام الأول.

الفرقة الخامسة من المخالفين فى هذه المسألة : المعتزلة. أما «النظام» فقال : انه تعالى غير قادر على خلق القبيح. قال : لأن صدور هذه الأشياء عن الله تعالى محال. وكل محال فهو غير مقدور. وانما قلنا : انه محال. لأن صدور هذه الأشياء عن الله تعالى ، يستلزم الجهل ، أو الحاجة وكل واحد منهما محال. ومستلزم المحال محال. فصدور هذه الأشياء عن الله تعالى محال. وانما قلنا : ان المحال غير مقدور ، لأن المحال ما يمتنع وقوعه ، والمقدور هو الّذي يمكن وقوعه. والجمع بينهما محال.

والجواب على مذهبنا : ان خلق شيء من الأشياء لا يدل فى حق الله تعالى على الجهل ، ولا على الحاجة. فزال هذا السؤال.

وأما على مذهب «المعتزلة» فالجواب عن هذه الشبهة : ان معنى كون القبائح مقدورة لله تعالى : أنه لو صح تحقق الداعى الى فعل هذه القبائح فى حق الله تعالى ، كانت قادريته صالحة لايجادها. فالحاصل : أن فعل هذه القبائح وان كان ممتنعا لامتناع الداعى ، لكنه غير ممتنع بالنظر الى صلاحية القدرة.

وأما «الكعبى» فانه يقول : انه تعالى غير قادر على مثل مقدور العبد ، لأن فعل العبد اما طاعة أو معصية. وهما محالان على الله تعالى فثبت : أنه تعالى غير قادر على مثل فعل العبد.

٣٤٠