تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ)

(لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) لأن القضية قضية المصير الذي لا يملك أحد تبديله بأيّة وسيلة من الوسائل التي كان يستعملها في الدنيا ، عند ما تزدحم المشاكل في ساحته ، وتشتد الضغوط عليه ، فيلجأ إلى ماله أو إلى أهله أو ولده أو عشيرته ، فإن الدنيا في خطها التاريخي العملي هي التي تحدد الصورة الأخيرة للمصير الإنساني ، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) ، مما يجعل من كل إنسان إنسانا مشغولا بما يقدم عليه في شأنه الجزائي ، فهل يقدم على الجنة أو يقدم على النار؟! فليس لديه فراغ لغيره وليس عنده فضلة لسواه ، إنه همّه الكبير الذي لا همّ أكبر منه ، وهو شأنه العظيم الذي لم يطرأ في حياته شأن مثله ، فعلى الآخرين من أهله أن يتركوه ليفكر في همه ، وأن يدعوه وشأنه ، فلا يشغلوه بشيء من أمرهم.

إنه الموقف العظيم الذي ترى مستقبل الناس وماضيهم في وجوههم ، لأن تاريخ الإنسان الأسود والأبيض يتحوّل إلى إشراق وظلمة في ملامح وجهه ، كما أن مصيره المستقبلي ينطبع على وجهه في الصفاء الذي يموج في بسمات العيون والشفاه أو في الغبرة المشبعة بالسواد في كل الملامح المتعبة.

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ) مشرقة بالنور الذي يتلألأ في لمعات عيونهم وفي إشراقة وجوههم ، (ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) فهي تضحك ضحكة السعادة حتى لتحسّ بضحكة العينين قبل ضحكة الشفتين ، وهي تستبشر بما أعطاها الله من فضله ، وأعدّه لها من ثوابه ، وهذه هي وجوه المؤمنين المتّقين.

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ) في ملامح الحزن والحسرة والهم الكبير التي تكدّر الوجه بما يشبه الغبار ، (تَرْهَقُها قَتَرَةٌ) وهو السواد الذي يعلو الوجوه ، فتحسّ

٨١

بأن الليل يزدحم في كل ملامحها ، وتلمح الذّلّ الذي يتمثل في الخشوع والانقباض ، (أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) الذين عاشوا الكفر عقيدة والفجور عملا. فهذا هو الجزاء العادل لهم ، فهل يفكّر أمثالهم الآن قبل فوات الأوان؟

* * *

٨٢

سورة التّكوير

مكيّة

وآياتها تسع وعشرون

٨٣
٨٤

في أجواء السورة

هذه السورة من السور المكية التي تتحدث عن أجواء يوم القيامة وما يجري فيه من أحداث كونية تكون بمثابة علامات وآيات تدل عليه ، كتكوّر الشمس ، وانكدار النجوم ، وتسيير الجبال ، وتعطل العشار ، وحشر الوحوش ، وتسجّر البحار ، وتزوج النفوس ، عندها تسأل الموؤودة : لما ذا قتلت؟ وتنشر الصحف ، وتكشط السماء ، وتسعّر الجحيم ، وتقرّب الجنة ... وكل هذه الأجواء الهائلة المرعبة تشكل الممهّدات الكونية ، أو الإطار الكوني لحدث مصيريّ آخر ، هو مواجهة الإنسان نفسه لأعماله بخيرها وشرّها معا.

ثم تتحدث عن القرآن الذي يشكّك فيه هؤلاء ، ليؤكد إنه لقول رسول كريم وليس قول مجنون ، كما يحاول البعض أن يثير الضباب من حوله. وتتابع الحديث عن صفة الملك الذي جاء بالوحي ، الذي يريد الله من الناس أن يعتبروه ذكرا يدفعهم إلى الاستقامة التي تتحرّك بها مشيئة الإنسان الخاضعة لمشيئة الله. أمّا كلمة «التكوير» ، فقد أخذت من قوله تعالى : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) في ما تمثله من الحدث العظيم الذي يتضمن برودة الشمس وانطفاء شعلتها ، وجمود ألسنة اللهب المتصاعدة منها ، مما قد يوحي بالهول الكبير الذي يعطي الصورة الواضحة من طبيعة التغيير ، باعتبار أن فقدان الشمس

٨٥

لضوئها يترك تأثيره وإيحاءه على كل الظواهر الكونية الأخرى ، ويجعلها شيئا معقولا في ميزان التصوّر.

* * *

٨٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) (١٤)

* * *

معاني المفردات

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) : التكوير : التلفيف على جهة الاستدارة ومنه تكوير العمامة ، والظاهر أن التعبير وارد على سبيل الكناية ، بمعنى : جمع ضوؤها ولفّت كما تلفّ العمامة ، والمعنى أنّ الشمس تكوّر بأن يجمع نورها حتى تصير كالكرة الملقاة ويذهب ضوؤها.

(النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) : تساقطت وتناثرت.

٨٧

(الْعِشارُ) : النوق الحبالى في شهرها العاشر.

(سُجِّرَتْ) : ملئت.

(الْمَوْؤُدَةُ) : المدفونة في التراب وهي حية.

(كُشِطَتْ) : الكشط : القلع عن شدّة التزاق.

(سُعِّرَتْ) : أوقدت وأضرمت.

(أُزْلِفَتْ) : قدّمت وقرّبت.

* * *

الإطار الكوني ليوم القيامة

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) وهذا هو الحدث الكبير الذي تفقد فيه الشمس وهجها وإشراقها وحرارتها وامتداد نورها ولهيبها ، فتعود مجرّد شيء مكوّر ، كما هي الكرة الملقاة التي لا توحي إلا بالحاجة إلى التدحرج تحت الأقدام.

(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي ذهب لمعانها ، وانطفأ ضوؤها ، أو انتثر نظامها الذي يربطها ، في ما توحي به كلمة الانكدار في معناها الأصلي ، وهو انقلاب الشيء حتى يصير أعلاه أسفله ، وهو في حالة الماء يؤدي إلى تكدّره ، أو بما قد ينصرف إليه اللفظ من الكدورة في اللون في مقابل الصفاء والإشراق.

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) بقدرة الله ليكون ذلك موجبا لتفتت أجزائها ، لأن طبيعة الحركة تفرض ذلك ، فتكون كناية عنه ، لتتحوّل بعد ذلك إلى هباء منبثّ تذروه الرياح في الهواء. وربما كان ذلك ـ كما يقول البعض ـ من خلال

٨٨

الزلزال الذي يصيب الأرض في ما تحدّث الله عنه بقوله : (إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) [الزلزلة : ١].

(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) والعشار النوق الحبالى في شهرها العاشر ، وهي من أنفس الأموال لدى العرب ومن أغلاها ، لأنها مرجوّة اللبن والولد ، بحيث لا يتصور في حقّ أحد إهمالها وتعطيلها ، لأن ذلك يوجب ضياع مال عظيم ومنفعة عظيمة ، مما لا يقدم العاقل على ضياعه ، ولكن الهول الذي يواجهه الإنسان في ذلك اليوم يجعله منشغلا عن كل شيء من شؤونه الكبيرة وأمواله النفيسة. وبذلك يكون التعبير واردا على سبيل الكناية عن شدّة الهول وفظاعة الموقف.

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي جمعت وانزوت واقترب بعضها من بعض ، فلم يعد لديها إمكان التحرك بحرية ووفق طريقتها الخاصة التي تطلب بها غذاءها عادة ، أو لتحمي بها نفسها من بعضها البعض ، في ما اعتادته من افتراس بعضها البعض ، وإذا الموقف قد أنساها كل شيء ، بحيث يمرّ الوحش القوي بالحيوان الضعيف ، فينسى غريزة الافتراس في ذاته ، ويمرّ الضعيف بالقوي فلا يخاف منه.

ولكن ، هل المراد من الحشر هو حشرها في ساحة القيامة؟ وهل للوحوش تكليف في الدنيا حتى تحاسب على الانحراف عنه في الآخرة؟ أم أن للمسألة معنى آخر؟

ربما يقال بالمعنى الأول ، إن الوحوش محشورة كالإنسان ، ويؤيده قوله تعالى : (وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ) [الأنعام : ٣٨].

«وأمّا تفصيل حالها بعد الحشر وما يؤول إليه أمرها ، فلم يرد في كلامه تعالى ، ولا في ما يعتمد عليه من الأخبار ، ما يكشف عن ذلك» ، كما يقول

٨٩

صاحب الميزان (١).

ويقول صاحب مجمع البيان في تفسير الآية : «أي جمعت حتى يقتص لبعضها من بعض ، فيقتص للجماء من القرناء ، ويحشر الله ، سبحانه ، الوحوش ليوصل إليها ما تستحقه من الأعواض على الآلام التي نالتها في الدنيا ، وينتصف لبعضها من بعض ، فإذا وصل إليها ما استحقته من الأعواض ، فمن قال إن العوض دائم ، تبقى منعمة إلى الأبد ، ومن قال : تستحق العوض منقطعا ، فقال بعضهم : يديمه الله لها تفضلا لئلا يدخل على المعوّض غمّ بانقطاعه ، وقال بعضهم : إذا فعل الله بها ما استحقته من الأعواض جعلها ترابا» (٢).

وربما قيل : «إن حشر الوحوش من أشراط الساعة لا مما يقع يوم القيامة ، والمراد به خروجها من غاباتها وأكنانها» (٣). وهذا هو المعنى الثاني الذي أثرناه في السؤال ، وربما كان هو الأقرب ، لأن الآية واردة في أشراط الساعة لا في وقائعها ، في ما يوحي للإنسان بالرعب ، بحيث تصل المسألة في أهواله ، إلى مستوى حشر الوحوش في مكان واحد بالرغم من خروج ذلك عن طبيعتها .. أمّا مسألة الآية في سورة الأنعام ، فقد يكون المراد بالحشر إلى الله غير الحشر في ساحة الحرب ، لأنه لم يثبت أن هناك تكليفا للحيوانات ، ولا معنى لتعويض الحيوانات عن آلامها ، وإلا لكان قتلها أو ذبحها موجبا لذلك. ولم يثبت ذلك من عقل ولا من نقل.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) يحتمل أن يكون المراد ملأها بالمياه ، وذلك من خلال وضع معين ، أو من خلال فيضانات كالتي يقال إنها صاحبت مولد

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ٢٣٦.

(٢) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٦٧٣ ـ ٦٧٤.

(٣) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ٢٣٦.

٩٠

الأرض وبرودتها ، أو من خلال الزلازل والبراكين التي تزيل الحواجز بين البحار ، فيتدفق بعضها في بعض. ويحتمل أن يكون المراد التهابها وانفجارها ـ كما هو المعنى الآخر للتسجير بإضرام النار ـ وقد أوضح ذلك في كتاب «في ظلال القرآن» ، فقال : «فتفجير عناصرها وانفصال الإيدروجين عن الأوكسيجين فيها ، أو تفجير ذرّاتها على نحو ما يقع في تفجير الذرّة ، وهو أشد هولا ، أو على أيّ نحو آخر ، وحين يقع هذا ، فإن نيرانا هائلة لا يتصوّر. مداها تنطلق من البحار. فإن تفجير قدر محدود من الذرّات في القنبلة الذّرّية أو الإيدروجينية يحدث هذا الهول الذي عرفته الدنيا ، فإذا انفجرت ذرأت البحار على هذا النحو أو نحو آخر ، فإن الإدراك البشري يعجز عن تصوّر هذا الهول ، وتصوّر جهنم الهائلة التي تنطلق من هذه البحار الواسعة» (١).

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي قرن كل واحد منها إلى شكله ، وضم إليه ، والمراد بالنفوس الناس حيث يعبر بالنفس عن الإنسان ، فالمعنى قرن كل إنسان بشكله من أهل النار ، أو شكله من أهل الجنة ، أو قرن الغاوي بمن أغواه من إنسان أو شيطان ، أو زوّج الصالحون بالحور العين ، وقرن الكافرون بالشيطان.

* * *

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ)

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ* بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ) ، كان الوأد ، وهو دفن البنت وهي حيّة ، يمثل أحد الأوضاع الوحشية في ممارسات الجاهليين العرب بحق الأنثى انطلاقا من التصوّر المتخلف المنحرف عن المرأة الذي نقله القرآن عنهم في قوله تعالى : (وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ* يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ

__________________

(١) في ظلال القرآن ، م : ٨ ، ج : ٣٠ ، ص : ٤٧٨.

٩١

مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ) [النحل : ٥٨ ـ ٥٩]، وكانت لديهم عدة طرق في الوأد ، فمنهم من كان إذا ولدت له بنت ، يتركها حتى تكون في السادسة من عمرها ، ثم يقول لأمها : طيّبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها! وقد حفر لها بئرا في الصحراء ، فيبلغ بها البئر ، فيقول لها انظري فيها ، فيدفعها دفعا ، ويهيل التراب عليها ، ومنهم من كان إذا جاء المخاض زوجته ، جلست فوق حفرة محفورة ، فإذا كان الولد بنتا رمت بها فيها وردمتها ، وإن كان ابنا قامت به معها ، وغيرها من الأساليب.

وهكذا كان هذا الظلم الوحشي الجاهلي موضع الرفض الشديد من قبل الإسلام في ما أنزله الله على رسوله من آيات ، وواجهه مواجهة عنيفة ، حتى قضى عليه ، حيث اعتبر الفعل جريمة وحشية ككل الجرائم التي يعاقب عليها بالقصاص ، من دون فرق بين أن يكون الفاعل أبا أو غيره ، لأن الأبوّة لا تبرّر للأب أن يمارس أيّ عمل تعسفيّ مع أولاده. وقد أكد الفكرة من خلال القاعدة التي تساوي بين الرجل والمرأة في المعنى الإنساني ، وفي المسؤولية الشرعية ، فلا فرق بين انحراف الرجل وانحراف المرأة في عقاب الزاني والزانية ، كما أن مسألة الشرف والعار تتصل بكل منهما في نطاقه الشخصي ، فلا ينعكس على أيّ إنسان آخر ، فلكلّ إنسان شرفه وعاره ، (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) [الإسراء : ١٥] ، وانطلق التشريع ليؤكد ذلك في كل قضايا الحياة المتصلة بالرجل والمرأة ، ولم يفرق بينهما في مستوى القيمة ، فجعل الكرامة لعنصر التقوى الذي قد يجعل المرأة أفضل من بعض الرجال ، أما وجود بعض الفوارق في بعض التشريعات ، فإنها متصلة بالهيكل التنظيمي للعلاقات الزوجية ، ولبعض الأوضاع العامة في نطاق المسؤولية ، من باب توزيع الأدوار من خلال الطبيعة المتنوّعة في تكوين الرجل والمرأة ، لا من خلال الانتقاص من طبيعتها ، ممّا تحدّثنا عنه كثيرا في هذا التفسير.

وهكذا تقف الموءودة في يوم القيامة مع الذي وأدها في الدنيا ، ليطرح

٩٢

السؤال عليها : هل هناك ذنب جنته لتدفن حيّة ، وهي في السّنّ التي لا تحمل فيها أية مسئولية؟ وإذا كانت في مثل هذه السّنّ ، فإن أنوثتها لا تصلح أن تكون ذنبا ، ولم تفعل أي شيء آخر. ولم يكن هذا السؤال للاستفهام ، بل لتسجيل الموقف العادل في المسألة ، لأن المسألة لا تملك احتمالا آخر ، فإن العدالة هي التي تقتص من الفاعل انطلاقا من شعار يوم القيامة (الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ) [غافر : ١٧] ، لا سيما إذا كان المظلوم ممن لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا.

* * *

نشر الصحف وكشط السماء

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) وهي صحف الأعمال التي تنشر للحساب فلا خفاء هناك ، ولا غموض ، لأن المسألة ، في ذلك الموقف ، هي مسألة الحقيقة التي يخشع الجميع أمامها بين يدي الله ، ليقفوا عراة أمام كل التاريخ ، ليواجهوا عري الواقع الذي كانوا يخفونه خلف الأقنعة المتنوعة التي قد تصوّر الباطل بصورة الحق ، فإذا به مكشوف بكل تفاصيله.

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) وربما المراد بالكشط هنا ، إزالة هذا الغطاء الذي يخيل للناس ، في رؤيتهم الساذجة ، أنه يخفي الحقيقة الخفية في السماء ، فينكشف كل شيء في داخلها.

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) وتوقّدت والتهبت وازدادت حرارة ولهيبا لتنتظر الوقود الذي يزيد في اشتعالها من الناس والحجارة.

(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أيّ قرّبت وأدنيت من القادمين إليها من المؤمنين المتقين الذين جعل الله الجنة جزاء إيمانهم وتقواهم ، ليسهّل لهم دخولها ، فلا

٩٣

يبذلون أيّ جهد في ذلك.

وهكذا تتمثل صورة التغيير الكوني الهائل الذي تتبدّل فيه الصور والأوضاع والمقاييس ، لتدخل عالما جديدا يختلف عن عالم الدنيا اختلافا كثيرا. ويقف الإنسان أمام ذلك كله ، ليفكر في نفسه ، وفي دوره ، وفي موقعه من كل هذا الواقع الجديد ، فيخرج من واقع الغفلة إلى عالم اليقظة والوعي العميق ، ليصل إلى النتيجة الحاسمة ، وهي أن قيمة الإنسان في هذا اليوم تساوي عمله ، فلا بد من أن يتعرف إلى حجم عمله ليعرف حجم مصيره.

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي علمت كل نفس ، آنذاك ، ما لها وما عليها من إيجابيات الماضي العملي وسلبياته ، لأنها تواجه النتائج في مستوى الأعمال ، وبذلك تقف وجها لوجه أمام الحقيقة الصارخة التي تحدّد له موقعه في الجنة أو في النار ، من خلال موقعه في خط الله أو في خط الشيطان.

* * *

٩٤

الآيات

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) (٢٩)

* * *

معاني المفردات

(بِالْخُنَّسِ) : الخنّس : الكواكب.

(الْكُنَّسِ) : كنس : استتر وأقام.

(عَسْعَسَ) : العسعسة : رقّة الظلام.

(تَنَفَّسَ) : هنا بمعنى أضاء.

(مَكِينٍ) : متمكّن.

٩٥

(بِضَنِينٍ) : ببخيل.

* * *

كتاب الله ذكر للعالمين

وهذا الحديث عن الوحي يتخلّله القسم الذي يطوف بالوعي في مشاهد كونيّة ذات ارتباط بالتجربة الحسية للإنسان ، كما يتجه إلى الإشارة إلى الرسول الملائكي الذي يحمل الوحي من الله ، وإلى الرسول البشري الذي يتلقّى الوحي منه ليبلغه للناس الذين يفتحون قلوبهم للذكر النازل من عند الله ، ليتحركوا في خط الاستقامة في دائرة مشيئة الله.

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ* الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي لا أحتاج في إثبات حقيقة الوحي وصدقه إلى القسم بهذه الظواهر الكونية التي يتصل بعضها بالنجوم المعلقة في السماء ، وبعضها بحركة الزمن في الحياة ، والخنّس والجوار الكنّس هي الكواكب التي ترجع في دورتها الفلكية وتجري وتختفي ، فإنّ لها في حركتها على ما تشاهد استقامة ورجعة وإقامة ، فهي تسير وتجري في حركة متشابهة زمانا وهي الاستقامة ، وتنقبض وتتأخر وتخنس زمانا وهي الرجعة ، وتقف عن الحركة استقامة ورجعة زمانا ، كأنها الوحش تكنس في كناسها وهي الإقامة. وربما كان التعبير بها يطلّ على حياة الظباء وهي تجري وتختبئ في كناسها وترجع من ناحية أخرى.

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي إذا أقبل وأدبر في مبدأ الليل ومنتهاه ، والعسعسة هي رقّة الظلام ، في ما يثيره في النفس من انسياب رقيق يخدّر المشاعر ، ويوحي بالاستغراق في بحر الظلام العميق الممتد في الكون ، في إحساس يلتقي فيه الخوف بالأمان.

٩٦

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي إذا أقبل في انفتاحه على الأفق ، كما لو كان موجودا حيا يتنفس ، وفي أنفاسه النور والحياة والحركة ، فكأنه كان محبوسا في دائرة الظلام ، يعاني الاختناق ، ثم تنفس ، فبدأت أنفاسه تمنح الكون روحا ونسيما وحيوية وإشراقا ، تماما ، كما هو النفس في تأثيره على الجسد. ويلاحظ أن في اختيار الألفاظ في هذه الفقرات لونا من الإيحاء التعبيري الذي يوحي ببعض الأجواء والمشاعر والأحاسيس التي تتجاوز المعاني اللغوية للكلمات.

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ) أي إن هذا القرآن لم ينطلق من تجربة فكرية ذاتية ، بل هو قول رسول كريم أرسله الله إلى نبيّه ليفتح به قلبه ، ويعمّق به تجربته ليبلّغه للناس ، وهذا الرسول هو جبريل عليه‌السلام الذي حدثنا الله عنه في علاقته بتنزيل القرآن في آية أخرى ، وذلك هو قوله تعالى : (قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ) [البقرة : ٩٧].

وقد وصفه الله بصفة «كريم» إشارة إلى كونه ذا كرامة عند ربه في قربه منه.

(ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ* مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ) فقد أعطاه الله القدرة على حمل الرسالة وتبليغها للنبيّ ، كما أعطاه المكانة المميزة لديه ، ومنحه الطاعة التي أراد للملائكة أن يقدموها إليه في ما يأمره به من المهمات الموكلة إليه ، وأكد أمانته في حمل الرسالة وإبلاغها ، فلا يزيد فيها حرفا ولا ينقص منها شيئا.

* * *

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ)

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) وهو رسول الله الذي يملك العقل الواعي المنفتح على الله ، والمتحرك في إدارة شؤون الرسالة بكل تركيز وبصيرة. وليس

٩٧

الحديث عنه بهذه الصفة التي تسيء إلى شخصيته العقلية إلا نوعا من الحملة العدوانية الموجّهة ضده من قبل المشركين الذين أعيتهم الحيل في إبعاد الناس عنه ، فعمدوا إلى تشوية صورته واتّهامه بالجنون ، مما يدلّ على سذاجتهم في تلفيق التهم ، لأن النبيّ كان معروفا لدى الناس الذين عاش معهم ، قبل الرسالة وبعدها ، برجاحة عقله وصدقه وأمانته واستقامته ، بالمستوى الذي يجعل من هذه التهمة دليلا على جهلهم ، وسخافة عقولهم ، لأنهم لا يستطيعون التمييز بين المجنون والعاقل الذي يملك المستوى الكبير في قوّة العقل ، وصفاء الإحساس ، ووعي الروح ، فليس هناك أي أساس لوصفه بالجنون.

وقد لاحظنا أن هذه الكلمة لم تستطع أن تحرّك أي شخص للانفعال به في زمن الدعوة الأول ، فقد كان الناس يقبلون عليه ليسمعوا منه ، ولينتفعوا بالجلوس إليه.

* * *

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ)

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي في الجانب الظاهر منه ، والضمير يرجع إلى جبريل ، لتأكيد تجربة النبي الحسية في مسألة الوحي ، فليس الأمر أمر سماع قد يختلف الناس في تقدير طبيعته ، بل هو أمر عيان لا يشكّ الرّائي في حقيقته .. (وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي ببخيل ، فالنبي لا يبخل بما أوحى به الله إليه ، فلا يحتفظ به لنفسه ليكون شأنا ذاتيا ، بل هو أمانة الله عنده ، التي يشعر بها في موقع المسؤولية ليبلّغها للناس كاملة غير منقوصة ، فلا تغيير ولا تبديل ، ولا زيادة ولا نقصان.

* * *

٩٨

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ)

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) فقد كانوا يقولون : إنه ممّن يأتيه شيطان في ما يلقى إليه ، تماما كما هو حال الكهان ، الذين تأتيهم الشياطين من الجن بالغيب الذي يلقونه في وعيهم ، أو على ألسنتهم ، ولكنهم لا يملكون أيّ دليل على ذلك ، بل إن النبي يملك الحجّة الواضحة على أن القرآن حديث منزّل من الله ، في ما تحدّى به الإنس والجنّ أن يأتوا بسورة من مثله ، فلم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا.

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) في مذاهبكم التي تتخبّطون فيها من دون أساس للهدى وللحق ، فلا تركنون في حديثكم إلى فكر ، ولا تنطلقون من قاعدة وعي ، بل تقفون موقف الذي يعيش داخل المأزق الذي وضعتكم فيه الرسالة ، التي أحاطت بكم من بين أيديكم ومن خلفكم ، وعن أيمانكم وشمائلكم ، من خلال وضوح الحق الذي أطلقته في حياتكم ، قاعدة للعقيدة ، وخطّا للشريعة ، ومنهجا للحياة. فهل تعرفون نهاية الطريق الذي تسيرون فيه؟ إنه الطريق الذي لن يفضي بكم إلّا إلى الضياع.

* * *

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ)

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) فلا تختصّ به جماعة دون جماعة ، بل هو للعالمين كافّة ، ليكون ذكرا لهم ، ينفذ إلى عقولهم فيزيل عنها حجاب الغفلة ، وإلى مشاعرهم ، فيزيح عنها ظلمة الإحساس ، وإلى حياتهم ، فيحطم فيها الحواجز التي تحجزها عن رؤية الحق.

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) على هدى الله ، لأن مسألة الذكر لا تقوم

٩٩

بالكلمات ، بل لا بد فيها من الإرادة الإنسانية في الاستقامة على خط الهدى ، التي تدفعه إلى البحث والرغبة في الاستماع إلى كل الكلمات التي تعالج الحق ، وتدعو إليه ، مما يثير فيه قلق المعرفة المتطلعة إلى كل جديد في هذا المجال ، فمن لم يرد الاستقامة ، فكيف يمكن أن يكون القرآن ذكرا له؟

* * *

لله المشيئة كلها

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) فقد تملكون ـ في كيانكم ـ حركة المشيئة الذاتية ، في ما تملكون من عناصر الاختيار ، ولكن مشيئتكم لا بد من أن تخضع للمشيئة الإلهية في تقدير النظام الكوني الذي تتحرك الأشياء في دائرته ، فلا يملك العبد استقلالا مطلقا عن الله تعالى حتى في نطاق حريته المرتبطة بالمشيئة الإلهية بطريقة أو بأخرى.

* * *

١٠٠