تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

يحصوا أعمالهم ، ليدافعوا عنها في هذا اليوم ، فهم الآن في غفلة عنها ونسيان لها ، فإن الله قد أحصى عليهم ذلك بكلّ دقّة ، فلم يغادر كتاب الأعمال صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها .. وكان الجزاء مطابقا لهذه الأعمال ، وهو العذاب.

(فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) فهذا هو الطعام الذي تتذوّقونه والشراب الذي تشربونه ، فإذا طلبتم ما يشبع الجوع ، وما يروي الظمأ ، فلن تجدوا إلا ما يزيد من الجوع والعطش من هذا العذاب الأليم.

* * *

موقع المتّقين يوم الحساب

وتلك هي صورة المصير النهائي للطغاة الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد في ما أفسدوه من حياتهم الخاصة بالكفر والعناد ، ومن حياة غيرهم بالإضلال. أما الذين آمنوا بربهم وساروا في خط التقوى ، وعملوا على أساس أنهم ملاقون لحسابهم ، وأنهم سيقفون ـ غدا ـ بين يدي ربهم ، فأخلصوا العمل ، فسيلاقون جزاء موافقا لأعمالهم.

(إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً) أي موقعا يلتقون فيه بالخير الكبير من الله الذي يمثل الفوز ، (حَدائِقَ وَأَعْناباً) مما كان يعرفه المخاطبون من الثمار ، (وَكَواعِبَ أَتْراباً) جزاء لهم على ما أخلصوا في عبادتهم ، (وَكَأْساً دِهاقاً) أي ممتلئة بالشراب.

فهذه هي النماذج التي يعيش فيها المتّقون النعم الحسيّة التي يتلذّذون فيها بالفاكهة الشهية ، والمظهر الجميل ، والنساء الناهدات الشابات ، والشراب المنعش. وإذا كانت الآيات قد حدّدت هذه الأمور ، فإنها لم تقصد التحديد ،

٢١

بل قدّمت النموذج للذة الحسية التي يعيش الناس في الدنيا أحلامها واهتماماتها. لكن الجنة تحمل للمتقين كل شيء مما يشتهونه ومما يدعونه ، ومما لا حصر له من اللذات الحسية أو الروحية التي لم تخطر على قلب البشر.

(لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً) فهناك الحياة النقية الخالصة من العبث الكلامي الذي لا يعبّر عن أي معنى نافع للحياة ، وهناك الصدق الذي لا يسمح للكذب الذي يبتعد عن الحقيقة ، لأنه لا حاجة لما كان الناس في الدنيا يخوضون فيه من اللغو والكذب في مواقع الجدل الذي يقود إلى ذلك.

(جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً) فهي تمثّل الجزاء على العمل ، في ما يستحقه الإنسان من خلال وعد الله له ، كما تمثل العطاء المحسوب بدقة من خلال التفضل الإلهي عليه ، لأنّ الإنسان مملوك لله بنفسه وبعمله ، فلا يستحق على الله شيئا إلا من خلال ما يتفضل عليه به.

(رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الذي يملك الكون كله ، والأمر كله ، فيعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء ، (الرَّحْمنِ) الذي يطل على خلقه من موقع رحمته التي قد تتمثل بالعقاب للطغاة ، وقد تتمثل بالثواب للمتقين. ومهما كانت الرحمة في إيحاءاتها التي تفتح قلوب الناس ومشاعرهم على الله ، حتى ليحسون بالاقتراب منه ، فإن ذلك لا يستوجب زوال الهيبة من نفوسهم ، فهم يقفون بين يديه في موقع الحساب ، ولكن (لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً) في ما يفعل أو يقول ، ولا يستطيعون الشفاعة لديه ، لأن الأمر له ، فلا يملك أحد معه كلاما في أيّ شأن من الشؤون في مواقع القدرة والجلال.

* * *

٢٢

(الْيَوْمُ الْحَقُ)

(يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ) وهو المخلوق الغيبي الذي تحدث الله عنه في أكثر من آية ، كما لو كان وجودا متميزا عن الملائكة في طبيعته أو في دوره ، في ما كان الله يكلّفه به من المهمّات في الوحي وفي غيره مع الملائكة أو بدونهم.

(وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ) في خشوع الإحساس بالعبودية لله والإخلاص له ، في الأجواء التي توحي بالرهبة والجلال ، فلا تنطلق منهم أيّة كلمة في أيّ شيء ، لأن الكلمة لله وحده ، ولأن القرار ـ في كل شيء ـ له وحده أيضا ، (إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ) في الكلمات المتعلّقة بالشفاعة أو غيرها مما يتصل ببعض شؤون الناس في القيامة ، أو شؤون الشخص ذاته ، (وَقالَ صَواباً) فهناك لا مجال إلا للحق الصرف المنزّه عن كلّ باطل ، وللصواب الصرف الذي لا مجال فيه لأيّ خطأ ، ولا يأذن الله لمن يقول الخطأ ، أن يتكلم في ذلك اليوم.

(ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ) الذي لا مجال للريب فيه ، كما لا مجال للباطل أن يتحرك فيه ، إذا اعتبرنا المسألة على سبيل المبالغة ، بأن يراد به اليوم الذي يمثل التجسيد للحق في المضمون الذي يحتويه في الحساب ونحوه ، مما يجعل الذين عملوا له في الدنيا هم أصحاب هذا اليوم ، (فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً) ليحصل على النتائج الإيجابية من خلال سعيه في الدنيا ليرجع إلى الله في رحمته ورضوانه.

(إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً) لأنه آت لا محالة ، فمهما ابتعدت خطوات الزمن ، فسوف تصل إليه عاجلا أو آجلا .. إنه الإنذار الأخير الذي يضع المسألة في نصابها الصحيح.

(يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ) من خير أو شرّ في ما كان يأخذ به من

٢٣

قضايا العقيدة والعمل ، ويتطلّع إلى النتائج من خلال ذلك ، فيرتاح المتّقون لأعمالهم ويؤكدون الثقة بمستقبلهم ، ويطمئنون لثواب الله. أما الكافر ، فإنه ينادي بالويل والثبور وعظائم الأمور ، ويعيش التمنيات اليائسة ، (وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً) لا مجال فيه للحس ولا للوعي ولا للحركة ، بل هو الموت الجامد الذي لا ينتهي إلى حياة ، لئلا يواجه المسؤولية بهذا المستوى الكبير في مثل هذا اليوم العظيم.

* * *

٢٤

سورة النّازعات

مكيّة

وآياتها ستّ وأربعون

٢٥
٢٦

في أجواء السورة

وهذه سورة مكية مثيرة بحركتها الموسيقية ، في معانيها المتحركة ، التي تكاد تلهث في ملاحقتها ، في ما توحي به كلمات : النازعات ، والناشطات ، والسابحات ، والسابقات ، والمدبّرات. فهناك حركة دائبة تتنوّع ذات اليمين وذات الشمال ، في الامتدادات وفي حيويّة إثارة القوّة والنشاط والتدبير الذي يحرّك الواقع. ويفاجئك الحديث عن يوم القيامة في رجفة الحركة ، ووجيف القلوب ، وخشوع الأبصار ، والاستغراق في الحفرة التي يردّ الناس إليها ، ثم يخرجون منها. ويثير هؤلاء المنكرون للقيامة السؤال ، ويأتيهم التأكيد بأن المسألة لا تحتاج إلا إلى زجرة واحدة ، ليواجهوا الموقف العظيم ، ومن ثم تدخل في دائرة تاريخ موسى عليه‌السلام وفرعون ، لتختصر حركة الدعوة ، وحركة الرفض ، وحركة التحدي ، وحركة الأخذ الإلهي ، ليطل هذا التاريخ على الأجواء التي تختصر حركة البشر بين المؤمنين والكافرين في ما يواجهونه يوم القيامة من النعيم في الجنة ، ومن الجحيم في النار.

ويدخل في مقارنة بين حجم الإنسان وحجم الكون في سماء الله التي بناها وجعلها في حركتها تنتج الليل والنهار ، وفي أرضه التي دحاها وفجّر منها الينابيع ومنحها حياة النموّ الذي يملأها بالخضرة ، وفي جبالها التي تثبت مواقعها وتمنعها من الاهتزاز.

٢٧

فهل يثبت الإنسان أمام هذه المقارنة؟ وكيف ينظر إلى حجمه ليستعلي على ربّه الذي تخشع له السماء والأرض؟ ولكن ، إلى أين أيّها الإنسان؟ فمهما امتدت بك الحياة ، فسوف تأتي الطامّة الكبرى التي لا تملك لنفسك فيها الخلاص الذاتي إلا من خلال عملك ، فإذا كنت ممن يخاف «مقام ربه» ، ويسير في خط هداه ، وينهى نفسه «عن الهوى» ، فستكون الجنة مأواك ، وأمّا إذا كنت من الطغاة الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، فإن الجحيم هي مستقرك.

وتلك هي الحقيقة التي لا بدّ أن يؤمنوا بها. وليست المشكلة مشكلة توقيتها لتدخل في جدل عقيم حولها من هذه الجهة ، بل القضية التي تتحمل مسئوليتها هي أن تنذر الناس من عذاب يوم القيامة ، الذي مهما تأخر ، فإنه ينتهي إلى الله سبحانه وتعالى.

وفي ضوء ذلك ، فإنها من السور التي تثير اليوم الآخر في جولة كونية وإنسانية وتاريخية ، ليعيش الإنسان الإيمان به من خلال كل هذه الحركة المتنوّعة التي تريد إثارة المسؤولية في الوعي الإنساني ، ليلتقي بها في مواقع الفكر المسؤول الذي يخرج عن أوضاع اللّامبالاة التي تمنعه عن الانفتاح الجدّي على الواقع الغيبي ، الذي ينتظر الناس من أجل أن يحاسبهم على الواقع الحسّيّ الذي عاشوه في الدنيا.

* * *

٢٨

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (١) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (٢) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (٣) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (٤) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (٥) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (٧) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (٩) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (١٠) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً(١١) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (١٢) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (١٣) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) (١٤)

* * *

معاني المفردات

(وَالنَّازِعاتِ) : النزع : إخراج الشيء من الشيء.

(غَرْقاً) : الغرق : اسم أقيم مقام المصدر وهو الإغراق.

(وَالنَّاشِطاتِ) : النشط : هو الجذب والخروج والإخراج برفق وسهولة.

٢٩

(وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً) : السبح : هو الإسراع في الحركة.

(فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) : السبق : هو تقدّم الشيء أو الشخص على غيره في مواقع حركته.

(فَالْمُدَبِّراتِ) : التدبير : رعاية الأمور والإشراف عليها والتخطيط لها.

(الرَّاجِفَةُ) : الصيحة العظيمة.

(الرَّادِفَةُ) : التابعة المتأخرة.

(واجِفَةٌ) : شديدة الاضطراب.

(خاشِعَةٌ) : ذليلة.

(الْحافِرَةِ) : الحافرة : أول الشيء ومبتدأه. يقال : رجع في حافرته ، أي : في طريقه التي جاء منها.

(نَخِرَةً) : بالية ، مفتتة.

(بِالسَّاهِرَةِ) : وجه الأرض.

* * *

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ)

ثمة سؤال يبرز هنا وهو : ما هي مواقع هذه المعاني في حركة الواقع؟ ومن هي ، أو ما هي المخلوقات التي تنزع وتنشط وتسبح وتسبق وتدبّر؟ وهل المقصود بكل هذه الكلمات معنى واحد ، أم أن بعضها يختلف عن البعض في مصداقه؟ قيل في ذلك : إنها الملائكة نازعات للأرواح نزعا شديدا ، ناشطات منطلقات في حركاتها ، سابحات في العوالم العليا ، سابقات للإيمان أو للطاعة لأمر ربها ، مدبّرات ما يوكل من الأمور إليها.

٣٠

وقيل : إنها النجوم تنزع في مداراتها ، وتتحرك وتنشط متنقلة من منزل إلى منزل ، وتسبح سبحا في فضاء الله ، وهي معلّقة به ، وتسبق سبقا في جريانها ودورانها ، وتدبر من النتائج والظواهر ما وكّله الله إليها مما يؤثّر في حياة الأرض ومن عليها.

وقيل : النازعات ، والناشطات ، والسابحات ، والسابقات ، هي النجوم ، والمدبّرات هي الملائكة.

* * *

رأي صاحب الميزان

ويختار صاحب الميزان الرأي الأول ، وذلك لعدة أمور :

منها : أنّ «الآيات شديدة الشبه سياقا بآيات مفتتح سورة الصافات : (وَالصَّافَّاتِ صَفًّا* فَالزَّاجِراتِ زَجْراً* فَالتَّالِياتِ ذِكْراً) [الصافات : ١ ـ ٣] وآيات مفتتح سورة المرسلات (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً* فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً* وَالنَّاشِراتِ نَشْراً* فَالْفارِقاتِ فَرْقاً* فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً) [المرسلات ١ ـ ٥] وهي تصف الملائكة في امتثالهم لأمر الله ، غير أنها تصف ملائكة الوحي ، والآيات في مفتتح هذه السورة تصف مطلق الملائكة في تدبيرهم أمر العالم بإذن الله.

ثم إن أظهر الصفات المذكورة في هذه الآيات الخمس في الانطباق على الملائكة قوله: (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) ... وإذ كان قوله : (فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) مفتتحا بفاء التفريع الدالة على تفرّع صفة التدبير على صفة السبق ، وكذا قوله : (فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً) مقرونا بفاء التفريع الدالة على تفرّع السبق على السبح ، دلّ ذلك على مجانسة المعاني المرادة بالآيات الثلاث (وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً* فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً* فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً) فمدلولها أنهم يدبرون الأمر بعد ما سبقوا إليه ، ويسبقون

٣١

إليه بعد ما سبحوا ، أي أسرعوا إليه عند النزول ...

وإذا كان المراد بالآيات الثلاث الإشارة إلى إسراع الملائكة في النزول على ما أمروا به من أمر وسبقهم إليه وتدبيره ، تعيّن حمل قوله : (وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً* وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً) على انتزاعهم وخروجهم من موقف الخطاب إلى ما أمروا به ، فنزعهم غرقا شروعهم في النزول نحو المطلوب بشدّة وجدّ ، ونشطهم خروجهم من موقفهم نحوه ...

فالآيات الخمس إقسام بما يتلبس به الملائكة من الصفات عند ما يؤمرون بتدبير أمر من أمور هذا العالم المشهود ، من حين يأخذون في النزول إليه إلى تمام التدبير» (١).

ولنا ملاحظة على الوجه الأول ، وهو أن هناك خلافا في المراد بالصافّات والمرسلات في ما هو المراد منها ، وليس هناك اتفاق على إرادة الملائكة منها. وعلى الوجه الثاني : أن الفاء هنا لا ظهور لها في التفريع ، فيمكن أن تكون لمجرد العطف على نحو الترتيب الذكري ، من دون ارتباط لأحدها بالآخر ، وقد لا نجد ضرورة في تنوّع المعنى المراد من هذه الفقرات ، لأن المسألة هي مسألة القسم بهذه الأمور المهمّة ، كما يمكن أن يكون المراد منها كل ما صدق عليه المعنى من المخلوقات التي يتناسب مضمونها مع العناوين المأخوذة فيها ، لأن كل موجود في الكون له سرّه الذي يمثل الأهمية المميزة التي تجعل له قيمة كونية تجعله في مستوى القسم به ، والله العالم.

وربما كانت هذه الكلمات واردة في الأجواء التي تسبق القيامة أو تتحرك في داخلها ، بعيدا عن أسلوب القسم ، باعتبار أنّ ذلك يوحي بالجوّ الحركيّ الذي يهز المشاعر التي تتصور المسألة هناك في حركة العنف المتمثل بالنزع

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ٢٠ ص : ١٩٨ ـ ١٩٩.

٣٢

والنشط والسبح والسبق والتدبير ، للإيحاء بالجدّية المسؤولة التي لا يملك أحد أمامها أن يواجه القضية باللّامبالاة العبثية والاسترخاء الغافل ، ليكون ارتباط هذه الفقرات بما بعدها ارتباطا طبيعيا باعتباره من أجواء هذا اليوم.

* * *

اضطراب القلوب

(يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ) وهي الصيحة العظيمة ، التي فيها تردد واضطراب ـ كما قيل ـ (تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ) وهي المتأخرة التابعة ، ولعلها النفخة التي تبعث الناس من الأجداث ، ثم تجمعهم إلى الموقف الحاسم بين يدي الله.

وقد ذكر صاحب الميزان أن كلمة (يَوْمَ تَرْجُفُ) إلخ ظرف «لجواب القسم المحذوف للدلالة على فخامته وبلوغه الغاية في الشدة وهو : لتبعثن» (١). وفي هذا الوجه خفاء. وقد ذكرنا قريبا أن هناك احتمالا في تفسير هذه الفقرات بحيث لا تكون واردة في سياق القسم ، والله العالم.

(قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ) أي مضطربة. وربما كان المراد من القلوب أصحابها ، وقد عبر عنها بالقلوب باعتبار أن القلب هو مركز الاضطراب الذي يحل بالنفس ، فتضطرب خفقاته (أَبْصارُها خاشِعَةٌ) في ما يواجه هؤلاء الناس من الموقف الهائل الذي يثير الرعب في الكيان كله من خلال ما يمكن أن يواجه من أهوال القيامة في عذاب النار ، الذي كانوا يستبعدونه ويسخرون من النبي الذي يدعوهم إلى الإيمان به ، وينذرهم يومه.

(يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ) فهل يمكن أن نعود إلى حالتنا الأولى وهي الحياة؟ (أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً) أي متفتتة بالية ، نخرة يصفر فيها الهواء ،

__________________

(١) (م. س) ، ج : ٢٠ ص : ٢٠٢.

٣٣

فكيف يمكن أن تدبّ فيها الحياة من جديد ويكسوها اللحم؟ إنها فرضية لا تخضع للقبول الذهني ، في ما نألفه من الأشياء التي عشنا تجربتها في الحياة ، ولكن ، إذا كان هذا الأمر صحيحا ، فكيف نواجه الموقف ، ونحن على ما نحن عليه من الكفر بالرسول وبالرسالة وباليوم الآخر؟ (قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ) أي رجعة يخسر فيها الإنسان مصيره. وقد يكون هذا الكلام واردا على سبيل الاستهزاء ، وربما كان لونا من ألوان الحيرة الذاتية التي قد يخضع لها الإنسان عند ما يفرض الاحتمال نفسه على الفكر والشعور. وينطلق المنطق القرآني ليردّ عليهم ، فما هي قيمة كل هذا الاستبعاد أمام قدرة الله الذي لا يحتاج إلى أيّ جهد في إعادتهم إلى الحياة؟!

(فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ) تدفعهم وهم أموات إلى الحياة الجديدة ، (فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ) مجتمعون على الساهرة ، وهي الأرض المستوية أو الخالية من النبات ، يتطلعون إلى الأفق الرحب أمامها ، بعد أن كانوا في رقادهم الطويل الميت البالي في بطن الأرض. وربما كان هذا قريبا من قول الله سبحانه : (وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ) [النحل : ٧٧]

* * *

٣٤

الآيات

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (١٥) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (١٦) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (١٧) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (١٨) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (١٩) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (٢٠) فَكَذَّبَ وَعَصى (٢١) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (٢٢) فَحَشَرَ فَنادى (٢٣) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (٢٤) فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (٢٥) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) (٢٦)

* * *

معاني المفردات

(الْمُقَدَّسِ) : المطهّر.

(طُوىً) : اسم واد.

(طَغى) : علا وتكبّر.

(نَكالَ) : عذاب.

* * *

٣٥

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) عليه‌السلام

وإذا كان هؤلاء الكافرون ، المكذبون بيوم القيامة ، المستهزئون بالرسول وبالرسالة ، يقفون مثل هذا الموقف العدواني ضدّك ، فقد تحتاج إلى أن تذكرهم بحديث موسى عليه‌السلام وفرعون ، ليكون ذلك عبرة لهم ، في ما يمكن أن نثيره في نفوسهم من الخشية في قضية المصير ، لأنهم يقفون في موقف فرعون ، بينما تقف ـ أنت ـ في موقف موسى عليه‌السلام.

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى) في قصته الموحية المتحركة في أكثر من قضية؟! ولكن المسألة ، هنا ، هي اختصار الأحداث في الحدود الفاصلة التي تمثل مفاصل الواقع الرسالي في مواجهة التحديات.

(إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) وهذا هو اسم الواد المقدس ، الذي كان موسى عليه‌السلام يقف فيه في بداية الرسالة ، وكانت المهمة الحاسمة الصعبة في انتظاره.

* * *

فرعون الطاغي

(اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى) فقد عاش الطغيان الذاتي في استكباره المعقّد الذي جعله يوحي إلى نفسه بأنه في موقع الإله الذي يريد من الناس أن يتعبّدوا له ويطيعوه في كل شيء ، كما عاش الطغيان في العلوّ الذي يتطلع من خلاله إلى الناس من فوق ليستضعفهم ويسخّرهم لمصالحه ولأشغاله ولأطماعه ، من دون أن يحترم إنسانيتهم ، حتى بلغ به الأمر أنه أمر بذبح أبناء بني إسرائيل واستحياء نسائهم .. وإذا بلغ الطغيان مثل هذا المستوى ، فإن الله لا يرضى إلا بتغيير الواقع الاجتماعي إلى وضع أفضل ، مما يفرض التحرك نحوه بأية

٣٦

حركة ، كإرسال الرسول ، أو إثارة الواقع من حوله ، ليهتز الطاغية ، فيسقط الطغيان ، لأن الله لا يريد للناس المستضعفين أن يسقطوا تحت تأثير استكبار المستكبرين ، ولا يسمح لهم أن يعيشوا عقدة الضعف في ذاتهم ، بل يريد لهم أن يتمردوا عليها من أجل أن يحصلوا على مواقع القوّة في ما يتوفر لديهم من الفرص الكثيرة في ذلك.

ولعل التعبير بالطغيان عن واقع فرعون ، كأساس لحركة الرسالة في خطاب الله لموسى ، يوحي بأن المسألة ليست مجرد الفرد الذي ينحرف في فكره وعمله ، ولكنها مسألة التأثير السلبي على حياة الناس في ما يمثله الطغيان من معنى يتعلق بالناس لجهة ما يثيره من مشاكل في حياتهم.

(فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى) وتتطهّر من قذاراتك الفكرية والروحية والعملية التي علقت بكيانك كلّه ، فأصبح فكرك يحمل قذارة الكفر ، وتلوّثت روحك بقذارة التكبر والتجبر ، وأحاطت بعملك أقذار الظلم والطغيان.

وهكذا كانت رسالته إليه تتحرك بأسلوب الإثارة الإيحائية التي تأخذ معنى الصدمة القاسية بأسلوب هادئ ، فلم يكن فرعون لينتظر أن يخاطبه شخص مثل موسى عليه‌السلام ليحدثه عن الوحل الذي يغرق فيه ، وعن الطهارة التي يدعوه إليها ، ولكنها ـ في الوقت نفسه ـ قد تثير بأسلوبها الهادىء بعض الحيرة في نفسه ، وبعض الشك في فكره ، ليراجع أوضاعه من خلال الكلمة ـ الصدمة ـ لأنها جاءت في معرض الطلب الهادىء الخالي من عنصر الإثارة الذي يفتح القضية ، كما لو كانت شيئا يتسلم زمام المبادرة فيه ليقوم به بإرادته ، الأمر الذي يبتعد عن أسلوب الفرض ، فلا يتنافى مع طبيعة الكبرياء في ذاته.

(وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى) وهذا هو الطرح الثاني بعد الأوّل ، فإذا كانت الدعوة إلى الزكاة الروحية هي القضية التي تثير فيه الرغبة في التطهر ، بالمعنى التغييري الذي يتحول فيه عن واقعه المنحرف ، فإن من الضروري أن يفتح

٣٧

النبيّ له درب الهدى الذي يصله بالله ليتعرف عظمته في ذاته ، فتصغر نفسه عنده ، وتتعاظم خشية الله لديه ، ليتكامل له الخط المستقيم في طبيعته السلبية المتمثلة بالابتعاد عن خط الانحراف ، وفي طبيعته الإيجابية المتمثلة بالالتزام بخط الاستقامة.

وتلك هي مشكلة الكثيرين من الناس ، لا سيّما الجبابرة منهم ، فهم لم يتعرفوا على الله ليهتدوا إليه ، بل استغرقوا في ذواتهم ، وفي ما يحيط بهم من أوضاع ، فغفلوا عن كل شيء يتصل بالآفاق الرحبة التي تنفتح على مواقع عظمة الله في الكون ، فكانت المسألة هي أن يخرجوا من حالة الاستغراق الذاتية المختنقة ليتسع أفقهم ، وليتحرك فكرهم ، وليبدأوا الرحلة إلى عالم جديد. وهذا ما أراد الله لموسى عليه‌السلام أن يواجه به فرعون من أجل أن يصل إلى استشعار خشية الله ، ولكن فرعون لم يتقبل هذه الدعوة المنفتحة على الحق ، فثارت به كبرياؤه ، فاستصغر شأن موسى عليه‌السلام ، لا سيّما أنه كان ينتمي إلى الطبقة المنبوذة المستضعفة من قبل فرعون. ولم يستسلم موسى عليه‌السلام إلى هذه النظرة الفوقية الفرعونية ، فأراد أن يصدم طبيعة هذا الموقف المتكبر ، فقدم إليه العصا واليد البيضاء.

* * *

موسى عليه‌السلام يتحدى فرعون بآيات الله

(فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى) التي تدل على صدقه في رسالته ، في تعبيرها عن ارتباطه بالله.

(فَكَذَّبَ وَعَصى) وتحدّث عن السحر في ردّه على موسى عليه‌السلام ، فاعتبره ساحرا يريد أن يقلب الموقف لمصلحته بسحره ، ليصل إلى السلطة تحت شعار النبوّة التي تمنحه قوّة روحية كبيرة في تأثيرها على الجماهير المستضعفة المتطلعة إلى

٣٨

المخلّص من خلال عالم الغيب ، في توسلاتهم الخفية الغيبيّة.

(ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى) فتولّى عن الاستمرار في الحديث مع موسى عليه‌السلام ، لأنه لا يريد أن يدخل في حوار فكريّ لا يضمن لنفسه الانتصار فيه. وبدأ يخطط ويسعى للإيقاع بموسى عليه‌السلام ولإظهار ضعفه ، بعد أن خيّل إليه أنه يستعمل السحر للوصول إلى هدفه ، لأن مثل هؤلاء الجبابرة لا يتعاملون مع الناس إلا بمنطق القوّة ، لأنهم لا يؤمنون بمنطق الفكر ، وبأسلوب الحوار ، في ما يريدون أن يتوصلوا إليه من نتائج لمصلحة امتداد جبروتهم وقوّة مركزهم.

(فَحَشَرَ) الناس إلى اجتماع عامّ في يوم الزينة الذي يجتمع الناس فيه بشكل كثيف لأنه من أعيادهم ، (فَنادى) في الجماهير المحتشدة التي تتطلع إليه من مواقع استضعافها في خضوع الذل الذي استغرقت فيه من خلال الزمن الطويل الذي عاشوه في تجربة الاضطهاد.

وأراد فرعون أن يؤكد ـ من جديد ـ سلطته ، كمحاولة للإيحاء الذاتي لنفسه بأنه ما يزال في مركز القوّة بعد أن كادت ثقته بنفسه تهتز أمام تحدّي موسى عليه‌السلام له ، وقوّته السحرية التي أخذت بمجامع قلبه ، وكتجربة جديدة للإيحاء للناس بذلك من خلال تثبيت الصفة التي يرتفع فيها على الناس بشكل غير معقول ، في ما استغله من ضعفهم وجهلهم وحاجتهم إليه.

(فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى) ، فلا تتبعوا الأرباب الآخرين مما يلتزمهم الناس من الآلهة ، لأن ربوبيتهم لا ترقى إلى مستوى الربوبية الذي أنا فيه ، ولا تستمعوا إلى كل الادّعاءات الأخرى التي تحاول النيل من مقامي العظيم. قال هذه الكلمة ، وهو يحسب حساب النتائج التي يمكن أن تكون لمصلحة موسى عليه‌السلام ، ليضع في داخلهم حاجزا نفسيا ضد التأثر به والانجرار إليه ، بحيث لا يتمكنون من ترك ربهم الأعلى ، واتباع الساحر الذي يريد أن يصل إلى الموقع الأعلى بسحره. وقد كان الناس يفرّقون بين الساحر والإله ، لأن

٣٩

الساحر ينطلق ، في موقعه ، من خلال اللعبة الفنية التي يتحرك فيها ، ثم تنتهي الإثارة مع انتهاء المشهد. أمّا الإله ، فهو الذي ينطلق من الأسرار الخفية في ذاته ، ومن المعاني الغيبية في قدرته ، لترتبط به قضايا الناس ومصالحهم ومعاشهم. إذا ، لا مجال للمقارنة.

ولكن فرعون لم يصل إلى هدفه ، فقد آمن السحرة بموسى عليه‌السلام ، وفشلت كل خططه في تدمير القوّة الروحيّة التي يتحرك بها موسى عليه‌السلام في ساحة الدعوة إلى الله ، وانقلب الأمر إلى عكس الخطة ، فقد ربح موسى عليه‌السلام معركة ردّ التحدي في المشهد المثير بسجود السحرة لله عزوجل ، مما ترك تأثيره على الجماهير هناك ، وأتاح له الفرصة لأن تعرفه الناس في الاجتماع العام ، بعد أن كانت الفرص معدومة أمامه.

وهكذا امتد الصراع ، وأخذ موسى عليه‌السلام موقع القوّة ، وخرج بقومه لينأى بهم عن سيطرة فرعون ، وليؤكد قوّة الرسالة في مواقع جديدة ، وعلى أساس القاعدة الإيمانية التي توجّه المستضعفين إلى البحث عن أرض أخرى يهاجرون إليها ليصنعوا فيها القوّة ، إذا لم يستطيعوا الأخذ بأسباب القوة في أرضهم التي يعيشون عليها ، ليرجعوا إليها بعد ذلك في قوّة جديدة للصراع وللتغيير. ولكن فرعون ظل مصرّا على ملاحقة موسى عليه‌السلام وقومه ، للتضييق على هذه الحركة الخطرة على سلطانه ، ولقتل موسى عليه‌السلام ، وتصفية أتباعه في نهاية المطاف.

(فَأَخَذَهُ اللهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى) والظاهر أن المراد بالأخذ المعنى الكنائي المعبّر عن الإهلاك والتعذيب في الدنيا والآخرة ، وأما عذاب الأولى ، فهو عذاب جهنم الذي يأتي بعد الموت .. وهذا ما يراد من كلمة «النكال» التي تعني العذاب الذي يردع من سمعه عن تعاطي مثله لفظاعته وشدّته.

* * *

٤٠