تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

هناك صلة وثيقة بينهما ، بحيث كان يدخل على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو جالس بين زوجاته ، وقد اشتهرت الرواية التي تتضمن دخوله عليه وعنده عائشة وأم سلمة ، فقال لهما : احتجبا فقالتا : إنه أعمى ، فقال : أنتما تريانه.

وإذا كان ذلك قد حدث في المدينة ، بالإضافة إلى استخلافه عليها عند خروجه إلى الغزو ، فإنه يدل على عمق الصلة منذ البداية ، لا سيما إذا سلّمنا بالرواية التي تتضمن سؤاله الملحّ بأن يتلو عليه كتاب الله ويعلّمه ممّا علمه الله ، مما يدلّ على الروحية الإيمانية التي تستوعب المعرفة الدينية للقرآن وللإسلام بالمستوى الذي ينتهز فيه الفرصة الدائمة لاكتساب العلم.

إن ذلك كله قد يوحي بوحدة الحال بينه وبين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث يغيب عن العلاقة أيّ طابع رسميّ ، مما يجعل إعراض النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، اعتمادا على ما بينهما من الصلة التي تسمح له بتأخير الحديث معه إلى فرصة أخرى ، من دون أن يترك أيّ أثر سلبيّ في نفسه ، لا سيّما إذا كان ذلك لمصلحة الدين التي تجعل أي مسلم في زمن الدعوة الأوّل ، يفرح لنجاح النبي في استمالته لأي شخص من كفار قريش الوجهاء في مجتمعهم ، إلى دائرة الإيمان أو الدين الجديد ، باعتبار أن ذلك يخفف العذاب والحصار على المسلمين المستضعفين ، ومنهم ابن أم مكتوم. وبذلك يكون إعراض النبي عنه كإعراضه عن أحد أفراد أصحابه ، أو عائلته ، اتّكالا على ما بينهما من صلات عميقة ووحدة حال. كما أن العبوس لم يكن عبوس الاحتقار ، بل قد يكون أقرب إلى عبوس المضايقة النفسية التي توجد تقلّصا في الوجه عند ما يقطع أحد على الإنسان حديثه الذي يرقى إلى مستوى الأهمية لديه ، فلا يكون ، في ذلك ، أيّ عمل غير أخلاقيّ ، فلا يتنافى مع الآيات التي أكدت خلقه العظيم وسعة صدره.

النقطة الثانية : إن مدلول الآيات يوحي بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يستهدف من

٦١

حديثه مع هؤلاء الصناديد ، تزكيتهم الفكرية والروحية والعملية ، بعيدا عن مسألة الاهتمام بغناهم من ناحية ذاتية ، في ما اعتاده الناس من الاهتمام بالغني تعظيما لغناه ، ورغبة في الحصول على ماله في ما يمثله ذلك من قيمة سلبية بالمستوى الأخلاقي ، الذي يؤكد على تقييم الشخص لصفاته الفكرية والعملية الإيجابية ، وذلك هو قوله تعالى : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى* وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) للإيحاء له بأن عدم حصوله على التزكية ، بعد إقامة الحجة عليه ، من قبلك ، مدّة طويلة ، لا يمثل مشكلة بالنسبة إليك ، لأنك لم تقصّر في تقديم الفرص الفكرية بما قدمته من أساليب الإقناع ، ممّا جعل من التجربة الجديدة تجربة غير ذات موضوع ، لأنه يرفض الهداية من خلال ما يظهر من سلوكه ، الأمر الذي يجعل من الاستغراق في ذلك مضيعة للوقت ، وتفويتا لفرصة مهمّة أخرى ، وهي تنمية معرفة هذا المؤمن الداعية الذي يمكن أن يتحول إلى عنصر مؤثّر في الدعوة الإسلامية. فأين هي المشكلة الأخلاقية المنافية للعصمة في هذا كله؟

النقطة الثالثة : إن السورة قد تكون واردة في مقام توجيه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى الاهتمام بالفئة المستضعفة التي تخشى الله وتؤمن به ، لتعميق تجربتها الروحية ، وتنمية معرفتها القرآنية الإسلامية ، لأن ذلك ممّا يقوّي قاعدة المجتمع الإسلامي الصغير النامي الذي يملك أفراده الإيمان القويّ والالتزام الشديد ، ويرفع من مستوى الدعوة في اهتمامات المؤمنين بالدعوة ، ليتحوّلوا إلى دعاة أكفاء ، كما أن هذه الفئة هي الأكثر استعدادا لبذل الجهد ، وتحمّل المسؤوليات ، وتقديم التضحيات ، لأنهم الأقرب إلى روح الدعوة ، ولأنهم لم يستغرقوا في خصوصيات الدنيا ، ولم يأخذوا بامتيازاتها كما أخذ غيرهم ، فهم لا يفقدون شيئا من امتداد الإسلام ، كما يفقد الأغنياء والمستكبرون ، بل يستفيدون من ذلك. ولعلّ هذا ما نستوحيه من الظاهرة المعروفة ، وهي أن أتباع الأنبياء والمصلحين هم الفئة المستضعفة المرذولة في المجتمع ، لأن

٦٢

الدعوات الرسالية والإصلاحية تعالج مشاكلها ، وتلتقي بتطلعاتها ، وتحترم إنسانيتها المسحوقة لدى الآخرين من المستكبرين.

أمّا الأغنياء ، فإن هدايتهم قد تحقق بعض الربح وبعض النتائج الإيجابية على مستوى إزالة المشاكل ، التي كانوا يثيرونها أمام الدعوة ، عن الطريق ، ولكنهم لا يستطيعون التخلّص من رواسبهم بشكل سريع ، مما قد يجعل الانصراف إليهم والانشغال بهم عن غيرهم ، موجبا لبعض النتائج الصغيرة ، على حساب النتائج الكبيرة.

وعلى ضوء ذلك ، فقد تكون هذه الآيات واردة للحديث عن المقارنة بين الاهتمام بتزكية المستضعفين من المؤمنين الذين هم القوّة الحركية للدعوة ، وبين الاهتمام بتزكية هؤلاء الذين قد يحتاج الموضوع لديهم إلى جهد كبير ، لا يملك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الوقت الكثير له في اهتماماته العامة ، في الوقت الذي لم تكن فرص هدايتهم كبيرة ، كما أنهم لن يؤثروا تأثيرا كبيرا لمصلحة الدعوة ، مع ملاحظة مهمّة ، وهي أن قوّة الدعوة التي يحققها المستضعفون ، في جهدهم وجهادهم ، سوف تحقق الامتداد للإسلام ، بحيث يدخل هؤلاء المستكبرون فيه بشكل سريع ، لأن هؤلاء لا يخضعون للمنطق ـ عادة ـ بل للقوة ، وهذا ما لاحظناه في فتح مكة الذي أفسح المجال لدخول الناس في دين الله أفواجا ، لأن الإسلام قد بلغ الذروة في القوة آنذاك.

النقطة الرابعة : إن القسوة الملحوظة في الآيات في الحديث مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تمثل ظاهرة واضحة في أكثر الآيات التي تتصل بسلامة الدعوة واستقامة خطها ، سيما في قوله تعالى : (فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ) [الحاقة : ٤٧] وقوله تعالى في الحديث عن المحاولات التي يبذلها المشركون للتأثير عليه من أجل الافتراء على الله : (وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً* وَلَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ

٦٣

شَيْئاً قَلِيلاً* إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً) ، [الإسراء : ٧٣ ـ ٧٥] وقوله تعالى : (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) [الزمر : ٦٥] وغير ذلك من الآيات ، لأن القضية ترقى إلى المستوى الكبير من الأهمية ، بحيث لولاها لانحرفت مسيرة الرسالة بانحراف الرسول أو القائد ، للإيحاء بأن هذه القضية لا تقبل التهاون حتى في الموارد المستبعدة منها ، وذلك ، من أجل أن يفهم الدعاة من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بأن عليهم أن يقفوا في خط الاستقامة ، حتى بالمستوى الذي لا يمثل تصرفهم فيه عملا غير أخلاقيّ ، لأن الغفلة عن الخطوط الدقيقة في المسألة ، قد تجرّ إلى الانحراف بطريقة لا شعوريّة.

النقطة الخامسة : إن القرآن الكريم قد عمل على تثبيت شخصية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتأديبه بأدب الله ، في ما يريد الله له أن يأخذ به من الكمال الروحي والأخلاقي والعملي ، ممّا يلقي إليه الله علمه ، مما قد يختلف عن الخط المألوف عند الناس. ولعلّ هذه المسألة تدخل في هذه الدائرة ، لأن المعروف هو الاهتمام بالأغنياء لقدرتهم على التأثير في المجتمع بطريقة فاعلة كبيرة ، بينما لا يملك المستضعفون الفقراء مثل ذلك ، فتكون النظرة ـ على هذا الأساس ـ نظرة رسالية ، لكنها قد تترك تأثيرا سلبيا على النظرة العامة لسلوك الرسول ، لأنهم قد يفكرون بالجانب السلبي في القضية ، وهو ملاحظة جانب الغنى في الاهتمام بالأغنياء من جهة النظرة الذاتية إلى قيمة الغنى في المجتمع ، فتأتي الآيات لتثير الموضوع ، وبهذه الطريقة ، لإبعاد السلوك عن الصورة السلبية من حيث الشكل ، حتى لو لم تكن سلبية من حيث المضمون ، مع ملاحظة مصلحة الدعوة في ذلك كله ، وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً)

٦٤

[الكهف : ٢٨] فإن هذه الآية توحي بأن الله يريد إخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الأجواء الضاغطة في العرف الاجتماعي ، التي يمكن أن تترك تأثيرها الخفيّ على نفسه بطريقة لا شعورية ، فيلتفت إلى الأغنياء رغبة في الامتيازات الحاصلة عندهم. وربّما كان ذلك على طريقة «إيّاك أعني واسمعي يا جارة» ليكون الخطاب للأمة ، من خلال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ليكون ذلك أكثر فاعلية وتأثيرا إيحائيا في أنفسهم ، لأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا كان يخاطب بهذه الطريقة في احتمالات الانحراف ، فكيف إذا كان الخطاب يراد به غيره.

النقطة السادسة : إن الرواية المنسوبة إلى الإمام الصادق عليه‌السلام في أن الحديث عن رجل من بني أمية ، لا تتناسب مع أجواء الآيات ، لأن الظاهر من مضمونها ، أن صاحب القضية يملك دورا رساليا ، ويتحمل مسئولية تزكية الناس ، مما يفرض توجيه الخطاب إليه للحديث معه عن الفئة التي يتحمل مسئولية تزكيتها ، باعتبارها القاعدة التي ترتكز عليها الدعوة وتقوى بها ، في مقابل الفئة الأخرى التي لم تحصل على التزكية ، ولا تستحق بذل الجهد الكثير.

* * *

الرسول بين المهم والأهم

(عَبَسَ وَتَوَلَّى) أي واجه الموقف بالعبوس الذي يتمثل في تقلص عضلات الوجه وقسوة النظرة ، والإعراض عن هذا السائل الملحاح ، (أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى) الذي عاش مسئولية الإيمان في مسئولية المعرفة ، كما عاش مسئولية الدعوة في حاجتها إلى الوعي الرسالي بكل مفرداتها العقيدية والتشريعية ، فأراد انتهاز فرصة وجود النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المسلمين ليأخذ من علمه ، ممّا أنزله الله عليه من كتاب ، وما ألهمه من علم الشريعة والمنهج والحياة ... ولكن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم

٦٥

يستجب له ، لأن هناك حالة مهمّة يعالجها في دوره الرسالي المسؤول ، في محاولة لتزكية هؤلاء الكفار من وجهاء المشركين ، طمعا في أن يسلموا ليتسع الإسلام في اتباع جماعتهم لهم ، لأنهم يقفون كحاجز بين الناس وبين الدعوة ، ولذلك أجّل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الحديث مع هذا الأعمى إلى وقت آخر ، إذ كانت الفرص الكثيرة تتسع للّقاء به أكثر من مرّة ، فتكون له الحرية في إغناء معلوماته بما يحب في جوّ هادئ ملائم ، بينما لا تحصل فرصة اللقاء بهؤلاء دائما ، فكانت المسألة دائرة ـ في وعيه الرسالي ـ بين المهمّ في دور هذا الأعمى ، وبين الأهمّ في دور هؤلاء الصناديد.

* * *

الأولوية لمن يتزكى

ولكن الله يوجه المسألة إلى ما هو الأعمق في قضية الأهمية في مصلحة الرسالة ، باعتبار أن هذا الأعمى قد يتحول إلى داعية إسلاميّ كبير ، (وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى) في ما يمكن أن يستلهمه من آيات القرآن التي يسمعها ، مما يغني له روحه ، فتصفو أفكاره ، وترقّ مشاعره ، وتتسع آفاقه ، وتتعمق معرفته بربه ، فيؤدي ذلك إلى عمق في الفكر ، وسعة في الأفق ، وغنى في الشخصية ، وحيوية في الحركة ، مما يؤثّر تأثيرا إيجابيا على حركته في الدعوة ، فيحصل من ذلك على خير كبير. (أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى) ، في ما يمكن أن يعيشه من غفلة عن بعض الحقائق ، أو جهل ببعض القضايا ، فتأتي الكلمات القرآنية لتقشع عنه سحائب الغفلة ، وتأتي الكلمات الرسولية لترفع عنه حجاب الجهل ، فإذا حدث له ذلك ، أمكن لهذا التطور في شخصيته ، أن يحقق النفع للخط الإسلامي المستقيم على مستوى الالتزام والدعوة والحركة.

* * *

٦٦

ليس للدعاة الانفتاح على الأغنياء لغناهم

(أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى) فلم تكن لديه أيّة ميزة إلّا غناه ، وكان يعتبر أن الغنى يمثّل عمق القيمة التي تمنحه موقعا اجتماعيا متقدّما ، وتغريه ـ دائما ـ بأن يضع كل فكره وعمله وعلاقاته بالناس في خدمة هذا الغنى ، حتى أن انتماءه إلى أيّ دين أو مذهب يتحرك في جهة الدين الذي يخدم مصلحته المادية ، والمذهب الذي يدعم ثروته.

(فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) لتحاول بجهدك الرسالي أن تمنحه زكاة الروح وطهارة الفكر ، في ما تحسبه من النتائج الكبيرة لذلك على مستوى امتداد الإسلام في قريش.

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى) فلن تتحمل أيّة مسئولية من خلال ابتعاده عن الخط المستقيم ، وتمرّده على تطلعات الروح إلى آفاق الطهارة وسماوات الصفاء ، لأنك لم تقصر في الإبلاغ ، ولم تدّخر أيّ جهد في ما حرّكته من الوسائل التي تملكها ، وفي ما استخدمته من الأساليب التي تحرّكها في اتجاه التزكية للناس جميعا. وقد سمعوا ذلك كله ، وأصرّوا على الاستكبار والتمرّد ، لا من موقع شبهة ، ولكن من موقع القرار الذي أصدروه مع جماعتهم ، في عدم الاستجابة إليك. ولم يكن قدومهم إليك من أجل الهداية ، بل كان ذلك ـ ربّما ـ من أجل الضغط عليك بطريقتهم الخاصة لتترك الرسالة ، أو لتدخل معهم في حسابات التسويات ، لتقدم التنازلات ضد مصلحة الرسالة. وهذا ما يريد الله أن يعرّفك إيّاه من خلال ما يعلمه من خفايا هذا الإنسان وجماعته ، وما قد تعرفه من خلال تجربتك الحسية في المستقبل.

(وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى) للحصول على المعرفة (وَهُوَ يَخْشى) الله في نفسه ، وفي مسئوليته في الدعوة ، وفي المهمّات الأخرى الموكولة إليه. مما قد

٦٧

يتوقف على سعة المعرفة ، (فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) لأنك تحسب أن إيمان هؤلاء الصناديد قد ينفع الإسلام أكثر من نموّ إيمان هذا الأعمى ، الذي يمكن أن يؤجّل السؤال لوقت آخر. ولكن المسألة ليست كذلك ، لأن هذا الأعمى وأمثاله ، قد يمثلون مسئوليتك المباشرة كرسول يعمل على تنمية خط الدعوة بتنمية الدعاة من حوله ، من أجل أن يوفروا عليك بعض الجهد ، أو يوسّعوا ساحة الدعوة في مواقع جديدة. وهذا ما يريد الله أن يفتح قلبك عليه ، في ما يريد لك من تكامل الوعي ، وسعة الأفق ، وعمق النظرة للأمور. ولا مانع من أن يربّي الله رسوله تدريجيا ، ويثبت قلبه بطريقة متحركة في حركة الدعوة تبعا لحاجتها إلى ذلك ، تماما كما كان إنزال القرآن تدريجيا من أجل الوصول إلى هذه النتائج.

* * *

٦٨

الآيات

(كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ) (١٦)

* * *

معاني المفردات

(صُحُفٍ) : جمع صحيفة ، وهو عند العرب كل مكتوب فيه.

(سَفَرَةٍ) : الملائكة.

* * *

كلام الله تذكرة للعباد

(كَلَّا) هل هو ردع عن العبوس والتلهي عن الأعمى والتصدي للأغنياء ، وتوجيه للنبي أن لا يعود إلى مثل ذلك ، أم أنه رفض للواقع الذي كان يعيشه الناس في الغفلة عن الانفتاح على آيات الله ، من خلال ما يمكن أن تطلّ به الآيات المتقدمة من الإيحاء بذلك الواقع الغافل عن الحق الذي كلّف

٦٩

النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يغيّره إلى واقع يعيش فيه الإنسان التذكرة؟ والأقرب الأول ، لأن الكلمة مسوقة للحديث عما سبقها.

(إِنَّها تَذْكِرَةٌ) وهي آيات القرآن ، التي أنزلها الله على عباده ليخرجهم من ظلمات الغفلة إلى نور التذكرة بما تفتح به عقولهم على حقائق العقيدة والكون والحياة ، ليكونوا أكثر وعيا للخالق والمخلوق ، ويتعرفوا مقام الخالق في عظمته وألوهيته ، ومقام المخلوق في عبوديته.

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي القرآن وانفتح عليه باختياره ، لأن الله لم يرد للناس أن يلتزموا بدينه من خلال الجبر التكويني ، بل أراد له أن يكون صادرا عن القناعة والمشيئة الفكرية للإنسان بالإيمان به.

(فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ) والظاهر أن المراد بها كل ما يكتب فيه ، ولعل تكريمها من خلال اشتمالها على كلام الله ، في ما أنزله على رسله ، (مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ) مرفوعة في قدرها ومعناها ، مطهرة من قذارة الباطل ، أو أنها مصونة من أيدي الكافرين ، وفيه خفاء. (بِأَيْدِي سَفَرَةٍ) وهم الملائكة الذين ينزلون بها على الأنبياء ، وهم (كِرامٍ بَرَرَةٍ) فقد أكرمهم الله بأن جعلهم في مواقع القرب لديه ، وفي مراكز المسؤولية لإبلاغ وحيه من خلال صلاحهم وتقواهم ، فهم البررة بمعنى الصالحين المتقين.

* * *

٧٠

الآيات

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٢)

* * *

معاني المفردات

(ما أَكْفَرَهُ) : ما أشدّ كفره.

(أَنْشَرَهُ) : بعثه إلى الحياة من جديد.

(وَقَضْباً) : القضب : هو ما يؤكل رطبا غضا من الخضرة التي تقطع مرة بعد أخرى.

(وَفاكِهَةً وَأَبًّا) : قيل : الفاكهة مطلق الثمار ، والأبّ : الكلأ والمرعى.

* * *

٧١

الكفر المحض

وهذا حديث عن الإنسان الذي يكفر بالله ، فلا يتطلع إلى مواقع عظمته في خلقه ، ولا إلى مواقع نعمه في حياته ، مما يجعل من كفره ، بهذه الحقيقة الواضحة ، كفرا بما لا يجوز الكفر به ، لأن مجرد التفكير به يدفع إلى الإيمان به.

(قُتِلَ الْإِنْسانُ) كلمة دعاء عليه ، وإيحاء بتفظيع أمره وتقبيحه ، باعتبار أنه فعل يستحق عليه القتل ، لخطورة نتائجه ، (ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشدّ كفره وجحوده وتمرده على ربّه ، فإنه يستوجب العجب ، في إنكاره ما لا يجوز إنكاره من حقيقة الإيمان بربه ، لأنه جمّد عقله عن الحركة في اتجاه اكتشاف الأسس التي يرتكز عليها الإيمان.

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ) هو طرح هذا السؤال على نفسه؟ وهل فكر في أصله؟

(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) ما قيمة هذه النطفة؟ وما ذا تملك في ذاتها من العناصر الذاتية للنمو؟ إنها ـ ككل الأشياء ـ لا تملك القدرة ، ولكن الله هو الذي يقدّر لها طبيعة النمو ، وحركة التحوّل ، وعناصر التنوّع ، وسرّ الحياة ، بالمستوى الذي يصل فيه هذا الموجود الحقير إلى أن يكون خلقا سويّا يملك السمع والبصر والحس والعقل والإرادة.

* * *

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ)

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي مهّد للإنسان سبل الحياة في ما سخّره له من ظواهرها المتصلة بوجوده ، كما مهّد له سبل الهداية في ما فتحه له من طرق معرفة الخير والشرّ ، ليختار ما يريده منها ، وفي ما أودعه ، في ذاته ، من عناصر

٧٢

الحركة ، التي يتمكن بها من سلوك الطريق المستقيم ، ومن الأخذ بأسباب الحياة.

وهناك توجيه آخر لهذه الآية ، ذكره صاحب تفسير الميزان قال : «ظاهر السياق المقصود به نفي العذر من الإنسان في كفره واستكباره ، أن المراد بالسبيل ـ وقد أطلق ـ السبيل إلى طاعة الله وامتثال أوامره ، وإن شئت فقل : السبيل إلى الخير والسعادة.

فتكون الآية في معنى دفع الدخل ، فإنه إذا قيل : (مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أمكن أن يتوهم السامع أن الخلق والتقدير إذا كانا محيطين بالإنسان من كل جهة ، كانت أفعال الإنسان لذاته وصفاته مقدّرة مكتوبة ومتعلّقة لمشيئة الربوبية التي لا تتخلف ، فتكون أفعال الإنسان ضرورية الثبوت واجبة التحقق ، والإنسان مجبرا عليها فاقدا للاختيار ، فلا صنع للإنسان في كفره إذا كفر ، ولا في فسقه إذا فسق ، ولم يقض ما أمره الله به ، وإنما ذلك بتقديره ، تعالى ، وإرادته ، فلا ذمّ ولا لائمة على الإنسان ، ولا دعوة دينية تتعلق به ، لأن ذلك كله فرع للاختيار ولا اختيار.

فدفع الشبهة بقوله : (ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) ، ومحصله أن الخلق والتقدير لا ينافيان كون الإنسان مختارا في ما أمر به من الإيمان والطاعة ، له طريق إلى السعادة التي خلق لها ، فكلّ ميسّر لما خلق له ، وذلك أن التقدير واقع على الأفعال الإنسانية من طريق اختياره ، والإرادة الربوبية متعلقة بأن يفعل الإنسان بإرادته واختياره كذا وكذا ، فالفعل صادر عن الإنسان باختياره ، وهو بما أنه اختياريّ متعلّق للتقدير.

فالإنسان مختار في فعله مسئول عنه ، وإن كان متعلقا للقدر» (١).

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص ٢٢٧.

٧٣

ولكن يظهر من سياق الآية أن المراد هو تذكير الإنسان بتطور وجوده ، ومواقع نعمة الله عليه ، لينتهي من خلال التفكير بذلك إلى الإيمان بالله وليبتعد عن خط الكفر به ، وليس المراد الحديث عن طبيعة مسئوليته ، في ما هو الجبر والاختيار ، لأن الجوّ ليس جوّ البحث في تفاصيل طبيعة خلق الإنسان في تكوينه الداخلي والخارجي.

(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ) عند ما انتهت رحلة الحياة في الأجل المحدّد له في ذاته من حيث طبيعة إمكانات الحياة فيه ، أو في دائرة الظروف المحيطة به ، من خلال علاقته بالواقع الكوني ، في ما خلقه الله من أسباب الحياة والموت. وهكذا أماته ، وجعل السنّة أن يدفن في باطن الأرض تكريما له لئلا تأكله السباع.

(ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) وبعثه إلى الحياة من جديد ليواجه نتائج أعماله في الدنيا ، لأن الله لم يخلقه عبثا ، ولم يتركه سدى ، بل جعل لكل عمل جزاء ثوابا أو عقابا ، فهل فكر الإنسان في ذلك؟ وهل وعى ضرورة الاستعداد ليوم الحشر؟ (كَلَّا) فلم يفكر الإنسان تفكيرا دقيقا في هذا الموضوع ، ولو فكر به لرأى أن الاحتمال ـ وحده ـ يكفي لإثارة الاهتمام به ، لأنه يتصل بمسألة المصير في مواجهة الموقف ـ غدا ـ بين يدي الله ، مما قد يؤدي إلى الخسارة الخالدة ، لو كان حقا.

وهكذا امتد هذا الإنسان في غفلته ، و (لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) الله به من مسئوليات وما فرضه عليه من شكر النعمة ، فعاش الحياة غافلا عن ربه ، مستغرقا في دنياه ، مقصرا في واجباته ، مهملا لدوره الذي أعده الله له في خلافته عنه.

وإذا كان هذا الإنسان لا يعي مسألة الوجود في بدايته وفي تقديره ، وفي موته ونشوره ، لأنه لا يستغرق عادة في طبيعة كيانه ، باعتبار أنه ليس منفصلا

٧٤

عنه ، مما يجعل التركيز فيه يستدعي المزيد من الإعداد والتفكير للوصول إلى ذلك ، ولكن هناك مسألة تتكرر في حياته اليومية ، في ما يتناوله من طعامه الذي قد يثير لديه الكثير من التفكير حوله ، وربما يصنعه بيده في زراعته له.

* * *

فلينظر الإنسان إلى طعامه

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) كيف تكوّن؟ وما هي العناصر المكوّنة له؟ إن هذه الآيات تختصر له رحلة الطعام منذ البداية حتى النهاية.

(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) وذلك من خلال إنزال المطر الذي يعرفه كل الناس كحقيقة وجودية متحركة في كل مكان ، وأمام كل الناس ، فكيف كان المطر؟ وما هي العوامل التي دفعت به إلى الأرض ، وكيف اختلفت الفصول والمناطق في أمره ، من حيث تكوّنه وهطوله؟

إن الناس لا يثيرون عادة كل هذه الأسئلة ، لأن الكثيرين منهم لا يهتمون بدراسة أسرار الظاهرة ، بل يكتفون بالارتباط بها في مواقع الحسّ ، والاستفادة منها في مجالات الحاجة. ولكن هناك بعضا من الناس الذين يملكون الفضول العلمي ، فيبحثون عن الأسرار في جهد دائب للوصول إليها ، وقد جاء في بعض الأبحاث العلمية الحديثة بعضا من الحديث عن ذلك. فقد قال «كريسي موريسون» في كتابه : «الإنسان لا يقوم وحده» الذي ترجمه محمود صالح الفلكي بعنوان : «العلم يدعو إلى الإيمان» :

إذا كان صحيحا أن درجة حرارة الكرة الأرضية وقت انفصالها عن الشمس كانت حوالي ١٢٠٠٠ درجة ، أو كانت تلك درجة حرارة سطح

٧٥

الأرض ، فعندئذ كانت كل العناصر حرّة ، ولذا لم يكن في الإمكان وجود تركيب كيميائيّ ذي شأن. ولما أخذت الكرة الأرضية أو الأجزاء المكوّنة لها في أن تبرد تدريجيا ، حدثت تركيبات ، وتكوّنت خليّة العالم كما نعرفه. وما كان للأوكسجين والهيدروجين أن يتّحدا إلا بعد أن هبطت درجة الحرارة إلى ٤٠٠٠ درجة فهرنهايت. وعند هذه النقطة اندفعت معا تلك العناصر ، وكوّنت الماء الذي نعرّفه الآن أنه هواء الكرة الأرضية ، ولا بد أنه كان هائلا في ذلك الحين. وجميع المحيطات كانت في السماء ، وجميع تلك العناصر التي لم تكن قد اتحدت كانت غازات في الهواء. وبعد أن تكوّن الماء في الجوّ الخارجي ، سقط نحو الأرض ، ولكنه لم يستطع الوصول إليها ، إذ كانت درجة الحرارة على مقربة من الأرض أعلى مما كانت على مسافة آلاف الأميال. وبالطبع جاء الوقت الذي صار الطوفان يصل فيه إلى الأرض ليطير منها ثانيا في شكل بخار. ولما كانت المحيطات في الهواء ، فإن الفيضانات التي كانت تحدث مع تقدم التبريد ، كانت فوق الحسبان ، وتمشّي الجيشان مع التفتت (١).

وقد لا نستطيع التأكد من هذه التصورات العلمية ، كما لا نتمكن من إخضاع المضمون القرآني لها ، ولكنا نجد ، في هذه الظاهرة المحسوسة ، في صب الماء من السماء ، توجيها للفكر الإنساني ، ليتأمله ، وليتعمق في دراسته ، وفي القوانين الإلهية الكونية التي تحكمه ، ليزداد بذلك معرفة ، فيزداد بالمعرفة إيمانا ، لأن أيّ تفسير ينطلق من القانون الإلهي ، لا بد من أن يثير الشعور بالعظمة في التدبير والتقدير.

* * *

__________________

(١). نقلا عن : في ظلال القرآن ، م : ٨ ، ج : ٣٠ ، ص : ٤٦٩ ـ ٤٧٠.

٧٦

شقّ الأرض

(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) عند ما ينفذ الماء إليها ليفتح أعماقها ، ويمتزج بتربتها ، ويحوّل جوفها إلى خزانات واسعة تتفجر منها الينابيع ، وتجري منها الأنهار ، وتحوّل التراب إلى حياة تتفاعل مع البذور التي أبدع الله خلقها وأودعها في الأرض ، لتنمو في أجزاء التربة وعناصرها الغذائية ، ثم لتشق الأرض من جديد ، لتخرج إلى وجهها ، وتتنفس هواءها ، وقد يلاحظ الإنسان ، كيف تشق النبتة النحيلة الأرض الصلبة القويّة ، من دون أي عنصر للقوّة إلا تقدير الله ، في ما جعله في طبيعة الأرض من قوانين التفتّت والانفتاح على عملية نموّ النبتة في أجزاء التربة.

(فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) من كل الحبوب التي تمثّل غذاء الإنسان والحيوان ، كالحنطة والشعير والعدس ونحوها (وَعِنَباً وَقَضْباً) والقضب هو ما يؤكل رطبا غضّا من الخضرة التي تقطع مرة بعد أخرى ، (وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً) أي البساتين ذات الأشجار المسوّرة بحوائط تحميها ، وكلمة (وَحَدائِقَ غُلْباً) معناها الضخمة العظيمة الملتفة الأشجار.

(وَفاكِهَةً) قيل : الفاكهة : مطلق الثمار ، والأبّ : الكلأ والمرعى.

وقد جاء في الدر المنثور : «أخرج أبو عبيد في فضائله ، وعبد بن حميد ، عن إبراهيم التيمي ، قال : سئل أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه عن قوله : (وَأَبًّا) فقال : أيّ سماء تظلني وأي أرض تقلني إذا قلت في كتاب الله ما لا أعلم.

وأخرج سعيد بن منصور ، وابن جرير ، وابن سعد ، وعبد بن حميد ، وابن المنذر ، وابن مردويه والبيهقي في شعب الإيمان ، والخطيب ، والحاكم ،

٧٧

وصححه عن أنس ، أنّ عمر قرأ على المنبر : (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا* وَعِنَباً وَقَضْباً* وَزَيْتُوناً ـ) إلى قوله ـ (وأبا) قال : كل هذا قد عرفناه ، فما الأبّ؟ ثم رفع عصا كانت في يده ، فقال : هذا لعمر الله هو التكلف ، فما عليك أن لا تدري ما الأبّ؟ اتبعوا ما بيّن لكم هداه من الكتاب ، فاعملوا به ، وما لم تعرفوه فكلوه إلى ربه» (١).

وقد نستوحي من هاتين الروايتين أن عظماء الصحابة كانوا لا يملكون المعرفة الشاملة للقرآن ، وأنهم كانوا يتحرّجون من القول في القرآن بغير علم ، فيقفون عند ما لا يعرفون ويتكلّمون بما يعرفون.

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) في ما أراده الله من تهيئة الظروف التي تتيح لكم الاستمرار في الحياة من خلال تهيئة كل حاجاتها الطبيعية.

وهكذا نلاحظ أن الله أراد من الإنسان أن لا يجلس إلى الطعام جلسة مستغرفة في الحاجة ، وفي الرغبة في اللذة ، ولكنه أراد له أن يجلس إليه جلسة تأمّل وتفكير ، ليتعرف ـ من خلال ذلك ـ إلى مواقع العظمة ، ومصادر النعمة ، ليعرف ربّه ، ولينطلق من خلال هذه المعرفة في خط طاعته وتقواه وشكره على نعمه.

* * *

__________________

(١) السيوطي ، جلال الدين ، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، دار الفكر ، ١٩٩٣ م ـ ١٤١٤ ه‍ ، ج : ٨ ، ص : ٤٢١ ـ ٤٢٢.

٧٨

الآيات

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) (٤٢)

* * *

معاني المفردات

(الصَّاخَّةُ) : الصيحة العظيمة التي تصمّ الآذان.

(مُسْفِرَةٌ) : مشرقة.

(قَتَرَةٌ) : ظلمة الدّخان.

* * *

متاع الدنيا إلى زوال

ويبقى متاع الدنيا لكم ولأنعامكم. ولكن إلى متى؟ هل تخلدون له أو

٧٩

يخلد لكم؟ فستزولون بعد عمر قصير أو طويل ، وسيزول المتاع كله عنكم وعن غيركم ، لأن الدنيا سوف تزول بأهلها ومتاعها ، ولن يبقى منها للآخرة إلّا العمل ، ويختلف المصير تبعا لاختلاف العمل ، وتأتي المفاجأة الصعبة.

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) وهي الصيحة العظيمة التي تصمّ الأسماع من شدّتها ، وربما كانت كناية عن نفخة الصور التي تخرج الناس من الأجداث فتدبّ الحياة فيهم من جديد ، لينطلقوا إلى لقاء الله في ساحة المحشر.

* * *

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ)

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ* وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ* وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ) إنه الهول الشديد الذي يدفع الإنسان إلى التفكير بنفسه ، بعيدا عن التفكير بغيره ، فضلا عن تحمّل مسئوليته ، فتتقطع بذلك العلاقات التي تشدّ الإنسان إلى أرحامه وإلى الأقربين منه ، فلا دور للأخوّة هناك في اجتذاب عاطفة الأخ لأخيه ، ولا مجال للأمومة والأبوّة لاجتذاب عاطفة الابن لأبويه ، كما تذوب المشاعر الحنونة الحميمة في شعور الأب تجاه بنيه ، أو إحساس الحب للزوج تجاه زوجته. إنه الفرار ، فرار الإنسان من كلّ الذين قد يتعلّقون به ، وقد يسألونه حاجة ، وقد يذكّرونه بعلاقتهم به ، وقد يشغلونه بذلك عن بعض ما هو فيه ، إنه مشغول بنفسه ، بمصيره ، بالنتائج المرتقبة أمامه ، ولذلك ، فإن كل تفكيره يتجه إلى ذلك ، بعيدا عن كل هؤلاء.

إنها لا تمثل موت العاطفة ، بل تمثل تغلّب الخوف المرعب الهائل على إحساسه بعلاقاته النسبية والعاطفية ، مما يجمّد له ذلك الشعور الإنساني الحميم ، تماما كما هي الحال في الحياة الدنيا ، عند ما تضغط عليه التحديات الصعبة.

* * *

٨٠