تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

وتبقى العبرة لمن يخشى

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى) أي إن في هذا الحديث الذي يختصر مسألة الصراع بين الطاغية والرسول ، في ما يمثله من الصراع بين حركة الطغيان وحركة الرسالة ، درسا عمليا ، يوحي للناس بالنتائج السلبية التي تواجههم إذا أخذوا بخط الطغيان ، في ما يمثله من التمرد على الله ورسوله ورسالاته ، وتجاوز حدوده في ظلم الناس في أنفسهم وفي أموالهم ، فلن يكونوا أقوى من فرعون الذي أخذه الله أخذ عزيز مقتدر. وإذا كانوا يجدون بعض القوّة في ما يعيشون فيه من مواقعها وأسبابها ، فإن الأمور لا تقاس ببداياتها ولكن بنهاياتها ، فإن الله يمهل ولا يهمل ، فعليهم أن ينتظروا مكر الله ، فلا يأمنوا مكره وعذابه ، فإن لله وسائل كثيرة لا تعدّ ولا تحصى في ما يهلك به الطغاة بشكل مباشر أو غير مباشر. وهكذا ينبغي للإنسان أن يدرس التاريخ في سنن الله التي أودعها في الحياة ، لأنها تمثل القانون الإلهي الذي قد تتنوع مواقعه ولكن طبيعته لا تختلف.

* * *

٤١

الآيات

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (٢٧) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (٢٨) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (٢٩) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (٣٠) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (٣١) وَالْجِبالَ أَرْساها (٣٢) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) (٣٣)

* * *

معاني المفردات

(سَمْكَها) : سقفها.

(وَأَغْطَشَ) : أظلم.

(وَأَخْرَجَ ضُحاها) : أبرز نهارها.

(دَحاها) : بسطها.

* * *

٤٢

الآيات الكونية وقدرة الله تعالى

 .. وتلتفت السورة إلى المشركين الذين أراد الله من رسوله أن يحدثهم عن اليوم الذي ترجف فيه الراجفة ، وعن حديث موسى الذي يتضمن قوة الله في أخذه ، ليستشعروا حجمهم الحقير أمام قوة الله. إنها تخاطبهم مباشرة ليتطلعوا إلى ما يعيشونه من الشعور بالقوّة أمام الكون الذي يحيط بهم في ما يجسده من قدرة الله في خلقه ، ليدخلوا في مقارنة حسية بين عناصر القدرة فيه ، وعوامل الضعف فيهم ، وحجم القوة التي يملكونها إزاء ذلك ، لأن التحدّي في الأمور الحسية قد يفرض نفسه عليهم أكثر من التحدي في الأمور الغيبيّة.

(أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ) فهل يمكن أن يكون الجواب بأنكم أشد خلقا منها؟ إن الصورة لا تحتمل ذلك لأن الإنسان مهما كبر حجمه ، ومهما اشتدت قوّته ، فإنه لا يمثل شيئا أمام هذه السماء المترامية الأطراف التي (بَناها) الله بقوّته من غير عمد و (رَفَعَ سَمْكَها) أي سقفها ، (فَسَوَّاها) في استقامتها وتناسق أجزائها ، بوضع كلّ جزء في موضعه ، على أساس التخطيط الإلهي الدقيق الذي قد لا يعرف الناس من طبيعته وتفصيله الكثير ، لأنهم لا يملكون إلا المشاهدة البعيدة ، سواء كان ذلك بالعين المجردة ، أو بالوسائل الأخرى المستحدثة. ولكن الأمر مهما كان خفيّا ، فإنه يوحي بالعظمة التي يخضع لها العقل ، ويهتز أمامها الشعور ، الذي يوحي بعظمة الخالق ، الذي خلقها بهذا التناسق الدقيق ، والتماسك الشديد.

* * *

٤٣

ظاهرة الليل والنهار

(وَأَغْطَشَ لَيْلَها) أي أظلمه ، (وَأَخْرَجَ ضُحاها) أي : أبرز نهارها في الضوء الذي يظهر به كل شيء. وإذا كانت هذه الظاهرة الكونية واضحة لدى الناس ، فإن الآية أرادت أن تخرج الناس من جمود الألفة التي تمنع الفكر من الانفتاح على سرّ الإبداع فيها في ما تمثله من قدرة الله ، ليفكروا بها كما لو كانت شيئا جديدا في وعيهم الإيماني ، الذي ينطلق القرآن ليبدع فيه الإحساس المتحرك المتنوع بعظمة الله في كل ظاهرة من ظواهر الكون في طبيعته وحركته.

* * *

الله تعالى يمهّد الأرض لحياة الإنسان

(وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها) ومهّدها وبسط قشرتها بحيث تصبح صالحة لحركة الإنسان فيها دون تعقيد ، وكوّن فيها التربة الخصبة التي تنبت الزرع وتخرج الثمر الشهيّ ، وفجّر فيها الينابيع ، (أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها) وجعلها بذلك صالحة للحياة ، من خلال طبيعة التوازن بين الحرارة والبرودة ، بالإضافة إلى استقرار سطحها الذي تتدخل مواقع الجبال فيه ، (وَالْجِبالَ أَرْساها) أي أثبتها في الأرض لئلا تهتز وتسقط ، وجعل فيها الكثير من المياه والمعادن ، (مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) حيث سخّر ذلك لكم ولأنعامكم في ما يتمثل فيها من شروط الحياة الضرورية ..

ومن خلال ذلك كانت العظمة التي توحي بها دقة التدبير ، وكانت النعمة التي توحي برحمة الله ولطفه وعنايته ، في ما أنعم به على الإنسان من ذلك كله. ولا ريب أن توجيه النظر الى هذه الأمور يغري بالبحث والاستقراء بالمستوى الذي يمكن أن يصل الإنسان ، من خلاله ، إلى الكثير من المعرفة الواسعة بالله سبحانه وتعالى. وقد ذكر بعض المتتبعين أن «المجموعة

٤٤

الشمسية التي تنتمي إليها أرضنا هي تنظيم نادر بين مئات الملايين من المجموعات النجمية ، وأن الأرض نمط فريد غير متكرر بين الكواكب بموقعها هذا في المنظومة الشمسية الذي يجعلها صالحة للحياة الإنسانية. ولا يعرف البشر ـ حتى اليوم ـ كوكبا آخر تجتمع له هذه الموافقات الضرورية. وهي تعد بالآلاف!» (١).

ويقول العقّاد : «ذلك أن أسباب الحياة تتوافر في الكواكب على حجم ملائم ، وبعد معتدل ، وتركيب تتلاقى فيه عناصر المادة على النسبة التي تنشط فيها حركة الحياة.

لا بد من الحجم الملائم ، لأن بقاء الجو الهوائي حول الكوكب يتوقف على ما فيه من قوة الجاذبية.

ولا بد من البعد المعتدل ، لأن الجرم القريب من الشمس حار لا تتماسك فيه الأجسام ، والجرم البعيد من الشمس بارد لا تتحلل فيه تلك الأجسام.

ولا بد من التركيب الذي تتوافق فيه العناصر على النسبة التي تنشط بها حركة الحياة ، لأن هذه النسبة لازمة لنشأة النبات ونشأة الحياة التي تعتمد عليه في تمثيل الغذاء.

وموقع الأرض حيث هي أصلح المواقع لتوفير هذه الشروط التي لا غنى عنها للحياة ، في الصورة التي نعرفها ، ولا نعرف لها صورة غيرها حتى الآن» (٢).

* * *

__________________

(١) قطب سيد ، في ظلال القرآن ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٥ ، ١٣٨٦ ه‍ ـ ١٩٦٧ م ، م : ٨ ، ج : ٣٠ ، ص : ٤٤٨.

(٢) العقاد ، عباس محمود ، المجموعة الكاملة ، م : ١١ ، العقائد والمذاهب ، دار الكتاب اللبناني ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٩٧٨ م ، عقائد المفكرين ، ص : ٤٢٣.

٤٥

الآيات

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (٣٤) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (٣٥) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (٣٦) فَأَمَّا مَنْ طَغى (٣٧) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (٣٨) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (٣٩) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (٤٠) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) (٤١)

* * *

معاني المفردات

(الطَّامَّةُ) : العالية الغالبة ، وتسمى الداهية التي لا يستطاع دفعها طامّة.

والمقصود بها هنا : القيامة.

(وَبُرِّزَتِ) : أظهرت.

* * *

يوم الطامّة الكبرى

وهكذا يعيش الإنسان في هذه الدنيا في متاعها الذي يتقلب فيه الإنسان

٤٦

في غذائها وكسائها وشهواتها ، وتتنوع فيها مطامحه وأطماعه ، وتستغرق في لذاتها حواسه ، ويعيش في استرخاء الغفلة وراحة الغيبوبة ، وفجأة ينتهي كل شيء ، وينفتح الجو على عالم جديد.

(فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى) العالية الغالبة التي تغطي على كل شيء تحتها ، فلا تحس به ، لأنها تخفي كل تلك الحياة المليئة بظواهرها الكونية ولذاتها الحسية ، وأوضاعها المادية ، وتلك هي القيامة التي يقف فيها الإنسان ليواجه مشاعر وقضايا جديدة ، ليبدأ التذكر لكل تاريخه العملي ، في ما فكر فيه ، وفي من آمن به أو كفر ، أو ما عمله ، مما أحسن فيه أو أساء ، أو ما عاشه من علاقات ، مما كان يحمل الخير أو الشرّ ، أو المصلحة أو المفسدة في ذلك اليوم الرهيب.

(يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى) لأن النتائج السلبية أو الإيجابية في الآخرة خاضعة للسعي الخيّر أو الشرّير في الدنيا ، فهو يعصر فكره ليستحضر كل تاريخه ليعرف مصيره في تلك اللحظة الحاسمة.

(وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى) في عملية إظهار إيحائيّ لكل الذي يملك عينين ليتعرف النتائج الصعبة للعاملين في الاتجاه المنحرف عن خط الله ... ثم تتنوّع المصائر تبعا لتنوّع المواقف العملية في الدنيا.

* * *

جهنم مأوى الطغاة

(فَأَمَّا مَنْ طَغى) وتجاوز الحدود المرسومة من الله في العقيدة وفي الحركة ، فلم يتوازن في فكره ، ولم يستقم في حركته ، ولم يتحمل المسؤولية

٤٧

في انتمائه ، مما جعله في موقف المتمرد على الله المعادي لرسوله ولرسالته ، (وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا) وفضّلها على الآخرة ، فاستغرق في ملذات الدنيا وشهواتها من دون أن يفرّق بين حلال وحرام ، بل ربما فضّل الحرام على الحلال ، لأنه أقرب إلى مزاجه ، لأن القضية لديه هي مشاعر اللحظة الحاضرة بعيدا عن المصير المستقبلي الذي يواجهه في الدار الآخرة ، باعتبار أنه من الذين يفكرون ببدايات الأمور ، ولا يفكرون في نهاياتها ، فتغريهم حلاوة البداية عن مرارة النهاية ، فيستسلمون للغفلة المطبقة على عقولهم حتى تغيب الآخرة عن وجدانهم.

أما هؤلاء ، (فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى) الذي يأوون إليه ليكون مسكنهم الدائم ، لأن طبيعة الطغيان وإيثار الحياة الدنيا على الآخرة يدفع الإنسان إلى الكفر والضلال والعصيان والغفلة عن أسباب النجاة في الآخرة.

* * *

الجنة مأوى الخائفين مقام ربهم

(وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ) وعرف عظمته في ربوبيته المطلقة المهيمنة على الكون وما فيه ، مما يجعل الإنسان يستشعر موقع العبودية في ذاته في موقعه من ربه ، من خلال استشعاره للألوهية في مقام الله التي تستتبع الإيمان والطاعة في كل شيء ، الأمر الذي يجعل الحياة بالنسبة إليه تمثل فرصة المسؤولية الخاشعة في ما يأمر به الله أو ينهى عنه ، لتكون إرادته مرتبطة بإرادة الله ، فإذا أرادت منه نفسه أن يتمرد على الله انطلاقا من رغباتها الذاتية ، وأهوائها الغريزية ، فإنه يبادر إلى أن ينهى نفسه عن السير في هذا الاتجاه ، ليجعل هواه تبعا للإيمان ، لأن المسلم الحق ، الذي أسلم كل حياته لله ، هو الذي يحاول أن يصوغ نفسه صياغة إيمانيّة على خط التقوى ، ليكون العبد المطيع لله ، وهذا

٤٨

كله نتيجة الخوف من مقام ربه. (وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى) والمراد بالهوى هنا ، ليس كل ما تشتهيه النفس ، لأنها قد تشتهي الأشياء التي تنسجم مع ما يحبه الله ، بل المراد منه الهوى الذي لا يخضع للقاعدة الأخلاقية الشرعية في الإسلام. ولعل إطلاق الكلمة ناشئ من أن العمل الذي يوحي به الالتزام لا يعبّر عنه بالهوى ، لأنه لا ينطلق من إرادة الإنسان باعتباره شهوة ومزاجا نفسيا ، بل من خلال إرادة الالتزام في إيمانه التي تمثل حرية الاختيار في شخصيته. وقد جاء في أصول الكافي بإسناده إلى داود الرقي عن أبي عبد الله جعفر الصادق عليه‌السلام ، قال : «من علم أن الله يراه ، ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعمله من خير أو شرّ ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي (خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى)» (١).

فأما هؤلاء (فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) والسكن الدائم ، لأن طبيعة خوف مقام الله ، ونهي النفس عن الهوى ، تفرض الالتزام بالخط المستقيم الذي يربط الإنسان بالله ، فيكون قريبا إلى رحمته ، في مواقع رضاه.

* * *

__________________

(١) الكليني ، أبو جعفر ، محمد بن يعقوب ، الكافي ، دار الكتب الإسلامية ـ طهران ، ج : ٢ ، ص : ٧٠ ، رواية : ١٠.

٤٩

الآيات

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (٤٢) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (٤٣) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (٤٤) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (٤٥) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) (٤٦)

* * *

عبد المشركين وتعظيم الله تعالى ليوم القيامة

كان المشركون يثيرون مع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مسألة توقيت الساعة ، أي يوم القيامة ، للدخول في جدل عقيم معه ، لأن القضية هي قضية تصديقه في كلامه كمدخل لتصديقه في رسالته ، فإذا كانوا يصدقونه فيها فلا معنى للسؤال عن الموعد ، لأن ذلك لا يؤخر ولا يقدّم في الموضوع شيئا ، وإذا كانوا لا يصدقونه ، فما فائدة الحديث عن التوقيت إذا كان المبدأ غير وارد عندهم؟!

(يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها) في بحر الزمن الذي تتحرك فيه الساعات لتقف في موعد معيّن لتثبت فيه.

٥٠

(فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) فهي أعظم من أن يتحدث عنها بهذه الطريقة العابثة التي يراد من خلالها إثارة الجدل ، أو محاولة السخرية العابثة.

(إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) فهو الذي يملك أمرها ، ويحدّد وقتها ، في غيبه الذي لا يطّلع عليه أحد ، وليس لك من أمرها شيء ، ليطلبوا منك الجواب الدقيق عن تفاصيلها ، وليس ذلك من مهمتك الرسالية.

(إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) فتلك هي القضية التي تتحمل مسئوليتها لتحدث الناس عنها من ناحية المبدأ ، لتثير في داخلهم الخوف من النتائج التي تواجههم فيها إذا قصّروا في الاستعداد إليها بالعمل بطاعة الله ، وهذا هو كل شيء.

وسوف يلتقيها كل الناس ، فيخيّل إليهم أنها قريبة إليهم بشكل مثير (كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها) ، حيث لا يرون الدنيا التي مرّت بهم إلا بمقدار عشية مرّت عليهم سريعا ، أو بمقدار وقت الضحى الذي ينتهي بسرعة ، ليواجهوا ، بعد ذلك ، الموقف الكبير الضخم ، الذي يصغر أمامه كل شيء.

وفي ضوء ذلك ، لا بدّ للإنسان من أن يدخل في عملية مقارنة بين الدنيا ، التي هي في حجم العشيّة أو ضحاها ، وبين الآخرة التي هي في حجم الزمان كله ، الذي لا ينتهي في آفاق الأبد اللّانهائي ، ليعرف كيف يكون عمله ، وكيف تكون نظرته إلى المستقبل ، بقلب مفتوح وعين بصيرة.

* * *

٥١
٥٢

سورة عبس

مكيّة

وآياتها اثنان وأربعون

٥٣
٥٤

في أجواء السورة

وهذه من السور المكية التي تتنوّع أغراضها ، ولكنها تلتقي حول قاعدة واحدة هي انفتاح القلب الإنساني على الله في سلوكه العملي من حيث تحريك القيم الروحية والمعاني الأخلاقية في حياته ، ليكون ميزان التقييم لديه هو القرب أو البعد من الله سبحانه وتعالى. وفي هذا المجال ، كان الحديث ، في بداية السورة ، عن حادثة ، قد يكون النبي هو المخاطب بها لعلاقتها به ، وقد يكون غيره ، تتصدّى لمسألة الانفتاح على بعض المترفين من كفار قريش ، والانغلاق عن بعض المستضعفين من مؤمني الإسلام. فكان التوجيه الإلهي يؤكد على سلبية هذا الأداء ، بميزان القيمة الرسالية.

ثم انتقلت السورة إلى إثارة مسألة خلق الإنسان والمراحل الرّئيسة التي يمر بها وصولا إلى طور البعث والنشوّر ، وكل ذلك ، في مسعى لجذب انتباه تفكير الإنسان ، وتنشيط وعيه ، لدفعه إلى تصوّر تنوّع المواقع في تهيئة الله للإنسان طعامه ، منذ بداية التفاعل بين الحبّة والماء والتربة ، إلى نهاية النموّ في النتاج الشهيّ للثمر ، وللصورة الحلوة للخضرة الممتدة في الأرض ، والمرتفعة في الفضاء ، المتنوّعة الفواكه والثمار ، ليفكر الإنسان بالنعمة كيف تتحرك لتحفظ له وجوده ، ولتبني له حيويّته.

٥٥

وتختم السورة الحديث عن المسؤولية الفردية في مسألة المصير ، فلن ينفعه أحد في يوم القيامة الذي يواجه فيه مسئوليته ، بحيث يفر ـ هناك ـ من أقرب الناس إليه ، لينطلق الناس في هذا الجو ، بين وجوه ضاحكة مستبشرة ، وهي وجوه المؤمنين المتقين ، ووجوه عليها غبرة ، وهي وجوه الكفرة الفجرة ..

وفي ضوء ذلك ، نلاحظ أن السورة تعمل على إبقاء الإنسان مشدودا إلى الوعي الفكري ـ الروحي ، الذي يتعمق في وعيه لذاته في عمله ، ليكون عمله منسجما مع التزامه وفي ما حوله ، مما يتعلق بوجوده ، وحركة الوجود من حوله ، في المفردات التي تحفظ له حياته ، ليبقى مشدودا إلى الله ، في إحساسه بارتباطه به في كل شيء ، فلا يغفل عنه في كل المواقع ، ولا يفكر إلّا به في خطه العملي. ثم يواجه الموقف في الخط المستقيم بالإشراف على الموقف في الآخرة ، ليوازن النتائج على هذا الأساس ، باعتبار ارتباط النتائج بالمقدمات.

* * *

٥٦

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(عَبَسَ وَتَوَلَّى (١) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (٢) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (٣) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (٤) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (٥) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (٦) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (٧) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (٨) وَهُوَ يَخْشى (٩) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(وَتَوَلَّى) : أعرض بوجهه.

(تَصَدَّى) : تتصدى ، أي تتعرض له وتقبل عليه.

* * *

مناسبة النزول

دخل المفسرون في جدل حول الشخص الذي كان موضوع الحديث

٥٧

في هذه الآيات ؛ هل هو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أم شخص غيره؟ لأن الصفات التي توحي بها الآيات لهذا الشخص لا تتناسب مع خلق النبي ، وربما لا تتناسب مع عصمته. وسنعالج هذه المسألة في نطاق الروايات الواردة ، وفي خط المنهج الإسلامي في خط الدعوة الأخلاقي ..

جاء في مجمع البيان «قيل : نزلت الآيات في عبد الله بن أم مكتوم ، وهو عبد الله بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤيّ ، وذلك أنه أتى رسول اللهصلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يناجي عتبة بن ربيعة ، وأبا جهل بن هشام ، والعباس ابن عبد المطلب ، وأبيّا وأمية ابني خلف ، يدعوهم إلى الله ويرجو إسلامهم ، فقال : يا رسول الله أقرئني وعلّمني ممّا علّمك الله ، فجعل يناديه ويكرر النداء ولا يدري أنه مشتغل مقبل على غيره ، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لقطعه كلامه ، وقال في نفسه : يقول هؤلاء الصناديد إنما أتباعه العميان والعبيد ، فأعرض عنه وأقبل على القوم الذين يكلمهم ، فنزلت الآيات ، وكان رسول الله بعد ذلك يكرمه ، وإذا رآه قال : مرحبا بمن عاتبني فيه ربي ، ويقول له : هل لك من حاجة ، واستخلفه على المدينة مرتين في غزوتين» (١).

* * *

الشيخ الطبرسي وروايات النزول

جاء في مجمع البيان : «قال المرتضى علم الهدى قدّس الله روحه : ليس في ظاهر الآية دلالة على توجّهها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه ، وفيها ما يدلّ على أنّ المعنيّ بها غيره ، لأن العبوس ليس

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسن ، مجمع البيان ، دار المعرفة ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤٠٦ ه‍ ـ ١٩٨٦ م ، ج : ١٠ ، ص : ٦٦٣ ـ ٦٦٤.

٥٨

من صفات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع الأعداء المباينين ، فضلا عن المؤمنين المسترشدين ، ثم الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء ويتلهّى عن الفقراء ، لا يشبه أخلاقه الكريمة ، ويؤيّد هذا القول قوله سبحانه في وصفه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) [القلم : ٤] وقوله : (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) [آل عمران : ١٥٩] ، فالظاهر أن قوله (عَبَسَ وَتَوَلَّى) المراد به غيره. وقد روي عن الصادق عليه‌السلام أنها نزلت في رجل من بني أمية كان عند النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجاء ابن أم مكتوم ، فلما رآه تقذّر منه وجمع نفسه وعبس وأعرض بوجهه عنه ، فحكى الله سبحانه ذلك وأنكره عليه.

فإن قيل : فلو صح الخبر الأوّل هل يكون العبوس ذنبا أم لا؟ فالجواب أن العبوس والانبساط مع الأعمى سواء ، إذ لا يشقّ عليه ذلك ، فلا يكون ذنبا ، فيجوز أن يكون عاتب الله سبحانه بذلك نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق ، وينبّهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد ، ويعرّفه أن تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إيمانه ، وقال الجبائيّ : في هذا دلالة على أن الفعل يكون معصية في ما بعد ، لمكان النهي ، فأما في الماضي ، فلا يدلّ على أنه كان معصية قبل أن ينهى عنه ، والله سبحانه لم ينهه إلّا في هذا الوقت.

وقيل : إن في ما فعله الأعمى نوعا من سوء الأدب ، فحسن تأديبه بالإعراض عنه ، إلا أنه كان يجوز أن يتوهّم أنه أعرض عنه لفقره ، وأقبل عليهم لرياستهم تعظيما لهم ، فعاتبه الله سبحانه على ذلك ، وروي عن الصادق عليه‌السلام أنه قال : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا رأى عبد الله بن أم مكتوم قال : مرحبا مرحبا ، لا والله لا يعاتبني الله فيك أبدا ، وكان يصنع به من اللطف حتى كان يكفّ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ممّا يفعل به» (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٦٦٤.

٥٩

ولعلّ هذا العرض الذي قدّمه الشيخ الطبرسي أكثر الحديث شمولا للاعتراضات الدائرة حول نسبة القصة إلى النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في سلوكه مع الأعمى ولذلك نقلناه بطوله.

* * *

مناقشة الروايات

ونحن نريد أوّلا التعليق على الروايات التي لخّصها الشيخ الطبرسي الواردة في نسبة الموضوع إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما روي عن عائشة وابن عباس ، لنلاحظ أنها تنقل عن تصورات النبي للانطباعات التي يمكن أن تحصل لدى هؤلاء الصناديد بأن أتباعه هم العميان والعبيد ، وهذا مما لا يمكن أن يكون صحيحا ، لأن هذه المسألة ليست مسألة خفيّة لدى مجتمع الدعوة ، فإن أتباع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كانوا يمثلون الطبقة المستضعفة من المجتمع إلا القليل ممن كانوا في طبقة الأغنياء أو الوجهاء ، فكيف يمكن أن يخاف النبي من هذا الانطباع الذي يفرض نفسه من خلال الواقع؟!

ثم إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الأوعى والأعرف بالقيمة الروحية التي يمثلها الإسلام في تقييم الأشخاص على أساس التقوى التي تجمع الإيمان والعمل ، فلا يجوز أن ينسب إليه احتقاره للمؤمنين في مسألة الانتماء إلى مجتمع الدعوة التابع له ، وهل كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يجتمع بالمؤمنين سرّا ، ليدفع عنه هذا الانطباع ، حتى يكون مجيء الأعمى إلى مجلسه مفاجأة له؟!

ونحن لا نريد تأكيد هذه الرواية أو رفضها ، بل نريد إثارة المسألة حول إمكان نسبة القصة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أو عدم إمكانه ، لنتبنّى إمكان ذلك من دون منافاة لخلقه العظيم ، ولعصمته في عمله ، وذلك في ضمن نقاط :

النقطة الأولى : إن دراستنا لعلاقة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذا الأعمى تدلّ على أن

٦٠