تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

ولا يتحسّس شقاء المحرومين

(وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) فلا يتحسس حرمان المحرومين ، ولا فقر الفقراء ، ولا شقاء المساكين ، بل يعيش القسوة التي لا تتأثر بأيّ مظهر من مظاهر البؤس ، ولا تتحمل أيّة مسئولية تجاه أهله في التخفيف عنهم والإعانة لهم ، إمّا بالمساعدة المباشرة في ما يملكه من إمكاناتها ، أو بالمساعدة غير المباشرة ، في حضّ الآخرين ودعوتهم إلى تحمّل مسئولياتهم تجاه حلّ مشكلتهم التي هي مشكلة إنسانية ، كما هي مسئولية إلهيّة في ما يفرضه الله على الناس من ذلك.

* * *

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ) الساهين عن صلاتهم ، المرائين في أعمالهم

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي غافلون ، في ما تمثله الغفلة من حالة اللامبالاة المنطلقة من فقدان الشعور بأهميتها في مضمونها العبادي المنفتح على الله ، ولذلك فإنهم قد يهملونها بالكليّة حتى يخرج وقتها ، وقد يستخفّون بها فيؤدونها بشكل غير صحيح ، أو يؤخرونها إلى آخر الوقت ، أو ما يشبه ذلك من الأفعال التي توحي بالاستهانة بها على أكثر من صعيد ، لأن المسألة عندهم ، هي في قيمة الشكل ، لا قيمة المضمون ، لأنها لا تمثل بالنسبة إليهم ، عبادة نابعة من الإحساس بالعبودية في شخصيتهم ، بل هي مظهر للانتماء الشكلي إلى الإسلام في مواقعهم ومواقفهم.

٤٤١

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) فيصلّون أو يعملون الخير ، أو يتحركون في اتجاه الأعمال العامة ، ليراهم الناس وهم يفعلون ذلك ، لا ليرضى الله عنهم ، فهم لا يعيشون عمق المعنى الروحي أو العبادي للعمل الصالح ، بل يتحركون في سطحه الظاهر البعيد عن كل عمق في ما هي العقيدة والإيمان.

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) وهو المعونة التي يقدمها الناس إلى بعضهم البعض مما يحتاجون إليه في حياتهم ، كالقرض يقرضه الإنسان ، والمعروف يصنعه ، والمتاع يعيره ، ونحو ذلك.

* * *

٤٤٢

سورة الكوثر

مكيّة

وآياتها ثلاث

٤٤٣
٤٤٤

في أجواء السورة

وهذه السورة المكية جاءت لترتفع بروحية النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى آفاق الرحمة الإلهية في رعاية الله له ، وفي تطييب نفسه ، وفي الدفاع عنه ، فقد كان المشركون يعملون ـ بكل وسائلهم وأساليبهم ـ على إضعاف نفسه ، وتدمير معنوياته ، وإسقاط موقفه ، بالكلمات الجارحة النابية المؤذية ، وقد جاء في الرّوايات بأن بعض سفهاء قريش ، كالعاص بن وائل ، وأبي جهل ، وعقبة بن أبي معيط ، وكعب بن الأشرف ، قالوا عند موت القاسم ابن رسول الله ـ وهو أول ولد له ولد بمكة ـ : إن محمدا قد انقطع نسله ، فلا جرم ، لقد أصبح أبتر ، فنزلت هذه السورة لتؤكد بأن الله قد أعطاه الخير الكثير الذي يمتد في كل حياته ، وفي ما بعده ، فليتوجه إلى الله ربه بالصلاة ، فلن ينقطع ذكره ، ولن يفنى نسله ، ولن يكون أبتر ، بل إن الذين يقفون ضدّه هم الأولى بهذه الصفة.

وهكذا كانت هذه السورة القصيرة إطلالة روحية على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أجل أن تفتح قلبه على الخير الكثير القادم من الله ، وعلى الامتداد الواسع المنفتح على رسالة الله ، لتقول له : إن الامتداد الذي يمثله وجوده ، ليس هو الامتداد المحدود الذي يتمثل في الذرية الباقية فقط ، بل هو الامتداد في وعي الرسالة وحركيتها وفاعليتها ورحابتها في كل مواقع الحياة والإنسان ، فلا يحزن ولا يبتئس بما كانوا يقولون أو يفعلون.

* * *

٤٤٥

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) (٣)

* * *

معاني المفردات

(الْكَوْثَرَ) : على وزن فوعل ، وهو الشيء الذي من شأنه الكثرة.

(شانِئَكَ) : مبغضك.

(هُوَ الْأَبْتَرُ) : المقطوع.

* * *

الله يغدق النعم والخير الكثير على نبيّه

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) الظاهر أن المراد بالكوثر الخير الكثير ، وهو المعنى الذي يشمل أكثر المفردات المتفرقة التي ذكروها كمعان للكلمة مما لا شاهد للمفسرين عليها ، وقد جاء في الدر المنثور ، في ما رواه عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، أنه قال : «الكوثر الخير الذي أعطاه الله إياه. قال أبو

٤٤٦

بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن ناسا يزعمون أنه نهر في الجنة ، قال : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه» (١).

وإذا كانت السورة قد نزلت في أجواء الكلمات التي أثارها بعض سفهاء قريش في حديثهم عن النبي بأنه أبتر لا ذرّية له من الذكور ، فقد يكون الحديث عن الخير الكثير إشارة إلى الذرية الكثيرة التي للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ابنته فاطمة عليها‌السلام ، ليكون ذلك بمثابة الردّ على هؤلاء ، في ما أرادوه من إضعاف معنوية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بهذه الكلمة ، التي كانت تمثل مدلولا سلبيا في المجتمع القائم على اعتبار الامتداد في الذرية لونا من ألوان القيمة الذاتية للإنسان هناك. ويقول صاحب الميزان ، تعليقا على ذلك وتأكيدا له : ولو لا ذلك لكان تحقيق الكلام بقوله : (إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) خاليا عن الفائدة (٢).

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) لتكون الصلاة شكرا لله ، وإظهارا للشعور بالمنّة على ما أولاه من هذا الخير الكثير ، والمراد بالنحر ـ في ما جاءت به الروايات عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وعن علي عليه‌السلام وعن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ـ هو رفع اليدين في تكبير الصلاة إلى النحر ، ومن ذلك ما رواه السيوطي في الدر المنثور قال : «أخرج ابن أبي حاتم ، والحاكم ، وابن مردويه ، والبيهقي في سننه عن علي بن أبي طالب قال : لما نزلت هذه السورة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لجبريل : ما هذه النحيرة التي أمرني بها ربي؟ قال : إنها ليست بنحيرة ، ولكن يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت وإذا ركعت ، وإذا رفعت رأسك من الركوع ، فإنها صلاتنا وصلاة الملائكة الذين هم في السماوات السبع ، وإنّ لكل شيء زينة وزينة الصلاة رفع اليدين عند كل تكبيرة» (٣).

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ٦٤٩.

(٢) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ٤٢٩.

(٣) الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ٦٥٠.

٤٤٧

وقيل : معنى الآية صلّ لربك صلاة العيد وانحر البدن ، وقيل : يعني صلّ لربك واستو قائما عند رفع رأسك من الركوع.

* * *

من إيحاءات السورة

وربما كان في هذا التوجيه الإلهي للنبي بالصلاة لربه ، في هذه الأجواء المحيطة به المليئة بالبغض والعدوان والأذى المادي والمعنوي ، بعض الإيحاء بأن على الإنسان أن يتوجه إلى ربّه بصلاته التي تختزن كل معاني السموّ الروحي والانفتاح العبادي على الله ، في ما يؤدي ذلك إلى الارتفاع على كل الجزئيات الصغيرة التي يريد الآخرون من خلال إثارتها في حياته ، سواء بالكلمات الجارحة النابية ، أو بالمشاكل الصغيرة ، أن يثقلوا قلبه ويربكوا اهتماماته ، لأن الاستغراق فيها قد يبعد الإنسان عن الاهتمام الكبير بالرسالة ، وبالحياة ، وبالناس ، بينما يكون الارتفاع إلى جانب الله منطلقا لرحابة الأفق وامتداد الخط وانفتاح الروح على الحياة كلها ، لتتحول كل الصغائر عنده إلى ما يشبه الفقاقيع التي تتجمع هنا وهناك لتشوّه صورة الصفاء في الماء ، ولكنها لا تلبث أن تنفجر وتذوب ، وهكذا وحده الاتصال بالله هو الذي يجعل الإنسان كبيرا في العقل الكبير ، والروح الكبيرة ، والعمل الكبير.

* * *

مبغض الرسول والرسالة هو الأبتر

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) فهذا الذي يبغضك ويعلن العداء لك ولرسالتك انطلاقا من الحدود المغلقة في شخصيته المحدودة ، هو الأبتر ، لأنه لا يملك أيّ امتداد في قضايا الحياة ، بعد أن كان امتداده محصورا في قضايا الذات ، مهما خيّل إليه أنه يتحرّك في خط الخلود ، لأن الخالدين ، هم المنطلقون مع الله في رسالته ، فهو الذي يمنح الخلود للدور وللحركة وللذات في امتداد رسالتها في الحياة.

* * *

٤٤٨

سورة الكافرون

مكيّة

وآياتها ثلاث

٤٤٩
٤٥٠

في أجواء السورة

نجد في هذه السورة لونا من ألوان التأكيد على الموقف الحاسم في المسألة العقيدية التي تأخذ عنوان العبادة الذي يختزن في داخله كل خطوط الالتزام الفكري والعملي ، فهناك عبادة الله التي تعني الإيمان به على أساس أنّه الخالق القويّ القادر القاهر الحكيم المدبّر المنعم ، والإله الواحد الذي لا إله غيره ، والخضوع له خضوعا مطلقا في كل ما يأمر به أو ينهى عنه ، ورفض الخضوع لغيره ، إلّا في ما يتصل بالخضوع له ، والسير على المنهج الذي أراد من الناس أن ينهجوه من خلال رسالاته التي أوحى بها إلى رسله ، وهناك عبادة الأوثان التي تعني الإيمان بالأسرار المقدّسة الخفية التي تختفي في داخلها مما يجعل لها قيمة روحيّة ترتفع بها إلى درجة الحظوة عند الله ، بحيث تقرّب المتعبدين إليه ، وتشفع لهم عنده ، وبهذا تتحوّل هذه الأصنام إلى شركاء لله في العبادة ، كما يخضع الواقع الإنساني إلى لون من المفاهيم والعلاقات والأوضاع المتحركة في القيمة المادية المتمثلة في الذهنية الوثنية المرتبطة بالحسّ كأساس للإيمان وللقناعات ، مما قد تتعقّد معه مسألة الإيمان بالغيب والنبوّات واليوم الآخر.

وهكذا نجد أنهما منهجان متضادّان لا يلتقيان عند قاعدة واحدة ، ولا يتحركان في صعيد واحد ، كما أن الإنسانين اللذين يختلفان تبعا لاختلافهما

٤٥١

يتباعدان عن بعضهما البعض ابتعاد الوثنية المادية عن التوحيدية الإلهية الروحية ، في الفكر والشعور والحركة والمنطلق والموقف. فالإنسان الذي يعبد الله هو الإنسان الذي يتطلع إلى الله خالق الكون كله ، الذي يسبّح كل شيء بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم ، والذي يتحرك الخلق كله في نعمه وفي تدبيره ، ليكون وجوده الواعي تجسيدا لطاعته ، وحركة من أجل الحصول على رضاه ، فهو الإنسان المسؤول أمام الله في كل شيء ، مما يجعله يدقق في الصغير والكبير ليتعرف مواقع طاعة الله ومعصيته فيهما ، لأنه يراقب مسألة المصير عند ما يقوم الناس لرب العالمين ليحاسبهم على عملهم من خير أو شرّ. وهو الإنسان الذي ينطلق في علاقاته بالناس من خلال الصلة التي تربطهم بالله ، ليوالي من والى الله ، وليعادي من عاداه ، ولذا فإنه لا ينطلق من الدوافع الذاتية ، بل من المواقف الإيمانية المنفتحة على الناس من خلال الله رب العالمين. وهكذا تختصر الحياة كلها لديه كلمة واحدة ، هي الإيمان بالله والاستقامة على خطه المستقيم.

أمّا الإنسان الذي يعبد الأوثان ، فهو الذي يبقى خاضعا للزوايا الضيّقة التي تتمحور حول هذا الحجر أو ذاك ، في ما لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرّا ولا حياة ولا موتا ، ولذلك فإنه لا يملك رحابة الأفق ، وروحانية الروح ، وحيوية الفكر ، بل يبقى مشدودا للتقاليد ، بعيدا عما إذا كانت نافعة أو ضارّة ، أو حقّا أو باطلا ، فليست الحقيقة هي التي تشده للإيمان ، بل هو التاريخ الميت في تاريخ الآباء والأجداد ، وهو الإنسان الجامد الذي لا يريد أن يتحرك فكره بالحوار ، ليغيّر قناعاته الخاطئة من خلال ذلك ، كما أن علاقاته وأوضاعه خاضعة لمطامعه وشهواته وأنانياته لا للمصلحة الإنسانية العليا ، ولا للقيمة الروحية الكبيرة. وبذلك كان إنسان الهوى الذي يتخذ إلهه هواه ، وإنسان العبث واللعب واللهو الذي يرى الحياة فرصة لذلك كله ، ثم تنفجر كمثل الفقاعة التي لا تترك وراءها شيئا ، ولا تستقبل أمامها أيّ شيء.

٤٥٢

وعلى ضوء هذا ، فلا بدّ للإنسان من أن يقف أمام الفواصل الحقيقية التي تفصل بين هذا الخط وذاك ، ليتّخذ مواقفه على أساس الانتماء المحدّد في كل معطياته وإيحاءاته ومسئولياته وعلاقاته ، فلا يخلط بين هذا وذاك في ما لا يجوز فيه الخلط ، لأن هناك تباينا كبيرا بينهما في جميع المواقع ، فكيف يشرك بالله من يوحّده ، وكيف يوحّده من يشرك به ، وكيف يؤمن بالغيب من كانت عقيدته قائمة على إنكاره ، أو ينكر الغيب من كانت عقيدته قائمة على الإيمان به؟ فلا مجال للتسويات من ناحية المبدأ ، ولا مجال للتبادل من ناحية التوزيع على أساس التفاصيل. وهذا ما أرادت السورة أن تؤكده ، ردّا على العروض التوفيقية التي تجمع بين المتضادين وتساوي بين المتباينين ، فلا بد للفريقين المسلم والمشرك من أن يتنازل أحدهما عن موقفه ليلتقي بالآخر ، لأن الشرك لا يلتقي بالوحدانية ، ولأن الكفر لا يجتمع مع الإيمان.

* * *

٤٥٣

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٦)

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب نزول هذه السورة ، في الدر المنثور : «أخرج ابن جرير ، وابن أبي حاتم ، وابن الأنباري في المصاحف عن سعيد بن ميناء مولى أبي البختري ، قال : لقي الوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والأسود بن المطلب ، وأميّة بن خلف ، رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : يا محمد ، هلمّ فلتعبد ما نعبد ونعبد ما تعبد ، ولنشترك ، نحن وأنت ، في أمرنا كله ، فإن كان الذي نحن

٤٥٤

عليه أصحّ من الذي أنت عليه كنت قد أخذت منه حظا ، وإن كان الذي أنت عليه أصحّ من الذي نحن عليه ، كنا قد أخذنا منه حظا ، فأنزل الله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) حتى انقضت السورة (١).

وجاء في تفسير القمي عن أبيه عن ابن أبي عمير قال : سأل أبو شاكر أبا جعفر الأحول عن قول الله : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ* وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) فهل يتكلم الحكيم بمثل هذا القول ، ويكرّر مرة بعد مرة؟ فلم يكن عند أبي جعفر الأحول في ذلك جواب.

فدخل المدينة ، فسأل أبا عبد الله ـ جعفر الصادق ـ عليه‌السلام عن ذلك ، فقال : كان سبب نزولها وتكرارها ، أن قريشا قالت لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : تعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، وتعبد آلهتنا سنة ونعبد إلهك سنة ، فأجابهم الله بمثل ما قالوا ، فقال ، في ما قالوا : تعبد آلهتنا سنة : (قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ* لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) وفي ما قالوا : نعبد إلهك سنة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) ، وفي ما قالوا : تعبد آلهتنا سنة (وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) وفي ما قالوا : نعبد إلهك سنة : (وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ* لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (٢).

* * *

العبادة لله الواحد الأحد

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) بالله أو بوحدانيته ، من خلال المنهج الذي تسيرون عليه ، والالتزام الذي تلتزمونه في حياتكم على خط العبادة في العقل

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ٦٥٥.

(٢) نقلا عن تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ٤٣٤.

٤٥٥

والروح والشعور والحركة والموقف ، قل لهم ، إذا دعوك إلى عبادة آلهتهم التي هي أحجار لا تضر ولا تنفع ، ولا تنطق ولا تسمع ، ولا تحس ولا تتحرك ، مما لا معنى له في وعي الإنسان الذي يحترم عقله ، ويلتزم إنسانيته ، قل لهم ، إذا حاولوا أن يخدعوك بالتلويح لك بأنهم سيعبدون الله في مقابل عبادتك للصنم ، قل لهم كلمة الرفض الحاسم الذي لا يوافق على التسويات في خط العقيدة ، لأنهم لو آمنوا بالله لوحّدوه في العبادة ، ولكنهم يريدون أن يحصلوا من طروحاتهم عليك ، على شرعية أصنامهم ، ليسقطوا دعوتك من خلال اعترافك بآلهتهم ولو بمقدار لحظة. فكيف تستطيع بعدها أن تهاجمها ، وترفضها ، وترجمها بالحجارة وتكسّرها ، وتدعو الناس إلى أن يبتعدوا عنها ، إذا قدّمت لها فروض العبادة ، وحركات الخضوع في وقت معيّن مهما كان هذا الوقت؟ وبذلك تلغي رسالتك القائمة على التوحيد الذي لا يعترف بالشرك بل جاء رفضا للشرك كله. قل لهم : (يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ) الذين تكفرون بالله أو بتوحيده ، وتريدونني أن أصدّق أنكم جادّون في طرحكم أنكم تريدون عبادته (لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) لأن الله قد أرسلني لأرفض الذي تعبدونه ، ولأدعو الناس إلى أن يرفضوه ، فكيف تدعونني إلى أن أعبده؟!.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) لأن الذين عاشوا الوثنية في عقولهم ومشاعرهم وحياتهم ، كيف يقتنعون بعبادة الله الواحد ، في الوقت الذي كانوا فيه يتحركون ضد الرسول الذي جاء بالتوحيد في العقيدة وفي العبادة.

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ) وهذا تأكيد للرفض الأول بصيغة الجملة الاسمية الدالة على ثبات الصفة واستمرارها.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) لأنكم ـ في موقفكم ضدي ـ تمثلون الرفض كله ، فكيف تريدونني أن أقبل منكم ذلك؟

* * *

٤٥٦

ديني هو الإسلام لله ودينكم دين الشرك به

إن المسألة الحاسمة ، هي أن هناك عبادتين تختلفان في طبيعتهما وفي منطلقاتهما ، وفي حركتهما في الواقع الإنساني ، وأن هناك دينين يختلفان في قاعدتهما وفي شريعتهما وفي طريقة العبادة فيهما ، وفي مضمون الألوهية عندهما ، وفي نظامهما الأخلاقي ، وقد أخذتم بدين الشرك وارتضيتموه عن قناعة أو عن تقليد ، أو عن طمع واستكبار ، أمّا أنا ، فقد أخذت بدين التوحيد الذي هو دين الإسلام من موقع القناعة اليقينية والإيمان الحاسم. ولتكن الكلمة الأخيرة ، هي الكلمة الفاصلة التي تمنع اللقاء إلا على أساس وحدة الدين والانتماء.

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) فإذا كنتم لا تريدون الالتزام بديني ، فابتعدوا عني ، لأني لن أترك ديني الذي أخلصت به لله في كل ما يريده ويرضاه. وعلى المعنى الثاني ، وهو إرادة الجزاء من كلمة الدين ، فيكون المراد ، لكم جزاؤكم على عبادتكم ، وهو النار ، ولي جزائي على عبادتي وهو الجنة.

* * *

السورة في خط المنهج

إن هذه السورة تمثل المنهج للمسلمين في مواجهة العروض التي تقدّم إليهم في ساحة الصراع من أجل إنهاء القطيعة ، وإيجاد قاعدة للصلح ، مما قد يتعارف الناس على الوصول إليه ، بالتسويات العملية التي تعمل على أساس المناصفة ، بأن يتنازل هذا الفريق عن بعض مواقعه والتزاماته لمصلحة الفريق الآخر الذي يتنازل له عما لديه بالنسبة نفسها ، ليلتقيا في نصف الطريق لمطالبهما. ولعلّ هذا ما قدّمه هؤلاء المشركون للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما جاء به

٤٥٧

أسباب النزول ، الذي أكّد على أن يعبد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأوثان سنة ، ليعبد المشركون الله سنة ، ليتساويا في الاعتراف المتبادل في وقت خاص.

وقد يكون المطروح في عروض الصلح ، هو المطالبة بتجربة الموقف الذي يقف فيه أحدهما من قبل الآخر ليعيش آفاقه ، وليدخل في تجربته ، فلعله يقتنع به ليتخذ الموقف على أساس الفكرة الواحدة.

إن السورة تطرح الرفض لهذه الفروض من ناحية المبدأ ، لأن المسألة تتعلق بالخط الأساسي للدين ، وهي مسألة عبادة الله التي تمثل خط التوحيد ومنهجه في العقيدة والحياة ، في مقابل مسألة عبادة الأوثان التي تمثل خط الشرك ومنهجه فيهما ، مما يعني التنازل عن أساس الالتزام العقيدي ، فإن الإسلام قد جاء لمحاربة الوثنية بالعقيدة التوحيدية ، فكيف يمكن الاعتراف بها من ناحية المبدأ في ما يعنيه ذلك من الابتعاد عن الجدّية في الدعوة إلى وحدانية الله؟!

* * *

الواقعية في العمل الإسلامي

ولعلنا نستطيع التحرك بعيدا في هذا الموضوع ، في القضايا العامة ، من سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية ، لنميّز في طروحات الوفاق في هذه الأمور بين القضايا الكبرى المرتبطة بالخط المستقيم وبالمصير النهائي ، وبين القضايا الصغرى المرتبطة بالخطوط التفصيلية المتحركة في دائرة الأوضاع المتحركة والمراحل المتغيّرة ، فلا نقدّم التنازل عن القضايا الأولى ، إلا في ما يتعلق بالأسلوب مما يدخل في دائرة المرونة العملية ، بينما ندرس بعض التنازلات في القضايا الأخرى ، في ما لا يمس الجوهر. وتلك هي دائرة الواقعية التي يمكن أن يتحرك فيها الإسلاميون ، أمام الطروحات التي تقدم

٤٥٨

إليهم لإنهاء النزاع ، أو لإيجاد موقف مشترك مع الآخرين في بعض المراحل السياسية في ما يطلب فيه تجميد الصراع في وقت معين مع بعض الجهات ، أو إيجاد حالة من الوفاق السياسي أمام بعض الشعارات أو ما إلى ذلك ، مما قد يفيد الحركة الإسلامية في مواقعها السياسية أو الجهادية ولا يضرّ مرتكزاتها ومسلّماتها الأساسية.

ولعلّ من الضروريّ للإسلاميين أن يدقّقوا في الساحة التي يمكن لهم أن يقدموا فيها التنازلات للآخرين في القضايا الصغيرة التفصيلية ، فقد لا يكون الظرف ملائما لذلك ، لأن الانعكاس الذي يتركه على القاعدة الشعبية قد يكون سلبيا ، مما يمكن أن يؤدي إلى إضعاف المعنويات السياسية من دون ثمن كبير يحصلون عليه في مقابل ذلك. وقد تكون بعض المواقع في دائرة المكان غير ملائمة لذلك ، بينما تكون المواقع في دائرة أخرى وفي أمكنة أخرى ملائمة جدّا.

إن ما نريد التأكيد عليه هو أن تكون الحسابات دقيقة بحيث لا تخضع للحالات العاطفية أو الانفعالية ، حتى لا يكون الخطأ كبيرا أو مميتا في نتائجه السلبية.

وعلى ضوء ذلك ، فإن على العاملين في حقل التربية الإسلامية ، أو الدعوة الإسلامية ، أن يضعوا هذه السورة في البرامج التربوية التي يدرسها الجيل المسلم ، ليحفظوها وليفهموها وليلتزموا مضمونها الحيّ في أفكارهم وأخلاقهم ، لتكون التنشئة التربوية مرتكزة على قاعدة الإصرار على الالتزام بالخط المستقيم وعدم الانحراف عنه لقاء أيّ عرض للتنازل من أيّة جهة كانت ، ولتكون الدعوة الإسلامية متحركة في خط الثوابت العقيدية والمصيرية بكل استقامة وثبات.

* * *

٤٥٩
٤٦٠