تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

فجاء أبو جهل ، فقال : ألم أنهك عن هذا التصرف؟ فانصرف إليه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فزبره ، فقال أبو جهل : والله ، إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني ، فأنزل الله تعالى : (فَلْيَدْعُ نادِيَهُ* سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) قال ابن عباس : والله لو دعا ناديه لأخذته زبانية الله تبارك وتعالى» (١).

وإذا صحت هذه الرواية ، فإنها لا تختص بأبي جهل ، بل يكون مجرد نموذج لهذا الإنسان الذي يكفر بالله ، أو يشرك به ، ويستهين به وبعبادته ، ويعمل على زجر الإنسان الذي يقف بين يدي ربه خاشعا خاضعا له معترفا بعبوديته له ، معبّرا عن إخلاصه وتعظيمه لقدسه وجلاله.

* * *

من نماذج الكفرة الطغاة

وهذا نموذج من الناس الذين يعيشون الطغيان في شخصياتهم ، فينصبون أنفسهم قيّمين على الناس حيث يطلبون منهم أن يطيعوهم في كل شيء ، بعيدا عما إذا كان ذلك حقا أو باطلا ، لأن المسألة لديهم هي أن يحقّقوا ذواتهم في المجتمع بتأكيد إرادتهم في إسقاط إرادة الناس من حولهم ، لتكون الكلمة كلمتهم في كل شيء.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى * عَبْداً إِذا صَلَّى) وهذا هو ما نلاحظه لدى الكثيرين من الناس في كل زمان ومكان ، ممن يتعقّدون من الإيمان والمؤمنين ، فيعملون على ممارسة كل ألوان الاضطهاد عليهم ، لإبعادهم عن الصلاة التي هي المظهر العملي الحيّ للإيمان ، وللعبادة المنفتحة على الله بكل كلمة من كلماتها ، وكل حركة من حركاتها ، الأمر الذي يجعلها معراجا للمؤمن ،

__________________

(١) الواحدي ، علي بن أحمد ، أسباب النزول ، دار الفكر ، ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ م ، ص : ٢٥٤. وقد ذكرت الرواية أيضا في تفسير الطبري.

٣٤١

يعرج ـ من خلالها ـ بروحه إلى الله.

(أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى) أي إن كان هذا الإنسان الذي يصلي ، ويأتي هذا المنحرف الضالّ لينهاه عن صلاته ، أرأيت إن كان سائرا في خط الهدى ، (أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) في دعوته إلى الله ، وفي أمره للناس بالتقوى ، كيف يواجه الموقف الذي يقفه منه؟ وهل يعرف ما هي النتائج السلبية الصعبة التي ستحدث له من خلال ذلك؟

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) هناك تفسير آخر ، بأن يكون الضمير راجعا إلى الناهي ، لو كان من المهتدين الآمرين بالتقوى ، وهو يعلم بأن الله يراه ، ما ذا كان يجب أن يفعله ، وهل ينهى هذا العبد عن الصلاة أو يأمره بها؟ وهو معنى غير واضح من سياق الآيات.

(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) ويطّلع على كل نشاطه الاستكباريّ التخريبي في ما ينهى به عن عبادة الله ، فكيف يأخذ حريته في ذلك ، وكيف لا يخاف من عقاب الله في يوم القيامة؟

* * *

مصير من ينهى عن المعروف

(كَلَّا) فليس الأمر كما يتوهم من هذا الشعور المطمئن بالنتائج الإيجابية لمصلحته ، (لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) عن سلوكه الطاغي (لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) الناصية شعر الجبهة ، والسفع الجذب بشدّة ، وكانت العرب تأنف من الشد بالناصية ، أو الجرّ بها ، وتعتبره مظهرا للإذلال والتحقير ، لأنه من شؤون الحيوان لا الإنسان ، ومعناه ، فليرتدع هذا الإنسان عن غيّه ، وإلّا فسنشدّه إلى جهنم بناصيته.

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ) أي مجلسه ، والمراد به قومه وأتباعه الذين يحضرون

٣٤٢

مجلسه ويؤيدونه ويدافعون عنه ، فليدعهم لينقذوه من عذاب جهنم (سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) وهم الملائكة الموكّلون بالعذاب في النار ليدفعوهم إليها. وهذا هو جزاؤه وعقابه في مصيره المحتوم. (كَلَّا) لن ينالك بسوء ، ولن يستطيع أن يدفع عن نفسه أيّ لون من ألوان العذاب.

* * *

الاقتراب من الله والسجود له

(لا تُطِعْهُ) في ما ينهاك عنه من الصلاة ، مهما هدّد وتوعّد ، (وَاسْجُدْ) لله وحده ، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد ، لأن السجود هو المظهر الحيّ للخضوع لله تعالى بكل مراتبه.

(وَاقْتَرِبْ) لأن الاستغراق في معنى العبودية ، الذي يمثله السجود ، هو الذي يجعل العبد قريبا إلى الله وبكل كيانه الروحي والجسدي ، وهذا هو غاية خشية المتّقين ، وإخلاص العابدين.

وإذا كان هذا الخطاب موجّها إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حسب رواية أسباب النزول ، فإنه لا يختص به ، بل يشمل كل المسلمين المؤمنين المصلين السائرين على الهدى الآمرين بالتقوى ، وبالتالي ، فإن عليهم أن يتمردوا على كل أنواع الضغوط التي تمارس بحقهم لحملهم على ترك صلاتهم ، أو لينحرفوا عن خط الهدى إلى خط الضلال ، أو ليأمروا بالمعصية ، وأن يؤكدوا هذا التمرد بالإصرار على السجود العلني لله كمظهر من مظاهر الثبات على الرسالة ، وأن يعملوا على الاقتراب من الله في أفكارهم وأوضاعهم وأقوالهم وأفعالهم وعلاقاتهم في مواجهة خطة الكافرين التي تريد إبعادهم عن الله وعن كل وحيه ورسالاته.

* * *

٣٤٣
٣٤٤

سورة القدر

مكيّة

وآياتها خمس

٣٤٥
٣٤٦

في أجواء السورة

وفي هذه السورة المكية حديث عن إنزال القرآن في ليلة القدر التي هي من الليالي التي لا يستطيع أحد أن يبلغ الدرجة الحقيقية العميقة في تقدير عظمتها وقداستها ، حتى أنّ هذه الليلة الواحدة تفوق في فضلها ألف شهر ، وتنفتح السماء في أجوائها ليتنزّل الملائكة والروح ، الموكلون بالمهمات التي يكلفهم الله بها من كل أمر يتصل بالحياة والإنسان ، في ما يقدّره الله للناس في أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم. وهي ـ بعد ذلك ـ ليلة السلام الذي يغمر الكون من خلال ألطاف الله وفيوضاته على عباده ، والتي تستمر إلى مطلع الفجر.

ولكن ما هو موقع هذه الليلة في الزمن؟

إن التدقيق في الآيات التي تحدثت عن نزول القرآن يوحي بأنها من ليالي شهر رمضان ، وذلك كما في قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] ، وقوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ* فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) [الدخان : ٣ ـ ٥] فإن الظاهر منها ـ بالمقارنة مع سورة القدر ـ أن المراد بها ليلة القدر.

وقد اختلفت الأحاديث في تحديدها ، ولعل المشهور في أحاديث الإمامية أنها ليلة ثلاث وعشرين ، فقد جاء في رواية عبد الله بن بكير عن

٣٤٧

زرارة عن أحد الإمامين الباقر والصادق عليهما‌السلام قال : ليلة ثلاث وعشرين هي ليلة الجهني ، وحديثه أنه قال لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن منزلي ناء عن المدينة ، فمرني بليلة أدخل فيها ، فأمره بليلة ثلاث وعشرين (١).

وهناك رواية في «الدر المنثور» عن مالك والبيهقي بهذا المعنى (٢) ، والمعروف عند علماء أهل السنة ، أنها ليلة سبع وعشرين.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ١٠ ، ص : ٧٨٨.

(٢) انظر : الدر المنثور ، ج : ٨ ، ص : ٥٧٣.

٣٤٨

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (٥)

* * *

هل تدل الآية على نزول القرآن دفعة واحدة؟

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) هل نزل القرآن بأجمعه في ليلة القدر؟ وهل هناك ظهور في الآية وفي أمثالها أن القرآن أنزل جملة واحدة غير نزوله التدريجي في مدة ثلاث وعشرين سنة كما ورد في قوله تعالى : (وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً) [الإسراء : ١٠٦] ، وفي قوله تعالى : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً) [الفرقان : ٣٢]؟.

٣٤٩

ربما يقال : إن ظاهر كلمة القرآن هو مجموع ما بين الدفّتين ، ولكن يمكن أن نلاحظ ـ على هذا ـ أن الآيات التي تتحدث عن إنزال القرآن في ليلة مباركة ، وفي شهر رمضان ، وفي ليلة القدر ، هي بعض من القرآن ، فهل تشير إلى نفسها كجزء من القرآن المنزّل؟

ثم إن الظهور في الكل ـ لو كان ـ فهو مشترك بين الآيات التي تتحدث عن النزول التدريجيّ ، وعن نزوله بنفسه ، مما يدلّ على أنّ المراد بالقرآن هو المعنى العام الذي يصدق على الآية والسورة والكتاب كله. كما أننا نلاحظ في كتب السيرة أن النبي كان ينتظر النزول القرآني كلما وقع المسلمون في مشكلة تحتاج إلى الحل ، وكان يتوقف في بيانها للناس انتظارا منه للحل القرآني من الله ، فلو كان قد نزل جملة ، لكان معلوما للنبي بتفاصيله في كل أحكامه ، والله العالم.

* * *

ما هو القدر؟

وما هو المراد بالقدر ، فهل هو بمعنى الشرف والرفعة في ما يمثله ذلك من علوّ الدرجة والمنزلة ، لما لها من المنزلة الرفيعة عند الله ، أم أن المراد التقدير ، فهي الليلة التي يقدّر الله فيها كل أحداث السنة ، من حياة وموت ، وبؤس وشقاء ، وحرب وسلّم وغير ذلك ، ولعل هذا هو الأقرب بلحاظ قوله تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ* أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) [الدخان : ٤ ـ ٥] وقوله في آخر السورة : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ).

* * *

٣٥٠

ليلة القدر سرّ من أسرار الله

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ) فليس شأنها مما يمكن للإنسان أن يدركه بنفسه ، لأن ذلك سرّ الله في الزمان كما هو سرّه في المكان وفي الأشخاص ، فهو الخالق للوجود كله ، بكل أنواعه ، وهو الذي يمنح هذا بعضا من الخصوصية التي تجعل منه «شيئا مذكورا» ، ويمنح ذاك بعضا من الأسرار التي تجعله شيئا عظيما ، لأن الذي يخلق الوجود هو القادر على أن يمنحه قيمته. وهكذا جعل الله لهذه الليلة قيمتها الروحية : (لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) وقد لا يكون هذا الرقم تحديدا في الكمّ ، فربما كان تقريبا للنوع في الدرجة التي يتضاءل أمامها كل زمن من هذه الأزمنة التي لا تحمل إلا الذرّات الزمنية المجرّدة.

وهل أخذت شرفها من إنزال القرآن فيها ، أم أن شرفها سابق عليه؟ الظاهر الثاني ، لأن الله يقول : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] ، فهي مباركة في ذاتها. وربما كان نزول القرآن فيها على أساس أنه من الأمر الإلهي الذي يتنزل به الملائكة. وأيّ أمر أعظم من القرآن الذي هو النور والهدى للبشرية من خلال اللطف الإلهي الذي يصل الأرض بالسماء ، ويدفع بالحياة إلى السير على الخطة الإلهية الحكيمة في الفكر والمنهج والشريعة والمفهوم الكامل الشامل للحياة ، الذي يفتح للإنسان أكثر من نافذة على الروح القادم من عند الله ، ليزداد ـ بذلك ـ ارتفاعا في السماوات الروحية العليا في رحاب الله؟!

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) وهذا هو سرّ الليلة الذي تتنزّل به الملائكة ، الذين يوكل الله إليهم المهمّات المتعلقة بالكون الأرضي المتصل بالإنسان من كل أمر يهمّه أو يتعلق بشؤونه ، في رزقه ، وحركته وعمره ، ونحو ذلك. كما يتنزل به الروح الذي قد يكون المراد به جبريل عليه‌السلام ، الذي امتاز عن الملائكة ـ حسب الأحاديث الكثيرة ـ بأنه

٣٥١

الرسول الذي يحمل الوحي للأنبياء ليبلّغوه للناس ، وقد يكون المراد به الخلق العظيم الذي يتميز بقدرة خاصة غامضة ، أو بطبيعة مختلفة عن طبيعة الملائكة ، ولكن ما هي تفاصيل ذلك الأمر؟ وما هي ملامحه الدقيقة؟ إن ذلك مما لم يبيّنه الله لنا ، ولكننا نعرف أن هناك بيانا لكل أمر حكيم أمرا من عند الله ، وقد فسّره المفسرون بالأرزاق والآجال والأوضاع المتصلة بحياة الإنسان.

ومهما كان ، مما يمكن للإنسان فهم معناه ، وبلوغ مداه ، أو مما لا يمكن له الوصول إلى ذلك ، فإن الآية توحي بأن هناك سرا ربّانيا يثيره الله في هذه الليلة في الكون الإنساني من خلال رحمته التي يرحم بها عباده ، ولطفه الذي يلطف به في حياتهم العامة أو الخاصة.

* * *

الاستعداد لليلة القدر

ولذلك جاءت التعاليم النبوية المستمدّة من الوحي الإلهي الذي أوحى به إلى نبيّه ، أو ألهمه إياه ، في ضرورة استعداده فيها للصلاة والابتهال والدعاء والانقطاع إلى الله ، والتقرب إليه بالكلمة الخاشعة ، والدمعة الخائفة ، والخفقة الحائرة ، والشهقة المبتهلة ، ليحصل على رضاه ، فيكون ذلك أساسا للتقدير الإلهي الذي يمثل عناية الله به ورعايته له ، وانفتاحه عليه بربوبيته الحانية الرحيمة. وذلك هو السر الذي يرتبط به الإنسان بليلة القدر ، في مواقع إنسانيته ، ليلتقي ـ فيها ـ بالسرّ الإلهي في رحاب ربوبيته ، لينطلق الإنسان إلى ربه قائما وقاعدا ، وراكعا وساجدا ، في إخلاصه ، وفي ابتهاله وفي خشوعه ، لتكون هذه الليلة موعدا إلهيّا يتميّز عن أيّ موعد آخر. فبإمكان الإنسان أن يلتقي بالله في كل وقت ، ولكن لقاءه به في ليلة القدر شيء آخر ، فهي (خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) ، فالرحمة فيها تتضاعف ، والعمل فيها يكبر ، والخير فيها يكثر ،

٣٥٢

وعطايا الله تتزايد ، وهي ـ بعد ذلك ـ ليلة السّلام التي يعيش فيها الإنسان روحية السّلام مع نفسه ومع الناس ، لأنها تحولت إلى معنى السّلام المنفتح بكل معانيه على الله ، ليكون بردا وسلاما على قلب الإنسان وروحه ، ليعود طفل الحياة الباحث عن الله.

* * *

ليلة القدر سلام للروح

(سَلامٌ هِيَ) فليس فيها أيّ معنى يوحي بالشرّ والبغض والأذى مما يرهق مشاعر السّلام للإنسان. إنه سلام الروح الذي يمتد في روحانية هذه الليلة ، في كل دقائقها وساعاتها في رحمة الله ولطفه. (حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) ليبدأ يوم جديد يتحول فيه الإنسان ـ في ما أفاض الله عليه من روحه وريحانه ـ إلى إنسان جديد ، هو إنسان الخير والمحبة والسّلام ، في آفاق الله الرحمن الرحيم الذي هو السّلام المؤمن العزيز الجبّار المتكبر.

وتلك هي ليلة القدر التي قد يكون لها موعد معيّن معلوم ، لأن الله ربما أخفاها في الليالي ، لينطلق العباد في أيامه ، ليصلوا إليها ، ليتعبدوا إلى الله في أكثر من ليلة ، لاحتمال أنها ليلة القدر ، حتى يتعوّدوا أن تكون لياليهم في معنى ليلة القدر ، في العبادة والخضوع والقرب من الله. وذلك ما يريده الله لعباده ، أن يقربوا إليه ، ويلتقوا به ، ليصلوا إليه بأرواحهم وقلوبهم ، لأنهم لا يملكون الوصول إليه بأجسادهم.

* * *

النظرة الشعبية لليلة القدر

وقد تكون من مشكلة الوعي الشعبي لهذه الليلة ، أن الناس يتطلعون

٣٥٣

إليها في نظراتهم إلى السماء ، ليراقبوا ظاهرة كونية لامعة فيها ، أو شبحا غامضا يطوف في أرجائها ، أو ملكا سابحا في الفضاء أو نورا ، أو شيئا ـ أيّ شيء ـ مما يكون إيحاؤه الساذج ، أن هذا الإنسان قد طلعت عليه ليلة القدر ، ليكون ذلك بمثابة الكرامة الإلهية التي توحي له بالاعتزاز ، وتبعثه على الرضى بنتائج ليلته.

ولكن ذلك الوهم الروحي الباحث عن الظاهرة في خارج الذات هو المشكلة الناشئة من التخلف الفكري والروحي ، في فهم العبادة وفي وعي الدين ، وفي الإحساس بأسرار الذات في عمق المضمون ، حيث يتطلع الإنسان إلى خارج ذاته لا إلى داخلها ، وإلى شكل العبادة لا إلى مضمونها ، وإلى سطح الدين لا إلى عمقه ، ومن خلال ذلك تجمّد الدين وتحوّل إلى طقوس وعادات وتقاليد وابتعد الإنسان عن وعي حقيقته الإنسانية التي هي قبضة من طين الأرض ، ونفخة من روح الله ، ليبقى متعبدا لذاته ، في ما هو الجسد الخالي من معنى الروح ، الغارق في ضباب الشهوة ، الذي هو مادّة تتحرك لتتحول إلى تراب ورماد ، وليس روحا تتجسد لتحلّق في رحاب الله ، حيث هو معنى الإنسان في ليلة القدر.

* * *

٣٥٤

سورة البيّنة

مدنيّة

وآياتها ثمان

٣٥٥
٣٥٦

في أجواء السورة

تباينت الآراء حول كون هذه السورة مدنية أو مكية ، فمن قائل بأنها مدنية لقربها من السور المدنية ، وذلك من خلال الإشارة إلى أهل الكتاب الذين لم يكونوا مشكلة للإسلام وللدعوة الإسلامية في المرحلة المكية ، ومن خلال الإشارة إلى الزكاة التي جاء التشريع بها في المدينة ، إلى قائل بأنها مكية ، من خلال الحديث فيها عن بعض جوانب العقيدة وهي الرسالة ، ولا مانع من ذكر الزكاة وأهل الكتاب لورود الزكاة في بعض السور المقطوع بمكيتها ، كما أن هناك وجودا جزئيا لأهل الكتاب في مكة وفي المنطقة.

وخلاصة الحديث في السورة عن البينة التي كان يلهج بذكرها أهل الكتاب والمشركون من العرب ، الذين كانوا يكفرون برسول الله ، ويؤكدون أنهم خاضعون لها إذا جاءت ، لأنهم يبحثون عن القناعة المرتكزة على قاعدة أو حجة ، وقد جاءهم رسول الله الذي بعثه الله ليقدم لهم البيّنة الواضحة في الكتاب الذي يحمله ويبلّغه للناس والذي يتضمن الحجة ، كل الحجة ، في ما يشتمل عليه من الكتب القيّمة ، ولكن القوم ، في أكثريتهم ، لم يكونوا طلاب بيّنة ، بل كانوا يقدّمون الطروحات المطلوبة ، حتى إذا جاءتهم تنكّروا لها بألف طريقة وطريقة. وهذا ما نراه في تاريخ أهل الكتاب الذين تفرقوا شيعا وأحزابا وطوائف متعددة بعد أن قامت عليهم الحجة من الله ، في ما قدمه الله

٣٥٧

لهم من كتب ودلالات ، وأرسله إليهم من أنبياء ، مما يفرض عليهم الوحدة من خلال الأسس التي ترتكز عليها الرسالات.

وقد أمرهم الله في الكتاب الذي أنزل عليهم أن يعبدوا الله مخلصين له الدين ، حنفاء ، وأن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ، وذلك هو الدين القويم الذي هو دين إبراهيم ، فلما ذا لم ينطلقوا معه في حركة منسجمة صحيحة؟.

وتؤكد السورة ، في نهايتها ، على أن الكافرين بالدعوة الإسلامية من أهل الكتاب والمشركين ، هم شرّ البريّة ، وأنّ الذين آمنوا وعملوا الصالحات هم خير البرية ، وأن الله سيقدّم لهم الجزاء العادل ، جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ، انطلاقا من خشيتهم لله ، الرافع للذين يخافونه ويعملون على الانضباط العملي في خط تقواه القائمة على الخوف منه سبحانه وتعالى.

* * *

٣٥٨

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) (٨)

* * *

معاني المفردات

(مُنْفَكِّينَ) : الانفكاك : الانفصال من شدة اتصال.

(الْبَيِّنَةُ) : الحجّة الظاهرة.

٣٥٩

(قَيِّمَةٌ) : القيّمة : المستمرّة في جهة الصّواب.

(حُنَفاءَ) : الحنيف : المائل إلى الصواب والحقّ.

(الْبَرِيَّةِ) : الخليقة ، الناس.

* * *

الرسول يتلو بيّنة الله على المشركين وأهل الكتاب

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ) ممّن رفض دعوة الرسل وأنكر نبوّتهم ، فكان كافرا بالرسول وبالرسالة (مُنْفَكِّينَ) أي منفصلين عن موقفهم الكافر (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) وهي الحجة القائمة على إثبات حقيّة الرسالة والرسول. وربما كان الجوّ الذي يعيشه هؤلاء هو جوّ التبرير لإصرارهم على الدين القويم في صورته التي يتمثلونها في طريقتهم الخاصة ووضعهم المعقّد. ولكن كيف يسألون ذلك ، في الوقت الذي تتمثل البيّنة أمامهم مجسدة في النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وفي الصحف المطهرة التي يحملها ، ليقدم للناس ما تشتمل عليه من كتب قيّمة؟ (رَسُولٌ مِنَ اللهِ) وهو محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً) وهي الصحف القرآنية التي تتضمن أصول العقيدة ، وأحكام الشريعة ، ومناهج الحياة التي يرضاها الله ، وحجج الفكر التي تؤكد حقائق الإسلام وأباطيل خصومه. (فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) ولعلّها الكتب الرسالية التي جاء بها الأنبياء السابقون ، في ما حدث الله في القرآن عن صحف إبراهيم وموسى ، وفي ما تحدّث عنه من التصديق لما بين يديه من الكتب مما نقله عن الإنجيل وغيره.

ولعل دراستنا للأوضاع التي عاشها أهل الكتاب في التمزق الطائفي أو المذهبي الناشئ من التنافس على النفوذ ، ومن المطامع الذاتية التي تؤدي إلى البغي والبغضاء والعداوة الحاقدة ، تؤدي بنا إلى النتائج الحاسمة ، وهي أن

٣٦٠