تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

سورة الضّحى

مكيّة

وآياتها إحدى عشرة

٣٠١
٣٠٢

في أجواء السورة

يذكر المفسرون أن الوحي قد احتبس عن النبي مدّة ، فقال المشركون : إن ربّه قد ودّعه وقلاه ، ولو كان رسولا لما احتبس عنه ، فنزلت هذه السورة. وقيل إن المسألة قد حدثت في المدينة ، فتساءل المسلمون عن ذلك ، ولكن الجوّ أقرب إلى الجوّ المكّي.

وكانت هذه السورة لتفتح قلبه على محبة الله له الذي آواه ورعاه وحماه وهداه وأغناه ، فلا تضطرب مشاعره ، ولا تختنق روحه ، بل يبقى في حالة الصفاء الروحي ، كصفاء الضحى في إشراقه ، وفي حالة الهدوء الرائق الشفاف ، كهدوء الليل الساجي ، وليعرف أن الله عند ما يختار رسوله للدعوة إليه ، فإنه لا يودّعه ولا يبغضه ، لأنه لم يختره للرسالة إلا من خلال اطلاعه على قابليته وإمكاناته الروحية التي تجعله مؤهّلا لمحبة الله ولانفتاحه عليه ولاعتماده على دوره ، لأن اختيار الله عبدا لرسالته ليس أمرا طارئا خاضعا لمرحلة زمنية معيّنة ، بل هو أمر ثابت في صلاحية الرسول وحاجة الحياة إلى الرسالة.

وتبدأ السورة بعد ذلك لتذكّر النبي بأن الجهد الذي يبذله في سبيل الدعوة ، والعناء الذي يعانيه ، لا يمثّلان أيّة مشكلة صعبة في ثبات قراره على

٣٠٣

الاستمرار مهما أثار المشركون والمنافقون من التهاويل حوله ، لأن الله قد أعطاه في الآخرة من علوّ الدرجة ما لم يعط أحدا من عباده وسيزيد في عطيته بما يرضيه.

ثم يذكّره بطفولته عند ما كان يتيما فآواه ، ولم يسمح لليتم أن يشرّده ، وبشبابه عند ما كان ضالا لا يعرف الطريق إلى الرسالة ، فهداه وأرسله برسالته ، وبأوضاعه المادية الصعبة عند ما كان فقيرا فأغناه ، وعرّفه بأنه لا بد من أن يستوحي ذلك في تعامله مع اليتيم ، فلا يقهره بالكلمة والممارسة ، لأنه عاش المشاعر الحساسة لليتم ، ويعرف مدى حاجته للكلمة الحلوة ، ومدى تأثير الكلمة القاسية القاهرة في إحساسه الرقيق ، وفي تعامله مع السائل الذي يدفعه فقره إلى السؤال ، فلا ينهره ، لأن ذلك الأسلوب القاسي الفظّ في التعامل معه يرهق روحه ، ويسقط كرامته ، وفي انفتاحه على نعمة ربه ليتحدث إلى الناس عنها في أسلوب الشكر ، وفي حركة الطاعة.

وإذا كانت لهذه السورة علاقة بالواقع الذي كان يعيشه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في احتباس الوحي عنه ، مما جعل المشركين يشمتون به ويتحدثون عنه بطريقة غير مسئولة ، فإنها قد توحي للدعاة من بعده بأن لا يسقطوا أمام الشدائد التي تضغط عليهم ، والكلمات التي تسيء إليهم ، وأنّ عليهم أن يفكّروا بالآخرة لا بالدنيا ، ليمتد شعورهم بالرضوان الإلهي هناك بدلا من أن يفكروا بالمشاكل المحيطة بهم هنا. كما أن عليهم أن يتذكروا نعمة الله عليهم في ما أولاهم من نعمه ، وفي ما أنقذهم من الشدائد التي كانت تثقل عليهم ، ليكون سلوكهم مع الفئات الفقيرة أو الضعيفة ، سلوكا رساليا لا يتنكر لليتيم ، ولا يتعالى على الفقير ، بل ينفتح على كل هذه الفئات الاجتماعية من خلال مسئوليته الروحية والأخلاقية في خط الرسالة.

* * *

٣٠٤

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ(١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) (١١)

* * *

معاني المفردات

(سَجى) : سكن وهدأ.

(قَلى) : بغض.

(عائِلاً) : فقيرا.

(تَنْهَرْ) : نهره وانتهره بمعنى ، وهو أن يصيح في وجه السائل الطالب للرفد.

* * *

٣٠٥

الضحى والهدوء النفسي

(وَالضُّحى) وهذا القسم بالضحى يمثل معنى إيحائيا ، من خلال ما يريد إثارته من الأجواء الرقيقة في المشهد الرائع الذي يمثله الإشراق الكوني في الصفاء المنساب مع حبات النور التي تحمل الدفء ، ولكنها لا ترهق الكون والإنسان بالحرارة الشديدة التي يحملها وقت الظهيرة.

(وَاللَّيْلِ إِذا سَجى) في ما يوحي به سجوّ الليل ، وهو سكونه ، عند ما يتقدم فيغشى الكون بظلامه ، فتهدأ الحركة ، وتنام العيون ، ويسهر الحالمون ، ليستغرقوا في ضباب الأحلام السعيدة المنسابة مع تطلّعات النفس إلى المستقبل الحالم الجميل ، فتصفو الروح ، ويهدأ الجسد ، وترتاح المشاعر من حالة التوتر التي تثيرها الضوضاء ، وتلتقي الأفكار الموحية المنفتحة على الكون كله بالمشاعر الصافية التي لا تلتقي إلا بالخير والمحبة والسلام.

ويريد الله من رسوله ، الذي يحاول المشركون إثارة القلق في روحه وفي وجدانه ، أن يتأمّل روعة الضحى في إشراقة الكون ، وهدوء الليل في غفوة الظلام ، ليعيش الهدوء النفسي والصفاء الروحي والسكون الوجداني ، فلا يضطرب قلبه ، ولا تتعقّد مشاعره ، لأن الله الذي أعطى الكون روحه في هدوء الضحى وسكون الليل ، سوف يمنحه السلام الروحي الرائع في حركته في الرسالة.

* * *

(ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى)

(ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) فالله عند ما أوقف نزول الوحي عليك فترة من

٣٠٦

الزمن ، لم يتركك وحدك أمام النظرات الحاقدة أو الساخرة التي ينظر بها الكافرون إليك ، ولم يرفع عنك ألطاف رعايته ورحمته المتمثلة برسالته التي اصطفاك لها ، ولم تتحول محبته لك إلى بغض ، فأنت لم تبتعد عن عين رعايته ، وعن موقع محبته ، وعن فيوضات رحمته ورضوانه ، في ما أولاك من نعمته في الدنيا ، وما وعدك به من أفضل الخير في الأخرى ، التي ستجد فيها ما يعوّضك عن كل الأتعاب التي عانيت منها في الحياة الأولى.

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) لأن الآخرة مبنية على الخلود في نعيمها ، أمّا الأولى ، فمبنيّة على الفناء والزوال في كل لذّاتها وشهواتها ، فلا قيمة لنعيم زائل ، أمام النعيم الباقي.

* * *

ولسوف يعطيك ربك فترضى

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) لأن الله لن يهمل أمر عبده ورسوله ، ولن يتركه في حالة الحرمان ، أو في متاهات الضياع ، بل سيتعهده برعايته ولطفه ، ليرضي قلبه برضوانه ، ويشمل حياته برحمته. وما يصحّ بالنسبة إلى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يصح بالنسبة إلى كل الدعاة الرساليين العاملين في خط النبوة والهداية إلى الله تعالى. فالله سبحانه وتعالى ، يريد كذلك من الشخصية المؤمنة أن تكون الراضية المرضيّة ، لتكون العلاقة بينها وبينه علاقة الرضى المتبادل والمحبة المشتركة.

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) فقد عشت اليتم المزدوج من الأب والأم ، وكنت كأيّ يتيم من هذا النوع ، معرّضا للتشرّد والضياع ، وللجوع والحرمان ، ولكن الله أحاطك بعنايته ، ورعاك بلطفه ، فهيّأ لك المأوى الذي يضمّك بعطفه وحنانه ، حتى نشأت نشأة طبيعية من دون أيّة مشكلة مما يعانيه الأيتام من

٣٠٧

مشاكل كبيرة.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) فقد انطلقت في الحياة من الواقع الرسالي الذي يحدد للناس طريقهم المستقيم ، ويبتعد بهم عن الانحراف والضياع. وبذلك كان الضلال لا يمثل السير في الخط المضاد للهدى ، أو المنطلق مع الانحراف ، بل يمثل فقدان الخط الذي يحدد نقطة البداية والنهاية في ما هو خط السير ، فرعاك الله بهدايته في ما ألهمك من الرأي السديد ومنحك من الفكر العميق وأنزل عليك من رسالته.

* * *

الله المغني

(وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) أي فقيرا لا مال لك ، وهذا هو معنى العائل ، فقد كنت لا تملك أي مصدر من مصادر المال ، ولكن الله هيّأ لك الغنى ، بما أعطاك من أسباب الرزق ، وذلك من خلال زواجك بخديجة بنة خويلد التي كانت تملك المال الوفير فوهبته لك.

وهكذا رأيت صنع الله بك ، ورعايته لك ، وعطفه عليك لتنفتح على مشكلة اليتيم العميقة في داخل وعيه ونظرته البائسة المشفقة إلى الحياة من خلال الخوف الذاتي الناشئ من فقدان الحضن الذي يوحي إليه بالشعور بالقوّة ، ويمنحه الإحساس بالثقة ، وابتعاد أجواء العطف والحنان عنه ، مما يجعل إحساسه قلقا حائرا يبحث عن الكلمة الحلوة ، ويتعقّد من الكلمة الشديدة القاسية.

* * *

٣٠٨

معاملة اليتيم

وهذا هو الذي يفرض عليك في ممارستك للعلاقة مع اليتيم ، وفي ما توصي به الناس من ذلك ، عند ما يعيش اليتيم بينهم ، ويحتاجون إلى مخاطبته والتعامل معه ، فعليهم أن لا يسيئوا إليه بالكلام الشديد القاسي (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) لأن ذلك يجرح مشاعره ، ويسقط روحه ، ويضاعف من حزنه ، ويدفعه إلى الشعور بالضياع ، ويعقّد شخصيته ونظرته إلى الناس من حوله ، فلا بد من الكلمة الحانية والبسمة الحلوة ، والنظرة الهادئة المشرقة ، واللمسة اللطيفة التي تدفع بالبسمة إلى شفتيه ، وبالإشراقة إلى عينيه ، وبالطمأنينة إلى قلبه ، وبالثقة إلى روحه ، وبالثبات في خطواته ، ليعود إنسانا فاعلا واثقا بنفسه ، مطمئنا إلى قوته ، مرتاحا إلى غده ، ليشارك في حركة الحياة مع الذين يتحركون فيها من أجل تطويرها إلى الأفضل ، وتحريكها نحو الأقوى والأحسن والأجمل.

* * *

معاملة السائل المحروم

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) لأنّ السائل لا يصدر في سؤاله إلّا عن حاجة وحرمان ، في ما يفرضه ذلك من ظروف قاسية صعبة ، مما يترك تأثيرا سلبيا على نفسه وعلى مجمل حياته ، ويملأ مشاعره بالضعف ، ولذلك ، فلا بد من مراعاة ظروفه النفسية في ما يراد مواجهته به من الكلمات والممارسات ، بالابتعاد عن أساليب الشدّة والقسوة والغلظة ، والانفتاح على الأجواء اللطيفة الحلوة التي تحترم إنسانيته إذا لم تحلّ مشكلته وتقضي حاجته ، فقد عشت ـ يا محمد ـ وعاش أمثالك من الفقراء ، كل مشاكل الفقر وآلامه ، وكل نتائجه السلبية النفسية ، مما يجعل التفاعل بينك ـ أنت وأمثالك ـ وبين هؤلاء الفقراء من الذين يدفعهم الفقر إلى السؤال أو يضعهم في مواقعه ، تفاعلا عميقا من

٣٠٩

خلال التجربة الحيّة في الشعور والموقف.

* * *

تذكّر نعمة الله

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) وذلك بأن تذكرها في مقام المقارنة بين الماضي الذي عشت فيه فقدان النعمة ، وما ينتج عن ذلك من نتائج قاسية صعبة على واقع حياتك ، وبين الحاضر الذي تعيش فيه حركة النعمة في حياتك ، في نتائجها الإيجابية الكبيرة ، لتذكر الله بنعمته ، وتشكره على ما أولاك منها ، فذلك هو التجسيد الحيّ للاعتراف بعبوديته ، والخضوع لربوبيته ، في إحساس الإنسان بالفضل الإلهي العظيم عليه في مواقع النعمة ، كما هو الحال في شعوره بالعظمة الإلهية في مواقع العظمة ، ليحس الإنسان بالخشوع والحاجة المطلقة إليه في كل حال ، ليسير على خط طاعته في كل مجال.

* * *

٣١٠

سورة الإنشراح

مكيّة

وآياتها ثمان

٣١١
٣١٢

في أجواء السورة

وهذه السورة التي اختلف الرأي في أنها مكية أو مدنية لأن ملامحها لا تبتعد عن أجواء ما قبل الهجرة وما بعدها ، كما اختلفت الروايات في أنها سورة مستقلة أو أنها جزء من سورة الضحى التي جرى الحديث فيها ـ في معرض الامتنان الإلهي ـ عما أنعم الله به على رسوله محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مما يتناسب مع هذه السورة التي قد توحي بأنها تتمّة للحديث الذي بدأه الله هناك ، ولكننا نلاحظ اختلاف الأسلوب هنا عن الأسلوب هناك ، حيث جرى حديث الله عن نعمه في هذه السورة بأسلوب المتكلم ، بينما جرى الحديث في تلك السورة بأسلوب الغائب ، كما أن ختام السورة هنا يختلف عن ختامها هناك ، مما يدلّ على أن هناك غرضين مختلفين فيهما.

وفي هذه السورة امتنان إلهيّ على رسوله ، بأنه منحه الصدر المفتوح الواعي الذي ينشرح لكل وحي قرآني ، ولكل حكمة روحية أو عقلية ، وبأنه وضع عنه الثقل الذي يثقل الظهر ويجهده ويتعبه ، وبأن الله قد رفع ذكره في حياة الناس الإيمانية التي تلتقي به في صلواتها ، وفي كل واجباتها ومحرماتها ، في أفعالها وأقوالها وعلاقاتها العامة والخاصة ، وتذكير له بأن العسر لا يدوم ، بل يعقبه اليسر في تأكيد مكرّر لهذه الحقيقة ، ويدعوه إلى أن ينهي يومه بالتعب في عبادة الله والرغبة إليه في كل ما يريده لحياته.

* * *

٣١٣

 بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ(٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) (٨)

* * *

معاني المفردات

(نَشْرَحْ) : الشرح : فتح الشيء بإذهاب ما يصدّ عن إدراكه. وأصل الشرح التوسعة.

(وِزْرَكَ) : الوزر : الثقل.

(أَنْقَضَ) : أثقل.

(فَانْصَبْ) : النّصب : التعب.

* * *

٣١٤

منن الله على نبيّه وعباده

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) ونوسعه ونعمّق إحساسك بالمعرفة المتنوعة من خلال الوحي الذي نوحيه إليك ، والإلهام الذي نلقيه في وعيك ونبعث فيه الإشراقة الروحية الفكرية التي تلتقي بالحقيقة من دون غموض ولا شبهة ، وندفع بالأمل إليه ، فلا يختنق باليأس ، بل يتسع بالثقة الكبيرة في ما يفتح الله لعباده من أبواب الحياة ، ليجعل لهم المخرج حيث لا مخرج ، وليهيّئ لهم الرزق من حيث لا يحتسبون ، والحراسة من حيث لا يحترسون. وهكذا يلقي الله بفيوضاته على صدرك ، في ما يوحي به الصدر من ساحة النفس التي تلتقط المعرفة والمشاعر والإيحاءات ، ليتسع للحياة كلها وللمسؤولية كلها ، فلا يتعقّد من كل نتائجها القاسية في سلبيات الواقع.

وإذا كان الله يمنّ على نبيه بذلك ، فقد نستوحي منه ، أن المسألة لا تتصل بحالة ذاتية مما اختص الله به نبيه من حالاته ، بل هي حالة إيمانية في ما يفتح الله به قلب المؤمن وعقله وشعوره ، التي تختصرها كلمة الصدر على الحياة كلها من دون ضيق ولا اختناق ، من خلال انفتاحه على الله الكليّ الرحمة والقدرة والعلم واللطف ، مما ينفتح به المؤمن على كل شيء يستطيع أن يبلغه من خلال العلم والأمل.

* * *

ثقل الرسالة

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ* الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) والوزر : الثقل ، وهو قد يكنى به عن الخطيئة ، باعتبار أنها تمثّل الذي يثقل مصير الإنسان في آخرته ، كما يثقل ضميره في دنياه. والظاهر ـ والله العالم ـ أن المراد به ثقل الرسالة في ما

٣١٥

كلّف الله به رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من بذل الجهد الكبير في سبيلها وتحمّل المصاعب من أجلها ، ومواجهة التحديات الكبيرة القاسية في طريقها. ثم بدأ الثقل يخفّ كلما كثر المسلمون وانتصروا على قوى الشرك ، عند ما دخل الناس في دين الله أفواجا ، فتحمّلوا عن رسول الله الكثير مما كان يبذله من جهد ، وما كان ينوء به من عبء الرسالة ، حيث تحوّلوا إلى دعاة مخلصين ينتشرون هنا وهناك ، لينطقوا باسمه ، وليبشّروا الناس برسالته. وهكذا خفّ ظهره عما كان ينوء به مما كاد أن يكسره لثقله وشدّته.

* * *

رفع ذكر النبي

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) فجعلنا الشهادة لك بالرسالة مقارنة للشهادة لله بالوحدانية ، لترتفع المآذن خمس مرات في اليوم والليلة ، ولينطلق به المؤمنون في صلواتهم ، وليتحرك به كل الناس عند ما يتحدثون عن الإسلام وعن كل ما يتصل به ، فيذكرونك من خلاله ، أو يذكرونه من خلالك ، هذا بالإضافة إلى ما رفعه الله لك من ذكر عند ملائكته في عالم الغيب.

وقد نستشعر ، من هذه الآية ، أن رفع الذكر قد يكون أمرا محبوبا مرضيّا عند الله ، بحيث يمتنّ الله به على عباده الذين يرزقهم منه ، فلا مانع من أن يسعى إليه ، ولكن لا من خلال عقدة الذات في الكبرياء أو الأنانية ، بل من خلال المهمّات التي يقوم بها ، والخدمات التي يؤديها للناس قربة إلى الله ، حيث يكون انتشار ذكره منطلقا في خط الإيحاء بالرسالة والمسؤولية والإيمان.

* * *

٣١٦

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً)

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً* إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) وهذه هي الحقيقة الوجودية التي تؤكد على أن كل الحالات الصعبة في الحياة لا دوام لها ، لأنها لا تنطلق من عمق جذريّ في الوجود ، بل تنطلق من أوضاع طارئة في ما هو السطح المتحرك في الواقع ، أو في ما هي الحالات التي تختزن في داخلها مختلف المتغيرات التي توجب اختلاف الأوضاع بين المواقع. ولذلك ، فإن على الدعاة إلى الله ، سواء كانوا رسلا أم أوصياء أم علماء أم مرشدين ، أن لا يتعقّدوا من كل المشاكل التي تحدث لهم ، ومن كل الجهد الذي يحدث لحركتهم ، ومن كل العسر الذي يحيط بهم ، بل أن يدرسوا سنة الله في الكون ، في ما أودعه في حركة الحياة والمجتمعات من قوانين عامّة ، ليروا أن مع العسر يسرا ، وأن مع التعب راحة وأن مع الثقل خفة ، لئلا يسقطوا أو ييأسوا.

* * *

الرغبة إلى الله

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) واجلس مع الله جلسة دعاء وابتهال وخشوع ، واجهد نفسك في ذلك ، حتى تأخذ من هذا التعب راحة النفس وطمأنينة الروح ، لأن في العيش مع الله كل القوّة وكل الراحة ، وكل الاطمئنان وكل الرضى.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) في كل أمورك ، سواء كان ذلك الأمر أمر الدعوة أو أمر الحياة أو الذات ، لأن الله هو المهيمن على الأمر كله ، وهو الذي يرغب إليه ولا يرغب عنه ، وهو الذي يجده الناس عند حاجاتهم ومشاكلهم ، ليقضي حاجاتهم ، ويحل مشكلاتهم ، وهو الرحمن الرحيم.

* * *

٣١٧
٣١٨

سورة التّين

مكيّة

وآياتها ثمان

٣١٩
٣٢٠