تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) تماما كما هو المخلوق الحيّ المتحرك بإرادة واختيار ليبسط ظلّه على الكون ، فيطبع الفضاء ظلاما ، والأرض ظلاما ، وليتجول في كل مواقع الكون ساهرا في انتظار النهاية في آفاق بدايات الفجر.

* * *

وجوب الاعتبار بمن مضى

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) أي لذي لبّ وعقل ، يفكر جيّدا بكل الأمور التي تطرح عليه ليميز الحق من الباطل ، وليؤكد الفكرة الثابتة التي يؤكدها الله بقسمه ، لأنها تمثل الحقيقة الحاسمة ، وهي أن الله لن يترك الطغيان وأهله في سلام على الأرض ، ولكنه يعذبهم ويزلزل قواعدهم بعذابه بطريقته الخاصة ، وأنه يختبر عباده بالغنى والفقر ، ليميز الشاكر من الكافر ، والصابر من الجازع ، وليعطي لكل ذي حق ثوابه ، ولكل ذي باطل عقابه.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ) وهم قوم هود الذين يمثلون القوّة الجبارة في التاريخ القديم ، وكان مسكنهم في الأحقاف ، وهي كثبان الرمال في جنوبي الجزيرة بين حضرموت واليمن.

(إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ* الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ) فقد كانت مدينة لا نظير لها ذات قصور عالية وعمد ممدّدة ، ولا نعرف من هؤلاء الجماعة ومن تاريخهم شيئا ذا بال ، إلا ما قصه القرآن علينا من أنهم كانوا ذوي بسطة في الخلق أولي قوّة وبطش شديد ، وكان لهم تقدّم ورقيّ في المدنية والحضارة ، ولهم بلاد عامرة وأراض خصبة ذات جنّات ونخيل وزروع ومقام كريم.

وقد اختلفت قصة جنة إرم المشهورة المروية عن كعب الأحبار ووهب ابن منبه ، مما لم يثبت له أساس في الروايات الإسلامية الصحيحة.

٢٤١

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي قطعوا الصخر من الجبال ، وشيدوا منها القصور ، كما جاء في قوله تعالى : (وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) [الشعراء : ١٤٩].

وقيل : إن ثمود كانت تسكن بالحجر في شمال الجزيرة العربية بين المدينة والشام ، وكانوا أولي قوّة وبطش شديد.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) وهو ـ على الظاهر ـ صاحب موسى عليه‌السلام ، وقد قيل : إن إطلاق هذا اللقب عليه ، «لأنه كان إذا أراد أن يعذب رجلا بسطه على الأرض ووتد يديه ورجليه بأربعة أوتاد في الأرض ، وربما بسطه على خشب وفعل به ذلك ، ويؤيده ما حكاه الله من قوله ، يهدد السحرة إذا آمنوا بموسى : (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه : ٧١]. فإنهم كانوا يوتدون يدي المصلوب ورجليه على خشبة الصليب» (١).

واحتمل سيد قطب في تفسيره ، في ظلال القرآن ، أن الأرجح ، أنها «الأهرامات التي تشبه الأوتاد الثابتة في الأرض المتينة البنيان» (٢) ؛ والله العالم.

* * *

الطغاة أساس الفساد الفكري والعملي

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ) وتجاوزوا الحدّ في الإساءة إلى الناس بمختلف الوسائل التي أثقلت كاهلهم بكل بغي وطغيان ، مستغلّين قوتهم وضعف

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٢٠ ، ص : ٣١٨.

(٢) في ظلال القرآن ، م : ٨ ، ج : ٣٠ ، ص : ٥١٧.

٢٤٢

الناس ، للضغط على حياتهم ، واستغلال مواردهم ، وفرض إرادتهم عليهم بالتعسف والقسوة. (فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) لأنهم لم ينطلقوا ، في علاقتهم بالناس ، من قانون عادل يخضع له الجميع ، لينظّم لهم حياتهم ، ويرعى موازين العدل في خلافاتهم ، ويضع الحدود لهم حتى يعرفوا حدود أعمالهم وأقوالهم وعلاقاتهم وأوضاعهم ، فإذا تجاوزوها كان هناك أساس شرعيّ للعقاب ، لإرجاع المتجاوزين إلى الحدود المرسومة والضوابط المعلومة ، بل انطلقوا في علاقتهم بهم من خلال تأليه الذات المتحركة من شريعة الاستكبار القائمة على القوّة ، المنطلقة من الهوى ، الخاضعة للعقدة المستحكمة في شخصية هذا أو ذاك من هؤلاء الطغاة المستكبرين ، ممّا لا يجعل هناك أيّة ضابطة لتصرفاتهم في الحكم والتشريع والإدارة والاقتصاد والحرب والسلم. فكلمات الطاغية هي القانون ، ونزواته هي حيثيات الحكم ، ومصالحه هي الأسس التي يخضع لها الاقتصاد ، وغضبه ورضاه هما القاعدتان اللتان تحكمان الحرب والسلم ، وبهذا يتحرك الطغيان من موقع اللّاقاعدة في ما هو مضمون الحركة في الحياة.

ثم لا يقتصر الأمر عند هذا الحدّ ، فإن الطغاة يعملون على تغيير المفاهيم والقيم والقوانين لمصلحة طغيانهم ، من أجل أن يغيّروا الذهنية العامة للتحوّل إلى رأي عامّ لمصلحة النتائج السلبية التي يريدون لها أن تحرّك قضايا الواقع في مواجهة مسألة الحرية ، التي تنطلق ثورتها في حركة الجماهير الغاضبة ، ليقوموا بتدميرها ، والناس تصفق لهم ، والهتافات تلهج بأسمائهم. وهكذا يعملون على تحويل القانون العام والقيم الكبيرة التي يصوغونها على طريقتهم ، إلى أداة قمع لكل من يواجه ذلك ، فيكون المعروف منكرا والمنكر معروفا. وهكذا ، حتى يتحول الفساد واقعا حيّا في حياة الناس ، ولكن في صورة أخرى ، كما لو كان بعنوان الصلاح ، وهذا ما عبّرت عنه الآيتان الكريمتان في الحديث عن المنافقين في قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي

٢٤٣

الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ* أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ) [البقرة : ١١ ـ ١٢].

* * *

كيف نستوحي النظرية في الواقع؟

وعلى ضوء ذلك كله ، فإننا نستطيع استحياء النظرية الإسلامية في الدائرة الاجتماعية والسياسية ، وهي أن الطغيان في القوى الحاكمة والنافذة في واقع الأمة ، يستلزم الفساد في كل جوانبها ومواقعها ، حتى يفسد المستضعفين الذين ينالهم طغيان الطغاة في عملية التعسف والظلم والقسوة ، من خلال إفساد المجتمع كله. وإذا انتشر الفساد في المجتمع من خلال طغيان الطغاة ، فإن الإرادة الإلهية تتدخل في عملية إنهاء الطغيان أو تخفيفه ، أو إفساح المجال للقضاء على رموزه ، ليتنفس المجتمع فترة من الزمن ، بحيث يمكن للمصلحين أن ينفذوا إلى بعض ثغراته ، ليدخلوا ـ من خلالها ـ إلى الساحات الواسعة التي يمكن لهم أن يغيّروا فيها الكثير أو القليل من قضاياها. وهذا ما نراه في كل فترات التاريخ التي سيطر فيها الطغيان ، فإن السنن الكونية الإلهية في حياة الناس تفرض إيجاد الظروف المتنوعة والتحركات المختلفة لتغيير حالة الثبات التي تحكم واقع الطغيان للعمل على خلخلة قواعده وإسقاط رموزه وهزّ مواقعه ، لتستمر حركة الصراع بين الخير والشر والحق والباطل بشكل متوازن ، ولتبقى للقوى المستضعفة الإمكانات الذاتية للوقوف في مواجهة المستكبرين بالوسائل الطبيعية الممكنة. وربما تتدخل القدرة الإلهية بصورة المعجزة ، كما حدثنا القرآن الكريم عن هذه الفئة الطاغية وهي عاد وثمود وفرعون.

* * *

٢٤٤

بين الطغيان والعذاب

(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) فأفاض عليهم عذابه ، كما لو كان فيضانا يغمرهم بكل مياهه الحارة اللاهبة ، ويلهب ظهورهم وكيانهم كمثل السوط الذي يهوي على الأجساد فيلذعها بما يثيره من الآلام القاسية الصارخة ، وذلك بمختلف ألوان العذاب التي قضت عليهم أجمعين ، فلم تبق منهم باقية.

وينطلق التاريخ بعدهم ليبدأ مرحلة جديدة في فكر جديد ، وصراع جديد.

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) فهو المهيمن على الواقع كله ، وعلى الأمر كله ، والراصد لكل أعمال الطغاة وأوضاعهم. وستبقى مسألة الطغيان تفرض نفسها على الواقع المتجدد ، وستبقى إرادة الله تلاحق كل الطغاة لتنزل عليهم العذاب بشكل مباشر ، في ما يخلقه الله من وسائل العذاب ، أو بشكل غير مباشر في ما يتحرك به المستضعفون بوسائلهم الخاصة ، ليعملوا على القضاء عليهم أو إضعافهم.

وهكذا يقف الدعاة إلى الله ، والمستضعفون في الأرض ، لينفتحوا على الأمل الكبير ، عند ما تضيق بهم الحياة ، وتشتد عليهم الضغوط ، وتزحف نوازع اليأس إلى حياتهم ، فإذا بالله في قدرته ورصده وإشرافه على أوضاع عباده ، يوحي لهم بمتابعة طريق الدعوة والجهاد في سبيله والأخذ بأسباب الحرية ، ليقول لهم : إني معكم ، وليقول كل واحد لصاحبه : (لا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنا) [التوبة : ٤٠] فيزدادون قوّة وثباتا واندفاعا في حركة الصراع.

* * *

٢٤٥

الآيات

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) (٢٠)

* * *

معاني المفردات

(فَقَدَرَ) : فضيّق.

(تَحَاضُّونَ) : تحثّون.

(التُّراثَ) : الميراث.

(لَمًّا) : اللمّ : أكل الإنسان نصيب نفسه وغيره.

(جَمًّا) : كثيرا.

* * *

٢٤٦

موقف الإنسان من ابتلاء الله أو تكريمه

وإذا كان الله بالمرصاد لعباده ، فلا بد لهم من أن يراقبوه ويدققوا جيّدا في كل الأوضاع التي تصيبهم في ما يصدر منه بشكل مباشر ، أو بلحاظ السنن الكونية والاجتماعية ، مما قد يكون تدريبا لهم على الدخول في التجربة الحيّة في دائرة مشاكل الحياة ، كالفقر والغنى ، والأمن والخوف ، ليعرفوا أن عليهم أن لا يحكموا حكما قطعيا حاسما على طبيعة الظاهرة الواقعية في حياتهم في إيحاءاتها السلبية أو الإيجابية ، فربما كانت اختبارا وامتحانا لإيمانهم ، في ما يمكن أن تؤدي إليه مواقفهم في نهاية المطاف. ولكن الإنسان لا يتصرف بهذه الطريقة ، فيرتبط بالسطح ليحكم على أساسه ، ولا يرتبط بالعمق ، فيجعل قضاء الله في حياته ، مثل موازين الناس في أوضاعهم على مستوى حركة العلاقات وطبيعتها.

* * *

النعمة ليست دليل كرامة الله الإنسان

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) فيرى النعمة في ما وسّع الله عليه من رزقه امتيازا وكرامة ، بحيث يشعر بالامتياز الذاتي في الرعاية الإلهية دون سائر الخلق ، فيدفعه ذلك إلى الشعور بالكبرياء والعلوّ على الآخرين. ولكن الإنسان لا يتعمق في المسألة جيّدا ، فإن الله قد أجرى الحياة ، في عطائه للناس أو منعه عنهم ، على السنن الكونية والاجتماعية ، فلا يعطي إنسانا لكرامته عنده ، ولا يمنعه لاحتقاره لديه ، ولكن لاقتضاء تلك السنن ذلك. ولا بد له من ملاحظة أنّ ذلك قد يكون اختبارا طبيعيا لصدقه في إيمانه ، لأن الله أراد من الناس الثبات في كل مواقع الاهتزاز الواقعية ، فلا تسقطهم الزلازل ، ولا تطغيهم المواقع ، لأن مسألة الإيمان ليست حالة طارئة

٢٤٧

تبرز في حالات الرخاء ، أو في حالة الشدّة ، ولأن مسألة الرجوع إلى الله والالتزام بالإخلاص لربوبيته ، ليست أمرا مربوطا بوضع معيّن ، بل لا بد من أن يكون الإيمان بالله والإخلاص له في جميع حالات الإنسان ، فقد يبتلي الله الإنسان بالغنى لينظر في عمله ، هل يشكر نعمة الله ، فيخشع قلبه له ، ويشعر بأن ما عنده هو منه سبحانه ، ويبذل ذلك في طاعته ، ويحركه في مواقع رضاه ، أو يفكر بنعمة الله عليه فيعتبر ذلك كرامة وامتيازا ، أو يوحي لنفسه بأنه قد حصل عليها من خلال جهده وخبرته ، وليس لله دخل في ذلك ، كما حدثنا الله عن قارون في قوله : (إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) [القصص : ٧٨] ثم يستعلي بما ملكه على الناس ليواجههم من موقع الكبرياء المالي.

ولهذا ، فلا بد للإنسان من اعتبار النعمة اختبارا وامتحانا ، لا كرامة وامتيازا.

* * *

الفقر ليس إهانة من الله للفقير

(وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ) أي ضيّق عليه رزقه ، (فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ).

وهذا هو نوع آخر من أنواع الواقع الصعب الذي يتحول بفعل مشاكله المرتبطة به ، ليكون اختبارا وامتحانا ، فقد يبتلي الله بعض عباده بالفقر لينظر في تصرّفه وانفعاله به ، هل يصبر على ذلك ، فلا يبيع دينه بمال الكافرين ، ولا يغيّر مواقفه بإغراءات المستكبرين ، ولا يسخط على قضاء الله ، ولا يسقط أمام الأوضاع السلبية التي تتحداه ، ليفقد صلته بربه أو يكفر ، فيعتبر ذلك إهانة واحتقارا من الله له ، وينحرف عن الخط المستقيم على أساس ذلك ، ثم يبتعد كثيرا عن الله ، ليقترب من ساحة أعدائه؟

* * *

٢٤٨

لا قيمة للمال في الخط الإلهي

(كَلَّا) إن الله يرفض هذا المفهوم المنحرف الذي يعتبر المال قيمة كبيرة في الخط الإلهي ، كما هو قيمة في المفهوم الإنساني العام في المجتمعات الإنسانية ، لأن الله قد أعطى المال للكافرين به ، كما منع المال عن بعض أوليائه ، ولم يرد للمال قيمة ذاتية في طبيعته ، بل اعتبر حركة الإنسان في الجانب العملي في مسئوليته الشرعية الإيمانية في تحريك المال في موارده التي يحبها الله ، هي القيمة ، لأن قرب الإنسان وبعده عن الله لا يتحدد بحجمه المالي ، بل بحجمه العملي ، وذلك قوله تعالى : (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقاكُمْ) [الحجرات : ١٣]. وهذا ما يريد للناس أن يتمثلوه في وعيهم ووجدانهم ، ليكون هو الموقف الإسلامي الذي يمثّل مفهومه للمسألة المالية في حركة الواقع في الإسلام. ولكن المشكلة أن مفهومهم يبتعد عن هذا الخط في أوضاعهم العملية ، في الوضع السلبي تجاه تصرف المال في الموارد التي يحبها الله ، فيبخلون عن اليتيم ، ولا يتواصون في إطعام المسكين.

* * *

الاستغراق في حب المال وترك عمل الخير

(بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) عند ما يعطيكم الله المال الذي يأمركم أن تقدّموا لليتيم بعضا منه ، لأنكم تخافون على أنفسكم الفقر ، ولا تفكرون أن الله الذي أمركم بالعطاء هو الذي يعوّض عليكم ما تبذلونه منه ، (وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) لأنكم تهملون الفئات المحرومة التي تعيش المسكنة الاقتصادية في أوضاعها الخاصة والعامة ، باعتبار أن القضية لا تهمّكم من خلال العقلية الذاتية الأنانية التي لا تفكر إلا بمشاكلها ، ولا تهتم بمشاكل

٢٤٩

الفقراء الآخرين. فالمسألة المهمّة هي أن نشبع مع أولادنا ، والمشكلة أن نجوع لنعمل على إيجاد الحل لذلك ، وليست المسألة المهمة أن يشبع الآخرون مع أولادهم ، وليست المشكلة أن يجوع المساكين لنفكر في إيجاد الحل لهم.

(وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) واللمّ : أكل الإنسان نصيب نفسه وغيره ، وأكله ما يجده من دون أن يميز الطيّب من الخبيث. وقد كان هناك جماعة من الناس ، في زمن نزول الآية ، يستغلّون ضعف اليتامى ، ولا سيّما الإناث منهم ، لينهبوا أموالهم ويأكلوها من دون حقّ ، فيأكل الكبير حصة أخيه اليتيم الصغير أو أخته اليتيمة الصغيرة ، لأنهما لا يستطيعان الدفاع عن نفسيهما ، من دون أن تمنعه عن ذلك رحمة أو شفقة ، لأن استغراقه في المسألة المالية الذاتية قد جمّد كل رحمة لديه ، وكل إنسانية عنده.

(وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي كثيرا عظيما ، لأنكم تربيتم على الاستغراق في حب المال كجزء من حب الدنيا التي استغرقتم فيها ، وأخلدتم إلى الأرض في كل إيحاءاتها المادية ، وربما تطور الأمر بكم إلى أكل أموال الناس بالباطل ، وإلى جعل الربا أساسا لمعاملاتكم ، وإلى التقاتل وسفك الدم الحرام للحصول على المال الحرام ، وذلك من خلال النظر إلى المال على أساس أنه القيمة كل القيمة ، والسعادة كل السعادة ، والخير كل الخير ، فلا قيمة أكبر منه ، ولا سعادة أكثر من الحصول عليه ، ولا خير إلا ما يمثله الحصول عليه من الخير.

* * *

٢٥٠

الآيات

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ(٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي) (٣٠)

* * *

معاني المفردات

(دُكَّتِ) : الدك : هو الدق الشديد.

* * *

يوم يتذكر الإنسان ولا تنفعه الذكرى

(كَلَّا) ليس الأمر كما تحلمون وتتوهمون في ما تعيشونه من أحلام

٢٥١

المال وأوهام الخيال ، فهناك واقع صعب مرير ستواجهون ثقله وصعوبته في الموعد المحدد في يوم الفصل الذي تسبقه الأوضاع الكونية الجديدة التي تقلب الكون رأسا على عقب.

(إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) بحيث تتغير معالمها وتتحطم ، فلا يبقى هناك شاخص على سطحها ، في انقلاب كونيّ شديد يطلّ على أجواء القيامة.

(وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أمّا مجيء الله إلى أجواء القيامة كما يجيء الملك في الوضع المتجسد المحسوس ، فهو أمر غير متصوّر ، لأن الله (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى : ١١] ، ولذلك فلا بد من حمله على أمر الله ، أو هيمنته وإشرافه على الوضع كله ، مما يجعل من حضوره الذي يوحي به المجيء حضورا معنويا ، باعتبار أنه أقوى حضور ، فهو في عالم الغيب أعظم من كل موجود في حضوره في عالم الحسّ.

ويقف الملائكة صفا صفا في وقفة استعداد لتلقّي أمر الله في ما يعهده إليهم من المهمّات في يوم القيامة.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) فقرّبت إلى الموقف لتقف متأهّبة في استعداد الطاعة إلى الله وفي كل ما يأمرها به.

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) حقائق الأشياء ، وتنكشف عنه حجب الغفلة ، ويعلم أن ما قرره الله في كتبه ، وما جاءت به الأنبياء في تعاليمها ، هو الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي من أين له الذكرى ، فوجودها كعدمه في هذا الموقف الذي (لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ) [الأنعام : ١٥٨] ، لأنه لا يستطيع تدارك ما فاته من الفرص الكثيرة ، ولا مجال الآن للتوبة وللعمل الصالح.

* * *

٢٥٢

الحسرة على ما ضاع من العمر

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) هذه التي أعيش فيها هذا الجوّ الجديد الذي لن يرتفع بالإنسان إلا من خلال ما قدّمه من أعمال الخير التي تمثل رأس ماله في الآخرة ، التي هي الحياة الحقيقية ، لأنها الحياة الخالدة ، بينما لا تمثل الدنيا إلا اللهو واللعب ، كما قال الله تعالى في آية أخرى : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت : ٦٤].

وتلك هي الحسرة التي يشعر بها الإنسان الذي ضيّع كل فرص الخير في الدنيا فتحولت إلى حسرات يوم القيامة.

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ* وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) والضمير في «عذابه ووثاقه» عائد إلى الله ، فهو الرب العظيم الجبار القاهر فوق عباده ، الذي يعذب العذاب الذي لا يساويه عذاب أيّ شخص في شدته ، ويوثق الوثاق الذي لا يماثله وثاق أحد في قوّته.

وهناك قراءة أخرى «لا يعذّب» بفتح الذال «ولا يوثق» بفتح الثاء ، بالبناء للمفعول وضميرا «عذابه ووثاقه» ـ على هذا ـ للإنسان. ويكون المعنى هو الحديث عن حجم عذاب الإنسان ووثاقه ، وبلوغه الحدّ الذي لا يبلغه حجم أيّ عذاب آخر أو وثاق آخر.

* * *

(النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ)

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) التي عاشت الطمأنينة الروحية ، في انفتاحها الفكري الإيماني على آفاق الله في صفات الكمال والجمال ، فتخلقت بأخلاقه ،

٢٥٣

ووثقت به ، واطمأنت إليه وإلى قضائه ، والتزمت بطاعته ، وأنابت إليه ، فهي معه ، لا مع الناس ، وعند ما تكون معهم ، فإنها تتحرك بالشعور الإيماني في محبة الله ورضاه ، في ما يريده لها أن تكون علاقتها بهم قريبة إلى رضوانه ، لأنّها ترضى برضى الله وتسخط بسخطه ، فتوالي من والى الله وتعادي من عاداه.

وإذا واجهتها المشاكل والضغوط والآلام والأحزان والتحديات ، فإنها تتلقى ذلك كله بصبر جميل ، وروح رضيّة ، وأمل كبير بالله ، وثقة بما عنده ، فلا تجزع ، ولا تهلع ، ولا تسقط ولا تهتز ، لأن الاطمئنان الروحي الذي يغمر روحها وحياتها ، يتحوّل إلى اطمئنان عمليّ بالنتائج الإيجابية من خلال الموقف القويّ الهادىء الواثق بالله.

وهكذا يمنح الإيمان صاحبه روحية الطمأنينة للحاضر وللمستقبل ، لأنه يثق بالتدبير الإلهي ، والرعاية الربوبية للناس وللحياة ، فكل شيء عنده بمقدار ، وهو الرحمن الرحيم العليم الحكيم الخبير ، فلا يخاف الإنسان من أيّ اهتزاز أو انحراف في النظام الكوني المتقن ، الذي يضمن للإنسان مصلحته على الصعيد العام أو الخاص ، فلا يريد الله بعباده شرّا ، بل قد يوقع بهم المصائب والبلايا ، ليختبرهم وليمنحهم الفرصة لينالوا أعلى الدرجات. وإذا فكر الإنسان بالحياة وبالموت ، فإنه يفكر بأنهما بيد الله ، فهو الذي يحيي ويميت وإليه المرجع ، الذي يجعل الإنسان هناك في أمن وسلام ، إذا كان من المؤمنين الصالحين الذين عاشوا في محبة الله وساروا في طريقه المستقيم. وينطلق هذا النداء ، ليوحي للإنسان بكل معاني التكريم والمحبة ، والقرب والعطف.

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) بعد كل هذا العناء الطويل ، والبلاء الكبير ، والآلام الكثيرة ، والصبر الجميل ، والعضّ على الجراح ، والاستعلاء على الأحزان ، والابتعاد عن كل انفعالات الغربة والوحشة في محيط الكفر والضلال ، ليستقبلك الله بعطفه وحنانه ورحمته ورضوانه.

٢٥٤

(راضِيَةً مَرْضِيَّةً) في هذه العلاقة الروحية بين العبد وربّه التي تحركت في مواقع الرضى ، فهي راضية بما قضى وقدّر ، وبما حكم وشرّع ، لأنها ترى أنها ملك الله ، وله أن يتصرف في ملكه بما يشاء ، ويحكم بما يريد ، وهي مرضيّة عنده سبحانه ، بما آمنت به ، وبما قامت به من فروض الطاعة لديه ، والعمل على الحصول على محبته ، وبذلك عاشت السعادة والطمأنينة في حبها لله ، وحبّ الله لها. وهذا هو ما تستهدفه التربية القرآنية الإسلامية ، في أن يعمل الإنسان على تربية نفسه على الرضى بقضاء الله من موقع الوعي برحمته وعلمه وحكمه ، وعلى السعي للحصول على رضاه في موقع الالتزام بطاعته في أوامره ونواهيه. (فَادْخُلِي فِي عِبادِي) المؤمنين الصالحين المقرّبين الذين اختارهم الله لنفسه ليكونوا جنده الغالبين ، وحزبه المفلحين ، وأوليائه المطيعين.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) التي أعددتها لكل نفس مطمئنة إلى ربها ، وإلى قدره وقضائه ، وإلى طريقها المستقيم في خط رضاه ، وإلى كل النتائج الطيبة التي تلتقيها هناك في مستقبل الزمن ، حيث تواجه الموقف بالثقة والثبات والاستقامة والسلام الروحي الكبير.

وهكذا تكون الجنة نهاية المطاف للمؤمنين الصالحين المتقين ، حيث يستسلمون للنعيم الهانئ السعيد الذي يعيشون في داخله الراحة من كل ذلك العناء الطويل ، والجهاد الكبير الذي ذهب بكل ذكرياتهم وآلامهم ، ليبقوا مع الله في رضوانه الذي يهيمن على أرواحهم المتعبة لطفا ورحمة وحنانا ، فيزيدها راحة واطمئنانا. وذلك هو الفوز العظيم.

* * *

٢٥٥
٢٥٦

سورة البلد

مكيّة

وآياتها عشرون

٢٥٧
٢٥٨

في أجواء السورة

وهذه سورة مكية ، تطل على أجواء القسم بمكة التي عاش فيها النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبوالد وما ولد ، وتؤكد على أن الإنسان خلق في مكابدة ومشقة وجهد وتعب ، وأريد له أن يستمر في كدحه ليحقق لنفسه الدور الحيويّ الذي أعده الله له في بناء الحياة على أساس الرسالات ، فعليه أن يدرس دوره وقدرته ولا يطغى في نفسه ليتصوّر نفسه بالقدرة التي لا يقدر عليه فيها أحد ، وعليه أن لا يبتعد عن القيام بمسؤوليته في البذل ليحتج بأنه لا يملك شيئا فيقول : (أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) ، فيكفيني ما أنفقت ، فلا أستطيع أن أنفق أكثر ، ولكنّ عين الله تراه وتعرف موارد إنفاقه ، (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) فلما ذا يغفل عن الله وينسى فضله عليه ، فيبخل بما أنعم به عليه ، فمن أعطاه العينين اللتين يبصر بهما ، واللسان والشفتين التي ينطق بها ، ومن هداه إلى طريق الخير والشّرّ؟ أليس الله هو الذي أعطاه ذلك كله ، كما أعطاه غيره؟!

فهل يعرف العقبة التي تحول بينه وبين رضى الله ودخول الجنة ، فعليه أن يقتحمها ويتجاوزها وينتصر على نوازع البخل في نفسه ، ليعمل على عتق الرقبة ، وإطعام الجائعين في أوقات الشدّة ، واليتيم القريب ، والمسكين المسحوق ، فذلك هو الذي يقرّبه إلى الله ، بالإضافة إلى أن يكون من المجتمع الذي يتواصى أفراده بالصبر والرحمة ، ليكون من أصحاب اليمين. أمّا الكافرون فهم أصحاب المشأمة وسيلاقون العذاب في النار التي تغلق أبوابها عليهم إلى الأبد.

* * *

٢٥٩

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) (١٠)

* * *

معاني المفردات

(حِلٌ) : حالّ ، أي ساكن.

(كَبَدٍ) : الكبد شدة الأمر ، الكدّ والتعب.

(لُبَداً) : كثيرا.

(النَّجْدَيْنِ) : أصل النجد : العلوّ ، والمراد بالنّجدين هنا ، طريق الخير وطريق الشر.

* * *

٢٦٠