تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

السيد محمد حسين فضل الله

تفسير من وحي القرآن - ج ٢٤

المؤلف:

السيد محمد حسين فضل الله


الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: دار الملاك
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

عليهم حافظين ليتصرفوا معهم بهذه الطريقة ، وما ذا يحسبون أنفسهم؟

إن الآية تسخر منهم لأنهم يتدخلون في ما ليس من شأنهم ، ويتخذون لأنفسهم مركزا لا يملكونه ولا يرتفعون إليه ، فليعرفوا قدرهم ، وليقفوا عند حدّهم ، فما وكلناهم بهم ، وما أرسلناهم عليهم حافظين.

* * *

مصير الكفار يثير السخرية

(فَالْيَوْمَ) يوم القيامة الذي يقف فيه كل إنسان في موقعه الطبيعي ، في ما يستحقه من ثواب وعقاب ، وهو يوم العدل الذي يأخذ فيه المظلوم حقه من ظالمة ، (الَّذِينَ آمَنُوا) وهم منفتحون على الله متقلبون في نعيمه ، سعيدون برحمته ورضاه ، شاربون للرحيق المختوم بالمسك الممتزج بالتسنيم (مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) لأنهم استغرقوا في العاجلة وتركوا الآجلة ، فها هم محجوبون عن ربهم ، محترقون بنار الجحيم ، خاضعون لكل أساليب الإهانة والتأنيب ، فأيّة سخرية أكثر لذعا من هذه السخرية التي قد لا يحتاج الناس إلى إثارتها لتثير الضحك ، ولكن الواقع يشير إلى نفسه في عملية ضحك على المصير.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) ماذا استفادوا من كل ذلك التاريخ؟ وهل حصلوا على ثواب أفعالهم؟ وأي ثواب هو هذا الثواب؟ و (هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) فهل هناك إلا اللهب المتصاعد ، والأجساد المحترقة التي تتصاعد منها رائحة الشواء؟ أيّة سخرية مريرة يواجهونها في كلمة الثواب؟ وأيّ ثواب؟

* * *

من إيحاءات السورة

وهكذا نرى هذا المشهد الذي تتحرك فيه السخرية في اتجاهين ؛ في

١٤١

موقف الدنيا وفي موقف الآخرة. ففي الدنيا يقف المجرمون الذين يتحركون في خط الجريمة الفكرية والاقتصادية والاجتماعية ليواجهوا المؤمنين الذين يتحركون في خط الدعوة إلى الله من أجل أن يخلّصوا الناس من الاجرام بكل ألوانه ، ليسخروا منهم ، وليثيروا الضحكات المستهزئة على أوضاعهم وكلماتهم وطريقتهم في العمل والعبادة ، فكل شيء يصدر منهم يرون فيه مادّة للغمز واللمز ، حتى الأشياء التي لا توحي بأيّ شيء من ذلك. إنّها العقلية المنحطة ، والمزاج السخيف ، والعقدة الخبيثة ... إنها العقلية التي تبتدع الكلمة الضاحكة من الكلمة الجادة ، والحركة الساخرة من الحركة الواعية الخاشعة في عبادة الله والمجاهدة في سبيله ، والغمزة اللاذعة من الإشارة الواعية المليئة بالتهذيب.

أمّا في الآخرة فتتبدل الصورة ، فإذا بهؤلاء المؤمنين يصبحون في الموقع الكبير ، في ما يرفع الله به عباده المؤمنين إلى الدرجات العالية ، ويصبح أولئك المجرمون في الدرجات السفلى. وينطلق المجرمون إلى النار في ذلتهم وانكسارهم ليثيروا سخرية المؤمنين بهم وضحكهم عليهم ، في ما يمثل عمق المعنى في السخرية ، لأنهم تركوا هذا النعيم الكبير المتمثل في الجنة ، ليستبدلوا به الجحيم اللاهب المتمثل في النار من دون أساس ، فأيّة سخرية أكثر لذعا من هذا الواقع الذي يجسد للإنسان نظرته الساخرة إلى نفسه وإلى حركته قبل أن ينظر الآخرون إليه بهذه النظرة ..

وتختلف نظرة المؤمنين إلى الكافرين في الآخرة عن نظرة الكافرين إليهم في الدنيا ، فقد ينطلق المؤمنون من موقع النظرة العميقة إلى الواقع الذي يبعث على السخرية بعقول هؤلاء الذين فضّلوا الحياة الدنيا الفانية على الآخرة الباقية ، من دون أن يرتكزوا في ذلك على حجّة ، فهي السخرية المنطلقة من دراسة الواقع من خلال محاكمته بدقّة وعمق ، لا من موقع العقدة الذاتية الخبيثة المستحكمة في مواقع الحقد ، كما هو حال المجرمين الذين كانت

١٤٢

نظرتهم استعلائية ، على أساس احتقار المؤمنين من دون أن يكون هناك أساس في الواقع لمثل هذا التصرف ، بل هناك أساس للوضع العكسي ، وهو الاحترام والإكبار.

* * *

حديث القرآن هو حديث الواقع

وإذا كان القرآن يحدثنا عن هؤلاء المجرمين في تعاملهم مع المؤمنين ، فإن ذلك ليس حديث التاريخ الذي يستمع إليه الإنسان من بعيد ، بل هو حديث الواقع المتحرك الذي يفرض نفسه على ساحة الصراع في كل زمان ومكان ، ممّا يجعل القضية قضية استيحاء الصورة التاريخية للصورة المعاصرة ، لدراسة سلوك الكافرين والمستكبرين الذين يستخدمون أساليب السخرية والاستهزاء بالإيمان والمؤمنين في الخطوط الكلية والجزئية ، وفي كل مفردات الحياة العامة والخاصة ، كجزء من الحرب النفسية التي يراد منها إسقاط الروح المعنوية للمسلمين في مواجهتهم للتحدّيات المفروضة عليهم ، لينهزموا نفسيا قبل الدخول في المعركة الفكريّة أو السياسيّة أو العسكريّة ، لأنّ السخرية قد تؤذي المشاعر أكثر مما تؤذيها الآلام الجسدية الناشئة من الجراح من ضربات العدو ، مما تجعل تأثيرها في عمق الروح أكثر من تأثير تلك الآلام في نطاق الموقف.

ولكن المؤمنين الواعين الذين لا يستغرقون في الجزئيات في خلفيات الموقف وتطلعاته ، بل يرتبطون بالروح الكلي المنطلق من الإيمان بالله الكلّي القدرة ، والواسع الرحمة ، يتطلعون إلى آفاق قدرته ليسخروا من قدرة الآخرين ، ويأملون بالوصول إلى مواقع رحمته ، ليحتقروا اضطهاد الناس لهم ، ويفكرون بالآلام من خلال الفرح الروحيّ الذي يعيشونه عند ما يفكرون أنها

١٤٣

بعين الله الذي يراهم وهم يتألمون في سبيل الدعوة إليه والجهاد من أجل إعلاء كلمته ، فترتفع معنوياتهم بذلك ، ويشعرون بالثقة ، وتتصلب مواقفهم في الأرض الثابتة فلا تهتز ، وتتحرك مسيرتهم في الطريق المستقيم فلا تنحرف ولا تسقط. لأنهم يفكرون بالله ، ولا يفكرون بالناس ، ويتطلعون إلى الدنيا من خلال الآخرة ، ولا يستغرقون فيها من مواقع الإخلاد إلى الأرض ، بل من مواقع الارتفاع إلى السماء.

* * *

١٤٤

سورة الانشقاق

مكيّة

وآياتها خمس وعشرون

١٤٥
١٤٦

في أجواء السورة

وهذه السورة المكية ، توحي في مقاطعها بالأجواء العامة التي تسبق يوم القيامة في استسلام السماء لله ، وانشقاقها طواعية له ، وفي استسلام الأرض لله ، واتساعها وانفتاحها على ما فيها من أجداث وتخلّيها عنها انقيادا له تعالى.

ثم يأتي دور الإنسان الذي يراد له أن يستسلم لله في طاعته له وانقياده إليه ، ليكون الكادح إليه ، ليلاقي جزاء ذلك في يوم القيامة ، الذي ينقسم فيه الناس إلى فريق الجنة وفريق النار.

وتنطلق السورة بعد ذلك لتتحدّث عن بعض المشاهد الكونية الحاضرة في أجواء التلويح بالقسم ، وعن الأوضاع التي يمكن أن تحدث للناس في الذي يقدره الله من سننه الاجتماعية في حياتهم المتحركة المتغيرة ، ويدعوهم في إيماءة إيحائيّة إلى الإيمان به من خلال التفكير العميق بذلك ، وينكر على أولئك الذين لا يؤمنون ، ولا يخشعون سجودا عند قراءة القرآن الذي يوحي للقلب الإنساني بعظمة الله الذي يطّلع على كل ما في داخل قلوبهم ، ثم يهددهم بالمصير الأسود الذي يلتقون فيه بالبشارة الساخرة ، وبالعذاب الأليم. أمّا المؤمنون العاملون بالصالحات ، فلهم أجر غير ممنون ...

* * *

١٤٧

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الآيات

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) (١٥)

* * *

معاني المفردات

(انْشَقَّتْ) : تصدّعت.

(وَأَذِنَتْ) : سمعت وأطاعت.

(وَحُقَّتْ) : أي وحقّ لها.

١٤٨

(كادِحٌ) : ساع بتعب وعناء.

(ثُبُوراً) : هلاكا.

(يَحُورَ) : الحور : الرجوع.

* * *

في أجواء قيام الساعة

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) أي انفتحت وتصدعت بحيث فقدت تماسكها القويّ ، (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) فليس انشقاقها وانشطارها بطريقة قسريّة خارجة عن إرادتها ، بل هو الانصياع والاستسلام لأمر الله تعالى الذي له أن يفعل بها ما يشاء ، ويحرّكها كما يريد ، فلا مشيئة لها من دون مشيئته ، ولا إرادة لها أمام إرادته. فاعترفت بأنها محقوقة لربّها ، وأنها في موقع الانقياد للحقّ الذي يملكه الله تعالى على كل خلقه. إنه التعبير الكنائي الحيّ المتحرك الذي يوحي بأن للسماء عقلا وإرادة ووعيا لمقام ربها ، ولموقعها منه ، فتتصرّف من خلال ذلك ، في ما يقع فيها من أحداث تسبق لحظة القيامة ، كما تصرّفت من قبل ، وبالخضوع لطاعة الله تعالى ، وفق القوانين والسنن الطبيعية التي أودعها الله فيها وفي الأرض ، كما أودعه في الظواهر الكونية الأخرى.

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي اتّسعت وامتدت بطريقة تختلف عن الطريقة التي كانت عليها. وربما كانت كناية عن فقدان التماسك بالاهتزاز ، الذي يجعلها تتحرّك وتتمدّد. وتنفتح أعماقها ، فلا يبقى لها سطح يخفي ما في هذه الأعماق.

(وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ) فقد احتفظت بكل هذه الخلائق التي لا تعدّ ولا تحصى في داخلها ، وبقيت على ذلك ، انقيادا لله في قوانينه العامة التي جعلتها

١٤٩

تبقى في حالة من التماسك والقوّة ، إلى أن حان الوقت الذي أخذت تلفظ فيه كل ما في داخلها وتتخلى عنه ، وذلك استجابة لإرادة الله تعالى ، الذي أراد بعث الناس إليه في يوم القيامة ليخرجوا من الأجداث كأنهم جراد منتشر. فامتثلت لأمره (وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) وقالت له : يا ربّ ، ها أنا طوع إرادتك فافعل ما تشاء ، فلك الحق في ذلك كله ، وليس لي من الحقّ في أيّ موقع خارج إرادتك.

* * *

بين طاعة الأرض والسماء وطاعة الإنسان

وهكذا يوحي استسلام الأرض والسماء لربهما من موقع حقّه في التصرّف بخلقه كما يريد ، باستسلام الخلق الحيّ العاقل ، المتمثل بالإنسان ، إليه ، لينقاد له من خلال الإرادة الواعية المطيعة ، فيخاطبه بذلك ، للفرق بينه وبين السماء والأرض ، بأن هذين المخلوقين العظيمين مطيعان له على أساس طبيعة التكوين الذاتي فيهما ، في ما خلقه فيهما من سرّ الطواعية له في طبيعتهما ، فلا يملكان غير ذلك في حركتهما في نطاق القوانين الطبيعية أو في خارج ذلك ، مما يريد الله فعله فيهما. ولذلك ، كانت كلمة الإذن لربهما بالنسبة إليهما على نحو الكناية لا الحقيقة.

أمّا الإنسان ، فهو المخلوق الذي ألهمه الله فجوره وتقواه وهداه السبيل ليشكر أو يكفر ، فجعل في ذاته الإرادة المتحركة التي تملك القبول بأوامره ونواهيه ، كما تملك الرفض لها ، والتمرد عليها ، فهو الذي يعيش الاستسلام لله في وجوده التكويني في السنن الطبيعية التي تحكم حركة حياته في تأثره بالواقع الكونيّ من حوله ، ولكنه قد لا يستسلم في أفعاله التي يملك حرية الاختيار فيها. ولذلك ، حمّله الله بها مسئولية عمله ، لأن مصيره يساوي عمله.

* * *

١٥٠

الإنسان ملاق جهده يوم القيامة

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ) الذي خلق الله في كيانه خصائص إنسانيته ، من عقل وإرادة وحرية حركة ، بالمستوى الذي يكون فيه إنسانا مسئولا ، من خلال ما يستتبعه ذلك من الحصول على المعرفة بالله في ما تقتضيه من الخضوع له في الشعور العميق بعبوديته له ، وفي الانفتاح على الموقف النهائي في الوقوف بين يديه ، ومن خلال امتزاج القوّة الإرادية بالقوّة الحركية ، الذي يمكّنه من تربية نفسه ، وتطوير فكره ، وتوعية روحه ، وتطهير شعوره على أساس المحبة لله ، والخضوع له ، وتأكيد المسؤولية في طاعته في حركة حياته.

(إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) فليست الحياة فرصة للاسترخاء والنوم والراحة اللّاهية المطلقة ، وليست مجالا للعبث واللّعب واللهو ، بل هي فرصتك للكدح الذي يمثل الجهد العمليّ الذي يترك تأثيره عليك في كيانك الجسدي والروحي والشعوري ، لأن هناك دورا كبيرا لا بد من أن تقوم به في خلافتك عن الله في إدارة شؤون الحياة في الأرض على خط رسالاته ، فلا بد لك من أن تكدح في فكرك لتنتج الفكر الذي يخطط للحركة ويدفع نحو التطوّر ، ولا بد لك من أن تكدح في نشاطك الجهادي لتملأ الحياة بالدعوة باسمه تعالى والجهاد والحركة الدائبة في سبيله في مختلف المواقع ، بما يجعل الحياة كلّها حياة الرسالة وللرسالة.

إن الحياة هي المعمل الكبير الذي أراد الله له أن ينتج الخير في حركة الحقّ في ساحة الصراع ، وجعل الإنسان كادحا حيّا أساسيا في تحريك أجهزته ، وفي توجيه إنتاجه ، فلا مجال للتفكير بالراحة ، بل هو الجهد الدائب الذي إذا التقى بالنوم ، فلكي يمنحه النوم حيويّة جديدة ، وإذا عاش مع بعض لحظات الراحة والاسترخاء واللهو ، فمن أجل أن يخفف عنه ثقل التعب ، وضغط الضعف واختناق الروح ، مما يجعل لهذه الأمور معنى يتصل بشروط

١٥١

الكدح ، لا معنى يتخفف الإنسان به منه. وهكذا يخاطب الله الإنسان من موقع إنسانيته ، ليكدح إلى ربه كدحا ، ليقول له إنه مهما أعطى من جهد ، فإنه سوف يلتقي به في يوم القيامة ، لتكون طبيعة النتائج منسجمة مع طبيعة الكدح.

* * *

يسر الحساب من صلاح العمل

(فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ) وهو الذي يجعل كدحه في طاعة الله في خط الإيمان والعمل الصالح ، (فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً) ، لأنه لا يحمل في كتابه أيّة انحرافات كبيرة تبعده عن الله ، فقد عاش حياته كلها مؤمنا بالله عاملا بطاعته بمقدار جهده ، فإذا كانت له بعض المعاصي ، فإنها لا تمثل شيئا كبيرا يستوجب غضب الله عليه ، مما يجعل المغفرة أمرا طبيعيا له ، من خلال ما يرحم الله به عباده الصالحين من التكفير عن سيّئاتهم ، ومن إدخالهم في مواقع رحمته. وبذلك ، كان هذا الإنسان هو الراضي المرضي الذي يعيش سعادة القدوم على الله تعالى ، فلا يتوقف إلا لكي ينظر في كتابه ـ كما ورد في بعض الأحاديث ـ.

(وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) وليس أهله إلا الذين ارتضاهم الله أهلا له في مجتمع الجنة ، الذي يضمّ الحور العين ، والولدان المخلدين ، والملائكة المقربين ، والصالحين من أزواج المؤمنين وأولادهم وآبائهم ... ليتلقاهم بوجه طافح بالسرور ، وقلب مملوء بالشعور بالسعادة ، بما غفر الله له من ذنبه ، وبما خفّف عنه من حسابه ، وما أولاه من فضله في نعيم جنته.

* * *

١٥٢

صعوبة الحساب من سوء العمل

(وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ) وهو الإنسان الكافر المعاند لله في عمله ، المحارب للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللرسالة. ولعل التعبير بإيتائه كتابه وراء ظهره ، وارد على سبيل الكناية التعبيرية عن أن مضمون هذا الكتاب لا يمثل العمل الذي يقدّمه الإنسان بين يديه ، كما يفعل الواثقون بالنتائج الحسنة لأعمالهم فرحا بها ، بل يمثل العمل الذي يطرحه الإنسان وراء ظهره ليخفيه عن الناس ، جزعا منه ، أو العمل الذي يبقى في الدنيا لأنه لا نصيب له في الآخرة ، فكأنه تركه وراء ظهره ، في ما يعبر به ذلك عن الدنيا التي استدبرها ليستقبل الآخرة ، فلا ينافي ذلك ما ورد من إيتاء الكافرين كتبهم بشمالهم. وربما فسّر بعضهم عدم المنافاة ، بأنهم يؤتون كتبهم من وراء ظهورهم لردّ وجوههم على أدبارهم كما قال الله تعالى : (مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها) [النساء : ٤٧].

وذكر بعضهم ، أنه ليس يمتنع أن يكون الذي يعطى كتابه بشماله يعطاه كذلك من وراء ظهره. وعلى أيّ حال ، فإن هذا الإنسان الذي يؤتى كتابه بهذه الطريقة ، يراد به الإنسان الذي قضى كل عمره في الجهد والتعب والمشقة في معصية الله والتمرّد على رسله ، فهو الذي يشعر بالتعاسة والبؤس والشقاء ، لأن ما حصل عليه من اللذة في الدنيا ، قد تحوّل إلى الألم الكبير في الآخرة ، وأنّ ما كان يخيّل إليه من أوضاع السعادة ، قد تحوّل إلى أوضاع الشقاء ، ولذلك ، فإنّ موقفه ، هنا ، عند ما يدفع إليه كتابه ، بهذا الشكل ، الذي يوحي إليه بالنتائج السيّئة في قضية مصيره ، يتمثل بهذا الواقع (فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً) وينادي بالويل والهلاك ، ويتمنى استمرار الموت حتى لا يواجه هذا الموقف الصعب ، (وَيَصْلى سَعِيراً) فيدخل نارا تلتهب وتتأجج بما لا يمكن أن يوصف به عذابها.

* * *

١٥٣

نسيان الآخرة يؤدي إلى الهلاك

(إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) عند ما كان يعيش في الدنيا ، وينال من متاعها ، ويكرع من لذاتها وشهواتها ، وينسى ربه في حسابه وعقابه. ولكن ما قيمة كل هذا السرور الذي تبخّر بالموت واستنفد كل مشاعره فلم يبق منه شيء؟ وما قيمة التاريخ الذي يحتوي الذكريات الحلوة ، إذا كان الحاضر يتحدّاه بالواقع القاسي المرّ؟ (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي لن يرجع إلى ربه للحساب ، ولذلك ، فإنه لم يجد هناك أي موجب للتوقف عن الامتداد في الغيّ والاستغراق في العصيان ، لأن الحياة ـ لديه ـ نهاية المطاف ، فلما ذا يحرم نفسه من لذائذ الحياة وشهواتها؟ وهكذا سار على حساب ظنّه الذي انطلق من تمنياته أن لا يكون هناك آخرة ، لا من قناعته الفكرية ، كما يحدث للبعض من الناس الذين يحوّلون تمنياتهم إلى قناعات ، ولا يعملون على أن يتوقفوا للتفكير وللحوار مع الذين يحملون القناعات الأخرى المضادة.

* * *

الله بصير بأعمال عباده

(بَلى) فقد كان مخطئا في ظنّه ، فليس الأمر كما زعم ، (إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) ، فهو يعلم منه ما لا يعلم هو من نفسه ، ويعلم سرّه وعلانيته ، كما أنه يطّلع على خلفيات مواقفه التي تخفي الأسس الفكرية التي يمكن أن تقوده إلى الإيمان ، ولكنه يتخذ موقف المعاند الذي يأبى أن يقتنع عنادا واستكبارا ، وينسى أن ذلك لا ينفعه بشيء ، لأن الله سوف يواجهه ـ غدا ـ بأعماله عند ما يقف ـ بين يديه ـ للحساب ، ليجزيه على ما قام به من أعمال الكفر والشرّ التي أحصاها الله بكل مفرداتها الصغيرة والكبيرة.

* * *

١٥٤

الآيات

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) (٢٥)

* * *

معاني المفردات

(بِالشَّفَقِ) : الحمرة بين المغرب والعشاء.

(وَسَقَ) : الوسق : الجمع.

(طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) : حالا بعد حال.

(يُوعُونَ) : يضمرون.

(مَمْنُونٍ) : منقوص.

* * *

١٥٥

دعوة للتأمل في الآيات الكونية

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ) هذا اللون الذي يلتقي بالحمرة الهادئة الوديعة في حركة النور الذي يفقد وهجه وحرارته ، ليكون في لون الحمرة القانية ثم الصفرة ، ثم البياض ، في هذا الجمال البديع الذي يبعث الرّوعة في الروح ، والهدوء في الشعور الذي يوحي بالظلام في حبات النور التي تلتقي بأمواج الليل ، لتبعث فيه مزيجا من الروعة والرهبة الباردة. (وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ) أي ما ضمّ وجمع وحمل ما تفرق وانتشر في النهار ليرجع كل واحد إلى سربه وموقعه ، ويسكن كل فريق إلى إلفه. ثم قد يشمل ذلك كل ما يضمّه الليل من مخلوقات وأوضاع وأشباح وتهاويل ، مما يوحي بالجوّ الغامض الرهيب المزدحم الذي يثير الكثير من المشاعر الخفية التي تجمع بين الوحشة والرهبة والغموض والجلال.

(وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) وتكامل نوره في الليالي البيض ، فيشرق على الكون إشراقة الوداعة التي توحي بالسلام الحلو في قلب الظلام المخيف ، فيزيل الوحشة في النفس ، ويبعث الحذر في الإحساس ، ويطوف بالروح في آفاق الأحلام الجميلة التي تملأ الإنسان أملا وحبا وانفتاحا على المواقع الرحبة في الحياة.

ويبقى لهذه المشاهد الكونيّة في الأفق الممتد الذي يودّع الشمس اللاهبة في نورها الحارّ المشتعل ، الذي يوحي بالدفء تارة ، وبالحريق أخرى ، ليلتقي بالشفق الذي يوحي بولادة الليل في خطوات النور المنسحب ، ليجتمع الناس في قلب الظلام الذي يوحي إليهم بتلك الجلسات العائلية الحميمة ، وبتلك الاجتماعات الروحية الجميلة ، ولينطلق القمر بهذا النور الوديع الذي يصبغه الظلام بلونه الهادىء.

ويبقى للإنسان أن يفكر في هذه المشاهد تفكير الباحث عن سرّ الروعة

١٥٦

والجلال فيها ، وعن عظمة الخالق في ما توحي به من عظمة الخلق ودقة التدبير. وتجد في النفي الذي يتصدّر الحديث عنها للقسم بها ، أنها في الموقع المميز الذي يستحق تعلّق القسم به .. ولكنّ الله لا يقسم بها ، لأن الحقيقة التي يريد أن يقرّرها لا تحتاج إلى التأكيد بالقسم ، لأنها واضحة لكل من تأمّل بها ، وعرف سنّة الله في خلقه.

* * *

لتركبنّ طبقا عن طبق

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي حالا بعد حال ، سواء كان أحدهما فوق الآخر أو بعده. وربما قيل : إن المراد به : الرحلة بعد الرحلة يقطعها الإنسان في كدحه إلى ربه من الحياة الدنيا ثم الموت ، ثم الحياة البرزخية ، ثم الانتقال إلى الآخرة ، ثم الحياة الآخرة ، ثم الحساب والجزاء. وربما كان المراد بها : الجهد والمعاناة التي تتوالى على الناس في ما يصيبهم من مشقات الحياة ومصاعبها ومشاكلها ، مما يعبر عن المعاناة المتلاحقة التي ترهق الإنسان جسديا أو روحيا. وقد جاء في كلام البعض ، أن التعبير بركوب الأمور والأخطار والأهوال والأحوال مألوف في التعبير العربي ، كقولهم : «إن المضطر يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه» ، وكأن هذه الأحوال مطايا يركبها الناس واحدة بعد واحدة ، وكلّ منها تمضي بهم وفق مشيئة القدر الذي يقودها ويقودهم في الطريق ، فتنتهي بهم عند غاية تؤدي إلى مرحلة جديدة ، مقدّرة كذلك ومرسومة ، كتقدير هذه الأحوال المتعاقبة على الكون من (بِالشَّفَقِ وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) ، حتى تنتهي بهم إلى لقاء ربهم الذي تحدثت عنه الفقرة السابقة. وهو توجيه جميل في إيحاءاته ..

* * *

١٥٧

لمحات الوجود تدل على سر العظمة الإلهية

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) وهم يرون كل عناصر الإيمان في لمحات الوجود الدالة على روعة القدرة وسرّ العظمة التي تدلّ على الله الواحد في أكثر من جهة.

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) في ما يوحي به السجود من معنى الخضوع لله الذي هو عمق حقيقة الوجود الكونيّ الذي يثير القرآن الحديث عنه من خلال وحي الفطرة ، وحركة الحوار ، وإيحاءات التأمّل التي تدفع الإنسان إلى العمق العميق من إحساسات الخوف الذي يدفع نحو الخشوع في انفتاحه على الله ، وفي سجوده له.

إن للقرآن إيحاءاته التي إذا عاشها الإنسان في آفاق الصفاء الروحي ، والإشراق الفكري ، أمكن له أن يجد تأثيرها في قلبه ووجدانه وفي شعوره ، بحيث تتحرّك كل نبضة من نبضاته ، وكل خفقة من خفقاته ، بالابتهال إلى الله ، واللقاء به ، والانفتاح على آفاق قدسه ، بشكل عفويّ جذّاب ، من دون أيّ تكلّف أو جهد ، فكيف يغفل هؤلاء ذلك كله ، فيبتعدون عن الإيمان بالله الذي كان الكون كله شاهدا على وجوده وتوحيده وحكمته وتدبيره؟! وكيف يبتعد هؤلاء عن السجود له والخضوع لألوهيته ، فيتمردون عليه ويستكبرون عن عبادته في الوقت الذي (يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ) [الحج : ١٨] ، وكل شيء يسبّح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم؟! إنه السؤال الكبير الذي يفرض نفسه على الواقع الذي يعيشه هؤلاء ، ولا يملكون جوابا عنه إلا الغفلة المطبقة على عقولهم من خلال إرادة الرفض للإيمان كله وللحقيقة كلها عنادا واستكبارا.

* * *

١٥٨

بشّر المكذبين بعذاب أليم

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) تكذيبا لا ينطلق من فكر مضادّ للإيمان ، ولا من شبهة تثير الضباب أمام حقائقه ، بل من خلال العقدة المتأصلة في النفس الحاقدة ـ من موقع الذات ـ على الرسالة والرسول.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي بما يكنّونه في صدورهم ، ويضمرونه في أفكارهم من خلفيات هذا التكذيب ، ومن نوايا الشرّ الذي يخطّطون له في عقولهم ، فلا يحسبون أنفسهم بمنأى عن الحجة التي تؤدي بهم إلى استحقاق العذاب.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) لأن ذلك هو جزاء المكذبين عن غير أساس.

* * *

للصالحين أجر غير ممنون

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) والتزموا الخط الرسالي فكرا وسلوكا ومنهج حياة ، فعاشوا الإيمان في وجدانهم ، وحركوا مفاهيمه في أخلاقهم ، وانطلقوا في مسيرته في خطواتهم ، فاستحقوا بذلك رضى الله ، وعاشوا في آفاق رحمته ، (لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي غير مقطوع ، بل هو ممتدّ متواصل. وقيل : إن المراد به المنّ وهو القول الّذي يمنّ به صاحب النعمة على آخذها بما يثقل عليه ، فالمقصود أن هذا الأجر لا يستتبع أيّ كلام يثقل على المؤمنين الصالحين ، بل لا يسمعون إلا كلاما طيّبا يرتاحون إليه.

والظاهر أن المعنى الأول أقرب إلى الاعتبار ، لأن المنّ لا يكون ثقيلا

١٥٩

إلا إذا جاء من الناس الذين يتأذى بعضهم بكلام المنّ من البعض الآخر ، لأنه يوجب نوعا من المهانة والذل ، أمّا إذا كان المنّ من الله ، سبحانه ، فإنه لا يثير أيّ شيء في النفس ، لأن الله هو صاحب المنّة والمنّ ، وإذا جرى المنّ في كلام الله ، فإنما يراد به تذكير عباده بنعمه ليشكروه وليعرفوا فضله عليهم ليعبدوه في مواقع عبادته. ولا بدّ من الانتباه إلى أن هذا الاستثناء منقطع ، لأن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لم يدخلوا في ما تقدّم من الحديث ، مما يجعل «إلا» بمعنى «لكن» ، كما يقولون.

* * *

١٦٠