تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

الأسلوب والممارسة المعاصرة

وعلى هذا الأساس ، فلا بدّ للدعاة إلى الله في حركتهم نحو الهدف الكبير من الدعوة إلى الله في كل زمان ومكان ، وذلك بأن يتلمسوا بأيديهم وأفكارهم المجالات المشتركة في العقيدة والأسلوب والحياة التي تربط المسلم بالآخرين وتربطهم به ، لتقرّبهم إليه ، ولتوحي لهم بأنّ هناك مرحلة من الطريق يمكن أن تمثل وحدة السبل في المرحلة الأولى أو الثانية ، فإن ذلك كفيل بإلغاء الكثير من التعقيدات ، وتجميد الكثير من الحساسيات ، وتقريب الكثير من الأفكار ... حتى إذا انتهى الأمر إلى نقطة الافتراق ، كانت الطريق ممهّدة أمام الطرفين للوصول إليها كمقدّمة للسير عليها من موقع القناعات المشتركة التي تصنع الأرض المشتركة ...

ولعل من الضروري أن يتحرّك العاملون في هذا الاتجاه ، على أساس صنع شخصيتهم الإسلامية ، بحيث تلتقي المواقف لديهم من خلال الطابع الذي يميّز شخصيتهم ، لا كحالة طارئة يمكن أن تأتي وتزول من دون قاعدة ثابتة. فيتحرك المسلم في هذا الجو ويمارسه مع اختلاف الأديان الموجودة في الساحة الدينية ، واختلاف المذاهب التي تعيش في الساحة الإسلامية ، واختلاف المبادئ والأفكار السياسية والاجتماعية والفلسفية في الساحة الفكرية العامة ، ليصل إلى النتائج الحاسمة بأفضل طريق وأروع أسلوب ...

وكمثال على ذلك خلافات الساحة الإسلامية ، كما في الخلافات بين السنّة والشيعة ، فقد لا يكون من الحكمة أن نبادر إلى طرح قضايا الاختلاف بينهما في بداية الحوار ، سواء ما يتعلق منها بتفاصيل العقيدة أو بموضوع الخلافة أو بمفردات الشريعة ، بل علينا أن نعمل على طرح موارد الوفاق ، لأننا إذا اتبعنا الأسلوب الأول ، فإننا نوحي إلى الطرف الآخر بأن الموقف هو موقف صراع يبحث فيه كل طرف عن أدواته التي يحارب بها الطرف الآخر ، أو عن الكلمات والمواقف التي يحاول أن يسجّل من خلالها نقطة على حساب الفريق

٨١

الثاني ، فتكون الروح التي تحكم الساحة هي روح المعركة الحادّة. أمّا إذا اتبعنا الأسلوب الآخر بأن آثرنا القضايا المتعلقة بأسس العقيدة والشريعة ، وأكّدنا عليها في استعراض شامل يستوعب أكثر هذه الجوانب ، فإننا سنعيش الجوّ الروحي الواقعي الذي ننفتح من خلاله على القاعدة الإسلامية التي نقف عليها من خلال الأسس التي ترتكز عليها القاعدة ، مع إثارة الأجواء الروحية التي تفتح أمام الإنسان آفاق التقوى ، وتحريك الأجواء الحميمة التي تثير المشاعر الإنسانية بالعاطفة ... مما يحقّق للموقف مزيدا من المرونة والشعور بالمسؤوليّة ، فيساعد على الوصول إلى القناعة الموحّدة أو المتقاربة ، لأن هذا الأسلوب يجعل القضية سائرة في الاتجاه الفكري الذي يلاحق أدوات الفكر وروحيّاته وأساليبه ، ولا يجعلها سائرة في الاتجاه الانفعالي الذي يعتمد على عناصر الإثارة في المشاعر والأفكار والكلمات ... وبذلك نبتعد عن أجواء التعصب الذي يتجمد فيه الإنسان أمام قناعاته ، ولا يتحرك خطوة واحدة إلى الأمام في مجال المناقشة والحوار ، بل يعمل على المحافظة بكل ما في طاقته على مواقعه الفكرية والعملية ، بروح متزمّتة حاقدة. ويمكننا في هذا الاتجاه أن نلتقي بالأساليب الهادئة المتزنة التي تحتفظ بأفكارها من موقع الانفتاح على الأفكار الأخرى ومناقشتها وتحصيل القناعات من خلال ذلك كله.

* * *

٨٢

الآيات

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) (٦٨)

* * *

معاني المفردات

(تُحَاجُّونَ) : قال الطبرسي ـ في مجمع البيان : ـ «الفرق بين الحجاج والجدال أن الحجاج يتضمن إمّا حجة أو شبهة في صورة الحجة ، والجدال هو فتل الخصم إلى المذهب بحجة أو شبهة أو إيهام في الحقيقة ، لأن أصله من الجدل وهو شدة الفتل ، والحجة هي البيان الذي شهد بصحة المقال ، وهو

٨٣

والدلالة بمعنى واحد» (١).

(حَنِيفاً) : من الحنف وهو الميل من شيء إلى شيء ، وهو في المصطلح القرآني الميل من الضلال إلى الهدى.

(أَوْلَى) : هو بمعنى أفعل من غيره ، لا يثنّى ولا يجمع لأنه يتضمن معنى الفعل والمصدر على تقدير يزيد فضله على فضله في أفضل منه ، ومعنى قولنا : هذا الفعل أولى من غيره ، أي : بأن يفعل ، وقولنا : زيد أولى من غيره معناه : أنه على حال هو أحق بها من غيره (٢).

(اتَّبَعُوهُ) : الاتباع : جريان الثاني على طريقة الأول من حيث هو عليه ، كالمدلول الذي يتبع الدليل في سلوك الطريق ، أو في التصحيح ، لأنه إن صح الدليل صح المدلول عليه بصحته ، وكذلك المأموم الذي يتبع طريقة الإمام.

* * *

أسلوب التأنيب الهادىء

وهذا أسلوب آخر في حوار القرآن مع أهل الكتاب ، يستهدف كشف الزيف الذي كانوا يمارسونه في تضليل الناس باستغلال الصفة الروحية الكبيرة والموقع القدسيّ العظيم لبعض الشخصيات النبويّة ، فيسبغون عليه انتماءهم الديني ليوحوا للبسطاء بقداسة مواقعهم ، وسلامة طروحاتهم الفكرية والعملية ، من أجل كسب هؤلاء البسطاء إلى صفوفهم وتحويلهم عن السير في خط الإسلام. وقد أراد القرآن الكريم أن يواجههم بأسلوب التأنيب الهادىء الوديع الذي يطرح التساؤل في أسلوب الاستفهام الإنكاري ، كأسلوب لمواجهة الإنسان نفسه بالحقيقة في تسجيل نقطة هنا تدفع نحو التفكير ، ونقطة هناك تدفع نحو

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٦٨.

(٢) (م. ن) ، ج : ٢ ، ص : ٧٦٩.

٨٤

التأمّل من خلال إثارة المنهج في ملاحقة الحقيقة ، وتقرير المبدأ في مواجهة الواقع. وهذا ما نحاول أن نتلمسه في دراستنا لهذه الآيات.

فقد طرح أهل الكتاب شخصية إبراهيم ـ النبي ـ الذي يعتبر من الشخصيّات النبويّة المحترمة لدى كافة الناس ، بما فيهم مشركي مكة ، الذين ينتسبون إليه باعتبار أن قريش من ولد إسماعيل ، وكان لهذا الاحترام دوره الكبير في ارتباط الناس بالفكر أو الدين الذي ينتسب إليه هذا النبيّ العظيم. ولهذا حدث التنافس في نسبته إلى هذا الفريق أو ذاك من الديانات المطروحة في الساحة الدينيّة ، فقد كان اليهود يقولون : إنه يهودي ، ويريدون من خلال ذلك أن يدفعوا الناس إلى اعتناق اليهودية ، على أساس اعتناق إبراهيم لها. وكان النّصارى يقولون : إنه نصراني ، ليقودوا الناس إلى النصرانية من خلال ارتباطه بها. ولم تكن القضية لدى الطرفين مطروحة للمناقشة حتى يفيض الناس فيها بالحوار والنزاع ، بل كانت مطروحة للإيمان الأعمى الذي يقبل كل شيء من دون معارضة ، انطلاقا من الفكرة القائلة بأنّ الإيمان فوق العقل.

وجاء القرآن ليفضح اللعبة ويضع النقاط على الحروف ، فطرح القضية للمناقشة في جانبها التاريخي الزمني ، ودعاهم إلى استنطاق عقولهم في ذلك ، فإن اليهودية انطلقت من التوراة التي أنزلت على موسى عليه‌السلام بعد وقت طويل من عهد إبراهيم ، كما أن النصرانية استندت إلى الإنجيل المنزل على عيسى عليه‌السلام بعد ذلك الزمن بوقت بعيد جدا ؛ فكيف ينتسب إبراهيم إلى هذا أو ذاك في الوقت الذي يسبق زمانه زمانهما؟! وكيف يمكن أن ينتسب السابق إلى اللّاحق ، في ما يوحي به العقل من موازين ومقاييس؟!

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ) لتقدموه كشخصية يهودية أو نصرانية تجتذب الناس إليكم من خلال ما يتميز به من تقديس واحترام والتزام بنبوّته في وجدان الناس ، (وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ) التي ينتسب اليهود إليها في دينهم ، (وَالْإِنْجِيلُ) الذي ينتسب إليه النصارى في التزامهم الديني ، (إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ) فهناك فاصل زمني كبير بين إبراهيم وموسى وعيسى عليهم‌السلام ، فكيف

٨٥

يمكن انتسابه إليها ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) ذلك ، لتتحرّكوا في دائرة تقديم الحجة من منطق العقل الذي يضع الأشياء في مواضعها الطبيعية من الزمان والمكان عند ما يدخل في المقارنة بين الأشخاص والأشياء؟! وهذه إشارة إلى أن القرآن الكريم يقدم العقل كأساس في مجال الجدال بين الناس والاحتجاج للعقائد وللأفكار ، فلا ينطلق الموضوع الذي يقع محلا للنزاع من حالة عاطفية أو مزاجية أو استعراضية بقصد التأثير على الجو النفسي بعيدا عن المحاكمة العقلية.

* * *

الآية في حركة الواقع

ونلتقي ـ في خط هذا الأسلوب ـ بالكلمات التي تثار أمام البسطاء من خلال ما يطرحه الكفر والانحراف من مبادئ ، كالشيوعية والاشتراكية والديمقراطية وغيرها من المبادئ الفلسفية والاقتصادية والسياسية ، فيحاولون الإيحاء للمسلمين البسطاء بالتقاء الإسلام بها وانتمائه إليها في مفاهيمه وتشريعاته من أجل أن يضلّلوهم ويسدّوا عليهم طريق الاعتراض والمناقشة. وقد يضيفون إلى ذلك الحديث عن انتماء الإمام عليّ عليه‌السلام وأبي ذر الغفاري إلى الاشتراكية لأنهما كانا ينطلقان في كلماتهما من موقع المواجهة للواقع الاقتصادي الاستغلالي الفاسد ، مما يحاول البعض تفسيره بما توحي به هذه المبادئ من شعارات وأفكار. ولكن القضية لا بدّ من أن تعالج بما عالج به القرآن الكريم قصة مزاعم أهل الكتاب في قضية إبراهيم عليه‌السلام ، بالتأكيد على الفرق الكبير في الفاصل الزمني بين الإسلام وشخصياته ، وبين مبتدعي هذه المبادئ ، ثم بمحاولة إيضاح المفاهيم الإسلامية والاقتصادية والاجتماعية بالمقارنة مع مبادئ الكفر والانحراف المتمثلة في تلك المبادئ ، والإعلان لهم بأن عليّا وأبا ذر لم يطرحا في معارضتهما للواقع الفاسد إلّا المنهج الإسلامي الذي يعالج المشكلة الواقعية بالحل الإسلامي لا بغيره.

٨٦

وهكذا نجد في هذه الآية الكريمة خطا إسلاميا ممتدا في حياتنا الرسالية في مجال الدعوة والعمل ، وحركة الوعي المنفتح على الواقع والإنسان.

* * *

لم تحاجّون في ما ليس لكم به علم؟!

(ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ) يا أهل الكتاب (حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) مما تملكون علمه من دينكم من خلال ما قرأتموه في التّوراة أو الإنجيل وهذا من حقكم ، كما هو حق كل إنسان ينتمي إلى فكر يملك علمه ليجادل الناس فيه. وربما كان هذا الكلام إشارة إلى الجدل الواقع بين اليهود والنصارى في تأكيد كل منهما عقيدته ونفي العقيدة الأخرى ، كما كان يفعله اليهود في إنكار أن يكون عيسى عليه‌السلام ربا أو ابنا لله ، أو ما كان يفعله النصارى من نفي امتداد اليهود إلى ما بعد السيد المسيح عليه‌السلام. وربما تكون مسألة العلم ـ هنا ـ تعبيرا عن الثقافة ، بعيدا عن فرضية الصواب باعتبار أنهم يملكون الجدال حوله من خلال ذلك.

(فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) لأنه لا يمثل أية حقيقة دينية أو تاريخية. وهذا ما لا ينبغي للإنسان العاقل أن يفعله ، لأنه يؤدّي إلى التخبط في مواقع الجهل والابتعاد عن الحقيقة ، والاستغراق في متاهات الضلال. (وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) فهو المحيط بكل شيء ، الذي لا يغرب عن علمه مثقال ذرة ، فأرجعوا الأمر إليه في ما أنزل من وحي يتضمن الحقائق ويشير إلى خط اليقين ، أما أنتم فلا تملكون العلم إلا من خلال ما يسّر لكم من سبله ، فلا تندفعوا في طريق لا تعرفون طبيعته ولا تبلغون مداه.

* * *

٨٧

الآية في منهج الحوار

ويتحرك الحوار في استعراض المنهج الذي ينبغي للحوار أن يسير عليه ، فلا بدّ للمتحاورين في أيّ موضوع ، من أن يكونا محيطين به من جميع جوانبه ، لينطلق الحوار من منطق الفكر فيصل بهما إلى النتيجة الحاسمة ، ويساعدهما على الهدوء في الكلمة ، والحكمة في الأسلوب ، والعمق في الفكرة ، فإن ذلك هو سبيل العلماء الواعين للعلم ولرسالته ... أمّا إذا كان الطرفان لا يملكان المعرفة في ما يتحاوران به ، فإن الموقف سيتحوّل لديهما إلى حوار بالشتائم والكلمات اللاذعة والاتهامات الفارغة التي يحاول الضعيف أن يغطي بها ضعفه ، ليربح القضية بالباطل إذا لم يتمكن من الحصول عليها بالحق ... وبذلك لن يؤدي الحوار إلى نتيجة طيّبة ، بل يؤدي ـ بدلا من ذلك ـ إلى المزيد من التعقيد والعداوة والخوض بالباطل. وعلى ضوء ذلك ، فلا بدّ للأجهزة أو القيادات المشرفة على حركة الدعوة إلى الله ، من أن تختار العناصر الجيّدة التي تملك كفاءة الفكر والأسلوب والرؤية العميقة المنفتحة على الواقع ، لتستطيع أن تربح الموقف لصالح الإسلام من موقع قوّة الفكر والحجّة وعمق النظرة ، فتحقق للإسلام هدفه في الوصول إلى قناعات الناس من جهة ، وتعطي للدعوة الوجه القويّ المنفتح من خلال ما تبرز به للناس من سماحة الحوار وقوّته ...

ولعل ذلك هو السبب في ما كان يقوم به الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام من نهي بعض أصحابه عن الكلام ، ودعوة بعض آخرين إلى الخوض فيه ، لضعف أولئك وقوّة هؤلاء ، فإذا خاض الضعيف الحوار ، كان ضعفه حجّة للمبطل على المحق ، فيؤدي ذلك إلى ضعف موقف الحق وانهزام المؤمن نفسيا أمام ذلك. أمّا إذا خاض القويّ الموقف ، فإنه يعطي الحجّة من موقع الحق ، ويمنح الحق قوّة الموقف.

وقد لا يكفي ـ في هذا المنهج ـ أن يملك الداعية قوّة الحجّة على سبيل

٨٨

الجدل ولو بالباطل ، فإن القضية ليست قضية ربح الساحة على كل حال ؛ بل لا بدّ من أن يملك قوّة الحجّة بالحق ، لأن الهدف هو الوصول إلى خط الهدى في حياة الإنسان ، وذلك بأن نقوده إلى الموقف الحق في العقيدة والشريعة والحياة ...

وهذا ما دعا الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام إلى نقد أحد أصحابه الذي كان يجادل خصمه بالحق والباطل ـ والإمام يستمع إليه ـ فقال له : «يمزج الحقّ بالباطل ، وقليل من الحق يكفي عن كثير من الباطل» (١).

وقد خاطب الله أهل الكتاب ـ في هذا الخط المنهجي ـ بأنهم انحرفوا عن الخط الصحيح في نهاية المطاف ، فقد كانوا يحاجّون في ما يملكون أمر المعرفة به مما اطلعوا عليه من التوراة أو الإنجيل ، وليس في ذلك أيّ بأس ، ولكنّ الأمر تطوّر عندهم في خط منحرف إلى أن بدأوا يجادلون في ما لا يملكون العلم به ، إمّا لأنه لا يخضع لأيّ أساس ، ولا يقف مع أيّة حقيقة ، وإمّا لأنهم لا يملكون أمر الإحاطة به والوصول إلى نهاياته. وهذا أمر لا يسمح به منطق العلم والحوار ، فإن عليهم إذا لم يحيطوا بعلم شيء ما ، أن يحاولوا الوصول إليه بالمعرفة من خلال وحي الله ، فإن الله يعلم بحقائق الأشياء ، وأنتم لا تعلمون إلّا البسيط الذي علّمكم إيّاه ...

وهذا ما ينبغي لنا أن نخاطب به الآخرين من خصوم الإسلام الذين يوجهون إليه الاتهامات الباطلة عن غير علم ، ويثيرون الشبهات حوله من موقع الجهل ، لنقودهم ـ بمختلف أساليب الإنكار والإحراج التي تكشف عن جهلهم ، وتخبّطهم بالباطل ـ إلى السير في خط المعرفة الإسلامية من مصادرها الأصيلة ، ولندفعهم إلى الاستماع إلى الحجة والبرهان بأقرب طريق ...

ولا بدّ لنا ـ إلى جانب ذلك ـ من الالتفات إلى العاملين في سبيل الله ، وتوجيههم إلى دراسة مبادئ خصومهم ، بالإضافة إلى مبادئ الإسلام ،

__________________

(١) البحار ، م : ١٦ ، ج : ٤٨ ، ص : ١٢٨ ، باب : ٨ ، رواية : ٧.

٨٩

لينطلقوا في الحوار عن علم بكل مجالات الأخذ والرد ، لئلّا يخوضوا في ما لا علم لهم به ، كما أشرنا إلى ذلك في صدر الحديث.

* * *

إبراهيم حنيف مسلم

(ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا) فلا يمكن أن يكون إبراهيم يهوديا لأن اليهودية تحركت مسيرتها في مواقع الشرك ، وانحرفت عن خط الرسالة التي جاء بها موسى عليه‌السلام ، (وَلا نَصْرانِيًّا) إذ لا يمكن أن يكون نصرانيا ، لأن النصرانية انطلقت في تفاصيل وأجواء ابتعدت بها عن القواعد الصحيحة التي جاء بها عيسى عليه‌السلام ... (وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً) ولكنه كان حنيفا مائلا إلى الحق عن الباطل مخلصا لله ، في كل ما يعنيه الإخلاص لله من صفاء التوحيد في العقيدة والإسلام لله في كل شيء ؛ وذلك من خلال ما حدثنا الله به في آية أخرى : (إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ* وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [البقرة : ١٣١ ـ ١٣٢]. ومنه انطلقت صفة المسلمين لكل من أسلم وجهه وحياته لله ، فاتبع أمر الله ونهيه في كل شيء ، ولم يشرك بعبادة ربّه أحدا ؛ وذلك هو قوله تعالى : (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) [الحج : ٧٨] وبذلك كان انتماء إبراهيم الأصيل إلى الإسلام الحق الذي يمثل الخط العريض لكل الديانات السماوية من قبله ومن بعده ، لأنها تدعو إلى عبادة الله والإسلام إليه وحده ... وهكذا كانت رسالة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إسلاما لله لأنها تمثل الدعوة الخالصة إلى التوحيد في كل مجالات العقيدة والعاطفة والعمل ...

وربما كان قوله تعالى : (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) إشارة إلى ما كان يدّعيه المشركون من عرب الجاهلية ، ولا سيما من كان منهم في مكة من القرشيين ، أنهم على دين إبراهيم والدين الحنيف ، حتى كان أهل الكتاب يسمونهم

٩٠

بالحنفاء ، وبهذا اتخذت كلمة الحنفاء معنى مغايرا للمعنى الحقيقي ، فأصبحت تدل على الاتجاه الباطل الذي يميل فيه الناس عن الحق إلى الباطل باعتبار أن العرب كانوا يلتزمون «الحنيفية الوثنية» ، فجاءت هذه الآية لتنفي هذه النسبة إلى إبراهيم عليه‌السلام ، فهو لم يكن يهوديا يحمل خطه انحراف اليهودية ، ولم يكن نصرانيا يلتزم انحراف النصرانية ، ولم يكن مشركا ينسجم مع طريقة أهل الشرك في عبادة الأصنام بحجة أنها تقربهم إلى الله زلفى ، بل كان حنيفا بالمعنى الأصيل لهذه الكلمة التي تعني في كلّ مضمونها الاستقامة على طريق الحق في العقيدة ، والعمل بالميل عن خط الانحراف إلى خط الاستقامة ، وكان مسلما بالمعنى الشامل للإسلام الذي يعني إسلام الفكر والقلب والحركة والحياة لله في كل أموره ... وهو الخط التوحيدي في العقيدة والعبادة والطاعة الذي يمثل إبراهيم عليه‌السلام عنوانه في كل كلماته ومواقفه ومنطلقاته.

* * *

الاتباع يحدد العلاقة

(إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ). ثم يطرح الله سبحانه علاقة إبراهيم بالناس وعلاقة الناس به ، فليست العلاقة بأصحاب الرسالة علاقة نسب تمنح الآخرين أولويّة به ، وتعطيهم امتيازا على بقية النّاس في رابطة القرب به ، لأن هؤلاء العظماء يفقدون خصوصياتهم باندماجهم بالقضايا العامة ، فتتحول علاقتهم بالآخرين إلى علاقة رسالة وفكر وعمل ، ويتحوّل الانتماء إليهم إلى الانتماء لما يمثلونه من رسالة الفكر والعمل ، لأنها أصبحت كل حياتهم. وفي ضوء ذلك ، يقرر الله لأهل الكتاب القول الفصل في خط هذه الحقيقة ، فليس أولى النّاس بإبراهيم عليه‌السلام هم الذين ينتمون إليه بالنسب ، بل هم الذين ينتمون إليه في العقيدة والعمل من الذين اتبعوه في حياته وبعد مماته ، (وَهذَا النَّبِيُ) الذي يحمل رسالة الإسلام التي أوحى بها الله إليه سائر على الخط نفسه

٩١

الذي سار عليه إبراهيم عليه‌السلام ، وبعمق الروح التي انطلق معها ، إن لم تكن أعمق ، (وَالَّذِينَ آمَنُوا) بهذا الرسول ، لأن الإيمان به إيمان بالخط الرسالي الإسلامي الذي يمثله إبراهيم عليه‌السلام في رسالته وفي حياته ، ويلتقي الجميع في خط الولاية لله ، (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) بما يرعاهم برعايته ، ويهديهم بهدايته ، ويمنحهم لطفه ورحمته ورضوانه.

ويعلّق الإمام عليّ عليه‌السلام ـ في ما روي عنه ـ على هذه الآية بقوله : إن وليّ محمد من أطاع الله وإن بعدت لحمته ، وإن عدوّ محمّد من عصى الله وإن قربت قرابته (١). وبذلك يعطي الإمام علي عليه‌السلام امتداد في ما يستوحيه من الآية ، فإذا كان أولى الناس بإبراهيم الذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا ، فإن ذلك لا يقف أمام شخص إبراهيم عليه‌السلام ، بل يمتد مع كل نبي أو رسول أو عامل في سبيل الله ، في ما تمثله القرابة في حياته في خطوط القرب والبعد ، من حيث علاقة ذلك بالسير على خط الرسالة والابتعاد عنه. ولهذا أمكن أن نستوحي الآية في كل شخص تمتد حياته إلى أبعد من حدود ذاته ، كما أكّد رسول الله من خلال القرآن الكريم على بعد أبي لهب عنه مع قربه من نسبه ، وأثار قرب سلمان الفارسي منه ، من خلال الحديث المأثور عنه : «وإنما صار سلمان من العلماء لأنه امرؤ منا أهل البيت فلذلك نسبه إلينا» (٢) مع بعده عن نسبه. وهذا هو الأساس الذي تتحرك فيه العاطفة الإسلاميّة ، وتنطلق منه الروابط الإسلاميّة ، فيكون الإسلام هو الذي يربطك بالآخرين ، كأقوى ما تكون الرابطة ، بحيث تعلو عن سائر الروابط الأخرى من عائلية أو إقليمية أو قوميّة ، في كل ما تفرضه الرابطة القويّة من نصرة وتأييد وحركة وانتماء. وهذا هو المفهوم الإسلامي الذي نستوحيه من الآية في ضوء ملاحظة الإمام علي عليه‌السلام.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٧٠.

(٢) البحار ، م : ١ ، ج : ٢ ، باب : ٢٦ ، ص : ٤٦٢ ، رواية : ٢٥.

٩٢

الآيات

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (٧١)

* * *

معاني المفردات

(وَدَّتْ) : تمنت. قال صاحب مجمع البيان : لما كان ـ لفظ ودّت ـ بمعنى تمنّى صلح للماضي والحال والاستقبال ، فلذلك جاز ب «لو» ، وليس كذلك المحبة والإرادة لأنهما لا يتعلقان إلا بالمستقبل ، فلا يجوز أن يقال أرادوا لو يضلونكم ، لأن الإرادة تجري مجرى الاستدعاء إلى الفعل أو مجرى العلّة في ترتيب الفعل ، فأما التمني فهو تقرير شيء في النفس يستمتع بتقريره ؛ والفرق بين «ودّ لو تضله» وبين «ودّ أن تضلّه» أنّ «أن» للاستقبال وليس كذلك «لو» (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٧٠ ـ ٧٧١.

٩٣

(تَلْبِسُونَ) : تخلطون وتضللون بأن تجعلوا الباطل لباسا على الحق تسترونه به تمويها ومخادعة ، وهو ما يسمّى ب «التضليل الإعلامي».

(وَتَكْتُمُونَ) : تخفون في أنفسكم ولا تعلنون. والكتمان هو الشر والإخفاء ، وهو ما يسمى ب «التعتيم الإعلامي».

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ أن الآية نزلت في معاذ بن جبل وعمار بن ياسر حين دعاهما اليهود إلى دينهم (١).

* * *

أسلوبا اللّبس والكتمان

(وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) وذلك من خلال تمنياتهم التبشيرية بأفكارهم التضليلية وأساليبهم الملوّنة ، (لَوْ يُضِلُّونَكُمْ) وذلك من خلال ما يملكونه من وسائل التضليل الفكري بالشبهات المتنوعة ، التي تثير في عقولكم الريبة ، وتحرك الشكّ في عملية استغلال للطهارة الذاتية المتمثلة في أخلاقكم الطبية التي قد تشعر بالثقة بالآخرين ، فتستسلم لها في حركة العلاقة الإنسانية ، فتقع تحت تأثير مكائدهم الشيطانية من دون شعور ، فإن الطيبة قد تصنع للإنسان الغفلة عن تعقيدات الواقع الذاتي لهذا الشخص أو ذاك ، أو لهذا الاتجاه أو ذاك ، ولهذا لا بد للإنسان المؤمن من أن يكون الإنسان الواعي الذي يدرس

__________________

(١) الواحدي ، أبو الحسن ، علي بن أحمد ، أسباب النزول ، دار الفكر ، بيروت ـ لبنان ، ١٤١٤ ه‍ ـ ١٩٩٤ م ، ص : ٦٠.

٩٤

الواقع في ساحته ، من خلال طبيعة الظروف الموضوعية المتصلة بالأشخاص والأحداث والأوضاع والأشياء ، حتى يعرف كيف يحرّك مواقعه ومواقفه في علاقته بالناس وبالحياة في عالم الصراع بين الأفكار أو بين الناس.

(وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) لأنهم يستغرقون في تأكيد خطتهم في إضلال الآخرين بالأوهام التي يختلقونها ، والأكاذيب التي يحركونها ، والأوضاع المنحرفة التي يصنعونها ... فتتحول بفعل الحالة الاستغراقية إلى قناعات ذاتية تجعلهم يستغرقون في الضلال في تأثيراته اللاشعورية ، (وَما يَشْعُرُونَ) تماما كالكثيرين من الناس الذين يعيشون الغفلة عن ذواتهم عند ما يلتقون ببعض الأشياء التي تترك آثارها في نفوسهم بغير اختيار ، وذلك هو قوله تعالى : (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) التي أنزلها على محمد في القرآن (وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ) من خلال ثقافتكم التوراتية أو الإنجيلية التي تؤكد صدق النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دعوته ، وذلك من خلال البشارة بنبوته ، ومن خلال الحجج الكثيرة الدالة على ذلك التي استمعتم إليها من رسول الله.

(يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ) وتلعبون على الموقف فتقومون ببعض الأساليب التي قد تخلط الحق بالباطل ، للإيحاء بالاستبعاد عن الالتزام بالإسلام ، وذلك كما في تحريفكم التوراة والإنجيل ، فتقدمونهما إلى الناس باعتبار أنّهما من وحي الله ، ولكن من دون تقديم الصبغة الأصلية للآية هنا أو هناك ، وكما في تقديم التوراة أو الإنجيل مع تحريف الكلم عن مواضعه من حيث وضع الكلمة في غير موضعها ، أو إبعاد الكلام عن معناه بالإيحاء بأن المراد به معنى آخر ، أو بإخفاء بعض الآيات المبشرة بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإظهار أن التوراة خالية من ذلك ، أو بالدخول في الإسلام صدر النهار والخروج منه آخره ، لإيجاد حالة من الاهتزاز العقيدي في نفوس المسلمين ، لما يثيره ذلك في نفوسهم من الشك ، باعتبار دلالته على أنهم اطلعوا على ما يوجب اعتقادهم بالبطلان ، مع أنهم كانوا مقبلين على الإسلام بإخلاص ، أو غير ذلك (وَأَنْتُمْ

٩٥

تَعْلَمُونَ) الذي تعرفونه فلا تبينونه للناس فأنتم على علم بأنه الحق من ربكم ، وقد أراد الله من كل عالم بالكتاب أن يبينه للناس ، لأن الحق أمانة الله عندهم ، بحيث تكون عملية الإخفاء والكتمان خيانة للأمانة.

لقد وقف المعقّدون الحاقدون من أهل الكتاب موقف الحقد والعداوة من الإسلام والمسلمين في كيدهم المستمر للإسلام من خلال ما يثيرونه من أفكار الضلال وأساليب التضليل ، وذلك من أجل أن ينحرفوا بالمسلمين عن الخط المستقيم ، انطلاقا من العقدة ، لا من القناعة المرتكزة على وضوح الرؤية ... وبذلك كانت القضية تمثل لديهم أمنية ، فهم يودون للمسلمين الضلال ، فيتحيّنون الفرصة لإثارة التشكيك لديهم في شؤون العقيدة والشريعة والحياة ... وليست القضيّة لديهم أنهم يريدون تحويلهم إلى صفوفهم ، بل كل ما هناك أنهم يضلونهم عن طريقهم الحق ...

* * *

وما يضلون إلا أنفسهم والبسطاء

... ويؤكد القرآن بأن هذه المحاولات لن تنجح ولن تصل إلى أهدافها الشيطانية ، بل سترتدّ ضلالا على أصحابها ، لأنهم كلما أمعنوا في أساليبهم تلك ، كلّما ابتعدوا بأنفسهم عن خطّ الهدى ، فإن السائر على خط الضلال والعامل على إضلال الآخرين ، لا بدّ له من العمل على الامتداد بعيدا في أجواء الضلال ، ومن ابتداع أفكار وأساليب متنوعة للضلال بحيث يختزنها في أعماقه ، ويؤمن بها في فكره ، ويعيشها في حياته وخطواته ، الأمر الذي يجعلهم يمتدون في الضلال والانحراف من ناحية ذاتية ... وبذلك يضلّون أنفسهم ، ولا يضلّون المؤمنين الواعين الذين يرصدون خطوات الأعداء جيّدا فيتنبهون لما يحاولونه من إبعادهم عن دينهم الحق ... بينما يكون أولئك مندمجين في اللعبة ، غارقين في الحقد ، فلا يشعرون بنتائجها الوخيمة عليهم.

٩٦

ثم إنّ الله يخاطب أهل الكتاب الذين أنكروا رسالة النبّي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيواجههم بآياته البينات التي يشهدونها ويرونها رأي العين ، ويعيشونها في أفكارهم بعمق ، ليتساءل بتأنيب وإنكار وتوبيخ : لماذا هذا الكفر بالحقائق الواضحة التي لا لبس فيها ولا ارتياب؟ كيف يمكن للإنسان أن يكفر بما يشهد به وجدانه ثم يؤكده مجددا ، عند ما يقف وقفة صراحة أمام الوجدان؟ وهذا فيه إشارة إلى الأساليب التي كانوا يمارسونها ضد الرسول ، فهم يعرفون الحق من خلال ما تصرّح به التوراة من صدق رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنهم يكتمونه عن النّاس ، فإذا ظهر للنّاس شيء من ذلك أو أقبلوا عليه ، حاولوا أن يضيفوا إليه بعض الباطل من أجل أن يجعلوا القضية في موقع الالتباس والشك لدى البسطاء من النّاس الذين لا يستطيعون في كثير من الحالات تمييز الحق من الباطل في مواقع الشبهات ...

* * *

المستشرقون وأساليب اللبس والتضليل

وقد لاحظنا في خطوات أهل الكتاب من اليهود والنصارى في حركة التبشير التي قادها المبشرون والمستشرقون الذين ساروا في الكتائب الأولى للاستعمار ، أنهم حاولوا أن يثيروا الأكاذيب والافتراءات ضد الإسلام ورسوله ، وعملوا على تشوية وجه الصورة الحقيقية بما يضيفونه من شبهات تبعث الريب في ما لا ريب فيه ، وتثير الشك في ما لا يترك مجالا للشك. وما زالت الإثارة الحاقدة تتنوّع وتتلوّن بأساليب مختلفة ، من خلال ما يحققونه من نصوص ، وما يفسرونه من تفسيرات ، وما يطلقونه من أبحاث ودراسات يلبسون فيها الحق بالباطل معتمدين على الأوضاع السلبيّة التي يمرّ بها المسلمون ، وعلى الثقة العلمية التي يحصلون عليها من خلال أكذوبة الحياد الفكري ، والموضوعية العلمية التي يتظاهرون بها بإزاء الضعف النفسي والفكري والروحي

٩٧

لدى الجمهرة المثقّفة والمتعلمة من المسلمين ، مما يجعلهم لا يلتفتون إلى الخديعة العلمية ، في ما ينطلق به هؤلاء من بعض قضايا الحق في الإسلام التي لا تمس الجوهر ، بينما يعملون ـ في مقابل ذلك ـ على تشوية القضايا الأصيلة الحيّة ، بكثير من ألوان الباطل وأساليبه.

وربما كانت هذه الآية ـ من خلال ما توحيه إلينا ـ تمثل أسلوبا من أساليب التوعية القرآنية التي تفتح أعين المسلمين على ما حولهم من خطوات الضلال ومؤامرات التضليل ، وعلى من حولهم من فئات الضلال التي تختبئ وراء الحكم تارة ، وخلف المراكز العلمية أخرى ، وفي إغراءات المال والشهوات والأطماع ثالثة ، ليخرجوا من جوّ السذاجة في تعاملهم مع الآخرين ، فيكون الحذر هو الذي يطبع علاقاتهم في ما يسمعونه ويتحركون فيه من علاقات ومعاملات ومشاريع للثقافة وللحياة ، فإذا تمّ لهم ذلك أمكنهم أن يحققوا الحماية لأنفسهم من كيد الكائدين وحقد الحاقدين ، فإن المؤمن لا يلدغ من جحر مرتين.

* * *

٩٨

الآيات

(وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (٧٤)

* * *

معاني المفردات

(طائِفَةٌ) : الطائفة : الجماعة ، وفي أصلها ـ كما يقول صاحب مجمع البيان ـ قولان : أحدهما : أنه كالرّفقة التي من شأنها أن تطوف البلاد في السفر الذي يقع عليه الاجتماع ، والآخر : أنها جماعة يستوي بها حلقة يطاف حولها (١).

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٧٣.

٩٩

(وَجْهَ النَّهارِ) : أوّله ، وسمّي وجها لأنه أول ما يواجهك منه ، كما يقال لأوّل الثوب : وجه الثوب ، وقيل : لأنه كالوجه في أنه أعلاه وأشرف ما فيه.

(يَرْجِعُونَ) : يعودون ويرتدون عن دينهم.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ، للواحدي ، «قال الحسن والسدي : تواطأ اثنا عشر حبرا من يهود خيبر ، وقال بعضهم لبعض : ادخلوا في دين محمد أوّل النهار باللسان دون الاعتقاد ، واكفروا به في آخر النهار ، وقولوا : إنا نظرنا في كتبنا وشاورنا علماءنا ، فوجدنا محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم ليس بذلك ، وظهر لنا كذبه وبطلان دينه ، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينهم ، وقالوا : إنهم أهل كتاب وهم أعلم به منا ، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وأخبر نبيه محمدا صلى‌الله‌عليه‌وسلم والمؤمنين.

قال مجاهد ومقاتل والكلبي : هذا في شأن القبلة لما صرفت إلى الكعبة شق ذلك على اليهود لمخالفتهم ، قال كعب بن الأشرف وأصحابه : آمنوا بالذي أنزل على محمد من أمر الكعبة ، وصلّوا إليها أول النهار ، ثم اكفروا بالكعبة آخر النهار ، وارجعوا إلى قبلتكم الصخرة ، لعلهم يقولون : هؤلاء أهل كتاب وهم أعلم منا ، فربما يرجعون إلى قبلتنا ؛ فحذّر الله تعالى نبيه مكر هؤلاء ، وأطلعه على سرّهم ، وأنزل : (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) الآية» (١).

ونلاحظ أن هؤلاء المتحدثين عن أسباب النزول لم يستندوا في ذلك إلى رواية ، بل انطلقوا في اجتهاداتهم في فهم الآية ومحاولة تطبيقها ممّا يفهمونه من الجو العام لليهود في الوقوف المضاد للإسلام ، أو ممّا جاء في آية تحويل القبلة

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٦٠.

١٠٠