تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

(لِتَحْسَبُوهُ) : أي : لتظنوه ، والفرق بين حسبت وزعمت ، أن زعمت يحتمل أن يكون يقينا وظنا. وحسبت لا يحتمل اليقين أصلا ـ كما جاء في مجمع البيان (١).

* * *

انحراف عمليّ عند أهل الكتاب

(وَإِنَّ مِنْهُمْ) أي : من اليهود ، (لَفَرِيقاً) أي : طائفة لا كلّهم ، (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ) من خلال محاولة إيجاد بعض عناصر الشبه به في اللفظ أو المعنى ، (وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ).

وهذه ظاهرة من ظواهر الانحراف العملي لدى أهل الكتاب ، من خلال ما كانوا يقومون به من تحريف كلام الله ، وهو الذي أشارت إليه الآية بكلمة : (يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ) فإن اللّيّ هو عطف الشيء ، ورده عن الاستقامة إلى الاعوجاج على سبيل الكناية عن التحريف ... وذلك بالأساليب الفنيّة التي يتقنونها ، بحيث يعطون الكلمة المحرّفة بالزيادة أو النقصان ، جوّا يقترب بها من أجواء التوراة ، فيخيّل للسامع أنها من الكتاب لشبهها بكلماته وأجوائه ، ولكن المتأمّل المتدبر الذي يعرف كتاب الله في أسلوبه ومضمونه ومقاصده يستطيع أن يجزم بأنّ ذلك ليس من الكتاب ، لأنه يبتعد عنه في ما يثيره من قضايا أو ما يتجه إليه من أهداف. وتلك هي طريقة القرآن في توجيهه للمسلمين ولغيرهم لاستيعابهم للقرآن ، ليستطيعوا أن ينطلقوا من خلال ذلك في معرفة معانيه من جهة ، وفي التمييز بين كلام الخالق وكلام المخلوق من جهة أخرى. وفي ضوء ذلك يمكننا أن نلاحظ أنّ التحريف الذي ينسبه البعض إلى

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٨٠.

١٢١

القرآن لم يتقبله إلّا الذين أغلقوا عقولهم عن التفكير انطلاقا من قداسة لا قداسة لها ، أو من رواية لا أساس لها ، أو من غفلة مطبقة لا يقظة بها ... أمّا المفكرون الذين يحلّلون الفكرة والكلمة والأسلوب فإنهم يكتشفون الزيف بعقولهم من أقرب طريق ، لأن الفكر يقود إلى النور الذي يفضح كل ضباب الشك والوهم المتحرك في العيون والأفئدة والأعماق ...

... وتتحرك الآية في رصدها للظاهرة ، وفي تأكيدها على زيف مضمونها ؛ فتكرر الفكرة بأسلوب آخر : (وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) وتنفي ما قالوه بتأكيد : (وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ). ويتحوّل التأكيد إلى مهاجمة للشخصية الكاذبة التي تختبئ خلف قناع من الصدق : (وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ). ولا شيء أعظم خطرا من الكذب على الله ، لأنه يجعل الحياة السائرة في طريقة تحت رحمة المفاهيم المزيّفة المنحرفة المتحركة في مسيرة البسطاء باسم الله وأنبيائه ورسله.

* * *

التحريف في آفاق المعنى

وقد ذهب بعض المفسرين إلى تفسير الآية بوجه آخر ، فاعتبر التحريف الذي تشير إليه الآية ، تحريفا في المعنى والتفسير وإعطاء اللفظ معنى غير المعنى المراد. ولكن هذا غير ظاهر من اللفظ ، وإن كان الوجه صحيحا في نفسه ، فإن التحريف في التفسير وإبعاد الكلمة عن معناها وصرفها عن وجهها ، لا يقلّ خطورة عن التحريف في الكلمة ذاتها ، بالنظر إلى وحدة النتيجة في ما يريده الله سبحانه من وضع الكلمة في موضعها ، من حيث اللفظ والمعنى ، من أجل أن يصل الإنسان إلى وعي الحقيقة الدينية التي أوحى بها الله إلى رسله ، في صفاء ونقاء ، وليرتبط بها من منطق الصدق والواقع ، لا من موقع الكذب والباطل ...

١٢٢

وقد عانت الكتب السماوية من المحرّفين الذين يحرّفون الكلم عن مواضعه ، ممن يسيئون إلى الدين بالإساءة إلى صفاء معانيه الأصيلة ، فيحمّلون اللفظ غير ما يتحمل ، ويضيفون إلى الكلام ما لم يوح به الله.

ومن خلال ذلك ، انطلقت المذاهب الفكرية المتنوعة من التفسير المنحرف والتأويل بالباطل ، فحاولت كل فئة أن تجعل الكتب السماوية دليلها على ما تحاولها من فكر وسلوك ، وذلك بالأساليب الخادعة التي تستغل غموض الكلمة وقابليتها للحمل على أكثر من معنى ، فتبعدها عن معناها الأصيل ومصاديقها الصحيحة ... وقد عاش القرآن الكريم هذه المشكلة ، كما عاشتها الكتب السماوية الأخرى ، فقد تحوّل لدى البعض من النّاس ـ من المتقدمين والمتأخرين ـ إلى معرض للأفكار المختلفة ، فحاول كل فريق أن يحمله على ما يريد ، وذلك بالتحوير والتغيير والتأويل في المعنى ، إذا لم يستطع ممارسة ذلك باللفظ.

ولا تزال القضية ـ المشكلة تفرض نفسها على الساحة القرآنية الإسلامية في ما يعانيه المسلمون من حركة المبادئ المنحرفة عن خط الإسلام ، التي تحاول أن تدخل إلى حياة المسلمين وأفكارهم على أساس تضمين القرآن الكريم في آياته بعضا من أفكارها الضالّة ، للإيحاء لهم بأن الإسلام يتبنى مثل هذه الأفكار ويتعاطف معها ، فيكون ذلك لهم حجّة على صحة ما يذهبون إليه من خط سياسي أو اجتماعي أو اقتصادي في الحياة ، فينبغي للمسلمين أن يدققوا النظر في ذلك ويتأمّلوا فيه ، على أساس القواعد اللفظية اللغوية والفكرية في فهم القرآن في حقائقه ومجازاته. فإن المجازات تحتاج إلى المناسبة القريبة بين المعنى الذي وضع له اللفظ وبين المعنى الجديد الذي يراد استعمال اللفظ فيه مجازا ، ولا يجوز استعمال اللفظ فيها من دون مناسبة ، أو بمناسبة لا يتحملها الذوق السليم.

* * *

١٢٣

الآيتان

(ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٨٠)

* * *

معاني المفردات

(لِبَشَرٍ) : البشر : يقع على القليل والكثير ، فهو بمنزلة المصدر مثل الخلق. تقول : هذا بشر ، وهؤلاء بشر ، كما تقول : هذا خلق وهؤلاء خلق ، وإنما وقع المصدر على القليل والكثير لأنه جنس الفعل ، فصار كأسماء الأجناس ، مثل : الماء والتراب ونحوه.

(رَبَّانِيِّينَ) : الرباني : هو الرب يربّ أمر الناس بتدبيره وإصلاحه إياه يقال : ربّ فلان أمره ربابة وهو ربّان ، إذا دبّره وأصلحه ، ونظيره نعس ينعس وهو نعسان. وأكثر ما يجيء فعلان من فعل يفعل فيكون العالم ربّانيّا لأنه بالعلم

١٢٤

رب الأمر ويصلحه ، وقيل : إنه مضاف إلى علم الرب ، وهو علم الدين الذي يأمره به إلّا أنه غيّر في الإضافة ليدل على هذا المعنى ، كما قيل في الإضافة إلى البحرين بحراني ، وكما قيل للعظيم الرقبة : رقباني ، وللعظيم اللحية : لحياني ، فقيل لصاحب علم الدين الذي أمر به الرب : رباني (١) ؛ وقيل : هو الشديد التمسك بدين الله وطاعته.

(تَدْرُسُونَ) : تديمون القراءة والدرس والحفظ ، وأصله من : درس الدار إذا بقي أثرها. وبقاء الأثر ـ كما يقول الراغب ـ «يقتضي انمحاءه في نفسه ، فلذلك فسّر الدروس بالانمحاء ، وكذا درس الكتاب ، ودرست العلم : تناولت أثره بالحفظ» (٢).

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ : «قال الضحاك ومقاتل : نزلت في نصارى نجران حين عبدوا عيسى ، وقوله (لِبَشَرٍ) يعني : عيسى ، (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) يعني : الإنجيل. وقال ابن عباس في رواية الكلبي وعطاء : إن أبا رافع اليهودي والرئيس من نصارى نجران قالا : يا محمد ، أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال رسول الله : معاذ الله أن يعبد غير الله أو نأمر بعبادة غير الله ، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني. فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال الحسن : بلغني أن رجلا قال : يا رسول الله ، نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك؟ قال : لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم واعرفوا الحق لأهله. فأنزل الله تعالى هذه الآية» (٣).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٨١ ـ ٧٨٢.

(٢) مفردات الراغب ، ص : ١٦٩.

(٣) أسباب النزول ، ص : ٦٢.

١٢٥

ظاهرة التأليه

لقد حدث في التاريخ الديني القديم ، أنّ بعض الناس قد تطرّفوا في تعظيم الأنبياء الذين كانوا يملكون طاقات روحيّة كبيرة ، وينطلقون في حياة الناس من خلال الدور العظيم الذي أوكل الله إليهم القيام به ، مما استلزم صدور المعجزات على أيديهم لمواجهة التحدي الذي كان يوجّه إليهم من قبل الكافرين ، ولإثبات علاقتهم بالله من خلال النبوّة فنشأ من بعدهم جماعة يؤلهونهم وينسبون إليهم صفات الربوبيّة من خلال ما يدّعونه لهم من أسرار خفيّة في طاقاتهم ترتفع بهم إلى هذا المستوى ، كما حدث ذلك بالنسبة إلى عيسى عليه‌السلام في ظاهرة التأليه والغلوّ التي امتدت إلى وقتنا هذا في ما يعتقده النصارى من فكرة المسيح ـ الإله.

وقد حدثت ظاهرة أخرى للتأليه ، وهي ما كان متعارفا لدى بعض العرب أو غيرهم من تأليه الملائكة ، وذلك من خلال الأحاديث الدينية التي تتحدث عن طاقاتهم الخارقة وقدراتهم الكبيرة في أوضاعهم وأشكالهم وأسرارهم.

وربما يتعلل هؤلاء وأولئك بانتماء هذا الفكر إلى الأنبياء ، فهم يدعون الناس إلى أن يكونوا عبادا لهم ، بتقديم فروض العبادة لهم ، وبتقديسهم بالمستوى العظيم الذي يرتفع بهم إلى مستوى الربوبيّة. وقد يحدث ذلك من خلال ما يريد النبي لنفسه من قداسة وتأليه ، وقد يحدث ذلك من خلال ما يفرضه أحد الأنبياء من توجيه الناس إلى عبادة نبيّ آخر ، أو في تأليه الملائكة ، وذلك لما يثيره الأنبياء أمام الناس من قصص وتعليمات في عظمة الملائكة وقداستهم التي تصل بهم إلى مستوى التأليه والربوبيّة.

* * *

١٢٦

النبوّة والرّسالة

فكانت هاتان الآيتان من أجل أن يضع الله ـ سبحانه ـ الفكرة في موقعها السليم ، ليدفعنا إلى التفكير في بطلان هذا التعلّل ببطلان الأساس الذي يرتكز عليه. (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) فإذا كان الله قد أرسل بشرا بالكتاب الذي يفصّل للناس حقائق الأشياء في شؤون العقيدة والشريعة والحياة ، ليركّز لهم المفاهيم الحقّة على أساس من الوحي ... (وَالْحُكْمَ) وأتاه الحكم ليفصل بين الناس في ما اختلفوا فيه من خلال تطبيق الفكرة على حركة الواقع ، لئلا يضيع الناس في متاهات النظريات بعيدا عن التطبيق ، (وَالنُّبُوَّةَ) وأعطاه النبوّة التي هي سفارة النبي بين الله وبين خلقه من خلال الوحي الذي ينزل عليه ... (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) فلا يمكن أن يرسل الله مثل هذا الإنسان ويختاره من بين عباده ، إلا إذا كان متمتعا بالصفات العظيمة التي تبعده عن كل انحراف في التصور والسلوك ، وواعيا لدوره وموقعه وامتداد خطه الرسالي ، وعظمة الله في نفسه ، وضعة نفسه أمام الله ، وشعوره العميق بالعبودية المطلقة أمام الألوهية المطلقة ؛ لتكون رسالته منطلق خير وصلاح وإصلاح وتأكيد على الحقيقة في كل مجالاتها الفكرية والعملية ... وفي هذا الاتجاه لا يمكن أن يدعو الناس إلى عبادة نفسه من دون الله ، لأنه يعرف أن قدراته كلها ، مهما كانت عظمتها ، مستمدّة من الله ـ سبحانه ـ فإنه لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا إلا بالله ؛ ولا يمكن أن يدعوهم إلى اتخاذ الأنبياء الآخرين والملائكة أربابا من دون الله ، لأن ذلك هو الكفر الصريح الذي لا يمكن أن يصدر من النبي الذي تتلخص رسالته في تحويل الناس من الكفر إلى الإسلام ، لا في تحويلهم من الإسلام إلى الكفر.

إن النبي لا يمكن أن يدعو الناس إلى ذلك ، بل لا بد من أن يدعوهم إلى أن يكونوا ربّانيين متألّهين ، يعلمون كتاب الله ويعملون به ويعلّمونه للناس الآخرين ليكون العلم للعقيدة وللعمل وللهداية.

١٢٧

إن القرآن يناقش الفكرة بهذا الأسلوب الذي يصور القضية في مقام إثارتها بطريقة أن ذلك ليس من حق النبي ، وليس من شأنه ، من أجل الإيحاء بأنه لا يفعل ذلك ، لأنه لا يتجاوز حدّه الذي حدده الله ـ سبحانه ـ له ؛ وليس في مقام التنديد بمن يفعل ذلك من الأنبياء ، فإن الآية واردة في مقام الكناية.

* * *

الأنبياء يبرزون بشريتهم

وقد نستوحي من هاتين الآيتين أن الأنبياء لا يتحدثون عن أنفسهم كثيرا للناس ليثيروا في حياتهم الشعور بالتعظيم والتقديس لهم ، بل هم ـ على العكس من ذلك ـ يعملون على تأكيد جانب البشرية في ذواتهم بشكل صريح مؤكّد ، ويبرزون نقاط الضعف البشري بطريقة واضحة ... كما نجد ذلك في ما حكاه الله عن رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حوارة مع المشركين ، الذين طلبوا منه فعل بعض خوارق العادة التي يقترحونها للدلالة على نبوّته انطلاقا من عقيدتهم فيه بأنه مزوّد بطاقات هائلة يستطيع أن يقوم من خلالها بكل شيء يطلب منه. فقد أجابهم بقوله : (قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٣] ؛ وقوله : (وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ) [الأعراف : ١٨٨] (إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي) [الأعراف : ٢٠٣] ؛ وهكذا نلاحظ أن القرآن لم يتحدث عن الأنبياء إلا من خلال صفاتهم الذاتية المتصلة برسالتهم ، كما حدثنا عن حركة الرسالة في حياتهم وما لاقوه من عنت واضطهاد وتشريد ... وعن بعض نقاط الضعف البشري التي عاشوها في واقعهم الداخلي والخارجي ، من أجل إبعاد الناس عن الضلال والغلوّ ، ليظلّ التصور في العقيدة مشدودا إلى الواقع ، بعيدا عن كل ضروب الخيال والمثال الذي قد يطوف في أخيلة الكثيرين وأفكارهم.

١٢٨

(ما كانَ لِبَشَرٍ) أي : ما ينبغي له ، فليس ذلك من شأنه في ما جعله الله للبشر ـ أيا كان ـ من الشأن والموقع والدرجة (أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ) الذي أنزله عليه وكلفه بإبلاغه للناس ، (وَالْحُكْمَ) الذي يرد منه التحرك في الساحة العامة للناس بإدارة أمورهم ، وحل مشاكلهم وفصل القضايا في منازعاتهم ، ليكون الحاكم في ذلك كله باعتبار أن الله جعل الرسول حاكما بين الناس كما في قوله تعالى : (إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللهُ) [النساء : ١٠٥]. وقوله تعالى : (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ) [المائدة : ٤٩] (وَالنُّبُوَّةَ) وهي الرسالة التي أراد الله منه أن يحملها للناس ليبلغهم كلمات الله وتعاليمه وآياته (ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ) لأن الله يختار هؤلاء البشر من الصفوة الطيبة الخالصة من بين الناس ، بحيث يعيشون التوحيد في كل وجودهم حتى يتحوّل إلى عنوان للذات في الفكر والعاطفة والحركة والحياة كلها ، فلا مكان لغير التوحيد في ذواتهم ، وينطلقون من قاعدة الصدق في التزاماتهم بالحق ، في إحساسهم به في أنفسهم ومع الله ومع الناس ، فهم الصادقون مع أنفسهم وربهم والناس من حولهم ، فلا يتحدثون عن الله إلا بما بلغهم إياه ، ولا يبلغونهم إلا ما أوحى به إليهم من دون زيادة ولا نقصان ولا تحريف ، فلا يمكن ـ والحال هذه ـ أن يستغرقوا في عبادتهم لأنفسهم بحيث ينحرفون في التصور ليبتعدوا عن الإحساس بعبوديتهم لله وربوبيّته لهم ، فيطلبوا من الناس أن يعبدوهم من دون الله ، كما هو الحال عند بعض الناس الذين ينطلقون في البداية من موقع الإصلاح ورسالة تغيير الواقع على أساس الحق ، ثم يكبر موقعهم ، وترتفع درجتهم في الحياة الاجتماعية والسياسية أو غير ذلك ، وتتضخم شخصيتهم عند الناس وعند أنفسهم ؛ فيتصورون أنفسهم أربابا من دون الله ، فيدعون الناس إلى عبادة ذواتهم بدلا عن الله.

١٢٩

إن الأنبياء لا يفعلون ذلك ، بل لا يفكرون في ذلك ، لأنهم المعصومون عن الخطأ والانحراف من خلال المستوى الأرفع للإيمان والطهارة والعصمة ، مما يجعلهم بشرا يرتفعون بملكاتهم الروحية العملية عن البشر. وهذا ما حدثنا الله به في حوارة مع عيسى عليه‌السلام ـ يوم القيامة ـ حول العقيدة التي حملها بعض النصارى في اعتبار عيسى عليه‌السلام ربّا ، وفي التعبد لأمه مريم عليها‌السلام ، كما لو كانت في موقع الألوهية ، وذلك هو قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ* ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [المائدة : ١١٦ ـ ١١٧].

فنحن نلاحظ في هاتين الآيتين ، أن عيسى عليه‌السلام يؤكد أن دعوة الناس إلى عبادة ذاته ليس من حقه ، لأنه عبد الله الذي هو ربه وربهم ، وهو لم يفعل ذلك بل كان منطقه منطق الرسول الذي يدعو الناس إلى عبادة الله بمقتضى أمره له بذلك. وهذا هو التعبير الحي عما توحي به هذه الآية ، فلا يمكن لأي نبي أن يتحدث بذلك فيدعو إلى نفسه ، بل إن حديثه أن يقول لهم (وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) المنتسبين إلى الرب في انفتاحهم على الإيمان به ، وعلى العلم المستمد من رسالاته ، وعلى الالتزام به بعبادته وتعاليمه من خلال الوعي للحق في كل بنيانهم الفكري والروحي ، وربما أريد من الكلمة أن يكونوا العلماء أو الحكماء أو الفقهاء الذين يربون الناس ويدبرونهم بما فيه صلاح أمرهم من خلال دعوتهم إلى الأخذ برسالة الله في ثقافتهم وفي عملهم وسلوكهم الخاص والعام (بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ) الذي أنزله الله على رسوله وتبيّنونه للناس وتقدمون لهم حقائقه (وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ) أسراره ومفاهيمه من خلال ما يبينه أمر عيسى أنه عبد الله ورسوله وروح منه وكلمته ألقاها إلى مريم ، وأرسله إلى الناس ليبين لهم ما اختلفوا فيه من الكتاب الذي

١٣٠

أنزله الله على موسى عليه‌السلام ، فتفرق الناس من بني إسرائيل في تفاصيله ؛ وليحل لهم بعض الذي حرّم عليهم ، وليتحرك بهم في خط التغيير الرساليّ للحياة لتكون على الصورة التي يرضاها الله وليكونوا أنصاره إلى الله في الرحلة الطويلة التي تمثل مرحلة من مراحل مسيرة الأنبياء في مدى الحياة. (وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً) معطوف على قوله : (ثُمَّ يَقُولَ) على قراءة النصب ، فلا يمكن للنبي الذي أرسله الله أن يأمر باتخاذ الملائكة أربابا كما نسب إلى بعض الناس ، أو يدعو إلى اتخاذ النبيين أربابا كما هو الحديث عن أن عزيز ابن الله أو أن المسيح هو الله أو ابن الله (أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ) المتمثل بالدعوة إلى عبادة غير الله (بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) مما تقودكم إليه الفطرة التي تفتح عقولكم وقلوبكم على توحيد الله ، فيقف بينكم وبين فطرتكم حاجزا يبعدكم عن الإسلام التوحيدي الذين هو دين الله في جميع رسالاته ؛ فإن الله لا يبعث من ينحرف بالناس عن فطرتهم التي فطر الناس عليها ، بل يبعث من يقوّيها ويدعمها ويحرّك فيها كل المفردات التي تجعل الإنسان مستقيما على درب التوحيد في فكره وعمله.

* * *

الفكرة في خط التربية الإسلامية

وقد نحتاج إلى استيحاء هذا الأسلوب التربوي في دراستنا وأبحاثنا التي ندرس فيها حياة الأنبياء والأئمة والأولياء ، فنستغرق في الجوانب العملية من حركة الإسلام في حياتهم الشخصية والعامة ، لنبقى في خط الارتباط بالشخص من خلال الفكرة والرسالة والعمل ، فيزيدنا ذلك ارتباطا بالخط الصحيح ، وابتعادا عن مواطن الخطأ والضلال في الطريق ، ولا نستغرق في الأسرار الخفيّة الغامضة التي يثيرها البعض في حديثه عن هذه الشخصية أو تلك ممن نعظّم من شخصيات الأنبياء والأولياء ، لأن الاستغراق في الجوانب الضبابية الغامضة التي

١٣١

لا نستطيع فهمها ولا تعقّلها ، قد يؤدي بنا إلى الانحراف في التصوّر أو الوصول إلى درجة الغلوّ ...

إن القضية ليست في واقعية هذه الصفات الممنوحة لهذه الشخصية أو تلك أو عدم واقعيتها ، ليتّجه الحديث إلى إثبات صحة ذلك بالرّوايات الصحيحة أو غير الصحيحة في عمليّة نقاش علمي طويل ، بل القضية هي أن ذلك الأمر ليس من ضرورات العقيدة ولا من فروض العمل ، فلما ذا نكلف أنفسنا الجهد والتعب في الدخول في أبحاث ليس لها قيمة عقيدية أو عملية ، بل قد تؤدي ـ في بعض الحالات ـ إلى ما يشبه عبادة الشخصية إذا لم تؤد إلى الغلو المفرط؟ عصمنا الله من الزلل ، ووقانا شر الانحراف عن الخط الإسلامي في العقيدة والعمل.

* * *

١٣٢

الآيات

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) (٨٣)

* * *

معاني المفردات

(إِصْرِي) : ميثاقي وعهدي ، والأصر ـ كما يقول الراغب ـ عقد الشيء وحبسه بقهره (١). والإصر : العهد المؤكد الذي يثبط ناقضه عن الثواب والخيرات.

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١٤.

١٣٣

النبوّات حلقات متصلة في سلسلة الوحي

ليست النبوّات ـ في ما أنزله الله سبحانه ـ حركات بشرية منفصلة عن بعضها البعض في الفكر والسلوك والهدف ، لتكون مضادة لبعضها البعض في ما اختلفت فيه ، وليس الأنبياء بشرا يتحركون من خلال تجاربهم الخاصة وأفكارهم المحدودة ونظراتهم المتنوعة في ما حولهم من قضايا الحياة لتكون القضية عندهم تنافسا على تأكيد الذات وتنافرا في قضايا الدعوة في ما يختلف فيه فكرها وأسلوبها ... بل القضية هي أن النبوات حلقات متصلة في سلسلة الوحي الذي يريد للحياة أن تتكامل فكرا وعملا وهدفا ، من خلال هذه الحلقات التي تمثل مجموعة المراحل التي يكمل بعضها بعضا ؛ فلكل مرحلة بعض من فكر ، ونوع من أسلوب ، ووجه من عمل ... وقد تختلف هذه في خصائصها التي تتنوّع في حساب الزمن ، ولكنها تلتقي في النتيجة والهدف في نهاية المطاف تبعا لطبيعة التكامل. أما الأنبياء فهم القائمون على هذه المراحل ، الذين يتلقّون وحي الله في وعي وانفتاح ، ويعملون على أن تكون مرحلتهم استكمالا للمرحلة السابقة في ما نقص منها في حساب الزمن الجديد الذي يفرض معطيات وحلولا جديدة لمشاكل طارئة ، فلا يتعقدون من الرسالة السابقة لحساب موقع رسالتهم ، ولا يعيشون الشعور السلبي تجاه الرسل الذين سبقوهم ، لأن القضية لا تمثل مواقع ذاتية لديهم يحاول فيها اللاحق أن يلغي دور السابق ، وتعمل الحركة الجديدة على أن تنسف الحركة القديمة ، بل هي قضية الرسالة الممتدة في الزمن في خطوط متصلة في مواكب الأنبياء التي ترسم للحياة حركتها التي تتكامل وتتعانق وتتصاعد لتحقق هدفها الكبير في لقاء الإنسان بالله.

وهكذا رأينا السّيّد المسيح عليه‌السلام يقول : جئت لأكمل الناموس ، كما ثبت عن الرسول العظيم محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : «إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (١) ، مما يوحي بالحقيقة الرسالية التي تجعل من كل رسول عنصرا

__________________

(١) البحار ، م : ٦ ، ج : ١٦ ، باب : ٩ ، ص : ٤٠٨.

١٣٤

متمّما للرسول الآخر. وقد جاءت هذه الآيات لتعبّر عن هذه الحقيقة بأسلوب مميّز بارز ، وذلك بالتأكيد على أن الله أخذ العهد والميثاق على النبيّين ، أن يؤمن بعضهم ببعض ، وأن ينصر بعضهم بعضا من خلال التصديق بالرسالة الذي يعلنه اللاحق للسابق ، سواء كان ذلك في نطاق وحدة الزمن ، أو في نطاق تعدّده ، حيث تتمثل النصرة بالأمر بتصديقه من خلال اتباعه في ما يبشرهم ويدعوهم إلى الإيمان به.

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) الذين أراد لهم أن يتحركوا في الحياة من خلال الرسالة التي حمّلهم مسئولية إبلاغها للناس ، على أساس الخط الواحد الذي يمثل المسيرة الواحدة التي يرتبط فيها آخر الزمن بأوله ، في عملية تكامل في الفكر والعمل والحركة الواعية ، ليتوزع الأنبياء الأدوار تبعا للرسالة التي تحدد للإنسان حاجاته في مدى المتغيرات الحادثة في امتداد الزمن ، (لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ) في خط النظرية من خلال الكتاب ، وفي خط التطبيق من خلال الحكمة ، (ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ) برسالة جديدة وكتاب جديد وحكمة جديدة ، (مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ) لأن الكتب الموحى بها من قبلي ، والرسالات المنزلة على الناس مني ، لا تتناقض ولا تختلف ولا يلغي بعضها بعضا ، بل تتكامل وتنفتح في مفاهيمها المتنوعة في العقيدة والإنسان والكون والحياة ، (لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ) لأنه يمثل الحقيقة الرسولية في مسيرة الرسالات ، مما يؤكد أن الإيمان يفرض وحدة الرسل في شرعية الرسالة ، (وَلَتَنْصُرُنَّهُ) بالدعوة إلى الإيمان به من قبل اتباعهم في الخطوط العامة لرسالاتكم ، بحيث يرون أن الإيمان به ونصرته جزء من الإيمان العام الذي ينتمون إليه.

وقد أكّد القرآن هذا الميثاق في الحوار الذي دار بين الله وبين الأنبياء : (قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي) والإصر : الميثاق ، (قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا) على أممكم التي بلغتموها ذلك ، (وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ) عليهم وعليكم. هذا يعني أن الأنبياء استجابوا لله في إقرارهم الإعلاني ليبلّغوا ذلك

١٣٥

لأممهم حتى يؤكدوا ذلك في التزامهم الديني برسلهم ، لأن ميثاق الأنبياء يتحول إلى ميثاق يلتزمه المؤمنون بهم.

(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) وأعرض ، وكان متمردا على الميثاق ، فهو وكل من سار في هذا الاتجاه (فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ) الذين تجاوزوا الحدّ في ما أراد الله لهم أن يقفوا عنده.

ثم يطرح التساؤل في معرض الإنكار : (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) في ما ينحرفون به من عقائد وأفكار ، وفي ما يعبدونه من أصنام وأشخاص عند ما يكذّبون الأنبياء تعصبا وعنادا بالباطل ، ويبتعدون عن خط الإسلام لله ؛ فيكف ينكرون رسالتك التي بشر بها النبيون الذين يؤمنون بهم من قبلك في الوقت الذي عرفوا أن الدين عند الله الإسلام الذي فرض على الإنسان إسلام العقل والقلب واللسان والحركة ، وذلك بالانفتاح على كل الرسالات ، ومن بينها هذه الرسالة التي جئت بها تأكيدا للخط الإسلامي الممتد في دروب الرسالات والتي تصدّق الرسل كلهم في رسالاتهم كلها؟!!

(وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً) من خلال قناعتهم وإيمانهم الذي قادهم للانقياد لله والخضوع لربوبيته ووحدانيّته ، (وَكَرْهاً) من خلال إخضاعهم لذلك من ناحية عملية بالسيطرة فيمن يعقل ، أو بالتدبير الذاتي الذي ركب في ذواتهم في ما لا يعقل إذا كانت الآية شاملة لهما ، وعبّر فيها بمن يعقل على سبيل التغليب ، (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) فيعرفهم ما عملوا وما قدموا ، فيجزي كل واحد بما عمل ، والله غالب على أمره في كل شيء.

* * *

١٣٦

الآيتان

(قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) (٨٥)

* * *

لا تفريق بين الرّسل

في الآية الأولى ، تأكيد على مبدأ وحدة الرسالات ووحدة الرسل في قضية الإيمان في صلب العقيدة الإسلامية ، لأن ذلك هو معنى الإسلام لله ، من خلال ما تعنيه كلمة الإسلام ، وذلك لأن إنكار أيّ نبي أو أيّ كتاب من كتب الأنبياء يعني إنكار حقيقة ثابتة من عند الله ، مما يؤدي إلى أن يكون التمرّد هو طابع الإنسان المنكر أمام الله ، فلا مجال للتفريق بينهم في الإيمان على أساس العصبيّة التي لا تستند إلى أساس من حقيقة بل ترجع إلى نوازع ذاتية مرضيّة معقّدة ، وذلك ليس شأن المسلم.

١٣٧

وذلك قوله تعالى : (قُلْ) يا محمد لكل هؤلاء الذين يثيرون الخلافات في الأنبياء ليفرقوا في الإيمان بين نبيّ ونبيّ ، فيلتزمون بنبوة شخص وينكرون نبوّة آخر ، في الوقت الذي يفرض الإيمان بالسابق الإيمان باللاحق من خلال بشارته به ، وتصديق الآخر له ، قل لهؤلاء : إن الإيمان الذي تدعو إليه هو الإيمان الشامل الذي يرتكز على الحجة الشاملة للجميع ، (آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا) من الكتاب (وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ) الذين يلتزمون الوحي الإلهي النازل على إبراهيم في الصحف المنزلة عليه (وَما أُوتِيَ مُوسى) في التوراة ، (وَعِيسى) في الإنجيل ، (وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ) كما في زبور داود ، (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ) فهم ـ جميعا ـ رسل الله في معنى إيماننا (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) بكل عقولنا وقلوبنا وإرادتنا وحركتنا ، ولذلك فإننا نؤمن بالكتاب كله فلا عقدة عندنا من أيّ نبيّ من أنبياء الله ، ولا مشكلة عندنا في أي كتاب من كتبه المنزلة. والعنوان الكبير الذي يجمع إيمان الرسالات في وجدان إنساني واحد ، هو الانفتاح على الله بكل الذات الإنسانية فلا تنغلق عنه في معنى العقيدة والشرعية والمنهج والحركة والحياة ، بل تلتزمه في ذلك كله ، فهذا هو الدين الواحد المتنوع الأبعاد.

* * *

الإسلام لله دين إنسانيّ

أما الآية الثانية ، فإنها تدعو إلى أن يكون الإسلام لله هو الدين الذي يرتضيه الإنسان لنفسه ، ليتحقق له من خلال ذلك الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، والخضوع لرسالات الله التي أرسل بها رسله. فمن لم يتخذ لنفسه ذلك الخط ... (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) ، لأن الله لا يقبل من الإنسان أن يختار لنفسه ما يشتهي ويريد في ما يقبل وما يرفض ، فلا قيمة لقبوله حقيقة على حساب رفض حقيقة أخرى ، كما هو شأن الذين آمنوا

١٣٨

بموسى عليه‌السلام ورفضوا الإيمان بعيسى ومحمد عليهما‌السلام ، وكما هو شأن النصارى الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما‌السلام ورفضوا الإيمان بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ... (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين لم يأخذوا بأسباب الربح في قضية المصير ، فوقعوا في قبضة الخسارة الدائمة في العذاب الأليم.

* * *

الأسلوب الواقعي في وحدة الديانات

وقد يكون من الضروري لنا أن لا نستغرق في المجالات في طرح الحقائق الدينية في حركة العقيدة ، كما يفعل البعض عند ما يطرحون وحدة الديانات لتبرير الانحراف البارز في بعض الرسالات ، ولتمييع المواقف الفكرية التي تريد أن تضع القضايا في مواقعها الحقيقية ؛ بل الأولى بنا أن نطرح الموضوع من خلال الأسلوب القرآني الذي يجمع للإنسان الإيمان كله في مستوى الرسالات المترابطة التي لا تنفصل حقائقها ولا تختلف إلا بحسب اختلاف طبيعة المرحلة ، وفي مستوى الرسل الذين يصدق بعضهم ببعض ، ويدعو كل واحد منهم أمته للإيمان بالبعض الآخر وعدم التفريق بينه وبينهم ... فذلك هو ما نؤمن به وندعو له ، وندفع الحوار نحو الوصول للقناعة المشتركة على أساس ذلك. وفي هذا المجال نتطلع إلى معنى الإسلام بمعناه العام والخاص ، فنجد أنهما لا ينفصلان عن بعضهما البعض في حركة رسالة النبي محمد ، لأن الإسلام بمعناه العام يريد للناس أن يخضعوا للحقائق الثابتة التي تقف في طليعتها رسالة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا يمكن أن يكون الإنسان مسلما ثم ينكر هذه الحقيقة الثابتة من قريب أو بعيد.

* * *

١٣٩

الآيات

(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (٨٩)

* * *

معاني المفردات

(خالِدِينَ) : الخلود في اللغة طول المكث ، ولذلك يقال : خلد فلان في السجن. وقيل للأثافي : خوالد ما دامت في مواضعها ، وإذا زالت لا تسمى خوالد ، والفرق بين الخلود والدوام أن الخلود يقتضي طول المكث في نحو قولك : خلد فلان في الحبس ولا يقتضي ذلك الدوام ، ولذلك وصف سبحانه بالدوام دون الخلود ، إلا أن خلود الكفار مراد به التأبيد بلا خلاف بين الأمة.

١٤٠