تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

إلى الكعبة ، ولذلك فإننا ننقل كلامهم من خلال تقديم صورة تفسيرية إيحائية اجتهادية لا من خلال توثيق الرأي للاعتماد على حجة شرعية من رواية معتبرة أو نحوها. وعلى كل حال فإن الأقرب إلى جوّ الآية الوجه الأول لا الأخير ، لأن الظاهر أن القضية واردة في مسألة الإيمان بالإسلام والكفر به ، لا في مورد خاص كالقبلة ونحوها.

* * *

أسلوب جديد للتضليل وزعزعة عقيدة المسلمين

وهذا أسلوب جديد من أساليب التضليل والتشكيك التي كان بعض أهل الكتاب يمارسونها ضدّ الإسلام والمسلمين ، فقد طلبوا من بعض جماعتهم أن يدخلوا في الإسلام في أوّل النهار ، ليحرزوا الثقة لدى المسلمين بذلك ، لأنه يدلّ على عدم التعصب لليهودية ، بل يوحي بالحياد الفكري الذي يجعل الإنسان مستعدا للانتماء إلى غير دينه وفكره من موقع الحجّة والقناعة. (وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا) وهم المسلمون (وَجْهَ النَّهارِ) أي : أوله ، (وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عن دينهم من خلال حالة الاهتزاز التي تثيرها هذه الحركة في وجدانهم الديني ، وذلك قوله تعالى : (وَلا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ) أي : لا تطمئنوا إلّا لليهود في الحديث عن قضاياكم الخاصة وأسراركم الخفية ، لأن الوثوق بالآخرين قد يفضح الكثير من الأوضاع الداخلية الذاتية أو الخطط الخفية التي يدبرها اليهود للمسلمين مما يؤدي إلى انكشاف السرّ ، وإحباط الخطط ، وسقوط الموقف.

فإذا حصلوا على هذه الثقة وأحرزوها ، وضمنوا لأنفسهم امتدادا روحيّا وجوّا حميما في علاقتهم بالمسلمين ، قاموا بتغيير الموقف في آخر النهار ، فرجعوا إلى ما كانوا عليه من رفض للإسلام ، للإيحاء للمسلمين بأنّهم اطّلعوا على عقيدة الإسلام من خلال دخولهم فيه ، فظهر لهم ـ بحسب دعواهم ـ ما فيه

١٠١

من نقائص ومفاسد وقضايا باطلة ، لم يكونوا مدركين لها من قبل ، ولهذا كفروا به بعد أن آمنوا به ، لأنهم طلاب حق وصدق ، ولو لا ذلك لما انحازوا إلى خط المؤمنين في البداية ، ليدفع ذلك المؤمنين إلى التراجع عن الإسلام ، أو يدعوهم إلى الشكّ فيه على أبعد التقادير. ولما كانت هذه الخطة التي وضعوها ، بحاجة إلى السرّية التي تحمي لها نجاحها ، كان لا بدّ من أن يضرب حولها نطاق من السريّة ، ولهذا انطلقت التوجيهات اليهوديّة لجماعتهم الذين يراد منهم تنفيذ الخطة ، أن لا يؤمنوا ، أي : لا يطمئنوا ـ بقرينة التعدي باللام ـ إلّا لليهود التابعين ، لأنهم الذين يحافظون على السرّ بإدراكهم خطورته عليهم وعلى طبيعة الخطة الموضوعة.

وهذا ما نستظهره من الآية ، بأن تكون الجملة تابعة لما قبلها لأنها من مستلزمات نجاح الخطة ؛ وربما كانت جملة مستقلة تدعو اليهود إلى الحذر من غيرهم في ما لديهم من أسرار في هذا الموضوع وغيره ... وهذه من خصال اليهود في سائر العصور من خلال ما يمثلونه من المجتمع المنغلق على قضاياه الذي وضع بينه وبين الآخرين حاجزا نفسيا ومادّيا من موقع الشعور بالرفعة على من عداه ومن موقع الإخلاص لسلامة القضايا التي يعملون من أجلها ...

* * *

إشراقات إلهية

ذلك هو حديثهم في ما أرادوه من الكيد للإسلام ، ولكنّ الله يريد لرسوله أن يردّ عليهم بالكلمة الحاسمة التي تضع القضية في نصابها الصحيح. فليس الهدى حالة طارئة يحصل عليها الإنسان بأيّ ثمن ، بل هو الينابيع الروحية التي تتفجّر في قلب الإنسان ، فتملأ حياته خصبا وحيوية وإيمانا ، والإشراقات الإلهية التي تفتح قلبه على الحق وتضيء له طريق الهدى ، والفكر النيّر المنفتح الذي

١٠٢

يحلّق نحو الحقيقة لينطلق معها في رحاب الله. (قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ) فمن الذي يستطيع أن يقف أمامه ، أو يطفئ نوره؟!

ويقول الرسول كلمته ، أو هكذا يريد الله منه أن يقول إذا قام هؤلاء بما يريدون القيام به. ثم يتابع الحديث في ما يتناجون به ، فقد كانوا يقولون لأتباعهم : لا تطمئنوا إلّا لمن تبع دينكم ، ولا تحدثوهم بما لا ينبغي الحديث عنه مما تعرفونه من قضايا الحق والباطل ، فإذا حدثتموهم به ، فقد يكون ذلك عليكم حجّة عند ربّكم يحاجّوكم به ، لأنكم أقررتم به. وقد أشار القرآن إلى أن من جملة ذلك هو الإقرار بأن يؤتى أحد من غير بني إسرائيل مثل ما أوتيتم من النبوّة والرسالة (أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) ، فقد أريد لهم أن ينكروا ذلك ، وهم يعرفونه ، ولذا كانوا يزعمون بأن النبوّة مختصة ببني إسرائيل ، فينكرون رسالة الرسول من خلال ذلك (١). ولكن الله يريد من رسوله أن يردّ عليهم كيدهم وضلالهم ، فيعرّفهم أن القضية ليست بيدهم ، فالله هو الذي أعطى الرسالة لأنبياء بني إسرائيل ، وهو الذي أعطاها لمحمد رسوله ... (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ) ، ويعطيه لمن يريد (وَاللهُ واسِعٌ) في عطائه الذي لا يضيق فضله عن أحد ، (عَلِيمٌ) يعرف ما يصلح الإنسان وما

__________________

(١) قال في الكشاف : وَلا تُؤْمِنُوا متعلق بقوله : أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ وما بينهما اعتراض ، أي : ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلا لأهل دينكم دون غيرهم. أرادوا : أسرّوا تصديقكم بأن المسلمين قد أوتوا من كتب الله مثل ما أوتيتم ، ولا تفشوه إلّا إلى أشياعكم وحدهم دون المسلمين لئلا يزيدهم ثباتا ، ودون المشركين لئلا يدعوهم إلى الإسلام (أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ) عطف على (أَنْ يُؤْتى) والضمير في يحاجوكم لأحد ، لأنه في معنى الجميع بمعنى : ولا تؤمنوا لغير أتباعكم ، إن المسلمين يحاجونكم يوم القيامة بالحق ويغالبونكم عند الله تعالى بالحجة. فإن قلت : فما معنى الاعتراض؟ قلت : معناه أن الهدى هدى الله ، من شاء أن يلطف به حتى يسلم أو يزيد ثباته على الإسلام ، كان ذلك ، ولم ينفع كيدكم وحيلكم وزيفكم وتصدّيكم عن المسلمين والمشركين. وكذلك قوله تعالى : (قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ). [تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٤٣٧].

١٠٣

يفسده ، فيوجهه إلى ما فيه الخير له في الدنيا والآخرة ، انطلاقا من رحمته التي وسعت كل شيء ، فهو الذي (يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ) بحسب حكمته (وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) ، وهو صاحب الفضل العظيم على الناس كافة ، وليس لأحد غيره أيّ فضل. فمنه الفضل وإليه يرجع كل شيء سبحانه وتعالى عمّا يشركون.

* * *

الآية في حركة الدعوة إلى الله

أمّا ما نستوحيه من هذه الآيات فهو التحرك الواعي من أجل رصد النماذج المماثلة في الساحة الدينيّة والاجتماعية والسياسية ، فقد يحاول الكثيرون أن يخلقوا الارتباك والتشويش والبلبلة في صفوف المسلمين بالأساليب المماثلة لهذا الأسلوب ؛ فلا بدّ لنا من الوقوف أمام ذلك كله بالمنطق القرآني الذي يبعث الثقة في نفوس المؤمنين ويوجههم إلى الاعتماد على الله في ذلك كله ، ويوحي إليهم بأن هذه الأساليب لا تضرّ أحدا إذا كان على بيّنة من أمره ، ويدفعنا إلى التأكيد على أسلوب التوعية للمسلمين في عقائدهم ومفاهيمهم لئلا يضلوا من حيث لا يعلمون.

وقد نستطيع أن نستفيد من هذا كله أنّ أعداء الله قد يكتمون كثيرا من حقائق الإيمان الموجودة في الساحة من أجل أن لا تكون حجّة عليهم في الدنيا والآخرة ، أو لا يبرز لخطوط الإسلام فضل من فكر أو عمل ؛ ليظهروا أمام النّاس أنهم أصحاب الفضل ، فلا فضل لغيرهم في أيّ جانب من جوانب الحياة. وفي هذه الحالة لا بدّ لنا من أن نحتفظ لأنفسنا بجوّ الثقة الذي نستطيع من خلاله أن لا ننهزم نفسيا أمام هذا الإنكار للخصائص الذاتية الكامنة فينا ، عند ما نلتفت إلى الله ، فنعرف أنه صاحب الفضل علينا وعلى الآخرين ، فهم لا يستطيعون أن يقدّموا أو يؤخروا شيئا في الموضوع ، ولا يمكنهم إخفاء ما يريد الله إظهاره ، أو إظهار ما يريد الله كتمانه ؛ فإنه ولي الأمر في كل شيء.

* * *

١٠٤

الآيتان

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (٧٦)

* * *

معاني المفردات

(بِقِنْطارٍ) : مال كثير وعظيم. وقد مر سابقا.

(بِدِينارٍ) : كناية عن المال القليل ، والدينار : مثقال شرعي من الذهب يساوي نحو نصف ليرة عثمانية.

(قائِماً) : في المطالبة والحجة والمقاضاة ، مستمرا وملحا في مطالبته.

(الْأُمِّيِّينَ) : غير الإسرائيلي ، أو غير أهل الكتاب باعتبارهم يعيشون الهمجية والأمية والتخلف كما تنظر الدول الكبرى اليوم للآخرين.

(سَبِيلٌ) : حجة ، فلا سبيل لغير أهل الكتاب على أهل الكتاب ، فلهم أن يحكموا في غيرهم ما شاءوا من قتل ونهب وسلب.

* * *

١٠٥

مناسبة النزول

قال صاحب مجمع البيان : عن ابن عباس قال : يعني بقوله : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) عبد الله بن سلام أودعه رجل ألفا ومائتي أوقية من ذهب فأدّاه إليه ، فمدحه الله سبحانه. ويعني بقوله : (مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) فنحاص بن عازوراء ، وذلك أن رجلا من قريش استودعه دينارا فخانه ، وفي بعض التفاسير أن الذي يؤدي الأمانة النصارى ، والذين لا يؤدونها اليهود (١).

* * *

مفهوم خاطئ عند أهل الكتاب

في هذه الآيات تقرير عن مفهوم خاطئ يحمله أهل الكتاب عن طبيعة النظرة إلى أموال الآخرين من غيرهم من الشعوب في ما يضعونه عندهم من أمانات ، أو ما يقع تحت أيديهم من أموالهم ، وخلاصتها أن الله قد رخص لهم في استحلال هذه الأموال لأنفسهم ، فيجوز لهم الامتناع عن إرجاع الودائع إلى أصحابها ، كما يجوز لهم أخذها غيلة وسرقة وبغير ذلك من الأساليب ... وذلك انطلاقا من المفهوم العامّ الذي يعيشونه في داخل أنفسهم من احتقار الأميين ، وهم العرب على تفسير ، أو غير اليهود على تفسير آخر ، مما يعني عدم احترام دمائهم وأعراضهم وأموالهم ... وفي ضوء ذلك ، لا يمكن أن تأتمن أحدا منهم على شيء من مالك ، لأن الائتمان يتحرك من خلال المفهوم النفسي والروحي والأخلاقي الذي يعتبر الأمانة في داخل الذات في مركز القاعدة الروحية والأخلاقية التي تتفرع عنها الممارسات ، فإن الأخلاق ليست عملا طارئا يمارسه الإنسان في مظاهر معينة من أفعاله ، بل هو ملكة نفسية دافعة للعمل ، فإذا كانت القاعدة لديهم عدم احترام أموال الآخرين فكيف يمكن أن يتحقق الائتمان بشكل طبيعي؟!

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٧٧.

١٠٦

ولكن ليس معنى ذلك أن أهل الكتاب بأجمعهم هم ممّن يخونون الأمانات ولا يؤدّونها ، بل ربما تجد بعض النماذج الأمينة من موقع تربية ذاتية معيّنة ، تغرس في داخله روح الأمانة بعيدا عن مفهوم الرخصة الدينيّة المتوهّمة. فإذا ائتمنته على قنطار ـ وهو المال الكثير ـ أداه إليك ، كما تجد النموذج الذي لا تستطيع أن تأتمنه على أيّ مال مهما كان قليلا كالدينار ، لأنه سوف ينكره ولا يؤدّيه إلّا إذا كنت قائما عليه ، بكل ما تملكه من أساليب الضغط والمقاومة والمحافظة على المال. فإن مثل هذا النموذج لا يشعر بعقدة الذنب في ممارسته هذه ، لاعتقاده بأنّ ذلك حقّ له وحلال عليه ، ولكنّ الله سبحانه ينكر عليهم هذا الزعم وهذه الرخصة ، لأنّه سبحانه يعتبر الأمانة عهدا بين الأمين وصاحب الأمانة ، وبذلك يكون استحلالها خيانة لها والله لا يحبّ الخائنين ، فكيف إذا جمعوا في أنفسهم الخيانة والكذب على الله في ما ينسبونه إليه من قول باطل يعلمون بطلانه. إن الله لا يحبّ هؤلاء ، بل إنه يحبّ المتقين الذين يعتبرون العهد مسئولية في أيّ جانب من جوانب الحياة ، سواء كان ذلك في المال أو في الشؤون الأخرى الحياتية ، فيرون الوفاء بعهده جزءا من مسئوليتهم تجاهه ، وتجاه النّاس من خلال ما يكلفهم به من شؤون النّاس.

وذلك هو الأساس في حبّ الله لعباده ، في ما ينطلقون فيه من أعمال ، وما ينطلقون منه من ملكة التقوى في ما يريد وما لا يريد ، وتلك هي قصّة الأمانة في التشريع الديني ، أيّ تشريع كان ، فإن الله لم يبعث نبيا إلّا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البر والفاجر. حتى الكافر الذي يحل لك قتاله لكفره وعدوانه ، لا يحل لك خيانة أمانته. وقد ورد في حديث الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام : ثلاثة لا عذر لأحد فيها : أداء الأمانة إلى البر والفاجر والوفاء بالعهد للبر والفاجر ، وبرّ الوالدين برين كانا أو فاجرين (١).

* * *

__________________

(١) البحار ، م : ٢٦ ، ج : ٧١ ، ص : ٤٧ ، باب : ٢ ، رواية : ٤٦.

١٠٧

الأمانة التزام ذاتي داخلي

(وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) من خلال التزام ذاتي لا علاقة له بالخط الديني الذي ينتمي إليه ، بل قد تكون المسألة ناشئة من بعض المؤثرات البيئية الاجتماعية التي قد تربي الإنسان على بعض المفاهيم الإيجابية في قضايا الأمانة المالية ، بحيث تتحول القضية لديه إلى ما يشبه الخلق الراسخ في شخصيته. وقد تكون ناشئة من مصلحة اقتصادية في الحركة التجارية العامة ، باعتبار أن الإنسان الأمين في معاملته مع الآخرين يحصل على الثقة العامة في الوسط الاقتصادي ، الأمر الذي يمنحه أكثر من فرصة للحصول على الأرباح من خلال المبادرات التي يقدمها إليه الآخرون من أصحاب رؤوس الأموال في استثمار أموالهم عنده ، وفي الدخول معه في شركة تجارية أو غيرها.

(وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ) إذا طالبته به لأنه لا يملك أي التزام نفسي في موضوع الأمانة ، فليست القضية لديه قضية مصلحة اجتماعية تتصل بمصالحه ليلتزم على أساس ذلك ، بل القضية قضية عقدة ذاتية تدفعه للخيانة الصغيرة والكبيرة ، ليحصل على بعض المكاسب المادية من خلال ذلك ، مستغلا غفلة الآخرين عنه وثقتهم به ؛ ولذا فإنه يبقى في عملية انتهاز للفرص السانحة ، فلا يمتنع عن الخيانة لك (إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً) بحيث تلازمه وتراقبه وتتقاضاه وتلحّ عليه ، فلا تترك له أيّة فرصة للهروب أو للإنكار ، بل يبقى في حصارك الذي يطبق عليه من خلال شهادة الناس من حوله أو نحو ذلك ، (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ) وهم غير اليهود ، (سَبِيلٌ) أي : مسئولية دينية في أخذها عدوانا وخيانة ، لأن القانون الديني لم يجعله الله ليقيّد اليهود في التزاماتهم ومعاملاتهم مع غيرهم ، فقد أباح الله لهم أموال الآخرين ممن لا يدينون بدينهم ، فهم الشعب المختار لله الذي جعل الدنيا امتيازا لهم ، وأراد للناس أن يكونوا خدما لهم في مواقع الاستغلال المشؤوم. فلهم الحرية في تصرفاتهم بأن يأخذوا ما يريدون ويدعوا ما لا يريدونه تبعا

١٠٨

لمصالحهم الذاتية بعيدا عن مسألة القيم الأخلاقية ، لأنها لا تحكمهم في علاقاتهم بغير اليهود ، بل تحكمهم في المجتمع اليهودي في الداخل.

(وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ) في نسبتهم له هذا التشريع الظالم وهذه الإباحة للخيانة المالية للآخرين (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن الله أمرهم بأن يكونوا مثال الأمانة مع الناس كلهم ، لأن القيمة الأخلاقية لا تتجزأ لتكون إيجابية مع جماعة من الناس وسلبية مع جماعة أخرى ، لأن علاقتها إنما هي بذات الإنسان في التزاماته الأخلاقية في نفسه بقطع النظر عن العناوين الأخرى المتصلة بالناس ؛ فالله أراد للإنسان أن يكون صادقا ، لأنه أراد له الارتباط بالحق ، فليس له أن يكذب على الكافرين ، كما لا يجوز له الكذب على المؤمنين.

(بَلى) إنهم يتحملون المسؤولية كاملة في الالتزام بالوفاء للآخرين بأداء الأمانة ، ولا يملكون الحجّة في الخيانة بحجة شرعته كما يقولون ، (مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ) أي أن الإنسان الذي وفي بعهده من خلال مراقبته لله (وَاتَّقى) الله في أموره كلها ، بحيث كان يعيش الإحساس بالرقابة الإلهية الضاغطة على قراراته وحركاته ، هو الذي يحصل على محبة الله ورضوانه ، (فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) الذين يتحركون في الحياة على أساس أنهم عباد الله ، الذين يلتزمون أوامره ونواهيه ، ويخشون عقابه ، ويرجون ثوابه ، ولذلك كانت التقوى في التزاماتها الروحية والعملية هي مضمون حياتهم.

* * *

الآيات في خطى الحاضر

ولا بدّ لنا في هذه الآيات من أن نقف وقفة قصيرة أمام المفهوم الذي نستوحيه منها :

أولا : وهو أن الثقة بالإنسان ، أيّ إنسان كان ، لا بدّ من أن تستند إلى القاعدة الفكرية والروحية والأخلاقية الموجودة في نفسه ، لأن الإنسان ليس هو

١٠٩

ما يتحرك فيه من أعمال ، بل هو ما ينطلق منه من منطلقات ، لأنها هي التي تكوّن الدوافع القويّة الضاغطة بشكل شعوري أو غير شعوري عليه ؛ فعلينا أن ندرس منطلقات كل إنسان قبل أن نتعامل معه ، أو نتعاهد معه ، أو نأتمنه على مال أو نفس أو عرض أو قضية من قضايا الحياة العامّة والخاصّة ، لأن العهد لا يمثل شيئا لدى الذين لا يرون الوفاء بالعهد مع بعض النّاس قيمة أخلاقية مهمّة ، مما يجعل من التعاهد لديهم أسلوبا من أساليب استغفال البسطاء والوصول إلى استغلالهم من خلال الثقة الساذجة.

وهذا هو الأساس في ما يجب أن يسير عليه المسلمون في علاقاتهم مع الأفراد والدول والشعوب ، لئلا يقعوا تحت تأثير القيم التي يؤمنون بها بحجّة أنّ الآخرين لا يمكن أن ينفصلوا عنها. فقد لا يؤمن الآخرون بشيء ، ولكنهم يرفعون شعاره ، ليكون ذلك هو الطعم الذي يصطادون به الشعوب الضعيفة الفقيرة ؛ كما نجده في الدول الكبرى التي تعتبر المعاهدات وسيلة لاستغلال الدول الصغرى ، لتحصل على ما تريده من ثروات ومواقف ، ثم عند ما يأتي وقت الوفاء بالتزاماتها الذاتية تجاه تلك الدول الصغيرة ، تبدأ في خلق المشاكل والمعوّقات والأوضاع السياسيّة والاقتصادية الاستثنائية التي تجعلها في حلّ من الوفاء. إن هذه الآيات تتحرك في خط التوعية التي تفتح عيون المؤمنين على الحياة ، ليكونوا في موقع القوّة من الوعي ، ولا يكونوا في موقف الضعف من الغفلة.

ثانيا : ربما نستوحي من تنديد الله باليهود في نظرتهم إلى الآخرين وعدم مسئوليتهم عن أموال الآخرين ، فلهم أخذها من دون مقابل ، أنّ الله سبحانه لا يريد للمسلمين أن يأخذوا بهذه النظرة في تعاملهم مع غير المسلمين ، فيحللوا لأنفسهم مصادرة أموالهم وسرقتها بحجة عدم احترام الكافر ، من حيث المبدأ ، في نفسه وماله ، إلا أن يكون ذميا أو معاهدا ، بلحاظ قانون الذمة والعهد ، وهذا ما درج عليه بعض الفقهاء الذين لا يرون العنوان الحربي أساسا لحلية أموال الكافرين للمسلمين ، بل يرون الأصل عدم الاحترام إلا في صورة الذمة والعهد ، أخذا ببعض الإطلاقات المتضمنة قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من قال لا إله إلا الله محمد

١١٠

رسول الله ، حقن بها ماله ودمه وعرضه» ، وأمثال ذلك من الأحاديث التي تربط الاحترام بالإسلام ، مما يجعل الكافر ممن لا حرمة له لكفره ، ولكننا ذكرنا في أبحاثنا أن هذه الإطلاقات ليست واردة في مقام البيان من هذه الجهة ليؤخذ بمضمونها الإطلاقي ، بل هي واردة في مقام بيان إهدار الإسلام مال الكافر ونفسه وعرضه بالحرب عن طريق الغنائم التي يحصل عليها المسلمون من الأموال المنقولة وغير المنقولة ، وعن طريق الأسر والاسترقاق ، أو القتل في حالة الحرب وفي الجرائم التي تتصل بها ... فإذا نطق الكافر بالشهادتين فليس للمسلمين سبيل عليه في نفسه وماله وعرضه ، فالقضية ـ حسب فهمنا ـ تتحرك في دائرة إعلان الحرب عليهم في حالة البقاء على الكفر ، وترك إعلانها ضدهم في صورة الإسلام ، وربما يتأيد هذا الرأي في قوله تعالى : (لا يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ* إِنَّما يَنْهاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة : ٨ ـ ٩] ؛ فإن الظاهر من هاتين الآيتين أن الكافر الذي لم يعلن القتال على المسلمين ولم يخرجهم من ديارهم ، بل كان موقفه موقف اللاحرب في خط السّلام الطبيعي الذي يعيشه الناس مع بعضهم البعض ـ من دون معاهدة أو ذمة بالمعنى المصطلح العقدي للمسألة ـ يستحق التعامل معه بالبرّ في تقديم الخير له بكل ألوانه ، وبالعدل ـ بمفهومه العام ـ الذي يقتضي أن له الحق في ذلك ، باحترام ماله ونفسه وعرضه وعدم الاعتداء عليه إلا بالحق ، ومقتضى ذلك أن الكفر لا يساوي عدم الاحترام ، بل الحرب بمضمونها المباشر وغير المباشر هي التي تقتضي ذلك.

وهذه الآية تحمل الكثير من الإيحاء بأن الخلاف في الدين لا يبرر ـ بمجرده ـ إهدار حرمة الآخرين ، فإن الله ذمّ اليهود على ذلك ، وربما يرى بعض الفقهاء أن الآية لا تدل على أكثر من وجوب أداء الأمانة لا وجوب احترام المال ، ونحن نرى للأمانة خصوصية في المسألة لأنها تتضمن التزاما عقديا من

١١١

الشخص المؤتمن بأن يؤدي الأمانة إلى من ائتمنه عليه من خلال مبدأ الوفاء بالالتزام العقدي مع الآخر ، ولهذا فإنا لا نجد علاقة بين موضوع الآية وإهدار احترام مال الكافر.

والجواب عن ذلك أن الأمانة لم تذكر موضوعا في الآية بلحاظ خصوصيتها العقدية ، وإنما لوحظت ـ في سلوك اليهود ـ من حيث إنهم لا يحترمون أموال غير اليهود بقرينة قوله تعالى : (ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ) ، فهم يخونون الأمانة على أساس عدم احترامهم أموال الآخرين لا على أساس أنهم لا يقومون بالوفاء بالتزاماتهم العقدية ، فإذا قام المسلمون بمثل ذلك في سلوكهم استحقوا الذم على ذلك. وربما نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن هناك عقدا إنسانيا بين العقلاء يلتزمونه في سلوكهم الاجتماعي وسيرتهم العملية أن لا يأخذ الإنسان مال غيره بدون حق ، لأن مبدأ احترام الأموال لديهم من أكثر الالتزامات قوّة وقداسة وتأثيرا في العلاقات العامة ، ولذلك نراهم يذمون الذين يأكلون أموال الناس بالباطل ، ويعاقبون اللصوص ، ولا يخرجون عن ذلك إلا في حالة الحرب من دون فرق بين الناس الذين يدينون بدين واحد أو بأكثر من دين.

ثالثا : إن هذه النظرة الفوقية الاستعلائية التي يمارسها اليهود على غيرهم من الناس قد أصبحت تتحرك في نظرة الاستكبار العالمي الذي تمثله دول الغرب إلى العالم الثالث ، وهو عالم المستضعفين الذي يضم الدول العربية والإسلامية وغيرها ، فهي لا تنظر إليها نظرة إنسانية تحفظ لها حقوقها في ثرواتها الطبيعية ، وفي حريتها في تقرير مصيرها ، وفي استقلالها السياسي ، ونحو ذلك ... بل تحاول أن تفرض عليها نظامها العالمي الذي يملك السيطرة على مقدرات الشعوب ، وتعمل على أن تجعل لنفسها الحق في ما لا تجعله لها. فهي في الوقت الذي تتحدث فيه عن حقوق الإنسان ، لا تحترم إنسانية المستضعفين في ذلك ، بل تحترم مصالحها في الدّول التي تطالب فيها بتطبيق هذه الحقوق بما ينسجم مع مصالحها ، ولا ترى لهذه الشعوب الحق في أن

١١٢

تطالب لنفسها بتلك المطالب بعيدا عن المصالح الاستكبارية. وهذا مما ينبغي للمسلمين وللمستضعفين في العالم أن يدرسوه ويفهموه ويتعرفوا على خصائصه وعناصره ، من أجل حماية أنفسهم من أخطاره وخططه ، والحصول على المكاسب الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية في حركتهم الواعية القوية المتمردة على منطق الاستكبار في واقع المستضعفين في الأرض.

رابعا : إن الآية تؤكد على أن الوفاء بالعهود والالتزام بالتقوى هما اللذان يمكن لهما أن يؤكدا ثبات المصلحة الإنسانية في حركة الإنسان في الواقع ، ولذلك يحصل السائرون في اتجاههما على محبة الله ، لأن الله يحب الناس الذين يحبون إخوانهم ويحبون الحياة باسم الله. وهذا ما يوحي بشمولية القيمة الإيجابية في شخصية الإنسان المسلم ، الذي ينظر إلى الناس بعين واحدة بعيدا عن الازدواجية والاهتزاز ، فإذا دخل المسلمون في معاهدة مع الآخرين ، فإن الآخرين يشعرون بالأمن في علاقاتهم بالمسلمين ، ويضمنون لأنفسهم الثبات في المواقع التي تثبتها هذه المعاهدة.

* * *

١١٣

الآية

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) (٧٧)

* * *

معاني المفردات

(وَأَيْمانِهِمْ) : أقسامهم وحلفهم. جمع يمين ، وهو الحلف والحلف ، مستعار من اليد اعتبارا بما يفعله المعاهد والحالف.

(خَلاقَ) : نصيب وحظ من الخير ، والخلاق ـ كما يقول الراغب ـ «ما اكتسبه الإنسان من الفضيلة بخلقه» (١).

(يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ) : يعطف عليهم ويرحمهم ، يقال : انظر إليّ ، أي : ارحمني.

قال صاحب المجمع : «وفي هذا دلالة على أن النظر إذا عدّي بحرف «إلى» لا يفيد الرؤية ، لأنه لا يجوز حملها هنا على أنه لا يراهم بلا خلاف» (٢).

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ١٥٩.

(٢) مجمع البيان : ج : ٢ ، ص : ٧٧٩.

١١٤

(يُزَكِّيهِمْ) : يطهرهم وينميهم نموّا صالحا. والتزكية هي الإنماء نموّا صالحا. وأصل الزكاة ـ كما يقول الراغب ـ «النمو الحاصل عن بركة الله تعالى. ويعتبر ذلك بالأمور الدنيوية والأخروية» (١).

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ «قال الكلبي : إن ناسا من علماء اليهود أولي فاقة أصابتهم سنة فاقتحموا إلى كعب بن الأشرف بالمدينة فسألهم كعب : هل تعلمون أن هذا الرجل رسول الله في كتابكم؟ قالوا : نعم ، وما تعلمه أنت؟ قال : لا ، فقالوا : فإنا نشهد أنه عبد الله ورسوله. قال : لقد حرمكم الله خيرا كثيرا ، لقد قدمتم عليّ وأنا أريد أن أميركم وأكسو عيالكم ، فحرمكم الله وحرم عيالكم. قالوا : فإنه شبّه لنا ، فرويدا حتى نلقاه. فانطلقوا فكتبوا صفة سوى صفته ، ثم انتهوا إلى نبي الله فكلموه وساءلوه ثم رجعوا إلى كعب ، وقالوا : لقد كنا نرى أنّه رسول الله ، فلما أتيناه إذا هو ليس بالنعت الذي نعت لنا ، ووجدنا نعته مخالفا للذي عندنا ، وأخرجوا الذي كتبوا ، فنظر إليه كعب ، ففرح ومارهم وأنفق عليهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال عكرمة : نزلت في أبي رافع ، ولبابة بن أبي الحقيق ، وحيي بن أخطب ، وغيرهم من رؤساء اليهود ، كتموا ما عهد الله إليهم في التوراة من شأن محمد وبدّلوه ، وكتبوا بأيديهم غيره ، وحلفوا أنه من عند الله لئلا يفوتهم الرّشا والمآكل التي كانت لهم على أتباعهم» (٢).

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٢١٨.

(٢) أسباب النزول ، ص : ٦٢.

١١٥

وفيه أيضا عن سفيان عن الأعمش عن عبد الله ، قال : «قال رسول الله : من حلف على يمين ، وهو فيها فاجر ، ليقطع بها مال امرئ مسلم ، لقي الله وهو عليه غضبان ، فقال الأشعث بن قيس : فيّ والله ، كان بيني وبين رجل من اليهود أرض ، فجحدني ، فقدمته إلى النبي ، فقال : لك بيّنة؟ قلت : لا ، فقال لليهودي : أتحلف؟ قلت : إذن يحلف ، فيذهب بمالي. فأنزل الله عزوجل : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً) الآية» (١).

إننا ـ في منهجنا التفسيري ـ لا نجد لدينا أيّة نصوص موثقة كثيرة مما رواه الرواة في أسباب النزول ، لضعف أسانيد بعضها وإرسال بعضها الآخر فيمكن أن تكون أمورا اجتهادية طرحت بشكل رواية ، وأن تكون منطلقة من أجواء معينة ، لذلك فإننا لا نعتمدها كموثقة تفسيرية ـ في تفسير القرآن ـ ولكننا نقف عندها ، باعتبارها نموذجا من نماذج ذهنية بعض المفسرين القدامى في فهم النص القرآني وتحليله. ومن خلال هذه الملاحظة نجد أن الروايتين الأوليين أقرب إلى جو النص في الآية من الرواية الثالثة ، لأن سياق الآيات هو سياق الحديث عن أهل الكتاب في موقفهم من الرسالة الإسلامية ومن نبوّة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وإنكارهم ما جاء في صفته في التوراة في محاولتهم لإخفاء ذلك كله ، خلافا لما عاهدوا الله عليه في إيمانهم الديني من تبيانهم الحق الذي أوصى الله به وعدم كتمانه ، وهو مظهر لتمردهم على الله في أيمانهم المغلظة ضد النبي والقرآن ، ليحصلوا من خلال ذلك على الموقع المميز بين اليهود ، لأن دخلوهم في الإسلام وإقرارهم بالحث قد يعرّضهم لفقدان ذلك ، لأن جماعتهم سوف يرتبطون بالنبي بشكل مباشر دون غيره من هؤلاء الزعماء الذي عرفوهم بالانحراف والخداع ؛ والله العالم.

* * *

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٦٠ ـ ٦١.

١١٦

الإسلام ونقض العهود

إنّ الحياة الاجتماعية ، في كل مجالاتها الحيويّة ، ترتكز على أساس المواثيق والعهود التي يفرضها الفرد على نفسه من خلال قناعاته ومرتكزاته وحاجاته ، أو تفرضها المجتمعات على نفسها للآخرين ، في نطاق الدول أو المؤسسّات أو الجماعات ... وليس لهذه المواثيق والعهود قيمة في الوصول إلى توازن الحياة من خلالها ، إلا في نطاق الالتزام بها والوفاء بمقتضياتها. وقد أكّد الله على ذلك في هذه الآية باعتبارها عهدا لله ، فمن ينقض أيّ التزام في يمين أو عهد ، فإنه ينقض عهد الله وذلك من خلال ما أمر الله به من الوفاء بالعقود في قوله تعالى : (أَوْفُوا بِالْعُقُودِ) [المائدة : ١] وقد كنّى عن نقض العهد واليمين بالاشتراء بهما ثمنا قليلا ، لأنّ الإنسان لا ينقض عهده إلّا لمصلحة مالية أو ذاتية في نطاق آخر ، فكأنه يأخذ عوض العهد واليمين ثمنا من مال أو جاه أو شهوة أو غير ذلك مما يريده النّاس من عرض الحياة الدنيا ...

ونلاحظ اهتمام الإسلام الكبير بالعهد أنه ـ في سورة براءة ـ أعلن البراءة من المشركين كافة ، واستثنى المعاهدين منهم ، وذلك قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ) [التوبة : ٤] وقوله تعالى : (كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) [التوبة : ٧] مما يوحي بأن قضية الوفاء بالعهد في الإسلام لا تنظر إلى طبيعة من عاهدته من حيث عقيدته أو التزامه أو سلوكه ، وذلك هو قوله تعالى : (لا خَلاقَ لَهُمْ) ، بل تنظر إلى طبيعة التزام المسلم به كخلق إسلامي أصيل يفرض عليه مسئولية لا بدّ له من القيام بها والوقوف عندها ؛ مما يعني أن معنى أن تكون مسلما هو أن تلتزم بعهدك لأيّ إنسان كان. فإذا لم تفعل ذلك ، فإن عليك أن تتلقى هذا التنديد من الله ، فتكون ممن لا خلاق لهم ولا نصيب في الآخرة ، لأن نصيب الآخرة هو للّذين حملوا مسئولية الإيمان في الدنيا في

١١٧

ما للناس عليهم من حقوق وواجبات ، وتكون ممن لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ، بل يطردهم من رحمته ، ولا يزكيهم لأنهم لا يملكون أساسا للتزكية ، بعد أن كانت نفوسهم غارقة في أجواء الخيانة ، ولهم عذاب أليم بما قاموا به من أعمال وجرائم في نقضهم عهد الله وخيانتهم له.

* * *

تجارة خاسرة

(إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ) الذي عاهدوا الله عليه من حيث إعلانهم التزام الدين الذي آمنوا به من خلال أخلاقيته في الوقوف مع الحق ، وإبلاغه للناس ، وعدم كتمانه على أساس العقدة الذاتية والطائفية (ثَمَناً قَلِيلاً) فاختاروا المتاع الزائل من المال أو الجاه وغيرهما من متاع الدنيا الفانية ، وفضلوه على الوفاء بعهد الله والالتزام بالتقوى ، لأنهم لم يفكروا تفكيرا دقيقا في نتائج هذا الموقف وتأثيراته السلبية على مستقبلهم في علاقاتهم بالله في الدنيا والآخرة ، وأقبلوا على شهواتهم وأطماعهم في عملية استغراق في الذات بعيدا عن الله وميثاقه ، ممّا لا يتناسب من حيث حجمه في ذاته مع نعيم الآخرة ولذاتها ، لأن ما عند الله خير وأبقى ، ورضوان الله أكبر. ولهذا عبّر عن خيارهم الفردي بأنهم أخذوا به الثمن القليل. ولعل التعبير بالاشتراء في اختيارهم جاء على سبيل الكناية من حيث مشابهة ذلك الموقف لعملية البيع والشراء ، وإن لم يكن ذلك واردا بالمعنى المصطلح ، (أُولئِكَ) الناس الموجودون في كل زمان ومكان (لا خَلاقَ لَهُمْ) في سلوكهم العملي المنحرف على مستوى العقيدة أو على مستوى القضايا العامة والخاصة في العلاقات المالية والاجتماعية بين الناس ، (فِي الْآخِرَةِ) أي في الدار الآخرة التي يحصل كل إنسان فيها على نتائج مسئوليته في عمله في الدنيا ، إن كان خيرا فخير وإن كان شرّا فشّر ، أي لا نصيب لهم ولا حظ في يوم القيامة ، مما يحقق للإنسان سعادته وراحته ، لأن ذلك هو الجائزة التي ينالها الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق على هدى

١١٨

قوله تعالى : (وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ) ، فلا يكرمهم بالتكلم معهم بالطريقة الحميمة التي يكلم بها أولياءه ، فربما كان التعبير واردا على سبيل الكناية ، لأن الكلام مع الشخص يعبّر عن الإقبال عليه والاهتمام به ، بينما يمثل ترك الكلام معه إهماله واعتباره شيئا مهملا لا يوحي بأيّة عناية أو رعاية ؛ بل قد يكون مظهرا من مظاهر السخط والعقاب ، (وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي لا يلتفت إليهم التفات المحبّ لمن يحبّه ، لأن النظر يمثل الانفتاح على المنظور إليه والاعتناء به ، فالفقرة واردة مورد الكناية للتعبير عن الاستهانة بهم والسخط عليهم كما تقول : فلان لا ينظر إلى فلان ، تريد بذلك نفي الاهتمام والاعتناء به والاعتداد بوجوده ، تماما كما لو لم يكن موجودا كلّيا.

وقد أثار صاحب تفسير الكشاف سؤالا حول الموضوع ، باعتبار أن الله لا يجوز عليه النظر كما يجوز على الإنسان لأنه ليس جسدا بالمعنى الحسّي للجسد ، قال : «فإن قلت : أي فرق بين استعماله فيمن يجوز عليه النظر وفيمن لا يجوز عليه؟ قلت : أصله فيمن يجوز عليه النظر الكناية ، لأن من اعتد بالإنسان التفت إليه وأعاره نظر عينيه ، ثم كثر حتى صار عبارة عن الاعتداد والإحسان ، وإن لم يكن ثمّ نظر ، ثم جاء فيمن لا يجوز عليه النظر مجرّدا لمعنى الإحسان مجازا عما وقع كناية عنه فيمن يجوز عليه النظر» (١).

(وَلا يُزَكِّيهِمْ) أي : لا يثني عليهم ، لأن الثناء على المؤمنين العاملين بطاعة الله في خط الاستقامة ، وربما جاء في كلام بعض المفسرين أن المراد من التزكية المعنى العملي ، أي : لا يطهرهم من دنس ذنوبهم بالمغفرة ، بل تبقى هذه القذارة عليهم ليتحملوا نتائجها السيئة ، (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) في الدنيا والآخرة.

* * *

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٤٣٩.

١١٩

الآية

(وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) (٧٨)

* * *

معاني المفردات

(يَلْوُونَ) : يميلون عن الاستقامة إلى الاعوجاج من خلال التحريف في التفسير والزيادة والنقصان ، وأصل الليّ : الفتل ، من قولك : لويت يده إذا فتلتها ، ومنه : لويت الغريم لويا وليانا إذا مطلته حقه ، ومنه الحديث : «ليّ الواجد ظلم». قال الراغب : «ولوى لسانه بكذا كناية عن الكذب وتخرّص الحديث» (١).

(أَلْسِنَتَهُمْ) : الألسنة : جمع اللسان على التذكير ، كحمار وأحمرة ، ويقال : ألسن على التأنيث ، كعناق وأعنق.

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٤٧٧.

١٢٠