تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

الآيات

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) (٦٣)

* * *

معاني المفردات

(تَعالَوْا) : أصله من العلو. يقال : تعاليت أتعالى أي : جئت ، وأصله : المجيء إلى ارتفاع ، إلا أنه كثر في الاستعمال حتى صار بمعنى هلمّ ـ كما ذكر صاحب مجمع البيان(١) ـ.

(أَبْناءَنا) : الذين ولدوا منا ، وقد طبقه النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الحسن والحسينعليهما‌السلام باعتبار أنّهما ابناه ، وقال أبو بكر الرازي : هذه الآية دالّة على

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٦١.

٦١

أن الحسن والحسين عليهما‌السلام كانا ابني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعد أن يدعو أبناءه ، فدعا الحسن والحسين ، فوجب أن يكونا ابنيه ... فثبت أن ابن البنت قد يسمّى ابنا (١).

(وَنِساءَنا) : اللاتي ينتسبن إلينا ، وقد أراد بها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ من ناحية تطبيقية ـ فاطمة الزهراء عليها‌السلام باتفاق المفسرين.

(وَأَنْفُسَنا) : والمقصود بالكلمة الذين يجسّدون الذات في معنى التمثّل الحيّ لكل ما يمثله النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من صفات روحية وأخلاقية وعملية ، بحيث تكون الذات هي الذات حتى لتكاد تكون هي في المعنى والصورة من الداخل ؛ وقد طبق النبي هذا العنوان على علي بن أبي طالب عليه‌السلام فلا أحد يدعي دخول غيره مع زوجته وولديه.

(نَبْتَهِلْ) : نتضرع ونجتهد ويخلص كل منا في الدعاء إلى الله أن يلعن الكاذب منا.

وقال صاحب مجمع البيان : قيل في الابتهال قولان : أحدهما : أنه بمعنى الالتعان ... والآخر : أنه بمعنى الدعاء بالهلاك ، قال لبيد :

نظر الدهر إليهم فابتهل

أي : دعا عليهم بالهلاك. فالبهل : كاللعن ، وهو المباعدة عن رحمة الله عقابا على معصيته ، ولذلك لا يجوز أن يلعن من ليس بعاص من طفل أو بهيم أو نحوهما (٢). وقال صاحب لسان العرب : المباهلة : الملاعنة ، يقال : باهلت فلانا ، أي : لاعنته. ومعنى المباهلة أن يجتمع القوم إذا اختلفوا في شيء فيقولوا : لعنة الله على الظالم منا (٣).

__________________

(١) الفخر الرازي ، التفسير الكبير ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٣ ، م : ٤ ، ج : ٨ ، ص : ٨١.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٦١ ـ ٧٦٢.

(٣) ابن منظور ، لسان العرب ، دار إحياء التراث العربي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٣ ، ١٤١٣ ه‍ ـ

٦٢

وذكر بعضهم أن المباهلة من البهل ، بمعنى الترك ورفع القيد. والباهل ، أيضا ، هي الناقة المخلّى ضرعها مكشوفا يرضع منه وليدها كيفما يشاء ، والابتهال في الدعاء : الاسترسال فيه والتضرع إلى الله.

وربما كان تفسير الكلمة باللعن والموت والبعد عن الله من خلال مناسبة ذلك للكلمة ، لأن هذه المعاني من نتائج ترك الله العبد وشأنه ، وهذا هو المعنى الأصلي للكلمة ، ثم غلب على تبادل الدعاء لله تعالى بلعن الكاذب كما هو المفهوم من الآية.

* * *

مناسبة النزول

ورد في قصة الحوار الذي أداره النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع بعض النصارى من أهل الكتاب ، أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قد سلك مسلكا جديدا في معاجلة الموقف معهم بعد وصول الحوار إلى الطريق المسدود ، وهو أسلوب المباهلة ، الذي حدثتنا عنه هذه الآية الكريمة.

أما قصة هذه الآية فتشرحها لنا عدة روايات قد تختلف في طولها وفي قصرها ، ولكنها تتفق في الفكرة العامّة التي نريد أن نستخلصها منها ؛ ولذا فإننا سنكتفي بذكر بعضها ، وهي رواية المحدّث الجليل علي بن إبراهيم القمي التي رواها في تفسيره عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ، قال : إن نصارى نجران لما وفدوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وكان سيّدهم الأهتم والعاقب والسيّد ـ وحضرت صلواتهم ، فأقبلوا يضربون الناقوس وصلّوا ، فقال أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا رسول الله ، هذا في مسجدك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : دعوهم. فلمّا فرغوا دنوا من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالوا : إلا م تدعو؟ فقال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، وأن عيسى عليه‌السلام عبد مخلوق يأكل ويشرب ويحدث ،

__________________

١٩٩٣ ، ج : ١ مادة " بهل ، ص : ٥٢٢.

٦٣

قالوا : فمن أبوه؟ فنزل الوحي على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : قل لهم : ما تقولون في آدم ، أكان عبدا مخلوقا يأكل ويشرب ويحدث وينكح؟ فسألهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالوا : نعم. قال : فمن أبوه؟ فبهتوا ، فأنزل الله : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ) الآية ، وقوله : (فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) إلى قوله : (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ).

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فباهلوني ، فإن كنت صادقا أنزلت اللعنة عليكم ، وإن كنت كاذبا أنزلت عليّ. فقالوا : أنصفت ، فتواعدوا للمباهلة ، فلمّا رجعوا إلى منازلهم قال رؤساؤهم السيد والعاقب والأهتم : إن باهلنا بقومه باهلناه فإنه ليس نبيا ، وإن باهلنا بأهل بيته خاصة لم نباهله ، فإنه لا يقدم أهل بيته إلا وهو صادق. فلمّا أصبحوا جاءوا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومعه أمير المؤمنين وفاطمة والحسن والحسين عليهم‌السلام ، فقال النصارى : من هؤلاء؟ فقيل لهم : هذا ابن عمّه ووصيّه وختنه علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، وهذه ابنته فاطمة عليها‌السلام ، وهذان ابناه الحسن والحسين عليهما‌السلام ، ففرقوا فقالوا لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : نعطيك الرضى فاعفنا من المباهلة ، فصالحهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الجزية وانصرفوا» (١).

* * *

أسلوب الحوار الاسلامي

ولعل قيمة هذه القصة ، أنها تجسد لنا الأسلوب الإسلامي في الحوار ؛ حين يريد الاحتجاج لفكره من جهة ، ومواجهة الأفكار المضادة من جهة أخرى ، وتعرّفنا مبلغ التسامح الإسلامى الذي يريد لأتباعه أن يمارسوه مع الآخرين ، انطلاقا من الممارسات النبوية الرائعة ، من مركز القوة لا من مركز الضعف.

__________________

(١) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ٢٦٤.

٦٤

فقد قدم هؤلاء إلى مركز الإسلام القويّ ، من أجل أن يناقشوا الدين الجديد ، فأعطاهم النبي كل الحرية في ذلك ، إلى مستوى السماح لهم بأداء طقوسهم وعباداتهم في مسجد النبي تحت سمعه وبصره في مجتمع المسلمين الكبير ، حتى أن النبي لم يستجب لتساؤلهم وإنكارهم لذلك ، بل طلب منهم أن يتركوا لهم الحرية في ذلك ، ليشعرهم ـ على الطبيعة ـ كيف يحافظ الإسلام على مشاعر الآخرين وحرياتهم في الإطار العام للنظام الكامل ، وليعطيهم انطباعا ذاتيا ، أنه لا يؤمن بالقوة كسبيل من سبل إدخال الآخرين في الإسلام من دون اقتناع منهم بذلك ...

وهكذا كان ، وبدأ النبي حوارة معهم من موقع الدليل والحجة والبرهان ، كما تنقله لنا القصة ... سؤالا وجوابا في حوار هادئ قويّ ، يستجيب للسؤال في البداية ، ثم يطرح السؤال عليهم من جديد ليلزمهم بالحجة من خلال ذلك.

وقد نفهم من الآية الكريمة ، أن الحوار لم يقتصر على هذا الجانب فحسب ، بل تعداه إلى جميع الجهات التي يختلف فيها المسلمون والمسيحيون في نظرتهم إلى عيسى عليه‌السلام ، وإلى الطبيعة الاعتقادية ، لأن الآية تتناول المحاجة فيه بكل ما جاءه من العلم. ويظهر من الآية ومن جوّ القصة أن هؤلاء لم يريدوا الاقتناع ، بل دخلوا في جدل عقيم لا يحقّق أيّ هدف ، ولا يصل إلى أية نتيجة ؛ مما دعا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى طرح المباهلة عليهم ، كأسلوب من أساليب التأثير النفسي الذي يشعرهم بالثقة المطلقة بالعقيدة الإسلامية وبمفاهيم الدعوة الجديدة ... حتى أن النبي كان مستعدا لأن يعرّض نفسه للموقف الصعب عند ما يقف مع أهل بيته ليواجهوا الآخرين بالوقوف بين يدي الله في ما تنازعوا فيه ، فيطلبون منه ـ سبحانه ـ أن يجعل اللعنة على الكافرين.

وقد أراد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يزيد الموقف تأثيرا في الإيحاء النفسي لدى الآخرين بالثقة ، فلم يقتصر على تقديم نفسه للمباهلة والملاعنة ، بل طرح القضية على أساس اشتراك أهل بيته معه في ذلك ، مع أن بإمكانه أن يحصر الأمر بنفسه ، دون أن يترك ذلك أيّ تأثير سلبيّ في الموقف.

٦٥

ولكنه ـ كما أشرنا ـ أراد أن يعطيهم الإيحاء بالاطمئنان الكامل بصدق دعواه ، لأن الإنسان قد يعرّض نفسه للخطر ، ولكنه لا يعرض أبناءه وأهل بيته لما يعرّض له نفسه ممّا يمكن أن يتفاداه.

ولهذا أدرك القوم الموضوع وأبعاده ، فاهتزّت أعماقهم بالخوف من الخوض في هذه التجربة التي تستتبع اللعنة الفعلية التي تتجسد في عذاب الله وعقابه ، فأقلعوا عن الأمر وقبلوا الصلح.

* * *

موقع التحدّي الكبير

(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) ـ في عيسى ـ في أنه «هو الله» ، وأنه «ابن الله» ، «وأن الله ثالث ثلاثة» ولم يبلغ الحوار نهايته الفكرية في قناعتهم الوجدانية ، أو أنه عبد الله ورسوله ، وأن الله لا إله إلا هو الأحد ، (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ* وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ) [الإخلاص : ٣ ـ ٤] ، (مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ) الذي قدمته إليهم من القرآن والآيات البينات على الحق ، فليكن للمحاججة أسلوب آخر حاسم تنطلق فيه من موقع التحدي الكبير الذي يقف فيه الإنسان بين يدي الله في مواجهته للإنسان الآخر في قضية العقيدة المرتبطة بقضية الإيمان بالله في مضمونه التوحيدي الحقيقي ، وهو الأسلوب الذي أخلص الإنسان في الأخذ به والاستعداد لنتائجه السلبية ، التي قد تمثل الخطر عليه وعلى من يتصل به ممن يقدمهم أمامه من أهله ليكونوا طرفا في المباهلة ، فهذا ما يمثل النهاية الحاسمة التي تتمثل في الواقع الإيجابي المنفتح لصاحب الحق والواقع السلبي المنغلق في حياة المضاد للحق (فَقُلْ تَعالَوْا) يا نصارى نجران ، هلموا إلى موقف آخر يتمثل فيه العمق العميق للرأي القوي والعزيمة الحازمة ، (نَدْعُ أَبْناءَنا) الذين يجسدون أعمق علاقة حميمة يعيشها الإنسان في علاقته بالناس ، بحيث تتصل حياته بامتداد حياتهم وعاطفته بالمعنى العميق لوجودهم ؛

٦٦

فيتعب ليرتاحوا ، ويجوع ليشبعوا ، ويظمأ ليرتووا ، ويضحي بحياته ليعيشوا بعده ... وها أنا أقدم بين يديّ للمباهلة ولديّ الحسن والحسين اللذين يمثلان كل حبي في العاطفة ، وكل شعوري في المحبة وأملي بمستقبل الرسالة ، فهما سيدا شباب أهل الجنة ، وريحانتاي في الدنيا.

قال صاحب مجمع البيان : «أجمع المفسرون على أن المراد بأبنائنا الحسن والحسين عليهما‌السلام ، قال أبو بكر الرازي : هذا يدل على أن الحسن والحسين ابنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأن ولد الابنة ابن في الحقيقة. وقال ابن أبي علان ـ وهو أحد أئمة المعتزلة ـ : هذا يدل على أن الحسن والحسين كانا مكلّفين في تلك الحال لأن المباهلة لا تجوز إلا مع البالغين ، وقال أصحابنا : إن صغر السن ونقصانها عن حدّ بلوغ الحلم لا ينافي كمال العقل ، وإنما جعل بلوغ الحلم حدّا لتعلق الأحكام الشرعية ، وقد كان سنّهما في تلك الحال سنّا لا يمتنع معها أن يكونا كاملي العقل. على أن عندنا يجوز أن يخرق الله العادات للأئمة ويخصهم بما لا يشركهم فيه غيرهم ، فلو صح أن كمال العقل غير معتاد في تلك السن ، لجاز ذلك فيهم إبانة لهم عمن سواهم ودلالة على مكانهم من الله تعالى واختصاصهم ، ومما يؤيده من الأخبار قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا» (١).

ونلاحظ على هذا الحديث حول البلوغ وكمال العقل كشرط للمباهلة ، أن مثل هذا الحديث في الجدل الدائر فيه ، يتوقف على أن يكون الحسنان عليهما‌السلام طرفين مستقلين في المباهلة ، كما لو كانا هما اللذان يتوليانها في مقابل نظائر هما من الآخرين ليباهل الرجال الرجال والنساء النساء والأبناء الأبناء ؛ ولكن يمكن أن تكون المسألة واردة على أساس أن يقدم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ وهو واثق بأن الحق معه وأن النتيجة الحاسمة الإيجابية ستكون له ـ ابنيه وابنته وابن عمه ، ليكونوا طرفا في الابتهال وفريقا في النتائج الحاسمة الأخيرة ، بعيدا عما إذا كانوا مشاركين في التحدي ؛ والله العالم.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٦٣.

٦٧

(وَأَبْناءَكُمْ) ممن تختارون منهم للحضور والابتهال في هذا الموقف الصعب ، (وَنِساءَنا) اللاتي يمثلن أقرب موقع للانتماء الإنساني الروحي من النساء في حياتنا الخاصة ، وها أنا أقدم بين يدي ابنتي فاطمة سيدة نساء العالمين ، التي هي بضعة مني ، يريبني ما رابها ويغضب الله لغضبها ويرضى لرضاها ، لأن غضبها في مواقع غضب الله ورضاها في مواقع رضاه. إنني أقدمها في هذا التحدي الكبير للدلالة على أنني على يقين من صدق دعوتي ، لأن الإنسان لا يقدم أحبّ الناس لديه في مواقع احتمال الخطر إلا إذا كان واثقا من النجاة.

(وَنِساءَكُمْ) ممن تختارون من النساء في مجتمعكم الخاص (وَأَنْفُسَنا) ممن هم في موقع النفس من حيث المنزلة والمحبة والإعزاز ، وهو عليّ عليه‌السلام لأنه يمثل الصورة الحية الصّادقة لكل الكمالات والتطلعات والسلوكيات والملكات التي أمثلها ، لأنني ربيته وأنشأته منذ طفولته على صورتي في أخلاقي وروحياتي وأقوالي وأمثالي ، فكان مني بمنزلة النفس من النفس ، والذات من الذات ، والروح من الروح ، والعقل من العقل ... وليس هناك في الساحة غير عليّ عليه‌السلام الذي عاش معي كما لم يعش أحد غيره معي ، وكان مني «بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي» (١) ، (وَأَنْفُسَكُمْ) ممّن يمثلون وجودكم وذواتكم في حياتكم الخاصة ، (ثُمَّ نَبْتَهِلْ) وندعو الله ونجتهد في الإخلاص له والخضوع بين يديه ، (فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ) منا ومنكم ، فذلك هو الذي ينتهي بالأمور إلى نهاياتها الأخيرة من دون نزاع ولا خصام.

وجاء في تفسير الكشاف للزمخشري «وعن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج وعليه مرط مرجل من شعر أسود ، فجاء الحسن فأدخله ، ثم جاء الحسين فأدخله ، ثم فاطمة ، ثم عليّ ، ثم قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ) (٢) [الأحزاب : ٣٣]. «فإن قلت : ما كان دعاؤه إلى

__________________

(١) البحار ، م : ١ ، ج : ٢ ، باب : ٢٩ ، ص : ٤٨٦ ، رواية : ٣.

(٢) أخرجه مسلم من طريق صفية بنت شيبة عنها ، وغفل عنه الحاكم فاستدركه.

٦٨

المباهلة إلا ليتبين الكاذب منه ومن خصمه ، وذلك أمر يختص به وبمن يكاذبه ، فما معنى ضم الأبناء والنساء؟ قلت : ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله واستيقانه بصدقه ، حيث استجرأ على تعريض أعزته وأفلاذ كبده (١) وأحب الناس إليه لذلك ، ولم يقتصر على تعريض نفسه له ، وعلى ثقته بكذب خصمه حتى يهلك خصمه مع أحبته وأعزته هلاك الاستئصال إن تمت المباهلة. وخص الأبناء والنساء لأنهم أعز الأهل وألصقهم بالقلوب ، وربما فداهم الرجل بنفسه وحارب دونهم حتى يقتل ، ومن ثمة كانوا يسوقون مع أنفسهم الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب ، ويسمّون الذادة عنهم بأرواحهم حماة الحقائق ، وقدّمهم في الذكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانهم وقرب منزلتهم ، وليؤذن بأنهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها. وفيها دليل لا شيء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم‌السلام. وفيه برهان واضح على صحة نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأنه لم يرو أحد من موافق ولا مخالف أنهم أجابوا إلى ذلك» (٢).

وقال صاحب التفسير الكبير الفخر الرازي : «واعلم أن هذه الرواية ـ أي رواية المباهلة ـ كالمتفق على صحتها بين أهل التفسير والحديث» (٣).

* * *

علامة استفهام حول نزول الآية

وقد أثار بعض المفسرين علامة استفهام حول نزول هذه الآية في أهل البيت بلحاظ صيغة الجمع الواردة في (أَبْناءَنا وَنِساءَنا وَأَنْفُسَنا) التي لا

__________________

(١) الفلذ : كبد البعير ، والجمع أفلاذ ، والفلذة : القطعة من الكبد واللحم والمال وغيرها ، والجمع : فلذ.

(٢) الزمخشري ، جار الله ، محمود بن عمر ، الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل ، دار الفكر ، ج : ١ ، ص ٤٣٤.

(٣) تفسير الرازي ، م : ٤ ، ج : ٨ ، ص : ٨٠.

٦٩

تصدق إلا على ما زاد عن اثنين ، فكيف تنطبق الأولى على الحسن والحسين عليهما‌السلام ، والثانية على سيدتنا فاطمة الزهراء عليها‌السلام ، والثالثة على أمير المؤمنين علي عليه‌السلام؟

والجواب : إن القيمة التكريمية المميزة كانت من خلال تطبيق الجمع على هؤلاء واقتصاره عليهم ، في الوقت الذي يمكن للكلمة ـ في ذاتها ـ أن تنطبق على أكثر من ذلك ، فلم تكن الكلمات المذكورة واردة في هؤلاء على نحو اختصاص المضمون اللغوي بهم بل من خلال اختصاص الاختيار النبوي ـ بوحي الله ـ بهم ، وهذا أمر وارد في أكثر من آية ، حيث تأتي الآية بصيغة الجمع لتأكيد المبدأ العام الشامل لكلّ الأفراد من حيث القاعدة مع أن المصداق واحد كما ورد ذلك في قوله تعالى : (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) [آل عمران : ١٧٣]. فقد ذكر فريق من المفسرين أن القائل هو نسيم ابن مسعود ، لأنه كان قد أخذ أمرا من أبي سفيان لتخويف المسلمين من المشركين ، وقوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) [آل عمران : ١٨١]. فقد ذكر في كلام المفسرين أن القائل هو حيي بن أخطب أو فنحاص ، وذلك باعتبار أن اليهود الآخرين يتفقون معه في هذا القول أو يرضون به مما يجعل قوله قولهم ، ونحو ذلك من الآيات والكلمات المروية عن كلام العرب التي تنطلق في موقع الفرد الواحد ليتحدث عنها بصيغة الجمع من أجل الإيحاء بأن المسألة لا تقتصر عليه بل تتعداه ـ من خلال الذهنية المشتركة بينه وبين فريقه ـ إلى الفريق كله.

أمّا في هذه الآية ، فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ بتوجيه من الله تعالى له ، ـ أراد له أن يؤكد المباهلة في خط التحدي الكبير في موقع الاستعداد لتعريض أعز الناس عليه للخطر الآتي من النتائج السلبية المطروحة في ساحة المباهلة بهلال الكاذب ، وأطلق الحديث عن الأبناء والنساء والأنفس ممن يختص به لإطلاق المبدأ في هذه العناوين ، فكأنه يريد أن يقول لهم إنه على استعداد لدعوة هؤلاء بكل ما يمثلونه من عمق عاطفي في نفسه إلى المباهلة ، للتدليل على صدق

٧٠

دعوته من دون التحديد في عنوان الدعوة ، ولكنهم كانوا محدّدين في نفسه بأشخاص معينين ، لأنهم هم المفضلون لديه ، القريبون إليه ، الأثيرون عنده.

* * *

استواء النسب من جهة الولد والبنت

ونلاحظ ـ هنا ـ إقرار المضمون النسبي الذي يجعل أبناء البنت منتسبين إلى أبيها باعتبار استواء النسب ـ من جهة الولد والبنت ـ إليه ، فلم يفرق القرآن الكريم بين أبناء الابن وأبناء البنت ، وأبطل النظرة الجاهلية التي كانت تعتبر أبناء الابن ـ وحدهم ـ هم الأبناء ، بينما لا تعتبر أبناء البنت أبناء ، وذلك ما عبر عنه الشاعر :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا

بنوهنّ أبناء الرجال الأباعد

لأنهم يرون المرأة ـ الأم ـ مجرد وعاء لا دور لها في الانتساب من حيث التكوين. وهذا خطأ في التحليل الواقعي ، فإن الولد ـ ذكرا كان أو أنثى ـ يولد من خلال نطفة الأب وبويضة الأم ، بحيث يكون نسبته إليهما على حد سواء في طبيعة خلقه وتكوينه.

وقد جاء في القرآن الكريم اعتبار عيسى عليه‌السلام من ذريته إبراهيم عليه‌السلام مع أنه يرتبط به وينتسب إليه من خلال أمه مريم عليها‌السلام وذلك هو قوله تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ* وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ) [الأنعام : ٨٤ ـ ٨٥]. كما جاء في قوله تعالى : (وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ) [النساء : ٢٣] الذي استفاد منه العلماء حرمة زواج الجد بزوجة حفيده وابن الابن ، وسبطه ، وابن البنت ، لصدق كونها حليلة الابن في الجميع على حدّ سواء.

* * *

٧١

المباهلة في الخط الإسلامي العام

٠ وإذا كانت الآية مختصة بالنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الواقعة الخاصة مع وفد نصارى نجران ، فإنها لا تختص ظاهرا به ، بل يمكن أن تنطلق في كل مورد مماثل لم يصل فيه الحوار إلى نهاية حاسمة لعدم استعداد الطرف الآخر للاقتناع بالحجة ـ بعد إقامتها عليه ـ فتكون المباهلة هي الخيار الأخير في ساحة التحدي ، فإن الله قد طرح المسألة على رسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من خلال أنها وسيلة من وسائل المواجهة لإسقاط موقف الآخرين في خط الباطل لمصلحة موقف الحق ، لا لخصوصية في المورد الخاص. وقد ورد في الرواية عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام أنه قال : إذا كان ذلك ـ أي إذا لم يقبل المعاندون للحق ـ فادعهم إلى المباهلة قلت : وكيف أصنع؟ فقال : أصلح نفسك ثلاثا ، وأظنه قال : صم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبّان ، فشبّك أصابعك من يدك اليمنى في أصابعه ، وابدأ بنفسك فقل : اللهم رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع ، عالم الغيب والشهادة ، الرحمن الرحيم ؛ إن كان (فلان) جحد حقا وادعى باطلا ، فأنزل عليه حسبانا من السماء أو عذابا أليما ، ثم ردّ الدعوة عليه. فإنك لا تلبث أن ترى ذلك فيه (١).

* * *

القصص الحق

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ) الذي يقص عن الحق ، ويؤكد مفاهيمه ويقود إلى الهدى ، فلا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وذلك هو دور القصة في حياة الإنسان ، فليست لهوا ولا عبثا ولا حاجة لملء الفراغ ، بل هي خط للوعي ، ومنطلق للهدى ، وحاجة للانفتاح على حقائق العقيدة والحياة في واقع المعرفة الإنسانية ، حيث يؤكد القرآن للرسول وللمؤمنين ، أنّ قصّة

__________________

(١) انظر : البحار ، م : ٣٣ ، ج : ٩٢ ، باب : ، ١٢٨ ص : ٤٦٢ ، رواية : ٢.

٧٢

عيسى عليه‌السلام التي أوضحها الله سبحانه في كتابه ، في موضوع بشريته التي تبتعد به عن الألوهية في أي جانب من الجوانب ، هي الحق الذي لا مجال لإنكاره ، لأنه يرتكز على منطق العقل ومنطق الوحي. فإن الله هو الإله الواحد الذي لا شريك له ، وهو العزيز الذي لا ينال أحد من عزّته في أي شأن من شؤون القوة ، لأن القوة له في كل شيء ، وهو الحكيم في ما يقدره في خلقه من تنوّع الأسباب في مظاهر قدرته في خلق الإنسان في نموذج آدم وعيسى وبقيّة أفراد الإنسان ، فإنّ هذا هو الحق ، فادع إليه ـ يا محمد ـ وأثر لهم كل أساليب الإقناع في ما ألهمك الله من الحجة والبرهان.

(وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) فهذه هي الحقيقة التوحيدية التي تنفي كل ربوبية لغيره ، لأنه ـ وحده ـ الخالق لكل شيء ، فكيف يكون المخلوق له شريكا في ربوبيته ، (وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) الذي تنطلق عزته من قوّته وقدرته ، فلا يملك أحد أن ينقص منها ، وتتحرك حكمته من علمه فلا يعزب عنه شيء. وقد تحدث الله عن عزته وحكمته ـ هنا ـ للتدليل على أن الإله لا بد من أن يكون العزيز في كل مواقع العزة ، فلا يملك أحد القوة معه أو فوقه ، ولا بد من أن يكون الحكيم لينطلق خلقه في السنّة الإلهية التي تعطي كل موجود حاجته وتضع كل شيء موضعه ، لينتظم الوجود كله بكل موجوداته في النظام الكوني الذي تتكامل فيه الأشياء ، فلا ينحرف بعضها عن الخط بحيث يؤدي إلى اختلال الخلق كله.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا فلم ينفتحوا عليك من خلال الدعوة ، ولم يستجيبوا لك في خط الحوار الذي يوصل المتحاورين إلى الحقيقة ، وذلك بالهروب منه ، أو بالدخول في الجدل الفارغ والمهاترات وغير ذلك مما لا يؤدي إلى نتيجة. فلا تلتفت إلى إعراضهم ، ولا تضعف أمام ذلك كله ، فإن ذلك سوف يعبر عن حقيقة سلبية في مضمون إنسانيتهم في الطاقات التي منحهم الله إياها ، وجعلها في تصرفهم وطوع إرادتهم ، ليوجهوها إلى الصلاح ليقوموا بإصلاح أنفسهم في معنى العقيدة ، وحياتهم في خط الشريعة ، وعلاقاتها بالكون والحياة وببعضهم البعض ، في امتداد الحياة ، وإصلاح الواقع من حولهم من خلال دورهم الفاعل

٧٣

في الحركة والبناء ، ووجّههم إلى توحيده باعتباره الفكر الذي يمثل إشراقة الوعي الكامل في وجدانهم ، لينطلقوا ، في وجودهم من معنى الوحدة في الإله إلى الوحدة في المسؤولية من خلال وحدة الإنسان في دوره الريادي في الأرض ، ليتجه الكون كله ـ ولا سيما الكون الحيّ في وجود الإنسان ـ إلى غاية واحدة ، وشريعة واحدة ، ونهج واحد ، من خلال الله الذي يقف الناس كلهم في موقع الطاعة له والعبودية له ، والسير في طريقه المستقيم ، لأن ذلك هو سبيل الإصلاح ، فإن تعدد الآلهة يؤدي إلى فساد الذهنية الحركية في الواقع كله ، فإذا واجهت أمثال هؤلاء الذين لا يعيشون الفكر مسئوليّة ، والصلاح هدفا ودورا ، ورأيتهم غافلين عما فيه نجاتهم وصلاح أمرهم ، فأعرض عنهم واترك أمرهم لله ، (فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ) الذين يفسدون الأرض بعد إصلاحها بإفساد العقيدة وإفساد الحياة من خلال ما يثيرونه من عقائد الباطل وأساليب الضلال ، وهو قادر على أن يعاقبهم بما يستحقون بعد أن قامت عليهم الحجة من جميع الجهات ، والله لا يحب المفسدين.

* * *

الدرس الذي نأخذه من هذا الأسلوب

أما الدرس الذي نستفيده من ذلك كله ، فهو العمل على توظيف الجانب الإيماني ، بعد ممارسة الجوانب العملية والفكرية ، في الحوار الهادىء العميق بين الإسلام وخصومه ، انطلاقا من الفكرة الحاسمة الواقعية التي تقول : إن على الداعية أن لا يهمل أي عنصر من عناصر التأثير على الآخرين في إيصالهم إلى الحقيقة ؛ أو في الإيحاء إليهم بالاطمئنان إلى قوة هذه الحقيقة .. حتى ليقف الإنسان في أشدّ المواقف حراجة في مجالات التحدي لثقته بأن الدعوة في المستوى القوي لمواجهة التحدي بأقوى منه.

وقد أثار علماء التفسير حديثا مطوّلا حول دلالة هذه الآية على بعض الجوانب الخلافية التي وقعت مجالا للأخذ والرد. وذلك مثل مصداقية كلمة

٧٤

(أَبْناءَنا) على الحسن والحسين عليهما‌السلام ، مما يوحي بأن ولد البنت يعتبر مصداقا لمفهوم الابن ... ودلالتها بلحاظ التطبيق ، على أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام هو نفس النبي ، لأن النبي قدّمه في المباهلة من خلال هذه الصفة. ثم يتفرع الحديث في اتجاه دلالة الآية على أن هؤلاء الذين قدمهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمباهلة لهم علاقة بحركة الدعوة ، ولو في نطاق الوصية والتبليغ ، إذ إنه اعتبرهم ـ معه ـ فريقا في النتيجة الحاسمة على تقدير الصدق أو الكذب ، ولذا جاء بكلمة (الْكاذِبِينَ) بصيغة الجمع ...

وقد كثر الحديث والجدال في هذا الموضوع في بعض كتب التفسير ، كتفسير المنار الذي كان يدافع عن فكرة عدم دلالتها على أي شيء يتعلق بموضوع الإمامة ، وكتفسير الميزان الذي يدافع عن فكرة دلالتها على هذا الموضوع ويعالجها بأسلوب علمي دقيق. ونحن لا نريد الخوض في هذا المجال ، بل نكتفي بالإشارة إلى ذلك ليرجع إليه القارئ في مظانه ، لأن منهج التفسير لدينا يتحرك في إطار الوحي القرآني لحركة الدعوة في الحياة.

* * *

٧٥

الآية

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) (٦٤)

* * *

معاني المفردات

(كَلِمَةٍ) : قال الزّجّاج : معنى كلمة : كلام فيه شرح قصة وإن طال ، ولذلك تقول العرب للقصيدة : كلمة (١).

(سَواءٍ) : عدل ، أي : كلمة عادلة لا ميل فيها ، وقيل : سواء : مستو ، هو مصدر وضع موضع اسم الفاعل ، ومعناه : إلى كلمة مستوية بيننا وبينكم ، يقف الجميع أمامها على قاعدة واحدة من حيث طبيعة الفكرة التي ترتبط بالخطوط التي يلتزم بها الجميع.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٦٦.

٧٦

مناسبة النزول

قيل في سبب النزول أقوال : (الأول) : إنها نزلت في نصارى نجران ، (الثاني) : إنها نزلت في يهود المدينة ، (الثالث) : إنها نزلت في الفريقين من أهل الكتاب (١) ؛ وربما كان هذا أولى لشموله لكل الذين يلتقي الإسلام معهم في القاعدة التوحيدية من دون اختصاص بفريق دون فريق.

* * *

منهج الحوار والعمل

في هذه الآية حديث مع أهل الكتاب في أسلوب جديد من أساليب الحوار التي أراد الله للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في ما خاطبه به في وحيه ، أن يواجه به هؤلاء الذين يريد الإسلام الوصول معهم إلى نقطة اللقاء على أساس القناعة في الفكرة الواحدة ، أو التعايش في موقف التفاهم وإقامة الحجة الواضحة التي لا ريب فيها ولا التباس ...

ولعل قيمة هذه الآية في ما تعالج من أسلوب ، أنها تمثل للإنسان الداعية منهجا للحوار والعمل في كل مواقفه العملية في الحياة ، فإن القرآن عند ما يطرح أية قضية في أي مجال من مجالات الحوار مع الآخرين ، سواء أكانوا من المشركين أم كانوا من أهل الكتاب ، لا يتحدث عن التاريخ لمجرّد حكاية التاريخ ، بل يريد أن يفسح المجال للمفاهيم العامة الحيّة كي تتحرك في الساحة من خلال النموذج الحي ، الذي ينقل إلينا الفكرة والتجربة معا ، لتكون الفكرة جاهزة للحياة وللحركة في ضوء حركتها الفاعلة في التاريخ. وتلك هي قصة التاريخ في الإسلام في سلبياته وإيجابيّاته في ما نأخذ منه من عبرة للحاضر على أساس حركة الواقع في الماضي بعيدا عن كل لهو بالقصة ، أو استرخاء مع الحدث الغارق في ضباب الماضي.

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٦٦.

٧٧

والآن ، نحن مع الآية في هذا الأسلوب الجديد من منهج الحوار.

إنها تطرح مع أهل الكتاب فكرة اللقاء على قاعدة مشتركة ، لنتمكّن من خلال ذلك من اكتشاف وجود لغة وقناعات مشتركة ومشاعر قريبة إلى بعضها البعض ، مما يوحي بوجود أساس واقعي للتفاهم ، لأن القضايا المسلّمة لدى كل فريق يمكن أن تتدخل لتحسم الخلاف في القضايا المتنازع فيها ، فهي تدعونا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ، فنحن نؤمن بالوحدانية كما تؤمنون ، وبذلك نلتقي معا في نطاق عبادة الله الواحد فلا نشرك في العقيدة ولا نشرك في العبادة. وعلى ضوء ذلك نلتقي على عدم اتخاذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله ، لأن ذلك يعني الشرك لله في خلقه ، فلا مجال لأن نحلّ ما حرمه الله علينا ، أو نحرّم ما أحلّه الله لنا ، إذا أمرنا هؤلاء بذلك ، فإن ذلك يعني الخضوع والعبادة اللذين يؤديان إلى الشرك في نهاية المطاف.

وهذا ما استوحاه أحد أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في هذه الفقرة في ما يروى عنه في الجواب عن سؤال قدّم إليه ، وخلاصته : إن اليهود لا يتخذون بعضهم بعضا أربابا من دون الله فكيف يطرح عليهم هذه الصيغة التي تشعر بوجود شيء لديهم من هذا القبيل ، فيريد الله أن يخلصهم منه ويفرض عليهم منهجه الحق؟ وكان الجواب يتلخص في التأكيد على هذا الجانب ، فإنهم أحلوا لهم حراما وحرّموا حلالا فاتبعوهم في ذلك ، فكانت تلك ربوبية عملية. وهذا ما نواجهه ، في ساحة العمل المنحرف ، في التزامنا بما تصدره بعض المؤسسات أو الحكومات من قوانين تتنافى مع قوانين الإسلام ومفاهيمه ، فإن ذلك يمثل إشراكا في جانب العمل وإن لم يكن إشراكا في خط العقيدة.

* * *

الدعوة إلى مواطن اللقاء في الحوار والعمل

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ) الذي أنزله الله ليكون هدى ونورا للناس يقفون عند مفاهيمه وينطلقون منه ويتحركون في خطوطه ويرجعون إليه ، ويلتقون عليه إذا

٧٨

تنازعوا ، ليكون المرجع لهم في كل ذلك ... فنحن نؤمن به كما تؤمنون به ، لأننا نؤمن بالكتاب كله فلا نفرق بين كتاب وكتاب ، باعتبار أنه كلمة الله ، ولا بين رسول ورسول لأن الجميع رسل الله (تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) لتكون قاعدة اللقاء على الأرض الفكرية العقيدية المشتركة التي نلتزمها معا ، على أساس وحدة المبدأ من دون الدخول في التفاصيل التي تثير النزاع في الجزئيات هنا وهناك. وإذا شئتم المبدأ العام في اللقاء فإنّه قد يحدث جوّا نفسيا إيجابيا ملائما ، يفسح المجال للانفتاح على الآخر من موقع الإيحاء بأن هناك فرصة للقاء في ما يختلف فيه ، على أساس واقعية اللقاء من خلال ما اتفق عليه ، ليكون الحوار من مواقع اللقاء أقرب إلى حل المشكلة الفكرية والعملية من الانطلاق من مواقع الاختلاف ، (أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ) فهذه هي القاعدة المشتركة في خط عبادة الله الواحد بعيدا عن عبادة أيّ موجود آخر ، لننطلق في كل طقوسنا وعاداتنا وتقاليدنا من ذلك ، فلا نأخذ بأيّة وسيلة من وسائل التعبير عن العادة مما يشير إلى الشرك أو يلتقي به مهما كانت ، (وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً) في الفكر والعمل ، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة ، وهذه هي العقيدة التوحيدية التي توحي بأننا نتوحد بالله ، لأنه ربنا جميعا ، بقطع النظر ـ في البداية ـ عن خلافاتنا في شخصية الإله وإذا ما كان تجسد في عيسى ، وغير ذلك من الخلافات الجزئية في العناوين التفصيلية للعقيدة ، (وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ) فلا يكون الإنسان ربّا للإنسان مهما علا شأنه ، وتضخمت قوته ، وامتدت سلطته ... لأن ذلك كله لا يرفعه إلى درجة الربوبية ، فهو مخلوق من مخلوقات الله ، كما أن ما يملكه من مال وجاه وقوة وسلطان ، هو نعمة من نعم الله.

وفي ضوء ذلك ، لا مجال لأي خضوع لذاته ، ولا طاعة لأوامره ونواهيه ، ولا التزام بخطه في حركة الحياة والإنسان على مستوى الانتماء إليه في ذلك كله ، لأنه يمثل الانحراف عن الحقيقة التوحيدية ، التي تؤكد وحدانية الله في الربوبية ووحدة الإنسان في عبوديته لله ، وفي مساواة كل تنوعاته على صعيد

٧٩

الإنسانية ؛ فليست هناك إنسانية في الدرجة الفوقية وأخرى في الدرجة التحتية من حيث الذات ، بل إن التمايز ينطلق من الصفات المكتسبة أخلاقا وفكرا وعملا.

(فَإِنْ تَوَلَّوْا) وأعرضوا عن هذا الخط المشترك ، ولم ينسجموا مع هذه الروح التي تجمع ولا تفرّق وتقرّب ولا تبعّد ؛ فلا تتشنّج منهم ولا تحقد عليهم ، بل حاول أن تواجههم بالموقف النفسي الحاسم ، (فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) وذلك بالإعلان عن الموقف الحق ، الذي يحمّلهم المسؤولية من خلال تحميلهم مسئولية الشهادة أمام الله ، بأن النبي وأتباعه مسلمون في كل ما يعتقدون وما يقولون وما يفعلون ، فلم ينطلقوا من عقدة الذات أو الحقد ، أو اللعب بالكلمات والمواقف ... بل انطلقوا في هذا الموقف الصلب من موقع إسلامهم لله في الفكر والقول والعمل ... هذا الإسلام الذي يفتح قلوبهم على الحياة وعلى الإنسان من خلال انفتاحه على الله سبحانه .. وربما كانت قيمة هذا الأسلوب في الإعلان عن الموقف بعد إقامة الحجة على الطرف الآخر ، هو الإيحاء بقوّة الموقف ، وعدم الانهزام أمام الحالات السلبية أو الأوضاع الاستعراضية التي يقوم بها الطرف الآخر من أجل تحطيم أعصاب الداعين إلى الله والعاملين في سبيله.

وهكذا يعطي الإسلام للحوار خاتمته من دون أن يغلق بابه أو يسيء إلى الآخرين ، بل كل ما هناك أنه يحاول التأكيد لهم بأن إعراضهم لا يغيّر من الموقف شيئا لأنه لم ينطلق من خلال قناعات الآخرين وتشجيعهم ، بل من داخل القناعة الذاتية المرتكزة على وضوح الرؤية ، مما يجعل من استمراره نقطة تحدّ حاسمة. وفي ضوء ما قلنا آنفا ، ليس هذا الطرح في أسلوب الحوار منطلقا من خصوصية أهل الكتاب ، بل هو مستمدّ من المنهج العام للأسلوب الإسلامي الذي يؤكد على نقاط اللقاء في رحلة الوصول إلى الحقيقة ، ولا يؤكد على نقاط الخلاف إلّا في نهاية المطاف.

* * *

٨٠