تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

معجزات إلهية

ويستمر الحديث عن خصائص هذا الإنسان ـ الكلمة : (وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) فإن الله سيعلّمه الكتاب المتمثل بالوحي الذي ينزله على رسله في ما يمثله من التقاء الرسل على صعيد واحد في قضايا الإيمان والعقيدة والحياة ... وربّما كان يعني الكلمة المكتوبة في ما تمثله من وعي للكتابة والحكمة. ويعلّمه الحكمة التي تصنع للشخصية قوّة الميزان الصحيح الذي يزن به الفكرة والكلمة والخطوة ، فلا يضع الفكرة إلّا في الإطار المناسب ، ولا يحرّك الكلمة والخطوة إلّا في الموقع الملائم ؛ فلا اهتزاز في الموقف ولا انحراف عن الخطّ.

وقد قيل : إن الحكمة هي المعرفة النافعة المتعلقة بالاعتقاد والعمل. وقيل : إنها الفقه وعلم الحلال والحرام عن ابن عباس (١). والظاهر أنها تمثل المصاديق أو الوسائل التي يملك الإنسان من خلالها القوّة الذهنية واللباقة العملية التي يستطيع من خلالها وضع الأشياء في مواضعها ، وتقدير الأمور بمقاديرها.

... وينتقل الحديث من التعميم إلى التخصيص .. (وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) من خلال ما يخططان له من شريعة الله ، وما يرسمانه من حدود لمفاهيم الحياة في تصوراتها وتطلعاتها وأهدافها ، مما يجعل من قضية العلم لديه أمرا لا يرتبط بالترف الفكري الذي يعيش مع الإنسان في نطاق التجريد ، بل يتصل بالحياة في شمولها وامتدادها وحركتها وعمقها في الفكر والأسلوب والعمل ... فيجعل منها رسالة تنتظر في فاعليتها حركة الرسول وموقفه ؛ فيبدأ بالحديث عن نفسه ليقدّم رسوليته التي تبتعد به عن فكر البشر لتقترب به إلى وحي الخالق (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ).

وتنتقل العجائبيّة من ذات الإنسان في ولادته ، إلى طبيعة الممارسات في حياته ، فقد أرسله الله إلى بني إسرائيل الذين تمرّدوا على الله ، وكذّبوا رسله

__________________

(١) الطبرسي ، أبو علي الفضل بن الحسن ، مجمع البيان في تفسير القرآن ، دار المعرفة ، ط : ١ ، ١٤٠٦ ه‍ ١٩٨٦ م ، ج : ٢ ، ص : ٧٥٢.

٢١

وقتلوهم وواجهوهم بمختلف التحديات الصعبة ، فلا بدّ من مواجهتهم بأسلوب حاسم يقهر تمرّدهم ، ويفضح أساليبهم ويوقفهم عند حدّهم ، تماما كما فعل موسى عليه‌السلام مع السحرة فوقعوا له ساجدين. وأيّ أسلوب أعظم من المعجزة التي تتحدى قدرات المجتمع في ثقافته وفعاليّته : (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ)؟!

(وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ) وكان الطب هو الغالب عليهم ـ في ما يقال ـ وماذا يستطيع الطب أن يصنع للإنسان إلّا أن يعالج حركة الحياة لتتوازن ، ويخفّف الآلام لتهدأ ، ويبلسم الجراح لتلتئم ... ولكنه لن يستطيع أن يعطي الحياة للجماد ، أو يمنح البصر لمن يولد بلا بصر ـ وها هو معنى الأكمه ـ أو يشفي الأبرص بمجرّد اللمس ، أو يعيد الحياة إلى الموتى من جديد ... ولكن المسيح عليه‌السلام يستطيع ذلك بإذن الله الذي أعطاه من قدرته التي تمثل الإذن التكويني في حركة القدرة بالأسلوب غير المألوف ... ولا يقف عند ذلك ، بل يتقدم في المعجزة ليخبرهم عما يأكلون ويدّخرون في بيوتهم مما لا يحيط به الإنسان من وراء الغيب الذي يختفي خلف الصدور والجدران (وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) ومن المعروف لديهم أن عيسى عليه‌السلام لم يستند إلى أيّة ثقافة خاصة أو عامّة في ذلك ، أو في بعض ذلك ، لا سيما في الأمور التي لا تصل إليها القدرات الإنسانية مهما ارتفعت ، ولذلك أكّد لهم أن في هذه الظواهر الخارقة للعادة آية لهم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بالآيات التي تقدم إليكم ، من أجل أن تركّز لكم قناعاتكم على أساس البراهين الواضحة التي لا يملك الإنسان معها إلّا أن يرضخ للإيمان في كل مفاهيمه وحقائقه ومتطلّباته ... وتلك هي قصّة النبوّات ، فهي تقود الإنسان نحو الإيمان بالمعجزة التي لا تقبل الشكّ من قريب أو من بعيد.

* * *

٢٢

ولنا هنا ملاحظات :

رسول لبني إسرائيل أم للبشر؟

هل كان عيسى عليه‌السلام رسولا لبني إسرائيل دون غيرهم؟

ربما توحي فقرة : (وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ) بالخصوصية ، وربما ينافي ذلك ما هو المشهور من أن عيسى عليه‌السلام من أنبياء أولي العزم الذين يتميزون بأن رسالتهم تمثل دينا جديدا ينتهي إليه الدين الذي جاء قبله ، مما يعني بالصفة العالمية لهم ، لأن الدين الجديد لا يأتي لجماعة خاصة من الناس.

وربما يجاب بأن هناك فرقا بين الرسول والنبي ، فإن «النبوّة هي منصب البعث والتبليغ ، والرسالة هي السفارة الخاصة التي تستتبع الحكم والقضاء بالحق بين الناس ، إمّا بالبقاء والنعمة ، أو بالهلاك كما يفيده قوله تعالى : (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ) [يونس : ٤٧]. وبعبارة أخرى ، النبي هو الإنسان المبعوث لبيان الدين للناس ، والرسول هو المبعوث لأداء بيان خاص يستتبع ردّه الهلاك وقبوله البقاء والسعادة» (١).

وخلاصة الفكرة أن لعيسى عليه‌السلام صفتين ، النبوة العامة من حيث هو صاحب دين ، والرسالة من حيث هو حاكم وقاض بين الناس. وربما كان المراد من كونه رسولا إلى بني إسرائيل ، أنهم الجماعة الذين يواجههم بالرسالة في حركته الأولى ، باعتبار أن لكل دين منطلقا من الموقع والأشخاص الذين تبدأ الرسالة من ساحتهم ، وتتحرك في قضاياهم ، لترتكز على قاعدة متينة ثابتة يجمع فيها النبي المؤمنين به ، ويلتقي بحواريّيه ويثقف الدعاة إلى دينه والمجاهدين في سبيله ، ليكون دوره فيهم دور التجربة الأولى التي يبدأ بها خط تجاربه الأخرى في المستقبل. وفي ضوء ذلك لا يكون الحديث عن رسالته إلى بني إسرائيل

__________________

(١) الطباطبائي ، محمد حسين ، الميزان في تفسير القرآن ، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات ، بيروت ـ لبنان ، ط : ١ ، ١٤١١ ه‍ ـ ١٩٩١ م ، ج : ٣ ، ص : ٢٢٩.

٢٣

حديثا عن الدائرة المحدودة التي يتحرك فيها عيسى عليه‌السلام في حركته الدينية الرسالية ، بل يكون حديثا عن المنطلق الذي تبدأ به المهمة الرسالية حركيتها في الحياة ، والله العالم.

* * *

هل صدرت المعجزة عن عيسى عليه‌السلام؟

هل قام عيسى عليه‌السلام بالمعجزات في حياته بطريقة فعلية ، أم أنه كان يتحدث عن قدرته على ذلك في دائرة الشأنية من دون أن يمارس ذلك فعلا؟

ذكر بعض المفسرين ـ ومنهم صاحب المنار ـ أن المسيح اكتفى بمجرد الادعاء بأنه يفعل كذا وكذا بإذن الله ، ولكنه لم يفعل منها شيئا أبدا.

وربما كان الأساس في هذا الرأي ، هو استبعاد حدوث المعجزات في طبيعتها العجائبية الخارقة للعادة ، مما يفرض على الباحث تأويلها بالطريقة التي تتوافق مع القوانين الطّبيعية بشكل وبآخر ، وهذا ما درجت عليه بعض المدارس الإسلامية الفكرية أو التفسيرية التي حاولت أن تقدم المضمون القرآني أو الديني بشكل عام بطريقة عقلية لا تتنافى مع التصور العام الذي ينفتح على الأمور بطريقة الحسابات المادية.

ولكننا نلاحظ أن بعض هذه المعجزات ، كما في عصا موسى عليه‌السلام ، لا مجال لتأويلها وتفسيرها طبيعيا.

ثم إنّ إطلاق السؤال عن السبب الذي يفرض مثل ذلك ، أيعني استبعادا لخرق قوانين الطبيعة من قبل الأنبياء؟ ولكن المسألة تتصل بإذن الله وقدرته التي تحوّل العصا ثعبانا والنار بردا وسلاما ، وتحيي الموتى وتبرئ الأكمه والأبرص ، وتمنح الإنسان القدرة على اختراق حواجز الأسرار الذاتية الراقدة في عالم الخفاء.

أليس الدين بذاته حالة غيبية تنطلق من الأسلوب غير العادي في إنزال الوحي على النبي؟

٢٤

وما المشكلة في أن يحرّك الله قدرته ليهيّئ السبل لرسله في الوقوف أمام التحديات بقوة ، ليكونوا في الموقع الأعلى لا الأسفل ، من أجل أن تكون كلمة الله العليا وكلمة الكافرين السفلى ، كما قال الله سبحانه لموسى عليه‌السلام : (قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [طه : ٦٨] فكانت المعجزة خلقا جديدا للأسباب الخفية في مواجهة الأسباب الأخرى الظاهرة.

إن الغيب من أمر الله كما هو الشهود من أمره ، والله يحرّك غيبه في مواقع إرادته كما يحرك الشهود ، لأنه يتساوى لديه عالم الغيب وعالم الحسّ ، ولهذا فلا بد لنا من أن نتقبل المعجزة في عنوانها الغيبي الإلهي بإيمان وتسليم ، كما نتقبل الأمور الطبيعية الأخرى.

وإذا كان الآخرون لا يقبلون التسليم بالأمور الغيبية في الدنيا من خلال المعجزة التي يجريها الله على أيدي رسله ، أو الكرامة التي يكرم الله بها أولياءه ؛ فيحاولون إنكارها لننطلق إلى إقناعهم بها بطريقة مادية ، فكيف يمكن إقناعهم بالغيب في عالم الألوهية ، أو في عالم الآخرة؟!

هذا من الناحية العامة ، وفي الجانب الخاص فإن النص القرآني يؤكد حدوث هذه الأمور من النبي عيسى عليه‌السلام وذلك هو قوله تعالى : (إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ) ، إلى أن قال : (وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠].

والقضية ـ كما أشرنا ـ لا تمثل أيّ انحراف عن خط العقيدة التوحيدية التي تجعل الله ـ وحده ـ مصدر كل خلق ، والفاعل لكل شيء ، لأن النبي لا يملك شيئا من كل ما يصدر عنه من معاجز وكرامات بنفسه ، لأنه لا يملك لنفسه ضرّا ولا نفعا إلا بالله ، بل إن الله هو الفاعل لذلك كله ، الذي أجرى الأمور على يد نبيه أو وليه من خلال المصلحة التي يحدّدها بحكمة ويؤكدها بقدرته.

* * *

٢٥

الولاية التكوينية

ربما يتصور بعض العلماء أن هذه الآية تدل على أن الله جعل لأنبيائه ورسله ولاية تكوينية ، يتصرفون من خلالها بالكون ، فيغيرون الأشياء وينقلونها من حال إلى حال ، ويجمدون الأسباب ويصنعون أسبابا جديدة للأشياء بإذن الله من خلال ما أعطاهم الله من السلطة على الكون في حركة التكوين ، كما أعطاهم السلطة الشرعية في إدارة شؤون الناس وحكمهم وبثّ قوانين الشريعة بينهم وهدايتهم إلى دينه.

وقد أخذت نظرية (الولاية التكوينية) بعدا عقائديا حاسما متنوعا في تضييق المسألة لتبقى في دائرة المعجزة ، وفي توسيعها لتشمل كل الكون ، حتى أن البعض يرى أن الله فوّض للأنبياء وللأئمة عليهم‌السلام أمر التصرف في الكون في حركته الخفية والظاهرة ، بحيث إنهم يملكون القدرة على تغيير ما يريدونه في الكون وفي الإنسان ، من دون أية قدرة ذاتية مستقلة ، بل من خلال القدرة التي مكّنهم الله منها وأعطاهم إياها ؛ فهم القادرون بقدرة الله ، الأولياء على الكون بولايته ، وهذا ما يبعد المسألة عن الشرك والغلوّ والانحراف عن خط العقيدة المستقيم.

* * *

إمكان الولاية التكوينية وضرورتها

ونحن نريد أن نناقش المسألة من ناحيتين : الناحية الأولى ، وتنقسم إلى نقطتين :

النقطة الأولى : جانب الإمكان ، ولا إشكال في إمكان هذا الجعل من ناحية المبدأ ، لأن الله القادر على الوجود كله والكون كله ، يملك ـ في مضمون ألوهيته المطلقة ـ أن يمكّن بعض خلقه من بعض مواقع القدرة ووسائلها ، فهو

٢٦

الذي جعل لهم القدرة في دائرة إنسانيتهم في أوضاعهم الخاصة والعامة ، من خلال ما أوكل الله إليهم من مهمّات تتصل بالمسؤوليات الملقاة على عواتقهم ، والحوافز المرتبطة بتطلعاتهم وحاجاتهم ، ولا بد من أن يكون له القدرة على توسيع هذه الإمكانات لأكثر من مهمة جديدة في الكون. ويبقى الله مسيطرا ومهيمنا على الأمر كله ، فله أن يبقيها لهم في مدى حكمته ، وله أن يسلبها عنهم في مدى قدرته ، وليس في ذلك أيّة منافاة أو انحراف عن العقيدة التوحيدية التي ترتكز على أن الخلق والأمر له في كل شيء ، فلا يملك أحد من أيّ شيء إلا ما ملّكه الله ، لأن القضية قضية عطاء إلهي يتحرك في الدائرة الخاصة التي يحددها الله لعباده من خلال إرادته المطلقة التي لا يعجزها شيء.

النقطة الثانية : جانب الحاجة أو الضرورة لذلك ، والسؤال : لماذا يجعل الله لهم هذه الولاية التكوينية؟ هل هناك مهمة تتوقف على ذلك ، بحيث تكون المسألة هي أن يملكوا القدرة الفعلية الشخصية بحيث يصدر الفعل منهم فلا يتحقق الهدف إلا من خلال ذلك ، أم هي قضية تشريف إلهيّ لهم حيث يمنحهم هذا الموقع الكبير الذي لا يملكه أحد في الوجود غيرهم؟

هذه علامات استفهام تطوف في الذهن ، فلا نجد لها جوابا إيجابيا يؤكد النظرية ، فنحن نعلم أن دور الأنبياء هو دور تبشير وإنذار وتبليغ ، وإذا كان لهم دور تنفيذي فإنهم يتحركون فيه من خلال الوسائل العادية المطروحة بين أيديهم في الحالات العادية. فإذا جاء التحدي الكبير الذي يحوّل الموقف إلى خطر كبير على الرسالة والرسول ، بحيث كانت الوسائل العادية ذات مردود سلبيّ على الموقف والموقع ، لأنها تجعل القضية في حالة الضعف الشديد ، فإن المعجزة عندئذ تتحرك لتحفظ توازن الرسالة في موقع الرسول ، وتصدم واقع الكافرين بالصدمة القوية القاهرة التي تردّ كيدهم وتهدم كيانهم وتؤدي بهم إلى الضعف والهزيمة ، كما في طوفان نوح عليه‌السلام ، ونار إبراهيم عليه‌السلام ، وعصا موسى عليه‌السلام ، أو يده البيضاء وفلق البحر له ، وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص لدى عيسى عليه‌السلام ، وقرآن محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتنتهي المسألة عند هذا

٢٧

الحد ، فتكون بمثابة قضية في واقعة ، وتعود الرسالة إلى مجراها الطبيعي ، ويعود الرسول إلى الوسائل العادية ، ويتحرك الصراع من جديد ليعيش النبي هنا وهناك أكثر من مشكله وهمّ وبلاء ؛ فيتحمل الألم القاسي ، ويواجه التحديات الصعبة كأيّ إنسان آخر من دون أن يبادر إلى أية وسيلة غير عادية للتخلص من ذلك كله.

أمّا التشريف ، فإنّه لا يتمثل في إعطاء القدرة من دون قضية ، أو توسيع السلطة من دون مسئولية ، والله يشرف أنبياءه من خلال رفع درجتهم عنده من خلال تقريبهم إليه ومحبته لهم وعلوّ مقامهم في الآخرة ، أما الدنيا فلا قيمة لها عنده ، ولذلك لم يجعلها أجرا لأوليائه بل أتاح الفرصة الكبرى فيها لأعدائه.

إنّنا لا نجد أية ضرورة أو حاجة تفرض إعطاء الولاية التكوينية المطلقة لهم إلّا بالمقدار الذي تحتاجه الرسالة في أصعب أوقات التحدي مع احتمال أنها ليست من قدرتهم ، ولكنّها قدرة الله بصورة مباشرة. ثم ما معنى هذه الولاية التي لا أثر لها في حياتهم من قريب أو من بعيد ، ولا دخل لها في حماية رسالتهم ، فلم يستعملوها في إذهاب الخطر عنهم ، ولم يتحركوا بها في الانتصار لرسالاتهم ، وذلك من خلال قراءة تاريخهم الصحيح كله؟

* * *

أدلة الولاية التكوينية

الناحية الثانية ناحية الدليل على ثبوتها من خلال النص القرآني في نطاق المعاجز الخارقة في حياة الأنبياء ، فنلتقي في البداية بالنبي نوح في قوله تعالى : (* كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ* فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ* فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ* وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) [القمر : ٩ ـ ١٢] وهي واضحة الدلالة على أن المسألة كانت دعاء نوح

٢٨

واستجابة ربه له بإغراق الكافرين بالطوفان ، من دون أن يكون لنوح أيّ دور عملي فيه.

فإذا انتقلنا إلى إبراهيم عليه‌السلام فنجد قوله تعالى : (قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ* قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ* وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ) [الأنبياء : ٦٨ ـ ٧٠] إنه اللطف الإلهي بنبيه إذ أرادوا إحراقه ، فأنجاه الله من النار فحوّلها إلى عنصر بارد. فإذا انتقلنا إلى الطلب الذي قدمه النبي إبراهيم عليه‌السلام إلى ربّه أن يريه كيف يحيي الموتى وذلك قوله تعالى : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة : ٢٦٠]. فإننا نرى أن دور إبراهيم في المسألة هو أن يأتي بالطيور ويذبحها ويقسمها إلى أجزاء ثم يدعوهن لتأتينه سعيا ، لنشاهد الصورة الواضحة في كيفية إحياء الله الموتى ، فإن الله هو الذي أحياها بطريقة مباشرة ولم يكن لإبراهيم دور في ذلك.

ونصل إلى موسى عليه‌السلام الذي تمثلت المعجرة لديه أولا في مجلس فرعون الذي قال كما جاء به قوله تعالى : (قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ* فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ* وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ) [الأعراف : ١٠٦ ـ ١٠٨] ثم في ذروة التحدي الذي واجهه في صراعه مع السحرة ، وذلك قوله تعالى : (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ) [الأعراف : ١١٧]. ونحن لا نرى أي جهد لموسى في الموضوع ، فإنه كان يعيش دور المنفعل الذي يحولّ الله يده السمراء إلى بيضاء ، ويحوّل العصا التي يمسكها إلى ثعبان ، وكان خاضعا للخوف من تجربة السحرة ، وللحيرة في ما يمكن أن يقوموا به ردّا للتحدي ، لأنه كان ينتظر تدخل الله غير العادي في المسألة ، وذلك هو قوله تعالى : «(فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى * قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى * وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى) [طه : ٦٧ ـ ٦٩].

٢٩

ثم نلتقي بالنبي سليمان عليه‌السلام الذي قال : (رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [ص : ٣٥] واستجاب الله دعاءه : (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ* وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ* وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ* هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ) [ص : ٣٦ ـ ٣٩]. فليس في القصة إلا دعاء واستجابة ربانية أعطته ما يريد من دون أن يكون له أيّ دور عملي أو قدرة واقعية في تحقيق ذلك.

ونصل ـ بعد هذه الجولة الطويلة ـ إلى عيسى عليه‌السلام الذي قد يدّعى ظهور الآية في صدور المعجزة عنه من خلال جهده الذاتي الذي اكتسبه بإذن الله ، وهذا هو ما جاء في الآية الكريمة : (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) فنلاحظ أنه ينسب الخلق إلى نفسه ، كما يتحدث عن عملية إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى والإخبار بالغيب في أوضاع الناس الخاصة إلى جهده وفعله الشخصيّ ، ولكن بإذن الله.

وربما يجد القائلون بالولاية التكوينية الحجة الدامغة في هذه الآية الكريمة ، ولكننا نستوحي من كلمة : (بِإِذْنِ اللهِ) في هذه الآية ، أو كلمة : (بِإِذْنِي) [المائدة : ١١٠] أن دور عيسى كان دور الآلة التي تتحرك لتصنع شيئا كهيئة الطير وتنفخ فيه ، فيبعث الله فيه الحياة. وهكذا يضع يده على الأكمه والأبرص وعلى الميت ، فتحدث العافية في الأولين ، وتنطلق الحياة في الثالث من خلال إرادة الله.

من هنا ، فإنّ كلمة (بِإِذْنِ اللهِ) لا تعني معناها الحرفي اللغوي ، بل تعني معنى القوة التي تنطلق لتحقق النتائج الحاسمة التي لا يملك عيسى عليه‌السلام أيّة طاقة خاصة به فيها.

وهكذا نرى أنه لا دليل في كل هذه المواقع على الولاية التكوينية في

٣٠

النص القرآني ، بل ربما نجد الدليل على خلافها من خلال الآيات التي تدل على أن النبي لا يملك شيئا من ذلك كله ، وأن مهمّته الأولى والأخيرة هي الرسالة في حركتها في الإبلاغ والتبشير والإنذار وهداية الناس إلى سبل السّلام في الطريق إلى الله ، بل إن القرآن يؤكد وجود عناصر الضعف البشري في ذات الرسول ، ولكن في المستوى الذي لا ينافي العصمة ، فنقرأ في سورة الإسراء قوله تعالى : (وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً* أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً* أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً* أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولاً) [الإسراء : ٩٠ ـ ٩٣]. فنحن نلاحظ أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يتحدث عن رفضه للمعجزات الاقتراحية التي يوجهها الناس الكافرون للأنبياء كوسيلة للتحدي والتعجيز مما يرفضه الأنبياء ، لأن مهمة النبي ليست هي إشغال نفسه بتنفيذ هذه الطلبات التي لا معنى لها بعد إقامة الحجة عليهم من قبله ، بل تحدّث عن أن ذلك لا يدخل في مهمته الرسالية ، كما أنه لا يملك هذه القدرة باعتبار بشريته التي تختزن في داخلها الضعف البشري.

وإذا كان بعض الناس يتحدثون عن أن القائلين بالولاية التكوينية يؤكدون أن النبي لا يختزن في مضمون بشريته أية قدرة ذاتية ، بل إن الله هو الذي يمنحه ذلك ، فإننا نجيب أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنما كان يتحدث عن الواقع الفعلي الذي تمثله طاقته في دوره ، فإن الله أعطاه الطاقة المرتبطة بحركية الرسالة في الناس ، ولم يعطه الطاقة ـ حتى بإذنه ـ لمثل هذه الطلبات الصعبة.

وقد نستوحي من هذه الآيات ومن غيرها أن المعجزة الوحيدة للنبي هي القرآن الكريم ، فلم يقم النبي بمعجزة أخرى كانشقاق القمر ، بحيث لو كانت منه لكانت أكثر استجابة للتحدي الذي واجهه النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من قبل المشركين ، كما أنها أكثر صعوبة من هذه الاقتراحات. وقد تحدث المشركون عن هذه المسألة ـ وهي عدم قيام النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعجزة المماثلة لما قام به الأنبياء

٣١

السابقون ـ وذلك في قوله تعالى : (وَقالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) [الأنعام : ٣٧] وقوله تعالى : (وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ) [الرعد : ٧] فقد يظهر من هذه الآية ، أنّ إنزال الآيات ليس أمرا ضروريا للنّبوّة إلّا في حالات التحدّي الكبير الذي يهدّد حركتها في ساحة الصراع والمواجهة ، ولذلك لم ينزل الله على النبي آية ، لأن التحدي لم يصل إلى هذه المرتبة الحاسمة. وقوله تعالى : (وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفاً) [الإسراء : ٥٩]. وظاهرها نفي الإرسال بالآيات بالرغم من أنها كانت مطلبا ملحّا للمشركين ، كما جاء في آية أخرى في قوله تعالى : (وَأَقْسَمُوا بِاللهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ) [الأنعام : ١٠٩]. فإن المسألة لم تكن في مستوى الضرورة ، ولم تكن في واقع الحاجة للمهمة الرسالية.

ونلتقي في آيات أخرى ببعض مظاهر الضعف البشري الفعلي للأنبياء ، وذلك كما في قصة موسى الذي خرج من المدينة خائفا يترقب ، وكان يعيش الخوف من قتل فرعون وقومه له : (وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) [الشعراء : ١٤] والخوف في ساحة التحدي مع السحرة : (فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى * قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى) [طه : ٦٨] ونجد ذلك في قصة إبراهيم عند ما دخل عليه الملائكة : (فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ) [الذاريات : ٢٨]. ونلاحظ ذلك في خطاب الله للنبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كيف يقدم نفسه للناس : (قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ) [الأنعام : ٥٠] ، وقد ورد هذا المضمون في سورة هود في آية : (وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً) [هود : ٣١] ، فإن هذه الآية ظاهرة في تأكيد بشرية الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وبأن كل ما لديه إنما هو من الله سبحانه وتعالى ، يمنحه إياه

٣٢

بقدر حاجة الرسالة إليه في حركتها في الحياة. وثمة اشارة في الآية إلى أن الغيب الذي قد يعلمه الله للنبي إنما ينزل عليه بطريق الوحي كما جاء التصريح به في آية أخرى : (ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ) [آل عمران : ٤٤] وقد جاء في قوله تعالى : (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الأعراف : ١٨٨] ، وهذه الآية تدل على نفي الفعلية في وجود الطاقة التي تدفع عن الإنسان الشر وتجلب له الخير ، بحيث إنها تأتي تدريجا بمشيئة الله لا بنحو خلق الطاقة في الكيان النبوي ليتحرك من خلالها إراديا ، ويؤكد ذلك أنه يتحدث عن الواقع الذي كان يصيبه بالسوء بمختلف ألوانه ، أو يمنع منه الكثير من الخير. فكأنه يريد الإيحاء بأن ذلك لا يتصل بدوره لأن دوره البشارة والإنذار لقوم يؤمنون مما لا يحتاج فيه إلى علم الغيب إلا بما يرتبط بحركة الرسالة في تاريخ الرسالات في الأمم السابقة. وهذا مما يوحيه الله إليه في القرآن الكريم من أنباء الغيب ، في التاريخ الذي لا يعلمه هو ولا قومه.

وقد ورد في بعض الآيات الحديث عن أن الله يظهر رسله على الغيب ، وذلك هو قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً* لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً) [الجن : ٢٦ ـ ٢٨] ، فقد استند إليها القائلون بأن الله قد أعطى رسوله وأولياءه العلم بالغيب إما بطريق الفعلية الاستحضارية وإما بطريق القوة ، بمعنى أنه لو شاء أن يعلم لعلم. وذكروا أن ظاهر الاستثناء في قوله تعالى : (إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ) هو الإطلاق الذي لم يتقيد بشيء مما يوحي بأن المسألة تشمل كل شيء يريد الرسول أن يعلمه من الغيب ، ويفسرون ما حكي من كلامه تعالى من أنّ إنكارهم العلم بالغيب أريد به نفي الأصالة والاستقلال دون ما كان يوحى. ولكننا نحتمل أن يكون قوله تعالى : (فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) إشارة إلى الغيب الذي يظهر عليه من ارتضى من رسله ، وهو الجو الملائكي الذي يحميه من الشياطين ،

٣٣

فيطردهم عنه ويعصمه من وساوسهم وتخاليطهم ، حتى يبلغ ما أوحي به إليه ؛ فليست الآية في مقام الحديث عن علم الرسول للغيب بل عن حمايته بطريق الغيب ، فكأنه بداية كلام جديد في الحديث عن مهمة الرسل في إبلاغهم رسالات ربهم واطلاعه عليهم وحمايته لهم ، وذلك على أسلوب الاستثناء المنقطع ، لأن مثل هذا الاستثناء ـ على حسب ما يرى هؤلاء ـ يتنافى مع الأسلوب القرآني الذي يؤكد نفي علم الأنبياء بالغيب ، الذي لم يكن واردا على سبيل نفي الاستقلال ـ كما ذكر ـ بل على نفي الفعلية بحسب الواقع الفعلي الذي يعيشه في حياته وفي مهمته الرسالية.

وخلاصة الفكرة أن هناك فرقا بين علم الغيب كملكة تدخل في نطاق التكوين الذاتي للنبي ـ في خصوصية نبوّته ـ وهذا ما ينفيه الظاهر القرآني ، سواء ذاك المتصل بأخبار الماضين ، والذي يمكن إدراجه تحت عنوان علم الغيب ، حيث ثمة إشارة واضحة في القرآن الكريم أن أنباءه هي من وحي الله تعالى ، أو ذاك المتصل ببعض موارد الحاجة إليه في موارد معينة ، فيلهمه الله تعالى إياه إلهاما ، فهذا ما لا ينفيه النص القرآني ، بل قد تؤكده بعض الآيات. وقد وردت أحاديث متنوعة في علم الأنبياء والأئمة بالغيب ، وهي موضع جدل علميّ ، وربما نتعرض لها في ما يأتي في حديث الغيب في آيات القرآن.

ومن خلال هذا الحديث الطويل نستطيع أن نخرج بالفكرة التي تنفي الولاية التكوينية بمعناها التكويني الذي منحه الله للأنبياء وللأئمة ، لأن الدليل لم يدل عليه ـ حسب فهمنا القاصر ـ ولكن يبقى ـ في المسألة ـ أن الله يمنح الأنبياء الفرصة التي يواجهون فيها تحديات الكفر بالمعجزات عند الحاجة إليها ؛ والله العالم.

* * *

٣٤

الآيتان

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ) (٥١)

* * *

معاني المفردات

(وَمُصَدِّقاً) : قال في مجمع البيان : «الفرق بين التصديق والتقليد أن التصديق لا يكون إلا في ما تبرهن عند صاحبه ، والتقليد قد يكون في ما لا يتبرهن ، ولهذا لا نكون مقلدين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإن كنّا مصدّقين له» (١).

(وَلِأُحِلَ) : التحليل : هو الإطلاق للفعل بتحسينه.

(حُرِّمَ) : التحريم : هو حظر الفعل بتقبيحه.

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٥٤.

٣٥

(مُسْتَقِيمٌ) : الاستقامة : الاعتدال وهي خلاف الاعوجاج.

* * *

حلقة في سلسلة مباركة

... ويتابع عيسى حديثه في التدليل على طبيعة مهمّته ورسالته ، فيعتبرها ـ كما هي عند الله ـ حلقة في السلسلة المباركة النبويّة.

(وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) فإن النبوّة الجديدة لا تلغي النبوّة القديمة ، لأن النبوات ليست منطلقة من شخص النبي في ذاتياته الفكرية ، بل من وحي الله الذي يشرّع للحياة كلها وللإنسان كله ، في الخط العام الذي تتكامل فيه الرسالات وتتوزع فيه الأدوار ، إلا ما يختص بمرحلة النبي في الزمن الذي يعيش فيه الناس الذين أرسل إليهم والأوضاع التي قد يعرض عليها التغيير ؛ وهكذا كان كل نبي مصدقا لمن قبله في رسالته وفي الكتاب الذي أنزل عليه ، ومنهم النبي عيسى عليه‌السلام.

... فهو أحد الأنبياء الذين اختصهم الله برسالاته ، فقد جاء بعد موسى عليه‌السلام وأقرّ الكتاب الذي أنزل عليه من التوراة وصدّق به ، لأنّ أحكامه لم تنسخ ـ في الأغلب ـ ولأن مفاهيمه لم يتجاوزها الزمن فلا تحتاج إلى تجديد ... وفي ضوء ذلك ، فإن موقفه الرسالي لا يمثل تحدّيا للمفاهيم والأحكام التي يؤمن بها هؤلاء الذين بعث إليهم من بني إسرائيل ، لأنه تركها على حالها ، ما عدا بعض الأحكام التي حرّمت عليهم كنتيجة لتمرّدهم ، فأراد الله أن يؤدبهم بالتشريع الصعب الذي يثقل عليهم مسئولياتهم ، حتى إذا انطلق الزمن في مدار جديد ، رفع الله عنهم ذلك كلّه ببركة هذا الرسول الجديد الذي جاء رحمة لهم وبركة عليهم : (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ).

٣٦

وهكذا كانت الرسالات السماوية تدفع الإنسان إلى السير مع خط الرسالة في ما أوحاه الله لرسوله من كتاب ، وإلى السير مع الرسول في ما يلهمه الله من شؤون الحركة الإسلامية في قضايا الناس اليومية في ما يأمرهم الرسول به أو ينهاهم عنه ، مما يحدث لهم في كل أمورهم ...

ويتصاعد الأسلوب ليضع قضية الإيمان بالله وعبادته في نطاقها الطبيعي ، فهي ليست مجرد فكرة طارئة ، تأخذ جانبا من جوانب الفكر كأيّة فكرة أخرى ، بل هي خط للحياة يفرض نفسه على الفكر والممارسة والشعور.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ) وهكذا دعاهم إلى تقوى الله في الوقوف عند حدوده من خلال ما أوجبه وما حرّمه عليهم ، وإلى طاعته في ما يريد أن ينظّم لهم من حياتهم في مسارها الجديد الذي يخلق لنا أوضاعا جديدة في حركة الإيمان نحو أهدافه الكبيرة في الحياة. فإن التّقوى والطاعة لله مظهر الاعتراف بالربوبية الشاملة في تأكيدها المضموني الإيحائي على العبودية الخالصة في خضوع الإنسان لربه ، وهما الخطان اللذان يتحرك فيهما المبدأ العام في امتداده الحركي ، كما تنطلق فيهما المفردات التفصيلية التي ترتبط بالعقيدة كلها في مضمونها العملي : (إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ).

فإن الإيمان بربوبية الله للنبي وللناس الآخرين يمثل بداية للتصور والحركة من خلال ما يعنيه الإيمان من حركة الحياة على الصراط المستقيم ، لذلك فإن الدعوة إليه هي دعوة للاستقامة على المنهج الإيماني الحق في بداية المرحلة ونهايتها.

* * *

من وحي الآية

وهذا ما يجب أن نستوحيه في المنهج التربوي الذي يطرحه العاملون في سبيل الله ، من أجل بناء الشخصية الإسلامية والقاعدة الإسلامية الواسعة الممتدة

٣٧

في الحياة ؛ فإنّ عليهم أن لا يقعوا في الخطأ الذي وقع فيه الكثيرون ، الذين لا يرون في الإيمان إلّا حالة خاصّة من حالات النفس الإنسانية التي لا يستوقفها ذلك كثيرا ... فلا قيمة كبيرة له خارج هذا النطاق ، بل هو الحياة كلها في حالاتها المتنوّعة وفي مواقفها المختلفة ، فإن القضية بين خيارين وبدايتين ؛ فإذا كانت البداية هي الاعتراف بربوبية الله الواحد ، فإن حركة الحياة تتجه إلى الآخرة عبر الحياة الدنيا ، في خط مستقيم تحكمه القيم الروحية ، وتنطلق في تصوّر متوازن لا تتعدد فيه العبادة تبعا لتعدّد الآلهة ، بل يتوحد فيه الإله وتتّحد فيه العبادة. وإذا كانت البداية هي إنكار الإله في وجوده وفي وحدانيته ، فإن حركة الحياة تتثاقل إلى الأرض لتشدّها الأرض إلى شهواتها وغرائزها وأطماعها ، وتدخل بها في منعطفاتها الضاربة في خطوط التّيه ، وتتنوّع فيها العبادة ليعيش الإنسان فيها عبوديته لكل شيء من حوله ، ويفقد بذلك حريته في الموقف وفي الإرادة والحياة.

* * *

٣٨

الآيات

(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) (٥٥)

* * *

معاني المفردات

(أَحَسَ) : الإحساس : الإدراك بالحاسة. وقوله تعالى (فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ) إشارة إلى ظهور الكفر منهم ظهورا بيّنا إلى درجة الإحساس به من الآخرين ، رغم كونه أمرا قلبيا.

٣٩

(أَنْصارِي) : الأنصار : جمع نصير.

(الْحَوارِيُّونَ) : أصل الحواري : الحور ، وهو شدة البياض ، ومنه الحواري من الطعام لشدة بياضه ، ومنه قيل للحضريات : الحواريات لخلوص ألوانهن ونظافتهن. وحواري الرجل صفوته وخالصته. وقد جاء في إنجيل متى ولوقا ـ الباب السادس ـ ذكر تعدادهم : ١ ـ بطرس ، ٢ ـ أندرياس ، ٣ ـ يعقوب ، ٤ ـ يوحنا ، ٥ ـ فيلوبس ، ٦ ـ برتولولما ، ٧ ـ متى ، ٩ ـ يعقوب بن حلف ، ١٠ ـ شمعون الغيور ، ١١ ـ يهوذا أخو يعقوب ، ١٢ ـ يهوذا الأسخريوطي الذي خان السيد المسيح.

وقد جاء في مجمع البيان : «روي أنهم اتبعوا عيسى ، وكانوا إذا جاعوا قالوا : يا روح الله جعنا. فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا ، فيخرج لكل إنسان منهم رغيفين يأكلهما ؛ وإذا عطشوا قالوا : يا روح الله عطشنا ، فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا ، فيخرج ماء فيشربون. قالوا : يا روح الله من أفضل منا إذا شئنا أطعمتنا ، وإذا شئنا سقيتنا ، وقد آمنا بك واتبعنا؟ قال : أفضل منكم من يعمل بيده ويأكل من كسبه ، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء». (١) وهكذا أعطاهم درسا اجتماعيا دينيا أن القيمة هي للإنسان الذي يعطي الحياة من جهة ، في مقابل ما يأخذ منها.

(الشَّاهِدِينَ) : جمع الشاهد ، وهو المخبر بالشيء عن مشاهدة ، وهذا هو المعنى الحقيقي ، وقد يتصرف فيه فيقال : قولهم شاهد بحق ، أي : هو بمنزلة المخبر به عن مشاهدة. ويقال : هذا شاهد ، أي : معدّ للشهادة.

(الْماكِرِينَ) : المدبّرين للإيقاع بالآخرين في خفية ، والله خير المدبّرين لأنه الذي يملك زمام الحياة والإنسان. والمكر ـ كما يقول الراغب ـ «صرف الغير عمّا يقصده بحيلة» ، وذلك ضربان : مكر محمود ، وذلك أن يتحرى بذلك فعل جميل ، وعلى ذلك قال : (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) ، ومذموم وهو أن يتحرى به

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٥٧.

٤٠