تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

الآية

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) (١٨٧)

* * *

معاني المفردات

(فَنَبَذُوهُ) : النبذ : إلقاء الشيء لعدم الاعتداد به.

* * *

أخذ الله ميثاق أهل الكتاب

(وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ) بما عهد إليهم من المسؤوليات الحركية في حركتهم الرّسالية فيه (لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ) لأن الله أنزله للناس كافة ، من أجل أن يتحول إلى فكر في عقولهم ، وإلى عاطفة في قلوبهم ، وإلى إحساس

٤٤١

في مشاعرهم ، وإلى واقع في حياتهم العامة والخاصة ، مما يفرض على الطليعة الحاملة له أن تقوم بمهمة إبلاغه للناس ودعوتهم إليه وتوجيههم إلى مفاهيمه ، لأن الهدف المنفتح على واقع الفكر لا يمكن أن يحصل إلا بأن ينتشر الحق في وعي الناس كلهم ، باعتبار أن الوعي هو الخطوة الأولى للحركة ، (وَلا تَكْتُمُونَهُ) انطلاقا من بعض التعقيدات النفسية ، والنوازع الذاتية ، والأطماع المادية ، والعلاقات الاجتماعية ... وغير ذلك من المؤثرات التي تدفع الإنسان إلى إخفاء الحقيقة ، لأنها قد تربك بعض حياته ، كما في الحالات التي تعمل على تأييد الظالمين ودعم مواقعهم ، وتطييب نفوسهم ، وتسهيل أمورهم رغبة في الحصول على بعض امتيازاتهم وأموالهم ، لأن الكتاب يشجب ذلك كله ، ويدعو إلى حماية المستضعفين من هؤلاء المستكبرين ، وإلى اعتبار الإيمان قيمة تتفوق على كل قيم الثروة والجاه ونحو ذلك ، وربما يكون الكتمان لبخل في العلم واستئثار به لعقدة نفسية ونحو ذلك ، (فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ) أي نبذوا الكتاب وطرحوه ، لأنهم لا يلتزمون به التزام المؤمن بالنص المقدّس وبالإيمان المسؤول وبالواقع المنفتح على القيم الروحية والأخلاقية ، بل كانت المسألة لديهم مجرد انتساب بالاسم ، للانتفاع به في مصالحهم الدنيوية ونوازعهم الذاتية ، وقد جاء في بعض التفاسير أن الضمير في كلمة (فَنَبَذُوهُ) يرجع إلى الميثاق ـ كما في تفسير الكشاف ـ حيث ذكر في معناه : «فنبذوا الميثاق وتأكيده عليهم ، يعني لم يراعوه ولم يلتفتوا إليه» (١)(وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) فقد استبدلوا بعهد الله عليهم وميثاقه ومخالفته عوضا يسيرا من حطام الدنيا مما حصلوا عليه من مال أو جاه أو شهوة لا يبقى لهم منه شيء.

(فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) لأنهم حصلوا على أسوأ النتائج ، وأيّ نتيجة أكثر سوءا من عذاب جهنم التي لا يمكن أن يعادلها أيّ نفع عاجل من حطام الدنيا؟!

* * *

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٤٨٦.

٤٤٢

العلم أمانة الله

وإذا كانت هذه الآية قد تحدثت عن ميثاق الله لأهل الكتاب في تبيانه للناس وعدم كتمانه ، فإنها توحي بالخط العريض الذي يشمل العلم كله ، مما يحتاج الناس إليه في كل أمور دنياهم وآخرتهم ، فإن العلم أمانة الله في عقل العالم ووجدانه ، فلا بد له من أن يؤديه إلى كل جاهل يحتاج إليه في حركة وجوده ، وهو أمانة الإنسان عند الذين يملكونه ، باعتبار أن طاقات الأمة ليست شيئا معلّقا في الفضاء ، بل هي موجودة في طاقات الأفراد الذين يتجمعون ليمثلوا طاقة الأمة مجتمعة ، ولذلك فإن الذين يحجبون عن الأمة طاقاتهم ، فلا يبذلونها لها ، هم من الخائنين لأماناتهم العامة. وقد جاء في الحديث عن النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من كان عنده علم فكتمه ألجمه الله يوم القيامة بلجام من نار» (١). وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الحسن بن عمارة قال : أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث ، فألفيته على بابه فقلت : إن رأيت أن تحدثني؟ فقال : أو ما علمت أني تركت الحديث؟ فقلت : إمّا أن تحدثني وإما أن أحدثك؟ فقال : حدثني. فقلت : حدثني الحكم بن عتيبة عن نجم الجزار قال : سمعت علي بن أبي طالب عليه‌السلام يقول : «ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا» (٢). قال : فحدثني أربعين حديثا» (٣).

وخلاصة الفكرة : أن العلم يمثل مسئولية العالم في بذله للناس بالطريقة التي تفتح عقولهم على الله وعلى الرسالة وعلى الحياة ، بحيث يكفل لهم ذلك الارتفاع إلى الدرجات العليا في الوعي الشامل وفي مواجهة حاجات الدنيا والآخرة ، فلا بد له من أن يقوم بمسؤوليته في ذلك كله على أساس الحساب أمام الله في ذلك كله.

__________________

(١) البحار ، م : ١٩ ، ج : ٥٧ ، باب : ٣٩ ، ص : ٤١٥ ، روايى : ١١.

(٢) نهج البلاغة ، قصار الحكم / ٤٧٨.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٩٠٥.

٤٤٣

من هنا ، فإنّ المعرفة مسئولية الأشخاص الذين يملكونها ، فقد أخذ الله ميثاقهم على أن يقدموها للناس ويبذلوها ، لينطلق الناس في خط الوعي الذي يفتح لهم حياتهم على قضايا الحق والهدى والإيمان ، فتتحرك من مواقع النور وتبتعد عن آفاق الظلام ، بينما يتحوّل كتمانها واستغلالها لمطامع شخصية أو فئوية ، إلى عنصر من عناصر الضلال والضياع والاستسلام للجهل والانحراف ، وهذا ما لا يريده الله لعباده ، في ما يريده لهم من الانفتاح على ما فيه صلاح أمورهم والابتعاد عما فيه فسادهم ...

وقد أكّد الله المسؤولية على الذين أوتوا الكتاب في ما حمّلهم من كتابه ، واعتبر قضيّة إبلاغه للناس ميثاقا بينه وبينهم ، وأراد لهم من خلال ذلك أن لا يتاجروا به ليشتروا به ثمنا قليلا ، لأن التجارة إذا دخلت في وعي حملة الكتاب وسيطرت على مسيرتهم ، كانت وسيلة من وسائل الإفساد للأمة ، ذلك كونها تخضع لقانون العرض والطلب ، وأساليب الربح والخسارة ، في ما يتعامل به المتاجرون من أوضاع وأساليب.

وقد أساء هؤلاء إلى أنفسهم وإلى الناس حين أساءوا إلى هذا الميثاق الإلهي ، فكتموا كتاب الله عن الناس ، ولم يبيّنوه لهم ليعرفوا من خلاله قواعد الحق والباطل ، فينطلقوا مع الحق ودعاته عن معرفة ، ويبتعدوا عن الباطل وأهله عن معرفة ... ونبذوه وراء ظهورهم ، فلم يحترموا مفاهيمه ، ولم يكترثوا به ، (وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً) وخانوا الميثاق ، (فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ) ، لأن هذه الأموال التي يقبضونها لقاء انحرافهم وتحريفهم لكتاب الله لإرضاء أطماعهم وشهواتهم ، سوف تفسد عليهم مصيرهم في الدنيا والآخرة ، وتحرق أصابعهم ، وتعرّضهم للعنة الأبديّة عند الله. وذلك هو جزاء المفسدين.

وقد لا نحتاج إلى التأكيد على استيحاء المفهوم الشامل الذي لا يجعل الآية في حدود هؤلاء الذين تحدثت عنهم من أهل الكتاب ، بل يمتد إلى كل من حمل كتاب الله وعرف آياته وأحكامه ، سواء كان الكتاب توراة أو إنجيلا أو قرآنا ، لأن الفكرة هي أن الحقيقة أمانة الله عند أهلها ، فلا يجوز لهم أن

٤٤٤

يخونوها بالتحريف والكتمان والتضليل ، ولا يجوز لهم أن يتاجروا بها ليحصلوا ـ من خلال ذلك ـ على ثمن قليل ، سواء كان مالا أو جاها أو إرضاء لعقدة ذاتية ، لأن الثمن مهما كان كبيرا ، فهو قليل أمام ما يخسرون من حياتهم ومصيرهم ، ومصير الآخرين.

٤٤٥

الآيتان

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (١٨٩)

* * *

معاني المفردات

(بِمَفازَةٍ) : الفوز : الظفر بالخير مع حصول السلامة ، ومفازة : مصدر فاز ، والاسم : الفوز ، أي : لا تحسبنّهم يفوزون ويتخلصون من العذاب.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ كما في مجمع البيان ـ أنها «نزلت في اليهود حيث كانوا يفرحون بإجلال الناس لهم ونسبتهم إيّاهم إلى العلم ، عن ابن عباس.

٤٤٦

وقيل : نزلت في أهل النفاق ، لأنهم كانوا يجمعون على التخلف عن الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإذا رجعوا اعتذروا وأحبّوا أن يقبل منهم العذر ، ويحمدوا بما ليسوا عليه من الإيمان ، عن الخدري وزيد بن ثابت» (١).

* * *

الفرح الوهمي

ربّما كان ما ذكر في أسباب النزول منطلقا للآية في حركتها في حياة الدعوة أمام خصومها من الكافرين والمنافقين الذين يعيشون الفرح الداخلي في ما أتوا به من أعمال تتناسب مع أهدافهم ومخططاتهم المنحرفة ، لأنهم يرضون بذلك نوازعهم المعقّدة في الكيد للإسلام والمسلمين ، ولكنهم ـ في الوقت نفسه ـ يريدون أن لا يعرفهم الناس بذلك لتبقى لهم امتيازاتهم الاجتماعية التي يحصلون من خلالها على الثقة وحرية الحركة.

(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) مما لا يمنح الإنسان سعادة أبدية بالعمق ، بل تمنحه الكثير من حالات الشقاء النفسي والواقعي على صعيد النتائج ، الأمر الذي يجعله في وهم كبير بما يوحي به إلى نفسه من تصوير الأشياء بغير صورتها الحقيقية بحيث يتمثلها في عكس الصورة ، فيكون فرحه فرحا بائسا يختزن في داخله الحزن الذي يتحرك ليتجسد في مستقبل حياته عند ما تفاجئه النتائج العلمية التي تشغل حياته في مستقبل عمره لتكون عاقبة أمره شرّا ... وهذا هو الفرح الوهمي الذي لا يتصل بالحقيقة من قريب أو بعيد ، بل هو متصل بالمنطقة السطحية من النفس ، وهو الذي يرفضه الإسلام ، فإنه لا يرفض الفرح الحقيقي العميق المنفتح على الله وعلى القيم الروحية والأخلاقية وعلى الحياة في جمالاتها وانطلاقاتها في سنن الله الكونية والإنسانية ، بل هو

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٩٠٦.

٤٤٧

يريد للإنسان أن يعيش مشاعره الطبيعية في الحزن والفرح والألم واللذة بشكل عميق متوازن لا يطغى لينحرف فيتجاوز الحدّ ، ولا يسقط ليتجمد الإنسان أمام عناصر الإثارة في الحياة والإنسان ؛ وهكذا كانت مشكلة هؤلاء المنحرفين عن الخط ، السائرين في الوهم الكبير ، أنهم يفرحون بما أتوا من السيّئات والأساليب الملتوية.

(وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا) من الإيمان والإخلاص والارتباط بالحق والسير على هداه ، فيحصلون بذلك على الأمن والطمأنينة في مجتمعاتهم ، ويستسلمون للهدوء النفسي والدعة ، ويضحكون في داخل نفوسهم فرحا بما حققوه من الموازنة بين الحصول على ما يريدون من خطط وأهداف ، وما وصلوا إليه من امتيازات وأرباح ومواقع ، ويظنون أنهم بمفازة ونجاة من العذاب ، (فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ) فإن الله قد يمهلهم ويملي لهم في الدنيا ليزدادوا إثما ، لينتظرهم في الآخرة الخزي والهوان (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ).

(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فلا يعجزه أحد من هؤلاء لأنهم ملكه ، (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا حدّ لقدرته في كل مجال يمكن للقدرة أن تتحرك فيه ، فما قيمة هؤلاء؟ وما أثرهم في الساحة؟ وما تأثير ألاعيبهم الصبيانيّة؟ إن قدرة الله تنتظرهم لتقضي على ذلك كله.

* * *

القرآن يعرّي المنافقين

ولكن الآية لا تتجمد عند هؤلاء ، بل تتحرك في الاتجاه الواسع للحياة لتجعل من هؤلاء نموذجا حيّا لهذه الفئة من الناس ، التي تعيش الانحراف العملي فكرا وممارسة وتحب أن تذكر بالاستقامة ، وتواجه الواقع بالتآمر والعدوان ، وتريد أن تمدح بالإخلاص والمحبّة ، وتتحرك في طريق الضلال وترجو أن يذكرها الناس بالهدى ... وهكذا تنطلق هذه الفئة في مجالات

٤٤٨

الزيف والنفاق ، لتظل في لعبها وعبثها وعدوانها من دون أن تفقد شيئا من امتيازاتها. ويريد القرآن تعرية هؤلاء أمام الناس ليكتشف الناس أمرهم وواقعهم ، فيبتعدوا عنهم ويحذروهم ، ولا يحقّقوا لهم ما يريدون من الحمد والثناء لئلا يسيئوا للحياة باسم الإحسان ؛ وذلك بالتدقيق في شخصياتهم في ما يختبئ وراءها من خلفيّات ، والالتفات إلى ألاعيبهم في ما يتحركون به من أعمال ، والتأكيد على الموازنة في قضايا المدح بين مدلول الكلمة وصدق الواقع ، على أساس أن يعيش الناس أساليب التقييم من موقع الحق والصدق لا من موقع المجاملة والمداراة ، فإن ذلك هو الكفيل بإبعاد المنافقين عن ساحة الواقع ، لأنها لن تحتضن اللاعبين على الحبال ، بل السائرين على الخطوط الواضحة بقوّة وثبات وإيمان.

وهكذا يتحوّل الموقف من هؤلاء إلى قاعدة صلبة للتعامل مع الناس في مجال العلاقات الإنسانية ، فلا مجال للمدح إلّا من خلال الفعل الذي يقوم به الإنسان في حياته بالحجم الطبيعي من دون تكبير أو تصغير لأن القضية ليست كلمة تقال ثم تتبخّر في الهواء ، بل هي صورة الواقع في صورة الإنسان ، في ما يمثله من قيمة الحقيقة في حركة الحياة في جانبها السلبي أو الإيجابي ، فإن للزيف تأثيرا عكسيا يختلف اختلافا كبيرا عن تأثير الصدق والإخلاص في طبيعة الموقف والإنسان.

وفي ضوء ذلك ، نستطيع أن نجد في هذا النموذج من الناس ، صورة الكثيرين الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، من الشخصيات الدينيّة والسياسية والاجتماعية ، التي تحب أن تعطي لنفسها حجما أكبر من حجمها الحقيقي وتريد للناس أن يطلقوا عليها ألقابا كبيرة لا تتناسب مع دورها الطبيعي في الحياة ، وذلك من أجل أن ترضي زهو العظمة الفارغة في داخل ذواتها ، لتأخذ لنفسها ـ في نظر الناس ـ مركزا بارزا ينسجم مع ما توحيه الألقاب من مشاعر وامتيازات ، من دون أن تقدم للحياة أي شيء في هذا الاتجاه.

إننا نستطيع أن نجد في هؤلاء النموذج المعاصر للصورة التي تريد أن

٤٤٩

تواجهها الآية بالرفض والإنكار ، لأن الإساءة إلى صورة الواقع في قيمه الحقيقية ، لا تقل شأنا عن الإساءة إلى المبادئ التي تمثلها هذه القيم ، مما يكشف عن زيف ما يمثلونه من عظمة دينية أو سياسية أو اجتماعية.

* * *

٤٥٠

الآيات

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) (١٩٥)

* * *

٤٥١

معاني المفردات

(اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ) : تعاقبهما ، ومجيء كل منهما خلف الآخر.

(الْأَلْبابِ) : جمع اللب ، وهو العقل. سمي به لأنه خير ما في الإنسان ، واللب من كل شيء خيره وخالصة.

(جُنُوبِهِمْ) : أصل الجنب : الجارحة ، وجمعه : جنوب ، ثم يستعار في الناحية التي تليها كعادتهم في استعارة سائر الجوارح لذلك نحو اليمين والشمال ، كقول الشاعر :

من عن يميني

مرّة وأمامي

(سُبْحانَكَ) : معناه : تنزيها لك من أن تكون خلقتهما باطلا ، وبراءة مما لا يليق بصفاتك.

(أَخْزَيْتَهُ) : خزي الرجل : لحقه انكسار إمّا من نفسه وإمّا من غيره ، فالذي يلحقه من نفسه هو الحياء المفرط ومصدره الخزاية ، والذي يلحقه من غيره ، يقال : هو ضرب من الاستخفاف (١). ومصدره الخزي.

(الْأَبْرارِ) : جمع برّ ، وهو الذي برّ الله بطاعته إياه حتى أرضاه ، وأصل البرّ الاتساع ، فالبر : الواسع من الأرض خلاف البحر ، والبر : صلة الرحم ، والبرّ : العمل الصالح ، والبرّ : الحنطة ، وأبرّ الرجل على أصحابه : زاد عليهم.

(الْمِيعادَ) : من الوعد يكون في الخير والشر ، يقال : وعدته بنفع وضرّ وعدا وموعدا وميعادا. والوعيد : في الشرّ خاصة ، يقال منه أوعدته. والموعد والميعاد يكونان مصدرا واسما.

* * *

__________________

(١) مفردات الراغب. ص : ١٤٨.

٤٥٢

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول : روي أن أم سلمة قالت : يا رسول الله ، لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله تعالى : (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) الآية (١). وقال البلخي : نزلت الآية وما قبلها في المتّبعين للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمهاجرين معه ، ثم هي في جميع من سلك سبلهم وحذا حذوهم من المسلمين (٢).

وفي الرواية الأولى دلالة على أن الناس ـ في عهد النبي ـ ومنهن بعض أمّهات المؤمنين كأمّ سلمة ، كن يعشن الحساسية تجاه إغفال ذكر النساء بشكل صريح في القرآن الكريم ، فقد كان المهاجرون من الرجال والنساء ممن تحمّلوا الأذى في سبيل الله لالتزامهم بالإسلام عقيدة وعملا ، فلما ذا يتحدث القرآن عن المهاجرين دون المهاجرات؟ لأن الصيغة في الآيات كانت على أسلوب الجمع المذكر ، ولكن الظاهر أن التذكير ليس مرادا من التعبير ؛ بل الكلمة واردة على سبيل التغليب باعتبار أن صفة التذكير تغلب على صفة التأنيث عند إرادة الحديث عنهما بكلمة واحدة.

وقد استجاب الله لهذه الرغبة النسائية ـ إن صحت الرواية ـ فتحدث عن الذكر والأنثى ممن يعمل لله من المؤمنين والمؤمنات من دون فرق في القيمة الإيجابية وفي الثواب ، لأن القضية في هذا الجانب هي قضية المبدأ الذي يتحرك به الإنسان في سبيل الله ، وهو الإخراج من داره ، والإيذاء في سبيل الله والمقاتلة أو القتل في خط الجهاد في سبيل الله. وهذا هو الذي ينبغي التأكيد عليه من مساواة المرأة للرجل في القيمة الجهادية وفي الثواب الإلهي ، لأنها في ذلك سواء في النية والعمل.

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٧٧.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٩١٤.

٤٥٣

وفي الرواية الثانية : دلالة على أن الآية لا تنغلق على الناس الذين عاشوا في عهد الدعوة الأول ، ولو كانت قد نزلت فيهم ، بل هي منفتحة على كل السالكين في هذا السبيل الجهادي والعملي في خط الإسلام ، لأنه لا خصوصية ـ من حيث المبدأ ـ للمرحلة الأولى إلا من خلال أفضلية الموقف في عناصره القيميّة بعيدا عن الزمن في خصوصياته ، فقد يكون المتأخرون متميزين ببعض الخصائص التي تميزهم عن المتقدمين ، وقد تكون مرحلة التأسيس أكثر غنى في بعض عناصرها من المراحل التالية بلحاظ قسوة الاضطهاد التي عاشها المسلمون في بداية الدعوة.

* * *

العقل هو المنهج الأصيل لاكتشاف الحقيقة الإلهية

ما هو المنهج الأصيل الذي يمكن للإنسان أن يكتشف به الحقيقة في وجود الله ، وفي اللقاء به ، وفي الشعور بعظمته التي تستولي على الفكر والقلب والشعور؟ هل هو الفلسفة في أسلوبها التحليلي الذي يغرق الإنسان معه في الآفاق التجريديّة ، وفي فرضيّاتها التي تقترب من الخيال أو تعيش معه؟

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ). إنّ القرآن يحدّد المنهج في الفكر الذي يلاحق الظواهر الكونيّة في عملية تأمّل وتدبّر وتفكير ، فليس للإنسان أن يحدّق في كتب الفلسفة ، بل عليه أن يحدّق في كتاب الكون ، ليفكر في خلق السماوات والأرض وما يتمثل فيهما من قوانين طبيعية تنظم لهما المسار ، وتربطهما بالحكمة في كلّ الحركات والسكنات والدقائق التي تتعلق بهما ، وليرصد حركة الليل والنهار ، وكيف تختلف في الزيادة والنقصان حسب اختلاف الفصول والأزمنة ، فيعرف أن هناك سرّا عميقا وراء ذلك كله ، فيكتشف أن هناك عقلا واسعا كاملا يخطّط للكون ونظامه ، وإرادة قويّة فاعلة قادرة تسيطر عليه وتوجه حركته وتمسكه وتحفظه من الانهيار

٤٥٤

والضياع ، فذلك هو النهج الذي يمكن أن يكون آية للعقول التي تفكر في كل ما حولها ومن حولها ، ولأصحابها الذين لا يتحركون في الحياة ولا يحكمون على الأشياء سلبا أو إيجابا إلّا من خلالها ؛ وبهذا يلتقي العلم والدين في وجود الله ، وفي تكامل الإنسان من خلال هذا الوجود ، على أساس النتائج التي يتوصل إليها في أبحاثه ودراساته ، لأن الدين لا يدعو إلى الإيمان الأعمى ـ في ما يدعو إليه من إيمان ـ بل يعمل على خط الإيمان المنفتح الواعي المبنيّ على التفكير والتحليل الدقيق.

وفي ضوء ذلك ، نستوحي الفكرة التي تنطلق لتؤكد احترام الإسلام للعقل في ما يريد له أن يقوم به من أدوار تتصل بالعقيدة الأساس فيه. فلو لا ثقته بالعقل في ما يحلل وما يستنتج لما اعتبره السمة للناس الذين يتحركون في اتجاه اكتشاف الحقيقة ، ليوحي إليهم بأن عظمة الإنسان في عقله ، كما أن عظمة العقل في حركته في معرفة الحق من دراسته الفطرية للكون الواسع من حوله ، في ما يحيط به ، وفيمن يحيطون به ... فإذا كان العقل هو القاعدة الأساس في أصل العقيدة ، فكيف يمكن أن ينسب إلى الدين انطلاقه من الخرافة والأسطورة والخيالات المثاليّة التي لا ترجع إلى قاعدة ولا تعود إلى محصل؟ إن أولي الألباب لا ينطلقون في عقائدهم إلّا من خلال ألبابهم وعقولهم التي تلاحق الظاهرة الكونية في عملية حساب ، كما تلاحق الظواهر السياسية والاجتماعية والاقتصادية في ربطها بأسبابها وأوضاعها ، لتكون العقيدة محسوبة ، كما يكون الواقع العملي محسوبا في مقدماته ونتائجه.

وليست العقيدة بالله في شخصية الإنسان المؤمن حالة ذهنية مترفة مجرّدة ، بل هي حالة فكريّة واقعية ترتبط بالله لتحس به في حركة الفكر والشعور ، كما لو كان ماثلا أمامها في الحسّ والصورة ؛ ولهذا فإنها تشعر به يحيط بها من جميع جوانبها وفي جميع حالاتها ، مما يجعلها تذكره في كل صعيد ومع كل وضع.

٤٥٥

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ) لأنهم يرونه في كل ظاهرة خارج نطاق الجسم ، وفي كل حركة من حركات الجسد في داخله وخارجه ، فلا يغيب عنهم لحظة واحدة لأنه يملك عليهم الحسّ والشعور ... وإذا ذكروا الله في ذلك كله ، فإن هذا الذكر لا يتحوّل إلى حالة صوفيّة متشنجة تجعل الإنسان يغرق في الذات في مثل الغيبوبة الروحية التي تربطه باللاوعي ، بل يتحوّل إلى وعي كامل للكون من خلال الله ؛ فإن الله القادر العليم الحكيم لا يمكن أن يخلق شيئا عبثا ، فكل شيء عنده خاضع لحكمة خفيّة أو ظاهرة. إنها الفكرة الإجماليّة التي تحكم التصوّر الإنساني في شخصية المؤمن.

ثم تبدأ التفاصيل الدقيقة تباعا في حركة الفكر الذي يلاحق الظاهرة في حركة قوانين الحياة ، (وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ) فقد انطلقت الحياة من خلال الحكمة في ظواهرها الخاضعة للنظام الكوني الشامل. وهكذا أرادت للإنسان أن يتحرك على أساس الحكمة في أقواله وأفعاله ، باعتباره المظهر الحيّ المتحرّك للحياة النابضة بالروح ، لتتكامل الحياة في ظواهرها الكونية والإنسانية ، فتنطلق من قاعدة النظام الكامل الحكيم ...

وإذا كان الإنسان خاضعا للنظام في الحياة من خلال ما أرادته له من سلوك عمليّ ، وما وعدته من مصير مشرق في حالة الانسجام مع خط الطاعة ، أو مصير مظلم في حالة التمرّد في خط المعصية ؛ فإننا نحن الذين يؤمنون بك ويرجون رضاك ويخافون عقابك ، ندعوك بأن توفّقنا للسير في خط رضاك لنحصل على النجاة من النار ، (فَقِنا عَذابَ النَّارِ) التي تمثّل الخزي كل الخزي للإنسان في ما تمثله من أوضاع مهينة يتحوّل فيها إلى كمية مهملة ، وشيء حقير ، كأيّة حجارة مرمية في أية زاوية من زوايا جهنم ؛ في الوقت الذي يواجه فيه الذلّ والحقارة في صورة العذاب الذي يتعرّض له.

* * *

٤٥٦

دعاء المؤمنين وابتهالهم إلى الله

(رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) ومن هو هذا الإنسان الذي تدخله النار؟ ما هي صفته؟ إنه الإنسان الذي يظلم نفسه بالمعصية والتمرد على الله ، ويظلم الناس بالغلبة والقهر ، فيكون في عداد الظالمين الذين لا يملكون أيّة قوّة أمام قوة الله (وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ). ويقف هؤلاء المؤمنون أمام الله في وقفة اعتراف وابتهال ، ليشهدوه على إيمانهم الذي انطلق من وعيهم لحقيقته في ما انطلقوا فيه من فكر الحقيقة ، فاستجابوا لنداء الدعوة إليه من قبل الرسل : (رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا) فلم يتطرق إلينا الشك في الله لحظة واحدة ، لأننا انطلقنا في عقولنا من منطق الوعي ، فلم نجمّد حركة الفكر في قضايا العقيدة ، بل أطلقنا له العنان ليفتّش ويفكر ويسأل ويحاور ويناقش الآخرين كل الآخرين ، فوصلنا إلى القناعة من أقرب طريق.

ولكن الإيمان فكرة وعمل ، ولا بد للعمل من إرادة وعزم. وقد تضعف الإرادة أمام اندفاع الشهوة ، وقد يتلاشى العزم أمام قوة التحدي ، فقد تزلّ بنا القدم في مزالق الطريق ، وقد تنحرف بنا الخطى عن الصراط المستقيم ، وقد نلتقي بالشيطان فيزيّن لنا المعصية ، ويشوّه لنا صورة الطاعة ، ويصور لنا الباطل في صورة الحق ، ثم نتراجع فنعود إلى إيماننا لنحتمي به ، ونرجع إلى ربّنا لنستغفره ونخضع له : (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا) فإنك تغفر الذنوب لمن تشاء وتعفو عن السيئات لمن تشاء ، (وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ) الذين يعيشون البرّ في الطاعة عند ما يطيعون ، وفي التوبة عند ما يخطئون ويتراجعون عن خطئهم (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ) من المغفرة عند التوبة ، والجنّة للمخلصين المطيعين لك في عملهم وفي توبتهم ، (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) بالوقوف موقف الذل أمام أعين الناس ، لأنك لا تخزي التائبين المنيبين إليك ، وذلك هو وعدك الحق ، وأنت أصدق الواعدين (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ).

* * *

٤٥٧

جزاء العمل الصالح

ويتصاعد الدعاء من أعماق القلوب صافيا نقيّا حارا صادقا ، ويستجيب الله للدعاء ؛ ولكن القضية ليست قضية ما يتحرك في الدعاء من كلمات ، بل في ما يمثله من مواقف ، فإن الله لا يتعامل مع الناس إلا من خلال العمل الذي تتحرك الرحمة في داخله ومن خلاله. فالعاملون الذين يصيبون في عملهم ، أو الذين يخطئون وهم يريدون الإصابة ، هم القريبون من المواقع الطبيعية للاستجابة وللرحمة. أما الذين لا يعملون ، بل يعيشون الحياة عجزا واسترخاء وكسلا وراحة ، فهم البعيدون عن رحمته القريبون إلى سخطه ، لأنهم تنكّروا لسنّة الله في الحياة ولصراطه المستقيم في العقيدة والشريعة. (فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى) فلكل واحد جزاء عمله من دون فرق بين الذكر والأنثى ، لأن قضية العمل الصالح لا تختلف في خصائص الذكورة والأنوثة ، بل تنطلق من خصائص الإنسانية في حركتها الصاعدة في الحياة. وفللأنثى نصيبها من نتائج العمل الصالح ، وللذكر نصيبه منه ، فربما تتفوق عليه في عملها فتنال الدرجة العليا لدى الله ، وربما يتفوّق عليها في عمله فينال ذلك من خلال جهده ، (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) فقد خلق الله الذكر من الأنثى والأنثى من الذكر في عملية التوالد الطبيعي.

أما العمل الأفضل في حركة الدعوة ، وحماية الدين ، وابتغاء مرضاة الله ، وتحمّل الخروج من ديارهم ، والأذى في سبيل الله ، والقتال الذي هو السبيل للتكفير عن السيئات وللدخول إلى الجنة (فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ).

* * *

ماذا نستوحي من هذه الآيات؟

١ ـ قد نستطيع أن نستوحي من هذه الآيات الفكرة عن شخصية المؤمن

٤٥٨

في الإسلام ، فهي شخصية الإنسان الواعي المفكّر الذي يحرّك طاقته الفكرية في سبيل الوصول إلى قناعاته الإيمانيّة من وحي التفكير والمعاناة والتجربة والملاحظة ، فلا يعتقد بشيء إلا على أساس ذلك. وعند ما نلتقي بشخصية الإنسان المفّكر في المؤمن في خط العقيدة ، فإنّ من الطبيعي أن نلتقي بها في خط الحياة ، فلا ينطلق مع أحداثها إلّا في خطّ الفكر والتجربة ، لأن ملامح الشخصية لا تتعدد في مضمون الأشياء. فإذا كان الإنسان عاطفيا في جانب ، فإنه يتحرك عاطفيا في بقيّة الجوانب ؛ وهكذا تكون القضية في خط الفكر في الحياة. ولكن شخصية المفكر لا تلغي شخصية الإنسان الروحاني الذي يعيش الروحيّة العميقة تجاه الله ، من خلال ما يعيش من مشاعر روحيّة ، لأن الفكر لا يتحرّك من مواقع الجفاف النفسي ، بل ينطلق من أعماق الينابيع المتدفقة في الحياة في ما تشتمل عليه من أفكار ومشاعر ... ولهذا نجد الانطلاقة الروحيّة في هذه الآيات في حركة الانطلاقة الفكريّة في هذه المناجاة الخاشعة التي تلتقي بالله في مغفرته ورضوانه ورحمته لعباده المؤمنين ، ليبقى الإنسان منسجما مع إيمانه في روحيّة اللقاء بالله والسعي لرضاه ، باعتباره هدف الحياة الكبير ، كما يعيش الانسجام معه في فكره العميق الذي يطرد من حوله الشكوك والشبهات ويركزّ الخطة الواحدة لحياته من خلاله.

٢ ـ وقد نستوحي من هذه الآيات ، أن قضية الجنة تلتقي ـ في حركة الإنسان المؤمن في الحياة ـ بالجانب الجهادي الذي يعيش فيه المعاناة نتيجة ما يتعرض له من اضطهاد وما يتحمله من أذى ، وما يضطر إليه من الوقوع تحت ضغط القوى الغاشمة التي تخرجه من داره وموطنه وتدفعه إلى الهجرة قسرا من خلال الضغوط القاسية التي تمارسها ضدّه ، وذلك كله من أجل الله ، وابتغاء للحصول على رضوانه.

ومن خلال ذلك ، ندعو أولئك الذين يعيشون الحياة في استرخاء ، ويعتبرون الجنة ملتقّى للعابدين الذين يغرقون كل همومهم وآلامهم وتطلعاتهم في العبادة ، وينعزلون عن الحياة في عمليّة هروب دائمة من التعرّض للخطر في

٤٥٩

المسير ، ليأخذوا لأنفسهم ولمن يتعلق بهم الأمن والراحة والطمأنينة ، في الوقت الذي تهتز فيه الساحة أمام التحدّيات الكافرة والضالّة ... إننا ندعوهم إلى أن يقرءوا هذه الآيات بوعي وتأمل ، ليعرفوا ـ جيدا ـ أن هؤلاء الذين استجابوا لداعية الإيمان فآمنوا ، لم يأخذوا الإيمان في كسل واسترخاء ، بل انطلقوا فيه رسالة وجهادا ومعاناة ومواجهة قوية لكل الضغوط والتحديات الطاغية ، فأوذوا في سبيل الله ولم يسقطوا تحت تأثير الأذى ، وأخرجوا من ديارهم وهاجروا من دون أن يتعقّدوا من الجهاد وخطواته ونتائجه ...

ولهذا كانت الجنة ثمنا لكل هذا الجهد ولكل هذا الجهاد ، وكانت دعواتهم المتصاعدة من قلوبهم تمثل دعوات المجاهدين الذين يخافون على جهادهم أن يضعف ويهتز وينحرف أمام بعض الخطايا التي يرتكبونها من دون قصد ، ويخشون على علاقتهم بالله أن تنقطع من خلال الأوضاع التي تحيط بهم فتبعدهم عن الله وتنسيهم ذكره ... ولهذا يشعر الإنسان بنبض القلوب يتحرك في كل كلمة من هذه الكلمات ، حتى كأن قلوبهم تحوّلت إلى دعوات وكلمات ، وليست كالدعوات التي تنطلق من قلوب هادئة بعيدة عن جوّ المعاناة ، حيث يتمثل الإيمان فيها كما لو كان ترف فكر لا كخفقة روح وشعور. إن هناك فرقا بين أن تدعو الله من موقع المعاناة في سبيله ، وبين أن تدعوه من موقع المعاناة في سبيل ذاتك ، وذلك هو الفرق بين الذين يعيشون الإسلام فكرا واسترخاء وبين الذين يعيشونه جهادا وعملا وموقف حياة.

* * *

٤٦٠