تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

لأوليائه ونصرته لأعدائه ، مما يراه من امتداد سلطة الأعداء وانحسار فاعلية الأولياء ، وذلك من خلال النظرة السطحية الانفعالية إلى الأمور ، والابتعاد عن النظرة العميقة الواسعة المنفتحة على واقع الحياة والإنسان.

وهذا ما يجب على العاملين في حقل الدعوة إلى الله أن يفهموه ويتدبروه ويخططوا له في تربية الدعاة ، وترشيد الحركة ، وتصويب الوسائل وتثبيت المواقف والمواقع.

وفي ضوء ذلك ، فإننا لا نفهم النهي عن الحزن في مسارعة الكافرين في الكفر أنه أسلوب من أساليب التسلية ، بل هو وسيلة من وسائل الوعي لحركة المفاهيم العقيدية في وجدان الإنسان المسلم ، ليمنعه ذلك من الضعف والانسحاق أمام مظاهر التحدي ، وذلك من خلال دراسة العناصر الموضوعية التي قد تجعل من ظاهرة الهزيمة في السطح واللحظة عملية نصر في العمق والامتداد ، والله العالم.

* * *

٤٠١

الآية

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ(١٧٩) مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ)

* * *

معاني المفردات

(لِيَذَرَ) : ليدع ويترك.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال السدي : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : عرضت عليّ أمتي في صورها ، كما عرضت على آدم ، وأعلمت من يؤمن لي ومن يكفر. فبلغ ذلك المنافقين فاستهزأوا ، وقالوا : يزعم

٤٠٢

محمد أنه يعلم من يؤمن به ومن يكفر ، ونحن معه ولا يعرفنا ؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال الكلبي : قالت قريش : تزعم يا محمد أن من خالفك فهو في النار ، والله عليه غضبان ، وأن من اتبعك على دينك فهو من أهل الجنة والله عنه راض ، فأخبرنا بمن يؤمن بك ومن لا يؤمن بك؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية.

وقال أبو العالية : سأل المؤمنون أن يعطوا علامة يفرّق بها بين المؤمن والمنافق ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (١).

ونلاحظ أن هذه الروايات ـ كغيرها من أسباب النزول ـ لا تستند إلى رواية متصلة بالرسول أو ببعض الصحابة الموثوقين ، مما يغلب على الظن أنها كانت اجتهادات شخصية ، أو قريبة من ذلك ، الأمر الذي يجعلنا لا نملك أساسا للانفتاح على أجواء الآية من خلال هذه الروايات.

وربما نحتاج إلى التنبيه على ضرورة التأكيد والاستيثاق من كل الروايات الواردة في هذا المجال لدراسة سندها ، لتوثيق النص في مسألة صدوره ، وللتأمّل في دلالته ومدى انسجامها مع جوّ الآيات ومع المفاهيم الثابتة في الخط الفكري الإسلامي ؛ لأن اختلاط الأمور من خلال الروايات غير الموثوقة ، أو الاجتهادات غير المدروسة ، قد يؤدي إلى الابتعاد عن صفاء الآية في إيحاءاتها الفكرية ودلالتها المفهومية. وهذا ما قد يجب علينا أن نلاحظه في كل الروايات المتصلة بالتفسير ، لأن فقدان الحجية في سندها ودلالتها يؤدي إلى إرباك الفهم القرآني ، وبالتالي إلى ضياع المفاهيم الإسلامية باعتبار أن القرآن هو الأساس ـ بالإضافة إلى السنّة ـ في تقرير الجانب المفهومي الفكري للإسلام في كل قضايا العقيدة والشريعة والمنهج.

* * *

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٧٣ ـ ٧٤.

٤٠٣

الإيمان في أجواء المعاناة

لمّا كان الإيمان ـ في وعي الحقيقة القرآنية الإلهية ـ موقفا وليس كلمة ، كان من الطبيعي أن يحرّك المؤمنين إلى تجسيده في حياتهم العملية ، وذلك من خلال الظروف الصعبة ، والتحديات الشديدة ، والطرق الطويلة الضائعة ، التي تواجه مسيرتهم في ما يأخذون به وما يتركونه ، ليتميّز الطيّبون الذين يعيشون الإيمان فكرا وشعورا وحياة تشمل كل أوضاعهم وعلاقاتهم ، فيثبتون أمام المزالق ، ولا يسقطون أمام قسوة الظروف وتحدياتها ، ولا ينحرفون تحت تأثير الطرق الملتوية ؛ بل يبحثون عن الهدى في موقع الهدى ويسيرون عليه في اتجاه الخط المستقيم ، وبذلك يتبين الخط الخبيث في سلوك الخبيثين الذين قد يخادعون الناس في الحالات الرخيّة السهلة التي لا تكلّف الإنسان شيئا من تضحية أو جهد ، فيمكن له أن يتخذ لنفسه مظهرا يبتعد به عن الحقيقة المرعبة التي تختفي في داخله ؛ ولكنهم لا يستطيعون السير طويلا في خطة الخداع هذه ، لأن المواقف التي تضع الإنسان بين اختيارين ـ لا ثالث لهما ـ لا تترك المجال واسعا أمام اللاعبين ، بل تحدد لهم الساحة التي لا تسمح لهم باللعب فيها بحريّة ... وهكذا يجدون أنفسهم أمام الاختيار الصعب الذي يتحركون فيه من مواقع الخبث الداخلية في نفوسهم ، فينكشف الزيف ، وتتحرك المواقف في عملية فرز حقيقية ، ليميز الله من خلالها الخبيث من الطيب من حركة التجربة التي لا تترك مجالا للشك عند ما يتبدد الضباب أمام إشراقة النور المتفجر من قلب الشمس.

* * *

حكمة الله في كشف غيبه وكتمانه على المؤمنين

وربما كان يدور في عقول المؤمنين ، أن الله يعلم غيب الناس في ما

٤٠٤

يسرّون وفي ما يعلنون ، ويميز الخبيث من الطيب بما يعرفه من سرائرهم فلو أطلعهم على هذا الجانب من غيبه لوفّر عليهم عناء الدخول في التجربة الصعبة. ولكن الله يثير أمامهم القضية الحاسمة من سننه التي أخضع لها الأشياء ، فقد أجرى سنته في حياة الناس ، أن يسير بهم في أمورهم على أساس الأسباب الطبيعية في المعرفة ، فإذا أرادوا المعرفة فعليهم أن يبتغوا إليها الوسيلة من مصادرها الواقعية ، لأن لذلك صلة ووثيقة بالنموّ العقلي والعملي لشخصيتهم التي تعطيها التجربة والمعاناة انفتاحا كبيرا على الحياة ، فتلتقي المعرفة بالتجربة في وحدة ذاتية غنيّة بالعطاء. ولا سبيل إلى المعرفة الغيبيّة التي تنتظر النتائج من دون عناء ، لأنهم يخسرون الكثير من حياتهم في هذا المجال من خلال ما يفقدونه من الوسائل الواقعية للمعرفة. ولكن الله لا يحجب الغيب عن رسله الذين يجتبيهم ويختارهم من بين خلقه ليقودوا الناس إلى سواء السبيل ، فقد تمس الحاجة الرسالية إلى أن يكونوا على معرفة بما حولهم ومن حولهم من الناس والأشياء مما لا طريق لديهم إلى معرفته ، وذلك من أجل أن يدفعوا عن الرسالة شرّا ، أو يجلبوا لها خيرا ، من خلال التخطيط الواعي للحركة في امتداد الحياة ، مما قد يستدعي المعرفة الخفيّة بحقائق الأشياء.

* * *

أجر التقوى عظيم

وتنطلق الآية ـ من خلال هذه الحقيقة الإيمانية ـ لتدعو الناس المؤمنين إلى أن يعيشوا الإيمان كأعمق ما يكون ، فيتحول إلى تقوى ، ويتحركوا من التقوى في مواقفهم العمليّة ليعطيهم الله أجر التقوى المرتكزة على الإيمان. ولن يكون الأجر عاديا يشبه ما يأخذه الناس من أجر على أعمالهم ، بل هو الأجر العظيم الذي يحسب حساب العمل من موقع الإيمان الذي ينطلق مع النفس الطيّبة التي تعيش الآفاق الرحبة بين يدي الله.

٤٠٥

(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) أي ليدعهم ويمنحهم حرية الاسترخاء في نوازعهم الذاتية وأوضاعهم العادية ، فليس من شأنه ـ في مواقع حكمته ورحمته ـ أن يهمل عباده المؤمنين ليعيشوا الحياة بعيدا عن القوّة والوعي والصلابة في الموقع والموقف ، (عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) في المجتمع الإسلامي الذي يختلط فيه المؤمن والمنافق ، من خلال اختفاء الملامح الحقيقية للإيمان لأنها لا تظهر إلا من خلال التجربة القاسية الصعبة التي تظهر دخائل النفوس وحقائق الالتزام ؛ فلا يعرف فيه المخلص من غير المخلص ، لأن السلوك العبادي الظاهري مما يلتقي عليه الجميع ، وبذلك يظهر أن ما ذكره صاحب مجمع البيان من أن المقصود بكلمة (أَنْتُمْ) أهل الكفر فلا يذرهم على ما كانوا عليه قل مبعث النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (١) ، فإنه خلاف الظاهر ، لأن السياق يتصل بالمجتمع الإسلامي في التجربة التي عاشها المسلمون في يوم أحد في اختلاط الموقف بين أهل الإيمان والنفاق ، إلّا إذا كان مقصود صاحب المجمع من أهل الكفر ، أهل النفاق الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان مما يسمح لهم بالامتداد في حياة المسلمين والبعث بهم من خلال الشخصية الخفية التي يختفون وراءها ، ولكنه هو ذكر ـ بعد اختياره ذلك ـ احتمال أن يكون الخطاب للمؤمنين وتقديره ـ كما يقول ـ «ما كان الله ليذركم يا معشر المؤمنين على ما أنتم عليه من التباس المؤمن بالمنافق ، وعلى هذا فيكون قد رجع من الخبر إلى الخطاب كقوله : (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ) (٢) [يونس : ٢٢].

(حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ) أي الشخص الذي يعيش الرداءة الداخلية في عناصر الشخصية الفكرية والروحية والعملية ، والعمل الرديء الذي يحمل في داخله السوء والشرّ لمن حوله وما حوله ، فيعرف ـ بالتجربة القوية الصعبة ـ كل حركة الخفايا السلبية في الداخل ، (مِنَ الطَّيِّبِ) مقارنا بالشخص الذي يعيش الطيبة

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٩٥.

(٢) (م. ن) ، ج : ٢ ، ص : ٨٩٥.

٤٠٦

النفسية والطهارة الفكرية والانتماء الروحي والاستقامة الأخلاقية أو هو العمل الذي يحمل تلك المعاني كلها في ملامحه الداخلية والخارجية ، وذلك من خلال المسؤوليات المتنوعة المتصلة بحركة الإنسان في ساحة الصراع بين الكفر والإيمان وميدان التجاذب بين الخير والشرّ ، وتعقيدات الأوضاع بين الحق والباطل وذلك بما يكلفهم الله من ذلك في المواقف الحاسمة التي لا مجال فيها للتردد ، ولا فرصة فيها للهروب والتمييع بالأساليب الملتوية. فمن كان ثابت الإيمان ثبت في المعركة من خلال إرادته ، فلا ينهزم أو يتراجع إلا من خلال نقاط الضعف الطارئة ، أو الضغوط القاسية التي يصعب الابتعاد عنها. ومن كان منافقا في دائرة الاهتزاز في الموقع والموقف والانتماء والالتزام لفقدان القاعدة الفكرية الإيمانية التي تفرض عليه الوضوح والثبات ، ابتعد عن المعركة وانهزم عن ساحتها ، وانفتح ـ من خلال نفاقه ـ على معسكر الأعداء للكيد للإسلام والمسلمين بالتنسيق معهم لينفس عن حقده ويعبّر ـ عمليا ـ عن عقدته الخبيثة المتأصلة في شخصيته.

وفي ضوء ذلك ، نعرف أن الخبث والطيبة ليسا شيئين كامنين في الذات في أصل الخلق ، بل هما عنصران طارئان من خلال العوامل المتنوعة التي تتحرك في إرادتهم لتضغط على القرار الذي يتحرك في مواقفهم لمصلحة الكفر والباطل والشرّ.

* * *

مسألة الاطلاع على الغيب

(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) الذي يختص به فلا يعلم الغيب من موقع الذات إلّا هو ، فإن الله لا يريد للمؤمنين أن يرتبطوا بالجانب السهل من وعي الواقع ، لتكون مسألة المعرفة لديهم منطلقة من الغيب الذي يريدون من الله أن يطلعهم عليه من دون أن يبذلوا أيّ جهد شخصي في سبيل الوصول إليه من

٤٠٧

خلال الوسائل التي أودعها الله فيهم في طاقة العقل ، وفي قوّة الحبّ ، وفي حركة الإرادة ، وفي المعطيات الكثيرة المتناثرة على صعيد الواقع مما يتيح لهم أكثر من فرصة للوصول إلى النتائج المعرفية على مستوى الناس أو الواقع ، الأمر الذي يعمّق الفكرة في الوجدان بأكثر مما يحصلون عليه من خلال المعرفة الآتية من الخارج ، ولو كان ذلك من الغيب ، لأن الإنسان الذي ينتج الفكرة ـ من خلال تجربته التأملية والعملية ـ يختلف في وعيه الفكري عن الإنسان الذي يستهلكها في وجدانه ، (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيختار من يشاء منهم فيطلعه على الغيب من خلال الوحي النازل عليهم مما يتصل بحاجات الرسالة ومنطلقات الرسول ، لأنّهم لا يملكون علم الغيب من الناحية الذاتية ، بل ربما نفهم من الآيات القرآنية أن الله لم يمنحهم هذه المعرفة بشكل مطلق ، بحيث تكون طبيعة ثانية فيهم بالإلهام الإلهي الذي يتحول فيهم إلى قوّة المعرفة الغيبية تبعا للإرادة أو لحاجات الذات ، بل إن الله يطلعهم على بعض مفردات الغيب ، ويعلّمهم إيّاه من خلال حكمته التي تتحرك ـ من خلالها ـ مشيئته من خلال ما يعطي ويمنع ، حتى أن الآية التي استدل بها على علم الأنبياء بالغيب لا تدل على أكثر من ذلك بمعنى المعرفة التدريجية التابعة للحاجات الرسالية ، وذلك قوله تعالى : (عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً* إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً) [الجن : ٢٦ ـ ٢٧] ؛ فإن ظاهره أن المسألة مسألة إظهار على الغيب وليست مسألة إعطاء القدرة على معرفة الغيب.

وربما نلاحظ أنّ الفقرة المذكورة لا تتحدث عن اطلاع الرسل على الغيب ، بل تتحدث عن اجتباء الله من رسله من يشاء ، فهو العالم ـ وحده ـ بالغيب فلا يعلم الغيب إلّا هو ويمكن استفادة ذلك من كونه استثناء ـ ولو كان منقطعا ـ من جملة : (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) لأن المناسبة الوحيدة التي تفرضها هي هذه المسألة ، فإن الله لا يطلع عباده المؤمنين على الغيب إذ لا مصلحة لهم في ذلك ، ولا دور لهم يتطلب مثل هذا العلم بالغيب ، أمّا الرسل الذين يصطفيهم الله ، فيوحي إليهم ويخبرهم بأنّ في الغيب كذا ، وأن فلانا في قلبه النفاق وفلانا

٤٠٨

في قلبه الإخلاص ، فيعلم ذلك من جهة إخبار الله له لا من جهة اطلاعه على المغيبات ، لأن دوره في حركة الرسالة يقتضي ذلك لعلاقته بالمسألة في إبلاغ الرسالة ، وفي تحديد بعض المواقف التي تفرضها المسألة المصيرية في موقعه وموقفه ، مما يتوقف عليه معرفة بعض الأمور وبعض الأسرار بما لا يتيسر له الاطلاع عليه من ناحية ذاتية.

إن علم الغيب يتحرك في شخصية الرسول من خلال الدور الذي أوكله الله إليه ، فيمنحه الله منه بالمقدار الذي تفرضه حاجة الرسالة إليه ، وليس امتيازا ذاتيا له من موقع التشريف في الذات ، لأن اصطفاء الله له وخلافته عنه هو الذروة في التشريف بحسب طبيعته ، بقطع النظر عن الجزئيات المتصلة به. وهذا ما يستفاد من مجموع الآيات المتصلة بذلك ؛ فليست المسألة في موقع الإيجاب الكلي لتكون الذات ذاتا تختزن الغيب في وجدانها الذاتي ، وليست في موقع السلب الكلي ، فهناك الدور الغيبي في مواقع الرسالة وحاجاتها ؛ والله العالم.

* * *

بين الإيمان والتقوى

(فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) فهذا هو الذي يحقق لكم عنصر الطيبة الروحية والشعورية والعملية ، لتكونوا من الطيبين الذين يتميزون بالإيمان الشامل في مواجهة الخبيثين الذين يبتعدون عن أصالة الإنسان في معنى الإيمان في الشخصية ، فهو الذي يحقق التوازن في الفكر والعقيدة ، فيقدرون الله حق قدره ، كما يضعون الأنبياء في منازلهم التي أنزلهم الله فيها ، فهم ـ أي الأنبياء ـ لا يعلمون إلا ما علمهم الله ، ولا يتحدثون عن الغيب إلّا بما أخبرهم الله ، لأنهم ليسوا من علم الغيب في شيء من ناحية ذاتية ، وهم الأمناء على إبلاغ الرسالة بكل أمانة وصدق وثبات وإخلاص ، (وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) فلا بد من أن تجتمع لكم هاتان الصفتان الإيمان والتقوى ، لأن الإيمان وحده ليس

٤٠٩

كافيا في استحقاق الثواب ، فلا بد من الانسجام مع الإيمان في خط التقوى الذي يمثل الانضباط في مواقع طاعة الله في أوامره ونواهيه ، لأن قضية الرسالات هي قضية حركية التغيير الإنساني على مستوى الالتزام الفكري والعملي بالله ورسله ورسالاته ، فلا يكفي الإيمان وحده ، من حيث هو معادلة فكرية وحالة شعورية ، بل لا بد من أن يتحول إلى موقف في الواقع العملي ، والتزام في الجانب الحركي.

* * *

٤١٠

الآية

(وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (١٨٠)

* * *

معاني المفردات

(يَبْخَلُونَ) : يمسكون أشياءهم عمّن لا يحق حبسها عنهم ، والبخل ـ كما يقول الراغب ـ ضربان : بخل بقنيّات نفسه ، وبخل بقنيّات غيره ، وهو أكثرهما ذمّا ، دليلنا على ذلك قوله تعالى : (الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ) (١) [النساء : ٣٧].

(سَيُطَوَّقُونَ) أي : سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق وفي أمثالهم : تقلّدها طوق الحمامة ، إذا جاء بهنة يسبّ بها ويذمّ ، وقيل : يجعل ما بخل به من الزكاة حيّة يطوّقها في عنقه يوم القيامة ، تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٣٥.

٤١١

وتقول : أنا مالك. وأصل الطواق : هو ما يجعل في العنق خلقة كطوق الحمام ، أو صنعة كطوق الذهب والفضة.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول للواحدي عن جمهور المفسرين أنها نزلت في مانعي الزكاة ، وروى عطية عن ابن عباس : أنها نزلت في أحبار اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونبوّته ، وأراد بالبخل : كتمان العلم الذي أتاهم الله تعالى (١).

* * *

لله ميراث السموات والأرض

في هذه الآية بداية الحديث عن بعض النماذج البشريّة الموجودة في كل زمان ومكان ، وذلك من أجل أن يتعرف الإنسان على ملامح الخيّرين ليعيش بينهم ويتعاون معهم ، وعلى ملامح الشرّيرين من أجل أن يبتعد عنهم ويختلف معهم ... وربما كانت النماذج التي تحدّثت عنها هذه الآية من الشخصيات اليهودية الإسرائيليّة التي لم تتبدل في طريقة تفكيرها وأخلاقيتها طيلة القرون ، فهم لا يعيشون الدين إلا على أساس عصبية خاصة في داخل مجتمعهم ، وليسوا مستعدين للتعايش مع الآخرين من مواقع إنسانية عامة تدفعهم إلى البذل والعطاء ، ككل مجتمع أناني منغلق على نفسه ...

وقد تكون هذه الآيات مقدّمة لما يريد القرآن أن يعرضه من النماذج ؛ فإن الله يريد أن يوحي بعمق النتائج السيّئة التي تواجه البخلاء في ما يبخلون به ممّا

__________________

(١) انظر : أسباب النزول ، ص : ٧٤.

٤١٢

رزقهم الله من مال عند ما يدعون إلى الإنفاق في سبيل الله ، سواء في ذلك الفئات المحرومة التي تحتاج إلى المساعدة في رعاية أمورها الحياتية الملحّة ، أو الدعوات الدينيّة والاجتماعية والسياسيّة التي تبني للأمّة حياتها العامّة والخاصة ، أو المشاريع الخيرية التي يحتاجها المستضعفون في قضاياهم الحيويّة وأوضاعهم المأساوية من يتم وحرمان وتشريد وغير ذلك ... فهم يحسبون أن البخل خير لهم لما يوفره لهم من مال يختزنونه ، فلا ينقص من رصيدهم شيء.

وتلك هي النظرة الساذجة للأشياء التي تنظر إلى الأمور من خلال ظواهرها لا من خلال بواطنها ويواجهون الأعمال فيحكمون عليها من موقع بداياتها لا من موقع النتائج. ولو أنّهم درسوا القضية من مواقعها الحقيقية ، لتغيّرت نظراتهم واختلفت حساباتهم. فهذا المال ليس مالهم في الحقيقة ، بل هو عطيّة من الله الذي أتاهم إيّاه من فضله لينفقوه على أنفسهم في ما يحتاجونه من أمورهم الحياتية ، ولينفقوه على الآخرين في ما يواجههم من حاجات الحياة مما لا يملكون الإنفاق عليه ، فإذا بخل الإنسان به ، فإن ذلك يوحي بالإساءة إلى الدور الذي أراد الله له أن يقوم به ، كما أنه يبعده عن السير مع مصلحته ، بما يحصل عليه من نتائج جيّدة لحساب دنياه وآخرته ، على تقدير الإنفاق ، وبذلك لن يكون البخل خيرا له ، لأن قضية الخير والشرّ في أيّ عمل من الأعمال لا تقاس على أساس البدايات ، بل على أساس النتائج الإيجابيّة والسلبيّة له.

وهذا ما أراد الله أن يثيره أمام هؤلاء الذين يبخلون بما أتاهم الله من فضله ، في قوله تعالى : (وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ) وقد أطلق القرآن كلمة الشرّ فلم يحدّد مسارها بشكل صريح ، ليعيش الإنسان البخيل الآفاق الواسعة التي ينتظر فيها النتائج السلبيّة من عمله في الدنيا والآخرة ... ولكنه تحدّث له عن النتائج الأخروية بما يوحي بضرورة الإحساس بالأهميّة لقضايا الآخرة في عذابها وثوابها ، عند ما تدعوه شهواته وأطماعه للانحراف عن الخط المستقيم من أجل نتائج الحياة الدنيا ،

٤١٣

ليدخل الإنسان في عملية مقارنة دقيقة بين ربح العاجلة وخسران الآجلة ، في ما يستعجله من نعيم الدنيا ، وينتظره من شقاء الآخرة ، وذلك هو قوله تعالى : (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) فإن هذه الأموال التي كنزوها ستتحوّل إلى أغلال في أعناقهم يطوّقون بها كما يطوّقون بالأغلال في الدنيا. وقد يكون التعبير استعارة أو كناية عن العذاب ، من خلال أن البخل ينطلق من حالة داخليّة يشعر الإنسان معها بما يشبه حالة المثقل بالقيود التي تمنعه عن الحركة في الاتجاه الذي يريده ، لأن الأفكار السلبية الداخليّة تتحوّل إلى قيد فكري أو نفسي يمنع الإنسان عن التحركات الخيّرة ليبقى محصورا في المجالات الضيّقة المحدودة.

ثم يثير القرآن في هذه الآية الفكرة الحاسمة أمام البخلاء : (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) وهي أن هذا المال الذي تحافظون عليه وتحبسونه فلا تنفقونه ، لن يبقى لكم بل سوف تفارقونه ليبقى في الأرض من بعدكم ، لأن علاقتكم به ـ كعلاقة غيركم ـ هي علاقة طارئة تتحدد بحسب الدور العلمي الذي يمكنكم القيام به ، وذلك بأن تحرّكوه في المجالات التي أراد الله لكم أن تحركوه فيها ، في بناء الحياة والإنسان على أساس الخير الشامل ، لتبقى لكم نتائجه الطيّبة عند الله ، فبذلك يتحقق لكم ربحه ودوامه. أما إذا لم تقوموا بدوركم إزاءه ، وأهملتم أمره ، فسيفارقكم وتفارقونه ، وتبقى أمامكم تبعاته ونتائجه السلبيّة ، ويبقى الأمر كلّه لله في ما تشتمل عليه السماوات والأرض ، وما يقوم الناس به من أعمال لا يغيب عنها علمه فهو خبير بكل ما يعملون ، ليجزيهم بما عملوا من خير أو شر ...

* * *

مع رواية ابن عباس في تفسير الآية

وهناك رواية عن ابن عباس أن الآية نزلت في كتمان العلم الذي قام به

٤١٤

أحبار اليهود ـ في عصر الدعوة ـ عند ما كتموا صفة محمد ونبوته التي جاءت بها التوراة.

وفي ضوء ذلك ، فإن الآية تتحدث عن العلم كطاقة معنوية فكرية من طاقات الإنسانية التي وزّعها الله على بني الإنسان ، ليقوم كل واحد منهم بتقديمها للناس كافة من خلال حاجاتهم المتنوعة للمعرفة المتصلة بقضاياهم العقيدية والفكرية والعملية ، لأنها أمانة الله عندهم ، وليست ملكا ذاتيا لهم يتصرفون فيه ـ بحرية ـ كما يتصرفون في خصوصياتهم ، وبذلك فإن البخل بالعلم ، لا سيّما الذي يتصل بقضية الهدى والضلال ، يمثل الخيانة الثقافية للأمانات الإلهية عند الناس ، وبالتالي فهي أمانة الناس عندهم. وقد جاءت الآيات المتنوعة التي تحذر الناس من كتمان العلم الذي يتصل بالمسؤولية العقيدية للإنسان ، كما في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ) [البقرة : ١٥٩] ؛ وقوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) [البقرة : ١٧٤].

وهكذا نستوحي من ذلك أن العلم أمانة الله عند العالم ، لا سيما في الظروف الصعبة التي يمثل فيها كشف العلم حركة رائدة في مواجهة التحديات المضادة للإسلام وأهله ، وهذا ما يوحي به الحديث النبوي المأثور : «إذا ظهرت البدع في أمتي فليظهر العالم علمه وإلّا فعليه لعنة الله».

ولكن الظاهر من سياق الآية ـ بلحاظ ما بعدها من الآيات ـ يدل على أنها واردة في البخل بالمال لا بالعلم ، مما يجعل شمولها للبخل بالعلم عملية استيحائية من خلال الانتقال من المادي إلى المعنوي على الطريقة التي جرى بها أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في تفسير بعض الآيات من استيحاء المعنوي من الحديث عن المادّي ، كما ورد في تفسير قوله تعالى : (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) [عبس : ٢٤] قال : علمه. ومن المعلوم أن هذا ليس تفسيرا لكلمة الطعام ـ حتى

٤١٥

بنحو المجاز ـ لأن السياق في الآيات التي بعدها لا تتناسب مع ذلك ، ولكنه استيحاء لفضل الله على الإنسان بالعلم بالدرجة العليا التي يتقدم بها على الغذاء المادي.

* * *

علاقة الآية بتجسم الأعمال

وقد حاول بعض المفسرين الذين يلتزمون تجسّم الأعمال في يوم القيامة بالصورة المادية المماثلة لصورتها في الدنيا ، أن يجد في الآية دلالة على هذه الفكرة ، فذكر أن هذه الأموال التي لم يدفع صاحبها الحقوق الواجبة فيها ، ولم ينتفع بها المجتمع ، بل صرفت في سبيل الأهواء الشخصية ، سيكون مصيرها مصير أعمال الإنسان ، أي أنها ـ طبقا لقانون تجسم الأعمال البشرية ـ ستتجسّم يوم القيامة ، وتتمثل في شكل عذاب مؤلم يؤذي صاحبها ويخزيه (١).

ولكننا نرى أن نظرية تجسّم الأعمال انطلقت ـ في أغلب أدلتها ـ من الفهم الحرفي للنص القرآني ، وهو أمر لا يتناسب مع القيمة البلاغية للأسلوب ، التي تنفتح على الاستعارة والكناية والمجاز من خلال القرائن المحيطة بالنص ، كما في هذه الآية ، فإن التطويق بالمال الذي بخلوا به كناية عن حملهم مسئوليته السلبية بإيقاع العذاب بهم لعدم دفعهم لحقوق الله ، وذلك بأن يلزموا وبال ما بخلوا به إلزام الطوق ـ كما جاء في تفسير الكشاف (٢) ـ أو يعود عليهم وباله فيصير طوقا لأعناقهم ، كقوله : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] ؛ ـ كما عن ابن مسلم ـ قال : والعرب تعبّر بالرقبة والعنق عن جميع البدن ، ألا ترى إلى قوله : (فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ) (٣) ؛ والله العالم.

* * *

__________________

(١) انظر : الشيرازي ، ناصر مكارم ، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل ، مؤسسة البعثة ، بيروت ، ط : ١ ، ١٤١٣ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ٣ ، ص : ٢٣.

(٢) انظر تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٤٨٤.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٩٧.

٤١٦

الآيتان

(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ) (١٨٢)

* * *

معاني المفردات

(سَمِعَ) : يقال : سمع يسمع سمعا إذا أدرك بحاسة الأذن ، والله يسمع من غير إدراك بحاسة ، والسميع : من هو على حالة يسمع لأجلها المسموعات إذا وجدت ، والسامع : المدرك لذلك.

(ذُوقُوا) : قال الخليل ـ كما في مجمع البيان ـ كل ما نزل بإنسان من مكروه فقد ذاقه إلا أنه توسع ، وجاء في الخبر : «حتى تذوقي عسيلته ويذوق من عسيلتك» كنّى بذلك عن الجماع ، وهذا من الكنايات المليحة (١). وأصل

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٩٨.

٤١٧

الذوق : إدراك الطعم في الفم ، ثم استعمل في إدراك سائر المحسوسات كما في هذه الآية.

(الْحَرِيقِ) : أي العذاب المحرق والمؤلم ، والحريق : اسم للملتهبة من النار ، والنار تشمل الملتهبة وغير الملتهبة.

* * *

مناسبة النزول

أخرج ابن إسحاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عكرمة عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر بيت المدراس (١) ، فوجد يهودا قد اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص ، وكان من علمائهم وأحبارهم ، فقال أبو بكر : ويلك يا فنحاص! اتّق الله وأسلم ، فو الله إنك لتعلم أن محمدا رسول الله تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة ، فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، وما نتضرّع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنّا عنه لأغنياء ، ولو كان غنيّا عنا ما استقرض منا ، كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنيّا عنّا ما أعطانا الربا. فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضربة شديدة وقال : والذي نفسي بيده ، لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدوّ الله. فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمد ، انظر ما صنع صاحبك ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأبي بكر : ما حملك على ما صنعت؟ قال : يا رسول الله ، قال قولا عظيما ، يزعم أن الله فقير ، وأنهم عنه أغنياء. فلما قال ذلك غضبت لله مما قال ، فضربت وجهه. فجحد فنحاص فقال : ما قلت ذلك ، فأنزل الله في ما قال فنحاص تصديقا لأبي بكر : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) الآية (٢)

* * *

__________________

(١) المدارس والمدرس : الموضع الذي يدرس فيه ، والمدرس أيضا : الكتاب.

(٢) الدر المنثور ، ج : ٢ ، ص : ٣٩٦.

٤١٨

مفهوم الغنى الخاطئ

وهذه بعض النماذج البشرية في ملامحها الذاتية من خلال كلماتها ، وهي نماذج الأغنياء الذين يعيشون المال كقيمة حياتية يرتفعون بها في ميزان أنفسهم ، فهم يعانون الضعف النفسي أمام قصة الغنى والفقر ، ويحسون بالانسحاق الروحي إزاء المال وبذلك تتحول نظرتهم إلى الأشياء والأشخاص تبعا لمواقعها ومواقعهم من حركة المال في الحياة ، لأنهم لا يرون الحياة إلّا من خلاله ، فيقفون عنده ولا يتجاوزونه إلى ما وراءه من آفاق وعقائد.

وتتعاظم هذه العقدة ـ النظرة لدى هذه النماذج فيحوّلونها إلى مواقف وكلمات لا توحي لسامعها إلا بالسخريّة ، وهذا ما عبر عنه قوله تعالى : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ) فقد واجهوا الأنبياء الدّاعين إلى الله ، ورأوا أنهم لا يملكون المال ؛ فخيّل إليهم أن فقرهم يدلّ على أن الله فقير ، لأنه لو كان غنيا لتمثل غناه في غنى الذين يؤمنون به ويدعون إليه ... أمّا هم ، فإنهم الأغنياء الذين يملكون المال الكثير ، الذي يستطيعون من خلاله أن يملكوا السلطة والسيطرة والقوّة. وفي ذلك الجو ، لا يبقى هناك مجال لأن يسيروا مع الأنبياء ، إذ كيف يخضع الغنيّ للفقير في عالم تتحرك فيه القيم من خلال الغنى والفقر ، لأن الفقر يعني الضعف على أساس الحاجة ، بينما يعني الغنى القوّة على أساس عدم الحاجة. وهذا هو التفسير الذي يفسرون به دعوة الله لهم للعطاء ، فإنها توحي بحاجته إليهم من أجل أن يعينوا عباده ، مما يوحي لهم بالشعور بالفوقية التي تمنعهم من الإيمان ، وذلك هو أعلى مظاهر الطغيان والتجبر.

وقد أثار القرآن الفكرة في أسلوب لا يعمل على مناقشتها كونها الفكرة التي لا تثبت أمام الوهم فضلا عن الفكر ، بل أطلق الأسلوب في مجال التهديد. فقد سمع الله قولهم وسيكتب ما قالوا ليواجههم به يوم القيامة ويعاقبهم عليه ، (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) فذلك هو الأسلوب الطبيعي الذي يقابل هذا

٤١٩

المنطق ، لأنه لم ينطلق من قناعة ليقابل بقناعة أخرى ، ولم يتحرك من حجّة ليواجه بحجّة أخرى ، بل هو ناشئ عن عقدة كبرياء وطغيان. والله لا يسمح للمتجبرين والطغاة أن يأخذوا حريتهم بالحوار ، لأنهم لا يفهمون كلمة الحق ولا يريدون أن يفهموها ، فقد اختاروا الباطل على أساس موقف لا على أساس علم وفكر ؛ فلا بد من مخاطبتهم باللغة التي يفهمونها وهي القوة التي كانوا يخاطبون بها الناس ، وذلك من أجل تحطيم كبريائهم وإضعاف زهو القوّة في نفوسهم.

(وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ) وهذا دليل على أنهم لا يعيشون مسئولية الكلمة التي يسمعونها ليفكروا بها ويعملوا على أساسها ، فقد واجههم هؤلاء الأنبياء بالحقيقة ، وبلّغوهم كل ما يتعلق بها ويدعو إليها من آيات الله ، وفتحوا أمامهم أبواب الحوار ، ولكنهم لم يستجيبوا لذلك كله ، فلم يحاولوا سماع الكلمات الإلهية فضلا عن مناقشتها ، بل واجهوهم بالقتل ، كما هو أسلوب الطغاة الذين يملكون المال والقوّة والسلطة ، فينطلقون منها لإسكات كل أصوات المعارضة بالقوّة ، ولا يسمحون لها بالدخول في حوار جدّي معهم ومع بقيّة فئات الأمّة من أجل الوصول إلى القناعات من خلال الحوار. وهكذا يلتقي الأسلوب القديم لطغاة المال والسلطة ، بالأسلوب الجديد لأمثالهم ، في مواجهة الرسالات بالقوّة ، سواء كان الذين يحملونها أنبياء أو كانوا من حملة رسالتهم ، لأن القضية ليست موجّهة إلى الشخص لتكون له خصوصيته الذاتية ، بل هي موجّهة إلى الفكرة والرسالة.

وهكذا يجب أن نقرأ هذه الآية ، فهي ليست حديثا من أحاديث الماضي ، بل هي حديث من أحاديث الحياة التي ينطلق فيها الماضي ليلتقي بالحاضر والمستقبل في كل التحديات التي يواجه فيها الإيمان الكفر ، فإن العقلية التي عاشت في الماضي هي العقليّة التي تعيش الآن ، وبذلك يجب أن يكون الأسلوب هو الأسلوب والردّ هو الردّ.

* * *

٤٢٠