تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

صياغة إسلاميّة ، تنبع من روح الإسلام وخلقه كما تتحرك مع فكره ، ويترك مزاجه الشخصي لأجوائه الفرديّة التي تبتعد عن جوّ الدعوة والعمل.

* * *

سر العظمة في أخلاق النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي فبرحمة وما زائدة بإجماع المفسرين ـ قاله صاحب مجمع البيان ـ قال : ومثله قوله : عما قليل ، جاءت (ما) مؤكدة للكلام ودخولها تحسن النظم كدخولها لاتزان الشعر في نحو قول عنترة :

يا شاة ما قنص (١) لمن حلّت له

حرمت علي وليتها لم تحرم (٢)

ويكون معنى الآية : أي بسبب الرحمة التي رحم الله بها المسلمين الذين اتبعوك وآمنوا بك ، ما أودعه في شخصيتك الرسالية في محبتها لهم وانفتاحها على قضاياهم وإحساسها بالمسؤولية في تثبيتهم على الخط الإيماني والتزامهم به ، وفي إبعادهم عن حالة الاهتزاز النفسي التي قد تحركها في الذات الأجواء السلبية ، التي قد تسيطر عليها من خلال ردود الفعل على قسوة هنا وغضب هناك ، وتشنج من الداعية في بعض المواقع ، (لِنْتَ لَهُمْ) فكنت الرقيق في أسلوبك وكلامك معهم وخطابك لهم ، والرّقيق في نبضات قلبك أمام آلامهم وأحلامهم ومشاكلهم ، والمتسامح معهم إذا أخطئوا ، والمتساهل معهم إذا خالفوا تعاليمك ، وذلك هو سر العظمة في أخلاقه النبوية وروحيته الإنسانية وسلوكيته الإسلامية التي تعمق إحساس النبي بالآخرين في خط الانتماء ، وانفتاح الإنسان على الناس الذين يلتقي بهم في الخط الفكري والعملي ، لتأكيد الانتماء والعلاقة القوية وحركية المسلم الداعية في تقوية روحية المسلمين في مواقع الصراع.

__________________

(١) القنص : الصّيد ، و «ما» زائدة. والمراد بالشاة : امرأة شبهها بها.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٦٩.

٣٤١

(وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) أي فظ اللسان والطباع ، خشن المعاملة ، سيّئ الخلق ، (غَلِيظَ الْقَلْبِ) في قسوة الإحساس الداخلي في خفقاته ونبضاته بالطريقة السلبية ، (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) أي لتفرقوا عنك ، لأن الناس يبتعدون عن أي شخص يغلق قلبه عنهم ، ويقسو في المعاملة معهم ، ويضغط بالخلق السّيّء على مشاعرهم ، لأن النفس مجبولة على النفور ممن يسيء إليها ، كما هي مجبولة على حب من أحسن إليها. وهكذا كنت ـ يا محمد ـ تمثل الرسول القائد الذي ينطلق بروحية الرسالة وعفوية الإنسانية لاحتضان الناس الذين اتبعوه وعاشوا معه ، كوسيلة من وسائل تأكيد قوة الرسالة في جمهورها والتزام جمهورها بقيادتهم الحكيمة الحميمة.

* * *

المسلمون وعفو الرسول عنهم

ولا بد للرسول في الدعوة ، وللداعية في وعيه للعمل ، من أن يعيش الأجواء الواقعية للمسلمين في ما يقعون فيه من الأخطاء ، أو يتأثرون به من الانحرافات ، أو يخضعون له من الضغوط الخاصّة والعامة ، انطلاقا من حركة الصراع في داخل النفس التي قد تؤدي إلى الحق ، وقد تقع في قبضة الباطل ، وذلك بإفساح المجال لهم للتراجع عن الخطأ ، والاستقامة في مواقع الانحراف ، والرجوع إلى الحق في مواطن الباطل ... بالابتعاد عن الإيحاء الدائم بذلك كعقدة مستعصية غير قابلة للحلّ ، أو كجريمة غير خاضعة للعفو ، فلا بدّ من إعطاء المجال للعفو عن كل ذلك والمغفرة للفاعلين ، للإيحاء لهم بأنّ الخطيئة ليست ضريبة مفروضة على الإنسان ، وأنّ الانحراف ليس قدر الإنسان في حركته في الحياة ، بل يمكن له أن يتحرر من هذه أو ذاك في عمليّة تجديد الشخصية في خطة روحية فكرية عمليّة ، تحتوي كل أوضاع الإنسان في كل ما يقوله وما يفعله ، وهذا ما أراد الله سبحانه أن يثيره أمام رسوله : (فَاعْفُ

٣٤٢

عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) داعيا له إلى العفو عن المسلمين الذين يخطئون في حالة السلم وفي حالة الحرب في ما يتعلق بحقوقه كرسول وقائد وحاكم ... وإلى الاستغفار لهم في ما يتعلق بحقوق الله من ترك طاعته والإقبال على معصيته ، ليستقيم لهم الطريق من جديد ، وتتحرك الطاعة في حياتهم على طريق الله.

* * *

(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ)

(وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) وهذا توجيه عمليّ آخر يوجّه به الله رسوله ، ويوجّه الأمّة من خلاله ، وهو مبدأ المشاورة في الأمور التي تمس حياتهم وحياة الإسلام بشكل عام في ما يريد أن يقوم به الرسول من عمل ، أو يقرّره من قرار ، أو يخطط له من وسائل وأهداف في حالة السلم وفي حالة الحرب ، ليحقّق من خلال ذلك أمرين تربويين عمليين في حركة العاملين في الحياة :

الأوّل : التخطيط للسلوك الفردي والاجتماعي على أساس الابتعاد عن الاستبداد بالرأي في اتخاذ المواقف الحاسمة والقرارات المصيريّة ، والتأكيد على أن يرجع الإنسان إلى فكر الآخرين الذين يملكون الفكر السليم فيحاورهم ويناقشهم ويستشيرهم في كل خطوة من خطوات العمل ، ثم يرجع إلى فكره ليقارن بين الآراء ويدرس كل واحد منها بمفرده بهدوء وموضوعية ، لينتهي إلى النتيجة الأخيرة بطريقة فكريّة سليمة ، فيعمل على أساسها بقوّة وثبات.

الثاني : إعداد الأمّة التي تمثل القاعدة الواسعة لتفكر مع القيادة في كل ما تريد القيادة أن تقوم به من خطط ومشاريع ، لتعرف ـ من موقع الفكر ـ كيف يكون التحرك وأين تقع الوسيلة من خط الهدف ، فتتابع القرارات من بدايتها بوعي وتأمل وتركيز ، وتتدرّب ـ بذلك ـ على ممارسة الدور القيادي في المرحلة الفكرية ، من أجل أن تعدّ نفسها لاستلام القيادة في حالات الفراغ بكفاءة وقدرة على اتخاذ القرارات وتخطيط المواقف ، وتتعلم كيف تراقب خطوات القيادة غير

٣٤٣

لمعصومة ، أو ترصد قراراتها ، لئلا تنحرف أو تغفل أو تخون ، فتكون بالمرصاد لها من بداية الطريق ، قبل أن تتعقد المشكلة ويستفحل الأمر في نهايته ، وبذلك يصعب على القيادات المنحرفة التي قد تفرض نفسها على الساحة في المستقبل ، أن تمارس حريتها في التلاعب بمقدرات الأمة واللعب على عواطفها ومشاعرها بالكلمات المبهمة ، لأن الأمّة قد أعدّت لترصد الحكم في عمليّة محاكمة ومناقشة على أساس تحصيل القناعة من قاعدة الحجة والبرهان المتمثل بحركة الحوار الفكري.

وتلك هي عظمة التربية الإسلامية التي توحي للقادة ، وإن كانوا في مستوى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي لا يحتاج إلى فكر أحد ، بأن يبحثوا عن القاعدة التي تفكر وتقتنع لتطيع من خلال ذلك ، لا عن القاعدة التي تطيع من دون فهم ووعي ، وذلك كوسيلة مثلي من وسائل التحضير العملي لقيادات المستقبل من بين أفراد القاعدة.

* * *

الآية وعلاقتها بالشورى في الحكم

وقد أثار الكثيرون من المفكرين الإسلاميين في حديثهم عن هذه الفقرة من الآية ، موضوع الشورى وعلاقتها بشرعيتها كأساس للحكم الإسلامي ، فرأوا في هذه الآية قاعدة التشريع التي توحي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وللأمّة من خلاله ، بأن يعتمد الشورى كأساس للقضايا العامة ليكون ذلك دستورا عمليا شاملا ، حتى في الحالات التي لا تحتاج فيها القيادة إلى ذلك كما في حالة وجود إمام معصوم.

ولكننا لا نستطيع أن نوافق على إخضاع الآية لهذه الفكرة ، فإننا لا نلمح فيها مثل هذا الجو ، فقد وردت في الحديث عن السلوك العملي للرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المسلمين كوجه للصورة الإنسانية الإسلاميّة التي تتمثّل فيها إنسانيّة الرسالة

٣٤٤

وواقعيتها في ما يعيشه الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه من الرحمة في رقّة القلب ولين الكلمة ، وفي ما يريد الله له أن يعيشه معهم من العفو عنهم والاستغفار لهم إذا أخطئوا ، ومن استشارتهم في الأمر كأسلوب من أساليب تأكيد اهتمامه بهم وتقديره لهم ، وإعدادهم من خلال ذلك للمستقبل ليعتادوا على التفكير في الأمور ، ولم تتحدث الآية الكريمة عمّا تفرضه الاستشارة من مسئوليات على المستشير إذا لم يقتنع بالرأي المشار به ، كما هو المفروض في ما تقتضيه فكرة الشورى في اعتبارها قاعدة لشرعية الحكم في الدولة الإسلامية من حيث الإلزام للأمة بما تفرضه من قرارات وما تستتبعه من التزامات ... بل ربما نستوحي من الفقرة التالية (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) أن الاستشارة لا تفرض شيئا ، بل القضية هي إرادة الإنسان وعزمه المنطلق من قناعته بعد الاستشارة سواء كانت منسجمة معها أو غير منسجمة. ويؤكد هذا المعنى ، أو يوحي به ، بعض الأحاديث الواردة في هذا المجال ، فقد جاء في بعضها : لما نزلت (وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ) قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما إنّ الله ورسوله لغنيّان عنها ، ولكن جعلها الله تعالى رحمة لأمّتي ، فمن استشار منهم لم يعدم رشدا ومن تركها لم يعدم غيّا.

وجاء عن علي بن مهزيار قال : كتب إليّ أبو جعفر ـ الإمام محمد الباقر عليه‌السلام ـ أن «سل فلانا أن يشير عليّ ويتخيّر لنفسه ، فهو يعلم ما يجوز في بلده ، وكيف يعامل السلاطين ؛ فإن المشورة مباركة ، قال الله تعالى لنبيه في محكم كتابه : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) ، فإن كان ما يقول ممّا يجوز كنت أصوّب رأيه ، وإن كان غير ذلك رجوت أن أضعه على الطريق الواضح إن شاء الله» (١). وجاء عن الإمام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام لبعض أصحابه ، «أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يستشير أصحابه ثم يعزم على ما يريد» (٢).

__________________

(١) البحار ، م : ٢٦ ، ج : ٧٢ ، باب : ٤٨ ص : ٣٣٠ ، رواية : ٣٤.

(٢) (م. ن) ، م : ٢٦ ، ج : ٧٢ ، باب : ٨٤ ص : ٣٢٨ ، رواية : ٢٣.

٣٤٥

وقد روي أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاور أصحابه يوم بدر في الذهاب إلى قافلة أبي سفيان فقالوا : يا رسول الله ، لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماء لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) [المائدة : ٢٤] ، ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون.

وكان الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تربيته الناس على الشورى يحضهم على التمييز ، في كل مورد يريدون أن يدلوا إليه برأيهم في بعض مسائل الحرب والسلم ، بين ما هو تكليف إلهي شرعي ، وبين ما هو تدبير بشري صادر عن شخص النبي ، ليشيروا عليه بآرائهم فيما لو كان رأيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رأيا خاصّا. وهذا ما رواه كتّاب السيرة في يوم بدر ، فقد نزل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في موقع هناك ، كان أدنى ماء من بدر ـ كما يقولون ـ فقال الحباب بن المنذر يا رسول الله : أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزله الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه ، أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل هو الرأي والحرب والمكيدة. فقال : يا رسول الله ، ليس هذا بمنزل ، فانهش بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فينزله ثم تفور ما وراءه ... فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لقد أشرت بالرأي ، وعمل برأيه. وربما كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقوم بالعمل ليستثير رأي أصحابه بالمناقشة فيه ليفكروا بالرأي البديل ، فيدربهم على التفكير في الأمور ، ويوجه القيادات من بعده إلى الاستماع إلى آراء القاعدة الشعبية في قرارات القيادة ، من أجل تسديد الرأي وتعميق العلاقة بين القيادة والقاعدة على أساس المسؤولية المشتركة في التقرير والتنفيذ ، مع الحفاظ على الموقع القيادي للقيادة ، لأن مسألة الشورى تتحرك في المرحلة التي تسبق القرار الحاسم في الموقف أو في المعركة.

ولا بد لنا من التدقيق في الروايات التي تتحدث عن مشاورة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمسلمين من حيث توثيق رواتها ودراسة مضمونها ، لأن بعض هذه الروايات تسيء إلى صورة وعي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للرسالة وإنسانيته في نظرته إلى الناس ؛ كما جاء في رواية أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاور أصحابه في يوم الحديبية في أن

٣٤٦

يميل على ذراري المشركين ، فقال له أبو بكر : إنا لم نجئ لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين فأجابه إلى ما قال.

فنحن نلاحظ أن هذه الرواية توحي بأن أبا بكر كان أكثر وعيا للمهمة التي جاء المسلمون لتنفيذها من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، في الوقت الذي نعرف فيه أن النبي هو الذي قادهم على أساس القيام بالعمرة لا على أساس القتال ، ولذلك لم يجيء مقاتلا في حال استعداد شامل للقتال ، لأنه كان يهيّئ الظروف والأسباب لفتح مكة. ثم كيف يفكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإجهاز على الذراري ، في الوقت الذي لم يبدأ فيه القتال مع المشركين المعاندين؟! وكيف يمكن لنا أن نقدم صورة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي يفكر في قتل النساء والأطفال الصغار قبل الدخول في حرب ، في الوقت الذي تتمثل فيه صورة النبي ـ الإنسان ـ في القرآن وفي السنة في كل أقواله وأفعاله. وهذا يفرض علينا أن ندرس شخصية الرواة الذين رووا هذه الرواية قبل الأخذ بها ، وندقق في مفرداتها التي لا تتناسب مع صورة النبي الحقيقية الرسالية في إنسانيته وأخلاقيته وحكمته وعدالته ، في النظر إلى الأشياء من مواقع المسؤولية العملية مع الناس.

وإذا كنا قد لاحظنا في فهمنا للآية أنها لا تطرح الشورى كقاعدة ملزمة في حركة القيادة ، فإننا نحاول أن نؤكّد أن المسألة تتجاوز أخلاقية النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في صفته الإنسانية إلى موقعه في صفته القيادية ، سواء من حيث سلوك القائد مع القاعدة ، أو من حيث مسئوليته في التعرف على آراء الناس الآخرين في حركة القضايا المتصلة بالمسيرة الإسلامية ، لأن الإسلام يرفض استبداد القائد في حركته العامة من الناحية الأخلاقية أو السياسية ، ولهذا فإن الأمر بالمشاورة للناس في هذه الآية ينطلق من الخط العام ، بعيدا عما إذا كان النبي محتاجا لذلك في الواقع الخارجي أو غير محتاج ، مما يعني أن على القائد أن ينفتح على شعبه من خلال الشورى ليكون حكمه منسجما مع الخط الإسلامي العام في هذه القضية الحيوية المهمّة ، وفي غيرها من القضايا الجزئية والكلية في حياة الناس ، لأن المسألة لا تتصل بالجانب الذاتي في شخصيته بل بالجانب العام في

٣٤٧

حكمه.

ولا تقتصر مسألة الشورى على الدائرة القيادية ، بل تمتد إلى الواقع العام للناس لأنها من المسائل الحية التي تكفل لهم المزيد من الانفتاح على بعضهم البعض في موقع الفكر المشترك في كل قضاياهم ، كما تمنع الكثير من الزلل الذي يقع فيه المستبدون من خلال استبدادهم في إدارة أمورهم ، ولذلك اعتبرها الإسلام عنوانا من عناوين المجتمع الإسلامي في قوله تعالى : (فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) فإن المؤمن ينطلق في حياته من موقع العزم المرتكز على الفكر الذاتي والاستشارة ، لدراسة كل الجوانب المحيطة بالموضوع ، حتى إذا استكمل كل الأسباب الموضوعية للقرار ، أعطى الموقف قوّة الإلزام من إرادته ، وتحرّك نحو الهدف متوكلا على الله غير خائف من الطوارئ التي تعيش في أجواء الغيب المجهول ، لأن الثقة بالله تدفع الإنسان إلى الثقة بالموقف ، فإن الله قد تكفّل لعبده المتوكل عليه بأن يكفيه ما أهمّه مما لم يحتسبه من أوضاع إذا أعدّ كل ما يحتسبه من أسباب ومؤثرات ، وذلك هو معنى التوكل في ما يجمعه من واقعية النظرة إلى الساحة ، وغيبيّة الاستسلام للمستقبل المجهول بالاعتماد على الله ، (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) لأنهم يمثّلون في توكلهم عليه ، قوّة الثقة به والاعتماد عليه ، وينطلقون من سنّته الحكيمة إلى الكون في ما أراده من توفير الوسائل للحركة من خلال ما أودعه في الحياة من ذلك كله ... وبذلك يخلصون له بالإخلاص لسننه ، وبالإخلاص العميق لقدرته التي تحمي الإنسان من كل مفاجات المجهول.

* * *

٣٤٨

الآية

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٦٠)

* * *

النصر من عند الله

(إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) بتأييده ورعايته ولطفه من خلال ما يوفره لكم من الأسباب الخفية ، بالإضافة إلى الأسباب التي تأخذون بها مما يرتبط بالنتائج الطبيعية للنصر في نطاق النظام الكوني والإنساني في سنن الله في الحياة ، فإن الله إذا رأى عباده المؤمنين منفتحين على مواقع محبته ورضاه ، آخذين بمواقع إرادته في حركة سننه لديهم ، فلا بد له من أن يمنحهم نصره بطريقة أو بأخرى ، فلا مجال لأية هزيمة في ساحتهم ، فإذا انطلقتم في هذا الاتجاه (فَلا غالِبَ لَكُمْ) لأن الله لا يغلب في إرادته مهما كانت الأمور والأوضاع.

(وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ) لأنكم ابتعدتم عن الطاعة لأوامره ونواهيه وفقدتم الإحساس بالوحدة الإيمانية بينكم ، ورفضتم السير على وفق حركة الأسباب في وجودكم (فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ) من كل هؤلاء الذين يملكون القوّة

٣٤٩

ممن يستعين بهم الناس على تحقيق الانتصار في ساحة الحرب أو الوصول إلى الأهداف في مواقع التحدي ، فهو وحده الذي لا بد للمؤمنين من أن يلجأوا إليه ويستعينوا به ويتوكلوا عليه ، ليحصلوا على النتائج الكبرى ، فلا ملجأ إلا إليه ، ولا استعانة إلا به ، ولا توكل إلا عليه ، (وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) فهو نعم الوكيل ونعم المولى ونعم النصير.

* * *

قوة إلهية مطلقة مهيمنة

ويعود القرآن إلى المعركة من جديد ، ليقرّر للمؤمنين الحقيقة الإيمانيّة التي ينبغي لهم أن يتمثلوها في أعماقهم في كل معركة من معاركهم ، وهي أن الله هو القوّة المطلقة المهيمنة على الحياة في كل ما تشتمل عليه من انتصارات وهزائم ، فهو من وراء ذلك كله ، فإذا شاءت إرادته لهم النصر فلن تستطيع كل قوى الأرض أن تغلبهم وتهزمهم ، لأنه الذي يملك الأسباب العاديّة وغير العادية للأشياء ، فإذا تحرّكت أسباب النصر من خلاله ، فكيف يمكن للآخرين أن ينتصروا من دون سبب؟! وإذا شاءت إرادته الخذلان لهم ، لأنهم انحرفوا عن الخط المستقيم الذي يسير بهم نحو النصر واعتمدوا على أنفسهم وعلى الآخرين بعيدا عن الله ، فأدّى ذلك إلى أن يفقدوا لطف الله ورحمته ورعايته ، فمن هذا الذي يملك أسباب النصر من بعد الله ليحققوه من خلاله ، وهو لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا إلا بإذن الله ، فكيف يملكه للآخرين؟!

وفي هذا الجو الإيماني المتحرّك في خط الواقع في ما يريده الله للإنسان من خلال سنته في الكون ، تنطلق الدعوة للتوكل على الله في حياة المؤمنين ليستمدوا منه القوّة ، وليشعروا بالثقة من عنده ، فإنه لا مجال للقوّة إلا منه ولا للثقة إلا به.

* * *

٣٥٠

الآية

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) (١٦١)

* * *

معاني المفردات

(يَغُلَ) : يخون. وأصل الغلول ـ كما يقول صاحب المجمع ـ من الغلل ، وهو دخول الماء في خلل الشجر ، يقال : انغلّ الماء في أصول الشجر ، والغلول : الخيانة لأنها تجري في الملك على خفاء من غير الوجه الذي يحل كالغلل ومنه : الغليل : حرارة العطش ، والغلّة : لأنها تجري في الملك من جهات مختلفة ، والغلالة : لأنها شعار تحت البدن (١).

* * *

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٧٢.

٣٥١

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ عن ابن عباس قال : فقدت قطيفة حمراء يوم بدر مما أصيب من المشركين ، فقال أناس : لعل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أخذها فأنزل الله تعالى : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ). قال حصيف ـ وهو الراوي عن عكرمة عن ابن عباس ـ قلت لسعيد بن جبير : وما كان لنبيّ أن يغلّ. قال : بل يغلّ ويقتل (١).

وعن مجاهد عن ابن عباس أنه كان ينكر على من يقرأ (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) ويقول : كيف لا يكون له أن يغلّ وقد كان يقتل؟ قال الله تعالى : (وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ) ، ولكن المنافقين اتهموا النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في شيء من الغنيمة ، فأنزل الله عزوجل : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) (٢).

وروي عن وكيع عن سلمة عن الضحاك قال : بعث رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم طلائع ، فغنم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غنيمة وقسّمها بين الناس ـ ولم يقسم للطلائع شيئا ـ فلما قدمت الطلائع ، قالوا : قسم الفيء ولم يقسم لنا ، فنزلت : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) قال سلمة : قرأها الضحاك يغلّ. وقال ابن عباس في رواية الضحاك : إن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما وقعت في يده غنائم هوازن يوم حنين غلّه رجل بمخيط ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، وقال قتادة : نزلت وقد غل طوائف من أصحابه. وقال الكلبي ومقاتل : نزلت حين ترك الرماة المركز يوم أحد طلبا للغنيمة ، وقالوا : نخشى أن يقول رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : من أخذ شيئا فهو له ، وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر ، فقال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ظننتم أنّا نغلّ ولا نقسم لكم؟ فأنزل الله هذه الآية (٣)

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٧٠.

(٢) (م. ن) ، ص : ٧٠ ـ ٧١.

(٣) (م. ن) ، ص : ٧١.

٣٥٢

وقيل : نزلت في أداء الوحي ، كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقرأ القرآن وفيه عيّب دينهم وسبّ آلهتهم ، فسألوه أن يطوي ذلك ، فأنزل الله الآية (١).

وإننا نلاحظ على بعض هذه الروايات أنها توحي بأن هناك نوعا من عدم الثقة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في العدل في قسمة الغنائم بين أصحابه ، بحيث يخاف المسلمون من تصرفه معهم بهذه الطريقة التي عبر عنها القرآن بالخيانة ، ولا سيما في رواية الطلائع الذين لم يقسم لهم ، فنزلت الآية لتقول : ما كان لنبي أن يعطي قوما أو يمنع آخرين ، بل عليه أن يقسم بالسويّة ، وسمي حرمان بعض الغزاة غلولا تغليظا وتقبيحا لصورة الأمر أو مبالغة في النهي لرسول الله كما في قضية الرماة. وهذا مما لم نعهده في نظرة الصحابة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بشكل عام ، مما يجعلنا نتحفظ في هذه الروايات ، فتكون الآية واردة في سبيل تقرير المبدأ لا في الرد على الكلمات الصادرة من الصحابة في هذا المجال. والله العالم.

وربما كانت الآية واردة تعليقا على التصور الذي كان يتصوره الرّماة في أحد عند ما تركوا مراكزهم ، أن النبي لا يحسب حسابهم في الغنائم عند القسمة ، فقد روي أنها نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز وطلبوا الغنيمة وقالوا : نخشى أن يقول رسول الله : من أخذ شيئا من الغنائم فهو له ، وأن لا يقسم الغنائم كما لم يقسم يوم بدر. فقال لهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟! فقالوا : تركنا بقيّة إخواننا وقوفا. فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بل ظننتم أننا نغل ولا نقسم لكم ... وذكر بعض الرواة وجوها أخرى في المناسبة التي نزلت فيها الآية ، وقد تكون هذه الرواية التي ذكرناها مناسبة للجوّ الذي نزلت فيه الآية ، لأنها واردة في سياق الحديث عن معركة أحد ... وقد لا تكون هناك مناسبة محدّدة للآية ، ولكنها تتحرك في إثارة كل الخلفيّات الفكرية التي يمكن أن تدور في أذهان المقاتلين كأساس للاهتزاز الذي

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٧٣.

٣٥٣

حدث في مواقفهم في المعركة ، وذلك من أجل توضيح الصورة الكاملة للأجواء التي تسود المعركة من حيث طبيعة القيادة التي تقودها ، فهي ليست بالقيادة المألوفة لهم في ما ألفوه من قياداتهم السابقة ممن كان يظلم جنودهم أو يستغلّهم أو يخونهم ولا يعطيهم ما يستحقونه من غنائم الحرب ؛ بل هي القيادة المعصومة التي لا تتحرك إلّا في النطاق الذي تعتقد أنه يرضي الله ، لأنها تعيش في أجواء النبوّة التي جاءت من أجل أن تقيم للناس قواعد العدل على أساس الإخلاص لحياتهم ولآخرتهم ، فلا يمكن لها أن تخون قضايا الناس في الحرب والسلم ، ولا يمكن أن تنقص من حقوقهم شيئا ، فهي تمثل الإخلاص كل الإخلاص ، والأمانة كل الأمانة ، فمنها تستمد الحياة عدالتها وإخلاصها في كل شأن من شؤونها العامة والخاصة ، وهي التي تشهد للناس وعلى الناس يوم القيامة ، فكيف يمكن أن تضع نفسها في مواقع الاتهام في الدنيا والآخرة؟!

* * *

عصمة النبي عن الخيانة

(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) فإن النبوّة لا تجتمع مع الخيانة ، لأنها لا تناسب النبوّة التي هي أمانة الله عند النبي في تبليغ رسالته وفي تطبيق منهجة وفي الحكم بين الناس ، فهو الذي أراد الله له أن يؤكد خط الأمانة في الحياة ليكون القدوة للناس في ذلك كله في جميع أمورهم ، وربما كان من أظهر مصاديق هذا المبدأ ، كتمان الوحي انسجاما مع طلب المشركين منه إخفاء الآيات التي تندد بدينهم وتسبّ آلهتهم ـ كما جاء في بعض روايات النزول ـ فهي خيانة لله في رسالته ، وللأمة في إخفاء الحقيقة عنها. فلا بد من أن يؤدي الرسالة كاملة غير منقوصة ، وربما قرأ بعضهم «يغل» بضم الياء وفتح الغين. فيكون المعنى أنه ليس لأصحابه أن يخونوه أو يكتموه شيئا من الغم. ولكن القراءة المشهورة هي الثابتة والمتّبعة والمقروءة وهي التي تعلن عصمة الأنبياء عن الخيانة في تقرير

٣٥٤

الخط النبوي في كل ما يتعلق بمسؤوليته في إبلاغ الوحي وتوزيع الحقوق على الناس بعيدا عن أية حالة ذاتية تفرض عليه ذلك.

ربما كانت الآية ـ كما أشرنا إليه ـ واردة في مجال تقرير المبدأ ، ليشعر المسلمون بالثقة المطلقة من خلال الثقة بعصمة القيادة ، فيكون ذلك أقرب لخط الالتزام ، وأدعى للانضباط وأقوم للثبات ، وأكثر تأكيدا لنقد الموقف الذي وقفوه لأنه لا يتناسب مع هذا المبدأ ... وقد نستشعر من الآية الإيحاء بأن قضية رفض الخيانة من النبي ، ليست خصوصيّة للنبي ، بل هي قضية المبدأ الذي يتحرك في خطّ النبوّة ، مما يجعل منه شيئا غير مناسب له ، على أساس منافاته للرسالة التي يدعو إليها ، وللإخلاص لله باعتبار أنها تمثّل تمرّدا على الله ...

وفي ضوء ذلك ، أكملت الآية الفكرة بالإيحاء بالجوّ الشامل الذي يحكم النبي ويحكم الآخرين في مواقف الحساب ، كما توحي به هذه الفقرة من الآية : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ) فإن الخيانة في الدنيا لا تنتهي مسئوليتها بانتهاء الدنيا ، بل يقف الخائن يوم القيامة ليتحمل مسئولية ذلك كله ، فيحمل ما خانه بين يديه ، وذلك على سبيل الكناية عن الإثم والتبعية والمسؤولية ، وهناك الحكم الذي يمنح كل إنسان جزاء ما اكتسبه من خير أو شرّ ، (وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) ... وهكذا تريد الآية ، أن توحي ، بأن المسؤولية لن تستثني أيّ إنسان ، مهما كانت درجته ولو كان نبيّا ، فكلّ العباد مكلّفون برفض الخيانة ، بما فيهم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، لأن الامتيازات ملغاة في هذا المجال ، فلا يحق لأحد أن يتمرّد على القانون من خلال درجته الروحية والاجتماعية ، كما هو الحال في واقع الناس المعاش ، وبذلك تتم للفكرة حركتها العملية في خطّ العدالة في حياة الناس ، وتتوضح للقاعدة الشعبيّة طبيعة القيادة في أمانتها وإخلاصها وعصمتها عن كل ألوان الخيانة ، على أساس النظرية والتطبيق معا.

* * *

٣٥٥

النبي قدوة

وقد استطاع الإسلام من خلال الوحي القرآني في نطاق هذا المبدأ الإنساني المرتكز على العدالة في الفكر والسلوك ، أن يربي جيلا من الناس ، من الصحابة وغيرهم ممن جاء بعدهم ، على أساس الأمانة الفكرية والروحية والعملية في خط الاستقامة في جميع جوانب حياتهم ، انطلاقا من القدوة النبوية ومن الإيحاءات الروحية التي تنطلق من خلال التذكير بالوقت الذي يواجهه الخائنون يوم القيامة عند ما يحملون على ظهورهم كل ما خانوا فيه.

وقد جاء في تاريخ الطبري ، أنه لما هبط المسلمون بالمدائن ، وجمعوا الأقباض ـ الغنائم ـ أقبل رجل بحقّ معه فدفعه إلى صاحب الأقباض ، فقال الذين معه : ما رأينا مثل هذا قط ، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه ، فقالوا : هل أخذت منه شيئا؟ فقال : أما والله ما آتيتكم به. فعرفوا أن للرجل شأنا ، فقالوا : من أنت؟ فقال : والله لا أخبركم لتحمدوني ، ولا غيركم ليقرظوني ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. وقد رأينا ـ في كثير من نماذج المؤمنين ـ أن بعضهم يلتقط اللقطة الملقاة على الطريق ليبقى فيعرّفها سنة ، ثم يتصدق بها ، أو يدفعها إلى أولي الأمر ، فإذا جاء صاحبها بعد ذلك ولم يقبل بالصدقة ، دفع إليه ما يريد من ماله طلبا لثواب الله.

وقد كان بإمكانه ـ لولا مسئولية الأمانة في دينه ـ أن يأخذها ويتملكها بعيدا عن ذلك كله ، لأن أحدا لن يسأله عنها عند ما التقطها وعند ما يأخذها.

* * *

٣٥٦

الآيتان

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) (١٦٣)

* * *

معاني المفردات

(باءَ) : أي : رجع ، يقال : باء بذنبه يبوء بوءا إذا رجع به ، وبوّأته منزلا : أي : هيّأته له ، لأنه يرجع إليه.

(بِسَخَطٍ) : السخط من الله : هو إرادة العقاب لمستحقه ولعنه ، وهو مخالف للغيظ ، لأن الغيظ هو هيجان الطبع وانزعاج النفس ، فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى ـ كما جاء في مجمع البيان (١) ـ.

(الْمَصِيرُ) : المرجع والمنتهى ، والفرق بين المصير والمرجع ـ كما يقول صاحب المجمع ـ أن المرجع هو انقلاب الشيء إلى حال قد كان عليها والمصير انقلاب الشيء إلى خلاف الحال التي هو عليها ، نحو مصير الطين

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٧٤.

٣٥٧

خزفا ، ولا يقال : رجع الطين خزفا ، لأنه لم يكن قبل خزفا (١). وقال الراغب ـ : صار : عبارة عن التنقل من حال إلى حال (٢).

(دَرَجاتٌ) : الدرجة : الرتبة ، والدرجان : مشي الصبي لتقارب الرتب ، والترقي في العلم درجة بعد درجة أي منزلة بعد منزلة كالدرجة المعروفة.

* * *

مناسبة النزول

جاء في مجمع البيان : لما أمر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخروج إلى أحد ، قعد عنه جماعة من المنافقين واتبعه المؤمنون ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٣).

* * *

لا يتساوى الطائعون والعاصون في ميزان الحكم الإلهي

وتستمر الآيات في توضيح الميزان الذي يرفع الله به درجات عباده أو ينزلها ، فليس هناك إلّا اتّباع رضى الله والابتعاد عن سخطه ، فلا يمكن أن يتساوى الطائعون والعاصون أمام الله الذي يعلم خفاياهم في صغائر الأمور وكبائرها ، بل يجعل لكلّ منهم درجته من المغفرة أو من العقوبة على أساس علمه وعدله.

(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) ما أمره الله به أو نهاه عنه في الخط العام للشريعة بأحكامها العامة والخاصة ، وما أمره به رسوله في خط الدعوة والجهاد ، فكان

__________________

(١) (م. س) ، ج : ٢ ، ص : ٨٧٤.

(٢) مفردات الراغب ، ص : ٢٩٩.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٧٤.

٣٥٨

همّه الحصول على رضى الله والوصول إلى موقع القرب منه ، (كَمَنْ باءَ) أي رجع من مواقعه الحركية في حركة الإسلام في ساحة التحدي والمواجهة للشرك وأهله ، (بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ) بما يمثله ذلك من إبعاده عن ساحة رحمته واستحقاقه لعذابه ، لأنه لم يأخذ بأسباب الطاعة لله وللرسول في ما أمراه به أو نهياه عنه في الحياة العامة وفي مواقع الجهاد ، (وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) أي مستقره في النار التي استحقها بكفره ونفاقه وانحرافه عن الخط الإلهي المستقيم؟!

وهكذا تؤكد الآية ـ بأسلوب الاستفهام الإنكاري ـ تقرير الحقيقة الإيمانية العملية التي ترفض مساواة الطائعين للعاصين عند الله في المصير النهائي الذي يصيرون إليه في الآخرة.

* * *

الناس درجات عند الله

(هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ) فلكل واحد منهم منزلته ومرتبته تبعا لحجم عمله في خط الطاعة وخط المعصية ، سواء في ذلك المؤمنون والكافرون ، فقد يختلف المؤمنون في درجاتهم في مواقع القرب من الله والحصول على رضوانه من خلال اختلافهم في درجات المعرفة به والإيمان به والعمل في سبيله ، وقد يختلف الكافرون في منازل سخطه من خلال اختلاف نوعية الكفر شدة وضعفا ، أو في اختلاف طبيعة التمرّد العملي في مواقع المعصية ، (وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ) فهو المطّلع على سرّهم وعلانيتهم ، وعلى كل ما يفيضون فيه من أقوال وأعمال ، وفي هذا إيحاء بأن على المؤمنين أن يتبعوا رضوان الله في جميع أمورهم ويتطلبوا الحصول على الدرجات الرفيعة عنده ما دام الأمر بهذه المثابة في انفتاح الفرصة على الوصول إلى أعلى الدرجات من خلال وعي العقيدة وحركة العمل وامتداد الخط في آفاق الاستقامة.

٣٥٩

وهكذا يمكن أن يستوحي منها العاملون للإسلام خطّا إيمانيا في تخطيطهم لحساب المسؤولية في ما يمكن أن يرفعوا به الآخرين من درجات أو يضعوه منها ، فيمن يعملون معهم ، فلا بدّ من أن تكون الدرجات خاضعة لمواقعهم في الانضباط أمام أوامر الله ونواهيه ، بعيدا عن الجوانب الأخرى التي لا تلتقي بهذا الخطّ ، وبهذا نستطيع أن نشجّع السائرين على الخط المستقيم في ما ساروا فيه ، ونبعد المنحرفين عن الامتداد بعيدا في خط الانحراف.

* * *

٣٦٠