تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

مواقع الجهاد على الآلام والضغوط والمشاكل والتحديات ... (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) فلما ذا لا تصبرون مثلهم؟! وكانت روحيتهم صافية منفتحة على الله ؛ فإذا شعروا في داخل ذواتهم بالجفاف والقسوة ورأوا أن خطواتهم بدأت تنحرف عن الطريق بفعل الأجواء الخانقة المحيطة بهم ، جلسوا بين يدي الله في مناجاة روحيّة خاشعة : (وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا) فقد تجاوزنا الحدود المرسومة لنا من قبل رسلك وابتعدنا عن الطريق طويلا ، وبدأت الأرض تهتز من تحت أقدامنا لتزلزل أقدمنا في زلزال الكفر والانحراف ، (وَثَبِّتْ أَقْدامَنا) في مواقع الزلل (وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ) عند ما نجاهد في سبيلك ، فإننا لا نطلب النصر إلّا منك بتأييدك وعونك ونصرك. واستجاب الله لهم هذا الدعاء الذي يجمع للإنسان ثواب الدنيا والآخرة : (فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يعملون له عند ما يعملون ، ويتوكلون عليه عند ما يجاهدون.

تلك هي الصورة في مجتمع النبوّات السابقة ، وتلك هي الصورة التي يريد الله للمجتمع المسلم أن يستعيدها في نفسه عند ما تضيق به الأمور ، وتحيق به الهزائم ، وتجتمع في آفاقه الأزمات ، وتتضافر عليه قوى الشر ... فيسأل الله الفرج حيث لا فرج ، والمدد حيث لا مدد ؛ فتسكن النفس ، ويرتاح اللب ، وتثبت الأقدام ، وينفتح للحياة على الله درب طويل لا نهاية له ، تخضرّ فيه أرواح ، وتنبت فيه كل الجنائن الروحيّة التي يزهر فيها الورد ، وتتفتح فيها براعم الرياحين ... ويبدأ الإنسان حياته الجديدة الآمنة المطمئنة في آفاق الله ...

* * *

ما معنى حبّ الله؟!

وهنا ملاحظات :

الأولى : إن الله تحدث عن الصابرين ، في قوله : (وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) من

٣٠١

موقع التعبير عن الحب الإلهي للمجاهدين الصابرين الذين عاشوا الصبر في خط الجهاد ، باعتباره العمق الروحي الذي يؤكد الثبات في الموقف من خلال تحمّل الآلام القاسية ومواجهة التحديات الكبرى ، مما يوحي بأن الإنسان يقف في مثل هذا الموقف ويعاني كل هذه المعاناة حبّا بالله ورسوله ، بحيث يعيش الفرح الروحي في داخل نفسه لأن الله يراه فيهون عليه كل شيء أمام ذلك ، وهذا هو الذي يقوّي إرادة التقوى في الإنسان ، ويحرّك قدرته في اتجاه الأهداف ، لأن الإنسان كلما ازداد حبا لله كلما ازداد صبرا ، وكلما ازداد صبرا كلما ازداد قوّة وثباتا ، فيتحول إلى أن يكون إنسان الله الذي يحب ما يحبه الله ويكره ما يكرهه في الأعمال والحياة والإنسان ، فيبادله الله حبا بحب. وتلك هي السعادة الكبرى التي ليس فوقها سعادة ، والغنيمة التي لا تساويها غنيمة ، أن يحصل الإنسان على حب الله ، فتفيض عليه الرحمة بكل فيوضاتها ، ويحوطه اللطف الإلهي بكل رعايته.

* * *

من هم المحسنون؟

الثانية : إن الله تحدث بكلمة «الحب» عن المحسنين في قوله تعالى : (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) ، هؤلاء الذين عاشوا معنى الإحسان في أفكارهم فكرا يقدم الإحسان إلى الناس الذين يبحثون عن الحلول الفكرية لمشاكلهم العامة ، وعملا يقدمه إلى الناس ليحسن إلى حياتهم الباحثة عن قوّة لضعفها ، وغنّى لفقرها ، وحيوية لحركتيها ؛ فيرفع بذلك مستواهم ، ويحقق لهم الكثير من الخير في جميع أمورهم وأوضاعهم.

وهؤلاء الذين عاشوا الإحسان لأنفسهم إيمانا في الروح ، وعقيدة في العقل ، واستقامة في الطريق ، وثباتا في الخطى ، وتقوّى في العمل ، وانفتاحا على الله في آفاق الغيب ، وجهادا في ساحة الصراع ، وقوة في مواجهة التحديات ، وإخلاصا للرسالة وللرسول ، وحبا لعباد الله ... وهذا هو الذي

٣٠٢

يمثل ارتباطهم بالله وحركتهم نحو القرب منه ، فيراهم الله في مواقع الإحسان لأنفسهم وللناس وللحياة ، من خلال محبتهم له وإقبالهم عليه ، فيمنحهم ـ بذلك ـ حبّا إلهيّا ليغرقهم في السعادة ، ويغمرهم بالنعيم ، ويسير بهم نحو درجات القرب عنده.

* * *

للصابرين المحسنين ثواب الدنيا والآخرة

الثالثة : إن الله حدثنا أنه لا يكتفي بثواب الآخرة جزاء للصابرين من عباده ، الثابتين في مواقع رضاه ، المحسنين في أقوالهم وأفعالهم ، بل يضيف إليه ثواب الدنيا بما يسبغه عليهم من نعمه ويتفضل عليهم بآلائه ، ليتحسسوا في الدنيا ثواب أعمالهم في دلالته على رضوان الله ، وليكون انتظارهم لثواب الآخرة من موقع الثقة بأن الله استجاب لهم دعواتهم وتقبّل أعالمهم ورضي عنهم ، فكانوا المرضيّين عنده الراضين عنه ، وتلك هي النعمة الكبرى التي تمتد من الدنيا إلى الآخرة.

وهكذا نجد من خلال هذه الملاحظات الثلاث أن الله يريد أن يعمّق في شخصية الصابرين إرادة الصبر ، وفي وجدان المحسنين روح الإحسان من خلال الإعلان عن الحب الإلهي لهم ، ليستمتعوا بهذا الحب في وجودهم الإيماني الروحي الذي يحلّق في آفاق الله بكل سعادة وغبطة وانفتاح ، ثم استثارة الرغبة الإنسانية الذاتية الغريزية في طلب التعويض عما يقدمه الإنسان من جهد أو موقف أو عمل ، وذلك بالحديث عما ينتظرهم من الثواب العظيم في الدنيا والآخرة ، ليتحركوا في اتجاه قيمة الصبر وروحية الإحسان ، من موقع الروح من جهة ، ومن موقع المادة من جهة أخرى.

* * *

٣٠٣

الآيات

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) (١٥١)

* * *

معاني المفردات

(إِنْ تُطِيعُوا) : الطاعة : موافقة الإرادة المرغبة في الفعل ، وبالترغيب ينفصل عن الإجابة وإن كان موافقة الإرادة حاصلة ، وفي الناس من قال : الطاعة هي موافقة الأمر ؛ والأول أصح ، لأن من فعل ما يقتضي العقل وجوبه أو حسنه كان مطيعا لله وإن لم يكن هناك أمر ، كذا جاء في مجمع البيان (١) ، وربما يقال : إن العقل في حكم الحسن أو الحتمية لا يكشف أمر الشارع ، فتكون

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٥٥ ـ ٨٥٦.

٣٠٤

الإطاعة في هذا الفرض عبارة عن موافقة الأمر ، ولكن بواسطة اكتشاف العقل له.

(الرُّعْبَ) : الخوف الشديد الذي يملأ القلب بحيث يقتل القوى عن الحركة والمقاومة. والرعب ـ كما يقول الراغب ـ الانقطاع من امتلاء الخوف ... وقيل : رعبت الحوض : ملأته. وسيل راعب : يملأ الوادي (١).

(سَنُلْقِي) : الإلقاء : أصله في الأعيان يدل عليه قوله : (وَأَلْقَى الْأَلْواحَ) [الأعراف : ١٥٠] (فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ) [الشعراء : ٤٤] ، واستعمل في غير عين اتساعا ، كالرعب في الآية. وقوله : (وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي) [طه : ٣٩] ، ومثل الإلقاء في ذلك الرمي ، قال سبحانه : (وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ) [النور : ٦] أي : بالزنا ، فهذا اتساع وليس بعين.

(سُلْطاناً) : السلطان ، هنا ، معناه الحجة والبرهان ، وأصله : القوة ، والسلطان : البرهان لقوته على دفع الباطل ، والتسليط على الشيء : التقوية على الشيء من الإغراء به ، والسلاطة : حدّة اللسان مع شدة الصخب للقوة على ذلك مع إيثار فعله ، والسليط : الزيت لقوّة استعماله بحدّته.

(مَثْوَى) : المثوى : المنزل ، وأصله من الثواء ، وهو طول الإقامة ، وأم المثوى : ربة البيت ، والثوى : الضعيف ، لأنه مقيم مع القوم.

مناسبة النزول

روي عن علي عليه‌السلام ؛ قال : نزلت في قول المنافقين للمؤمنين عند الهزيمة ارجعوا إلى إخوانكم ، وادخلوا في دينهم. وعن الحسن البصري : إن تستنصحوا اليهود والنصارى وتقبلوا منهم ، لأنهم كانوا يستغوونكم ويوقعون

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٢٠٣.

٣٠٥

لكم الشبه في الدين ، ويقولون : لو كان نبيا حقا لما غلب ولما أصابه وأصحابه ما أصابهم ، وإنما هو رجل حاله كحال غيره من الناس يوم له ويوم عليه. وعن السدّي : إن تستكينوا لأبي سفيان وأصحابه وتستأمنوهم يردوكم إلى دينكم (١).

وقال السدّي ـ حول الآية (١٥١) ـ : لما ارتحل أبو سفيان والمشركون يوم أحد متوجهين إلى مكة ، انطلقوا حتى بلغوا بعض الطريق ، ثم إنهم ندموا وقالوا : بئس ما صنعنا ، قتلناهم حتى إذا لم يبق منهم إلا الشرذمة تركناهم ، ارجعوا فاستأصلوهم ، فلما عزموا على ذلك ، ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عما همّوا به ، وأنزل الله تعالى هذه الآية(٢).

* * *

تحذير من الاستسلام لأجواء الهزيمة

هل هناك حادثة معينة أطلقت هذا النداء القرآني بالتحذير من طاعة الكافرين لئلا يردّوا المؤمنين عن إيمانهم الحقّ بأساليبهم الخبيثة ، فينقلبوا من موقع الإيمان إلى موقع الكفر فيخسروا دينهم ودنياهم؟ هل هناك حالة ضعف استنفذت طاقة المؤمنين على التحمّل فحاولوا الاستعانة بالكافرين من أجل الحصول على أساس من القوّة يستندون إليه ، حتى يأتي النداء ليؤكّد لهم أن الله مولاهم وناصرهم (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) لأنه الذي يملك الأمر كله ، والقوّة كلّها؟

قد لا يبدو أمامنا شيء فعليّ من هذا القبيل ، ولكن القرآن يتحدث عن الحالات الوقائية بالأسلوب نفسه الذي يتحدّث به عن الحالات الدفاعية. وهكذا نستوحي الموقف هنا ، فإن حالة الهزيمة قد تخلق لدى الإنسان وضعا

__________________

(١) انظر : الدر المنثور ، ج : ٢ ، ص : ٣٤١ ، ٣٤٢ ، ومجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٥٦.

(٢) أسباب النزول ، ص : ٧٠.

٣٠٦

صعبا يؤدي إلى الانهيار والانسحاق والضياع في بعض الأحيان ، وقد ينتهي به ذلك إلى البحث عن مخرج للمأزق الذي وقع فيه ، وقد يتمثّل ذلك في الوقوع في قبضة مخطط الكفر في التنازل عن بعض المبادئ الأساسية بالدخول في بعض المشاريع المحرّمة ، والسير في الدروب الملتوية التي لا تؤدي إلى خير وصلاح ، وذلك من أجل الحصول على الأمن المستقبلي من مراكز القوى المنتصرة والكافرة. وربّما يخيّل إليه أنه يستطيع أن يجمع بين الإيمان بعقيدته والانطلاق مع مبادئه ، وبين مداراة هؤلاء ومجاملتهم والسير معهم في بعض خطوات الطريق.

وكانت مثل هذه الأفكار الناشئة عن هذه الحالة ، تشكل عنصر خطورة على أمثال هؤلاء الطيبين والمهزومين ، لأنها تمثل النموذج الساذج من التفكير ، فالكفر لا يمثل لدى الكافرين حالة مزاجيّة طارئة ليمكن التعامل معها بأسلوب اللحظة السريعة ، بل هو لدى أصحابه فكرة وخطة عمل في إضلال المؤمنين وإبعادهم عن دينهم ، وبذلك فهم يعملون على استغلال حالات الضعف من أجل السيطرة على هؤلاء المؤمنين الساذجين ، كما لاحظناه لدى الكثيرين من أصحاب المبادئ الكافرة الذين يطرحون الشعارات الطيّبة المضلّلة في عرض ذكي للقوّة ، وإمعان في إثارة نقاط الضعف لدى الآخرين بأساليب نفسية شيطانية ، من أجل أن يقودوا الضعفاء من المؤمنين إلى ضلالهم بأقرب طريق.

ويمكن أن تكون هذه الآيات وسيلة من وسائل التوعية الوقائية لدى المؤمنين المهزومين بأن لا يعطوا الموقف أكثر مما يتحمّل ، بحيث يصوّرون لأنفسهم بأن الكافرين يملكون زمام الأمر وحركة القوّة ، فيقعون تحت تأثير أساليبهم ومخططاتهم ويطيعونهم في المواقف والأعمال التي تؤدي إلى الكفر والضلال وخسارة الدارين طمعا في النصرة وطلبا للقوّة ... فليست القضية في قصة الهزيمة سوى خسارة لمعركة من المعارك ، الأمر الذي يمثّل ضعفا في مرحلة معينة لا في المسيرة كلّها ، فلا بدّ لهم ـ في هذه الحالة ـ من الرجوع إلى

٣٠٧

إيمانهم وربّهم ليعرفوا بأن القوّة لله جميعا ، وأن النصر بيده لا بيد غيره ، وأنه قد يبتلي عباده المؤمنين ببعض البلاء في بعض مراحل الطريق ولكنه ينصرهم في نهاية المطاف ، فعليهم أن لا يبتعدوا عن الله حتى لا يضلّوا من حيث يعرفون ومن حيث لا يعرفون.

* * *

لا تطيعوا الكافرين

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) وعاشوا إيمانهم في عمق وجدانهم إشراقة فكر ، وطمأنينة قلب ، وانطلاقة روح ، وثبات موقف من خلال الثقة بالله الذي يرعى عباده المؤمنين برعايته وينصرهم بنصره ، ويقوّي مواقعهم ويدعم مواقفهم ، لا تتراجعوا عن التزامكم بالعقيدة التوحيدية المنفتحة على وعي الساحة من جهة ، ووعي ألطاف الله بالمؤمنين من جهة أخرى ، ولا تسقطوا أمام الزلزال الذي يحركه الآخرون في مواقعكم ليثيروا في قلوبكم الشك والريبة بالحق الذي تعتقدونه وتؤمنون به ، بالأساليب المتنوعة التي تنفذ إلى عقولكم وقلوبكم ومشاعركم الحميمة ، وهذا ما يريد الله أن يحذركم منه في أسلوب التوعية الفكرية والعملية في ما تأخذون أو تدعون ، (إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا) من المشركين أو غيرهم بفعل الخضوع لعلاقات القرابة أو بالانسجام مع أجواء المجاملة ، أو بالرغبة بالحصول على بعض المواقع عندهم من أجل ربح عاجل أو شهوة طارئة ، (يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ) لتتراجعوا عن الدين الذي آمنتم به ، والتوحيد الذي أخلصتم له في حركة جديدة للشرك في حياتكم ، وللكفر في أفكاركم بعد أن قطعتم شوطا طويلا وبلغتم درجة عالية من الإسلام لله ورسوله ، (فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) لأنكم بالعودة إلى الكفر تفقدون الصفاء الروحي المشرق في وجدانكم ، وتفتحون على أنفسكم الكثير من المشاكل المعقّدة التي تربك حياتكم ، وتقلق تصوراتكم ، وتفترس طمأنينتكم ، وتواجهون

٣٠٨

الخسارة في الدنيا والآخرة. وأيّ خسارة أعظم وأكبر من فقدان الإنسان علاقته بربه الرحمن الرحيم ، الذي يمنح عباده برحمته كل خير ، ويفيض عليهم كل نعمة ، ويعطيهم كل قوّة وراحة واطمئنان ، ثم أيّ خسارة أعظم من خسارة الإنسان مصيره في الآخرة في نهاية المطاف ، ليعيش عذاب جهنم بدلا من نعيم الجنة ورضوان الله؟!

إنهم لا يخلصون لكم ولا يفكرون في إعانتكم ومساعدتكم ، فلا تحسبوهم مواليكم الذين تسكنون إليهم وتسنتصرون بهم (بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ) فهو الذي يملك القوة جميعا ، وهو القادر على كل شيء ، ويملك الرحمة الشاملة ، وهو الرحيم بعباده (وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) فهو الناصر الذي لا يغلب ، والمولى الذي لا يترك أولياءه ، ولا يمكن لأحد أن يمنعه مما يريد ، وهو القادر على أن يمنع كل خلقه مما يريدون ، فهو الذي يكفي من كل شيء ولا يكفي منه شيء. فكيف يوالي المؤمن غيره ، وكيف ينتقل من ولايته إلى ولاية أعدائه؟!

* * *

السلطان والأمر لله

ثم يوضّح الله لنا الصورة بأسلوب أقوى وأكثر وضوحا ، فإن الكافرين لا يعيشون عمق الشعور بالقوّة ، لأنّ قلوبهم فارغة من الإيمان بالله الذي يمنح القوّة لعباده ، فهم يمارسونها بشكل استعراضي لا ينطلق من قاعدة ثابتة ، مما يجعلها تذوب لدى أوّل بادرة جديدة للقوّة ، فتمتلئ نفوسهم بالرعب وتتحوّل أفئدتهم إلى هواء. (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً) فإن الشرك بالله لا يملكون أيّة حجة عليه في خط العقيدة والعبادة ، لأن هذه الأوثان التي يعبدونها وهؤلاء الأشخاص الذين يطيعونهم في معصية الله ، لا تمثل أية حقيقة في معنى الألوهية ، ولا تملك أيّة

٣٠٩

خصوصية في مضمون الربوبية ، فإنها لا تملك لوجودها ضرّا ولا نفعا إلا بالله ، فهي من بين ما يصنعونه بأيديهم وما يماثلهم في الوجود في نقاط الضعف التي يختزنونها ولا يتفوقون عليهم في شيء ، وبالرغم من هذا كله فهم يعتبرونها آلهة ، ويعبدونها من دون الله ، هذا من جهة ، ومن جهة أخرى ، فإن الشرك يفرّغ القلب من كل قوّة ، ويعزله عن كل طمأنينة ، ويبتعد به عن كل إحساس بالأمن ، لأن الله ـ وحده ـ هو الذي يملأ عقل الإنسان وقلبه وروحه وضميره وكل حياته ، فيمنحه الطمأنينة الهادئة العميقة ، التي توحي إليه بأنه في أمان من كل خوف ، لأن الله هو المهيمن على الأمر كله ، فلا يملك أيّ مخلوق الإضرار به إذا لم يرد الله له ذلك.

ولهذا كان الإنسان الفارغ قلبه من الله هو الذي يطوف القلق في داخله أمام أيّ طارئ من طوارئ الحيرة ، ويعيش الخوف في كيانه من خلال كل عنصر من عناصر الإثارة ، حتى أن الوساوس والهواجس تنفذ إليه ، بسبب العوامل السلبية التي تحيط به ، فتأكل روحه ، وتهز موقعه ، لأنه لا يجد أيّة قاعدة ثابتة للإحساس بالقوة في نفسه ، مما يجعل حياته نهبا لأية حالة طارئة وأيّ شك جديد لتلعب به الرياح النفسية والخارجية على طريقة قول الشاعر:

إذا الريح مالت

مال حيث تميل

وهذا ما يجعل الإحساس بالرعب أمرا طبيعيا في حياتهم بسبب الهواجس التي تطوف في خيالهم ، وينطلق الغيب الإلهي بالقدرة الخفية ، ليثير الرعب بقوّة من خلال هواجس جديدة وتهاويل مخيفة في تصوراتهم للأشياء التي يدخل فيها بعض عناصر الخوف ونوازع القلق.

* * *

دور الحالة النفسية في تثبيت المواقف

وإننا نعرف أن للحالة النفسية دورها في تثبيت المواقف وتأكيدها ، لأن

٣١٠

الإنسان يتحرك من خلال الجوّ الداخلي في نفسه ، فهو الذي يمنح الخطى توازنا ، والموقع صلابة ، والموقف قوّة ، والإنسان صمودا ، لأنه لا يحارب من موقع طاقته الجسدية المادية بل من موقع طاقته الروحية التي تنفذ إلى مفاصل الجسم لتمنحه قوّة من قوتها ، وثباتا من ثباتها ، وروحية من روحيتها.

وفي ضوء هذا ، فإن الرعب الذي يلقيه الله في قلوب الذين كفروا من خلال العناصر الخارجية والإيحاءات الداخلية ، في مقابل الطمأنينة والسكينة التي ينزلها على رسوله والمؤمنين ، يمكن له أن يحرّك الهزيمة في ساحة الكافرين والنصر في مجتمع المؤمنين ، مما يفرض على المؤمنين أن يدخلوا المعركة بثقة في أنفسهم من خلال الثقة بالله الذي يملك الأمر كله ، فإنهم إذا أخذوا بأسباب النصر وانطلقوا في إرادة التحدي ، أعطاهم الله أسبابا خفية تبعدهم عن روح الهزيمة وعن مواقع الفرار. وهذا ما ينبغي للعاملين في خط الدعوة والحركة والجهاد ملاحظته في خططهم الحركية في ملاحقة كل الوسائل الاستكبارية العاملة على إثارة أجواء التهويل والتخويف من القوى المضادة بما يتحدث به إعلامها عن مواقع القوة لديها مقارنا بمواقع الضعف عندنا ، مما يوحي بأن الطريق الوحيد للنجاة هو الاستسلام لأنه لا مجال لاختراق هذا الجدار الصلب من القوّة للفئات المستكبرة أو الكافرة ، فلا واقعية للمواجهة ولا فرص للثبات ، وذلك من أجل إلقاء الرعب السياسي والأمني والعسكري والاقتصادي والثقافي في قلوب المؤمنين ليعيشوا الهزيمة النفسية التي تهيّئ الظروف للهزيمة الخارجية.

إن المؤمنين الذين يأخذون بأسباب الإيمان ، ويخلصون لله ، ويعرفون سننه ، ويتعرفون مواقع قدرته ووسائل لطفه ، من حيث إيحاءات العقيدة ، وواقع اللطف الإلهي بعباده ... يعرفون كيف يتمردون على كل وسائل التخويف وكل أجواء الرعب ، بالانفتاح على الله في مواقع غيبه ، بالإضافة إلى السير في الحياة على خط سننه الكونية والتاريخة ؛ وبذلك يملكون التوازن في الموقف ، والثبات في الموقع ، والقوة في ساحة الصراع للوقوف بصلابة في وجه هؤلاء الكافرين

٣١١

والمستكبرين الذين سيلقي الله في قلوبهم الرعب من خلال قوة أوليائه ، وخفايا غيبه ، وذلك هو شأنهم في الدنيا عند ما تواجههم قوّة الحقّ ، (وَمَأْواهُمُ النَّارُ) في الآخرة جزاء لهم على كفرهم وطغيانهم (وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ) الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والمعصية ، وظلموا الناس والحياة بالعدوان.

* * *

٣١٢

الآية

(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) (١٥٢)

* * *

معاني المفردات

(تَحُسُّونَهُمْ) : تستأصلونهم بالقتل وتخمدون حسّهم وأنفاسهم. الحس : القتل على وجه الاستئصال ، وأصله من الإحساس ، ومنه : (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ) [مريم : ٩٨]. وسمّي القتل حسا ، لأنه يبطل الحسّ.

(بِإِذْنِهِ) : بإرادته وأمره وتأييده وعونه.

(فَشِلْتُمْ) : ضعفتم وجبنتم ، والفشل : الجبن.

٣١٣

(صَرَفَكُمْ) : ردّكم للهزيمة.

(لِيَبْتَلِيَكُمْ) : ليمتحنكم ويختبركم فيظهر المخلص من غيره ، ليعاملكم معاملة من يختبر ويمتحن.

* * *

مناسبة النزول

جاء في المجمع : «ذكر ابن عباس والبراء بن عازب والحسن وقتادة أن الوعد المذكور في الآية كان يوم أحد ، لأن المسلمين كانوا يقتلون المشركين حتى إذا أخلّ الرماة بمكانهم الذي أمرهم الرسول بالمقام عنده ، فأتاهم خالد من ورائهم ، وقتل عبد الله بن جبير ومن معه ، وتراجع المشركون وقتل من المسلمين سبعون رجلا ، ونادى مناد : قتل محمد. ثم منّ الله على المسلمين فرجعوا ، وفي ذلك نزلت الآية» (١).

وقال محمد بن كعب القرظي : «لما رجع رسول الله إلى المدينة ، وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد ، وقال ناس من أصحابه : من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله النصر؟ فأنزل الله تعالى : (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) الآية ، إلى قوله : (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا) يعني الرماة الذين فعلوا ما فعلوا يوم أحد» (٢).

* * *

معركة أحد : النصر أو الهزيمة أخيرا

% (وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) لقد وعد الله المسلمين النصر في معركة

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٥٨.

(٢) أسباب النزول ، ص : ٧٠.

٣١٤

أحد ، على لسان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولكنه لم يكن وعدا مطلقا على كلّ حال ، بل كان وعدا مشروطا بالسير على وفق الخطّة الموضوعة التي تنسجم مع الأسباب التي تهيّئ ظروف النصر للمعركة ، وكان من بينها وضع الرّماة في الثغرة التي كانت تمثّل نقطة الضعف في دفاعات المسلمين في الجبل ... وسارت الخطّة على ما يرام ، فقد انتصر المسلمون في بداية المعركة عند ما أخذوا بأسباب النصر ، ونفّذوا الخطّة الموضوعة من الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بدقّة وأمانة وإخلاص ، (إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ) ، وكان المسلمون يحسّون الكافرين أي يستأصلونهم بالقتل ، فكأنّ القاتل يبطل حسّ المقتول ، وكانت العملية بإذن الله وتوجيهه ، (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) ولكن المسلمين وقعوا في الفشل وتركوا أسباب النجاح ، (وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) وتنازعوا في أمرهم ، ففرقة كانت ترفض النزول إلى ساحة المعركة من أجل الحصول على الغنائم ، وفرقة كانت تصرّ على ذلك ، (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) وتغلّب الفريق المصرّ على المعصية الذي يريد الدنيا على الفريق الذي يريد السير على خط الانضباط لأنه يريد الحياة الآخرة ، وابتعد المسلمون عن خطّ النصر عند ما ابتعدوا عن روحه وإرادته وأجوائه.

(ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) ، وصرفهم الله عن المشركين من خلال الأسباب الاختيارية التي ينصرف فيها المجاهد عن صنع النصر ، ليبتلي المسلمين ويختبرهم ويدفعهم إلى مواجهة الموقف بإيمان وصدق واستعداد للاستفادة من هذه التجربة الصعبة في سبيل نصر جديد ، على أساس الالتزام بالخطّة الحكيمة. وشعر المسلمون بالخطإ الذي وقعوا فيه ، وعاشورا روح الندم ، وتعمّقت التجربة في داخلهم ، ورجعوا إلى إيمانهم ، وعادوا إلى الله يستغفرونه ويطلبون منه القوّة على الانطلاق نحو المستقبل بروح إسلامية عالية ، وعلى صنع الموقف على أساس الإرادة. (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) وعفا الله عنهم بفضله ، فإنه ذو فضل على المؤمنين وهو يحب

٣١٥

المؤمنين لإيمانهم وجهادهم في سبيله ، ويعلم نقاط الضعف الكامنة في نفوسهم والطارئة عليهم ، كما يعلم أنهم في ساعة الضعف لا يبتعدون عنه ، ولكنهم يغفلون عن ذكره بفعل الضغوط الهائلة المسيطرة عليهم ، ولذلك لم يعاجلهم بالعقوبة ، ولم يهملهم أو يكلهم إلى أنفسهم ، بل تعهدهم بفضله بما يثيره في نفوسهم من الرغبة في العودة إليه والتوبة والاندفاع ـ من جديد ـ نحو جولة جديدة من الجهاد في موقع جديد ، لأن الهزيمة في موقع معين لا تلغي الإيمان ولا تسقط الإرادة ولا تبتعد بالمؤمن عن الله ، لأن الإيمان لا يمثل حالة طارئة ، فينطلق هذا الفضل الإلهي الذي يغمر به الله عباده المؤمنين في الحب الإلهي ، لهم لأنهم بادلوه حبا في حركة الإيمان والطاعة ، فبادلهم حبا في إرادة العفو والمغفرة.

* * *

من وحي الآية

وهكذا نستوحي من هذه الآية ، أن الله ـ سبحانه ـ قد يطلق الوعد لعباده بالنصر في مواقف المعركة ، كما يطلق الوعد لهم في أشياء أخرى ، كاستجابة الدعاء عند الدعاء ، وكالمغفرة عند التوبة ... ولكن لذلك شروطا روحيّة وعملية لا بدّ للإنسان من مراعاتها ودراستها وتنفيذها إذا أراد لهذه الوعود أن تتحقق ، لأنّ الله سبحانه يريد لعباده أن يواجهوا الحياة على طريق سننه في الكون ليأخذوا بأسبابها ، فإنه لم يخضع الأمور للمعجزة الخارقة للعادة إلّا في حالات التحدي الكبير ، فلا يستوحش الإنسان إذا دعا ولم يستجب له ، أو تاب ولم يغفر له ، أو انطلق في المعركة فلم يحقق لنفسه النصر ... ولا يعتقد أو يتساءل كيف لم يتحقق وعد الله؟! بل ينبغي له أن يبحث هل أنه راعى في ذلك الشروط الإلهية التي ربط الله بها تحقيق وعده أم لا؟

* * *

٣١٦

الآيتان

(إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) (١٥٤)

* * *

معاني المفردات

(تُصْعِدُونَ) : تبتعدون وتذهبون خوفا وهزيمة وفرارا من العدوّ ،

٣١٧

والإصعاد هو الذهاب والإبعاد في الأرض ، والصعود : الارتقاء إلى مكان عال. والفرق بين الإصعاد والصعود ـ كما يقول صاحب المجمع ـ أن الإصعاد في مستوى من الأرض ، والصعود في ارتفاع. يقال : أصعدنا من مكة : إذا ابتدأنا السفر منها ومنه قول الشاعر :

هواي مع الركب اليمانين مصعد

جنيب وجثماني بمكّة موثق

وروي عن الحسن أنه قرأ «تصعدون» بفتح التاء والعين ، وقال : إنهم صعدوا في الجبل فرارا ، وقال الفراء : الإصعاد : الابتداء في كل سفر ، والانحدار : الرجوع عنه (١).

(تَلْوُونَ) : تلتفتون من ورائكم إلى نداء الرسول القائد وغيره ، قال الراغب : يقال : فلان لا يلوي على أحد : إذا أمعن في الهزيمة (٢) ، وفي المجمع ، «لا تلوون : أي : لا تعرجون على أحد كما يفعله المنهزم. ولا يذكر هذا إلا في النفي ، لا يقال لويت على كذا ، وأصله من ليّ العنق للالتفات (٣).

(غَمًّا) : الغم : ألم وضيق في الصدر من أمر محرج.

(أَمَنَةً) : أمنا ، وهو ضد الخوف.

(نُعاساً) : النعاس : الوسن ، وناقة نعوس : توصف بالسماحة في الدرّ.

(يَغْشى) : يغطي ويستر.

(مَضاجِعِهِمْ) : مصارعهم قد قتلوا فيها.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٦١.

(٢) مفردات الراغب ، ص : ٤٧٧.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٦١.

٣١٨

مناسبة النزول

أخرج ابن راهويه عن الزبير قال : «لقد رأيتني مع رسول الله ، حين اشتد الخوف علينا ، أرسل الله علينا النوم ، فما منا أحد إلّا ذقنه في صدره ، فو الله ، إني لأسمع قول معتب بن قشير ، ما أسمعه إلّا كالحلم : لو كان لنا من الأمر شيء ، ما قتلنا هاهنا ، فحفظتها منه فأنزل الله في ذلك : (ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً) إلى قوله : (ما قُتِلْنا هاهُنا) (١).

* * *

من صور المعركة

وهذه صورة من صور معركة أحد ، في نهاياتها التي رافقت أجواء الهزيمة بعد النصر ، وأبرزت كثيرا من السلبيات الفكرية والروحية في النماذج المتنوعة المتواجدة في المعركة : (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ) فقد انهزم المسلمون وأبعدوا في الأرض هربا من الموقف الصعب الذي فرضته الهزيمة ؛ وانطلق الرسول يدعوهم في أخراهم فيقول : ارجعوا إليّ عباد الله ، ارجعوا إني أنا رسول الله ، من يكرّ فله الجنة (فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) أي : غمّا أذقتموه للرسول بعصيانكم له ، أو غما مضاعفا ، أي غما بعد غمّ ، وغما متصلا بغمّ ، من الاغتمام بما أرجف به من قتل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والجرح والقتل وظفر المشركين وفوت الغنيمة ... مما يوحي بأنهم كانوا ممتدين في هربهم في خط طويل ابتعد أولهم عنه ، واقترب آخرون منه ؛ فقد كان يريدهم أن يتوقفوا قليلا ليدرس معهم طبيعة الموقف ، ويحاول من خلاله تحويل الهزيمة إلى نصر جديد ، ولكنهم لا يلوون على

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٢ ، ص : ٣٥٣ ـ ٣٥٤.

٣١٩

أحد ، فلا يلتفتون إلى نداء الرسول أو غيره ، فقد أخذت الهزيمة الداخلية مأخذها منهم ، فهربوا من الموت ...

وعاشوا الغمّ النفسي الذي أثاره الله في نفوسهم في ما واجهوه من حالة الانسحاق الذاتي والندم المرير على ما قاموا به ، وأفاقوا على واقع لم يحسبوا له حسابا ، وذلك كردّ فعل على الغم الذي جلبوه للرسول وللمسلمين وللإسلام. وقد أراد الله لهم من خلال ذلك أن يعرّفهم كيف يربطون بين النتائج وأسبابها ، فلا يبادرون إلى الاندفاع في موقف إلا بعد التفكير والتأمّل في عواقبه ، لأنهم باندفاعهم يملكون الذهنية الساذجة أمام مشاكل الحياة وآلامها وهزائمها ، لذا عليهم أن يملكوا الذهنية التي تجلس في كل مجال من هذه المجالات ، لتحلّل وتناقش وتستنتج من أجل أن تحوّل نقاط الضعف إلى نقاط قوّة ، وتغير السلبيات إلى إيجابيات. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى : (لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ) فإن الظاهر منها أن الله أراد لهم أن يعيشوا الحالة النفسية التي تمثل ما يشبه الصدمة في الداخل على أساس ما حدث من أجل أن تكون تجربة ودرسا يبعدهم عن مشاعر الحزن إزاء الخسارة أو المصيبة.

إن الخط الإسلامي في أمثال هذه الحالات الصعبة التي يمر بها المسلمون في الواقع السلبي الذي قد تتمخض عنه الحرب بالهزيمة العسكرية ، هو عدم السقوط أمام التجربة المرّة بالحزن العاطفي الذي يجتر معه الإنسان الآلام في حالة نفسية مدمّرة ، كما لو كانت الهزيمة أو الفشل نهاية المطاف في حياته ، فلا يصير إلى غلبة أو نجاح بعدها أبدا. فإن الحزن عاطفة إنسانية نبيلة ، ولكن لا بد للإنسان من أن يحركها في الاتجاه الإيجابي الذي يثير في النفس المرارة لتدخل في هذا الجو في وعي التجربة ، لاستخلاص العبر منها ، من أجل الدخول في تجربة جديدة في مستقبل جديد ، وهكذا يتحوّل هذا الغم الذي يمثل ضيقا في الصدر ، وألما في الإحساس ، إلى انفتاح على كل مفردات القضية السلبية ، من أجل أن يتفهموا طبيعتها ، وتفاصيلها ، على صعيد الخسائر البشرية والمادية

٣٢٠