تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

مفهوم إسلامي للعمل

إنّ فكرة هذه الآيات تعطينا مفهوما إسلاميا للعمل في نطاق العلاقات الاجتماعية ، وخلاصته أنّ على المؤمنين أن يدرسوا طبيعة المواقف الفكرية المبدئية التي يتخذها الآخرون تجاههم ، ويعملوا على التمييز بين الخلافات الطارئة والخلافات المعقّدة ، وعلى التفريق بين الأشخاص الذين يعيشون الخلاف الفكري والعملي كمبدإ وبين الذين يعيشونه كعقدة ، ويتابعوا التجربة في دراسة المشاعر الذاتية التي تحكم تصرف هؤلاء وتصرف أولئك ، ليحددوا ـ من خلال ذلك ـ مواقفهم ومواقعهم في الساحة العامّة على المستوى الاجتماعي والسياسي والفكري ، لئلا يقعوا تحت تأثير الأوضاع العاطفية التي تتمثل في البسمات المشرقة ، والعيون اللامعة ، والوجوه التي تتلوّن بحسب الألوان المتحركة تبعا للمزاج والشعور والتخيّل ، فيثقوا بمن ليس في مستوى الثقة ، فيؤدي ذلك إلى الوقوع في قبضة الكفر والضلال ...

وقد عاش المسلمون في تاريخهم الماضي وفي تاريخهم المعاصر كثيرا من الحالات العاطفية التي تحوّلت إلى نكسات وهزائم اجتماعية وسياسية ، لأنهم خضعوا للأجواء السطحية ، فانقادوا في خطوات المجاملة ، وتخلّوا عن كثير من مواقعهم انطلاقا من المحافظة على علاقات مشبوهة وصداقات كاذبة. فأساءوا بذلك إلى أنفسهم وإلى الإسلام بشكل عام ... كما واجهنا ذلك في الركض وراء حملة الشعارات الغائمة التي يثيرها البعض تحت ستار وحدة الأديان ، أو وحدة الإنسانية ، أو الوحدة الوطنية والقومية ، وربما الإسلامية ، من أجل أن يحققوا من خلال ذلك لأنفسهم ولمخططاتهم الفرص الكثيرة التي تتيح لهم القفز على المواقع ، لأنهم يملكون في هذه الساحة قوّة لا يملكها أهل الحق ، ولأنهم يرسمون هنا خطّة خفيّة لا يعرف أسرارها الطيبون من المسلمين ، فينفّذون لهم ما يريدون باسم الوحدة مما لا يتيسر لهم الحصول عليه بدون ذلك.

ولا تزال الخطة تتقدّم في كثير من المظاهر التي تخفي في داخلها الكثير

٢٤١

من سياسة اللف والدوران واللعب على الحبال الكثيرة المطروحة في الساحة في حقل الدين والسياسة والاجتماع. وذلك هو ما يجب أن نستوحيه من الآيات لننطلق من خلالها إلى الأفق الرحب للعلاقات الإنسانية في الحياة ، فلا نتجمد معها في نماذجها الخاصة ، بل نعتبر الموضوع مجرد نموذج يفتح الطريق إلى مواجهة الواقع ـ من خلالها ـ في كل نموذج مماثل يحمل الخصائص والسمات نفسها ، لينطلق المسلمون من نقطة الانفتاح الواعي الذي يستوعب كل التجارب ، ويرصد كل النماذج ، ليأخذوا منها الفكرة القائدة الرائدة التي تقود الحياة إلى الله على خط الرسالة والإسلام.

* * *

٢٤٢

الآيتان

(وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (١٢٢)

* * *

معاني المفردات

(غَدَوْتَ) : خرجت من أوّل النهار. وقوبل الغدوّ بالآصال كما في قوله تعالى : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ) [الأعراف : ٢٠٥] ؛ وقوبل الغداة بالعشي : (وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِ) [الأنعام : ٥٢].

(تُبَوِّئُ) : تعدّ وتهيّئ ، والتبوئة : اتخاذ الموضع للغير. وفي قولهم : حيّاك الله وبيّاك ، أن أصله ـ كما يقول الراغب ـ بوّأك منزلا ، فغيّر لازدواج الكلمة (١). وفي المجمع : يقال بوّأت القوم منازلهم وبوّأت لهم أيضا ، أي : أوطنتهم وأسكنتهم إياها ... ومنه : المباءة المراح لأنه رجوع إلى المستقر

__________________

(١) مفردات الراغب ، ص : ٦٣.

٢٤٣

المتخذ ، ومنه : بوّأت بالذنب ، أي : رجعت به محتملا له (١).

(تَفْشَلا) : تضعفا وتجبنا ، قال الراغب : الفشل ضعف مع جبن (٢).

* * *

النبي يخطّط لمعركة أحد

كانت واقعة أحد من أهمّ الوقائع الإسلامية الحربية التي عاش المسلمون فيها حالة النصر كأفضل ما يكون ، ثم حوّلوها إلى هزيمة منكرة بفعل الممارسات الخاطئة التي انحرف فيها الكثيرون من المقاتلين عن الهدف الذي يفرض عليهم الانضباط في ما تقتضيه خطّة الحرب من مواقع ومواقف ...

وفي هذه المعركة انطلقت قريش إلى حرب النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد هزيمتها الساحقة في بدر من أجل الثأر لكرامتها وقتلاها ، والقضاء على قوّة الإسلام المتنامية المتصاعدة في بداياتها. عند ما عرف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالخبر استعد لقتالهم وخرج في ألف مقاتل ، ولكن عبد الله بن أبي ـ رأس المنافقين في المدينة ـ استطاع أن يدفع ثلاثمائة منهم إلى التراجع ... وحاول ذلك مع حيّين من الأنصار ، وهما بنو سلمة من الخزرج وبنو حارثة من الأوس ، فلم يفلح بعد أن كاد يصل إلى خطته ...

ورسم النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخطّة للمعركة ، وكان من ضروراتها سدّ بعض الثغرات التي تطل على أرض المعركة مما يعتبر نقطة ضعف في دفاعات المسلمين ، فجعل على تلك الثغرة الواقعة في جبل خلف جيش المسلمين خمسين من الرماة ، بقيادة عبد الله بن جبير وأمرهم بالثبات في كل الحالات ، سواء كانت الغلبة للمسلمين أم للكافرين ... ودارت المعركة التي تروي تفاصيلها كتب

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٢٣.

(٢) مفردات الراغب ، ص : ٣٩٤.

٢٤٤

السيرة ، وهزم المشركون وتغلّب المسلمون عليهم واندفعوا في جمع الغنائم ... واعتبر الرماة الواقفون على الجبل أن المعركة انتهت ، وخافوا أن تفوتهم فرصة الحصول على نصيبهم من الغنائم ، وبدأوا يخلون أماكنهم ؛ وناشدهم قائدهم أن يلتزموا بأوامر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلم يسمع له إلا عشرة رجال منهم ...

وحانت من خالد بن الوليد التفاتة ـ وكان من المنهزمين مع المشركين ـ فرأى خلوّ الثغرة ، فقصدهم بكتيبة من المشركين فقتل العشرة بأجمعهم ، وانضمت فلول المشركين إلى خالد ، فانطلقوا في عملية التفاف مباغتة ، فدارت الدائرة على المسلمين حتى تعرضت حياة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للخطر ، إذ أصابته حجارة من المشركين ، فكسرت رباعيته ، وشجّ في وجهه ، وجرحت جبهته ، ودخلت حلقتان من حلق المغفر في وجهه ... وفر المسلمون عنه ، ولم يبق معه إلّا نفر قليل كان في طليعتهم عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام وأبو دجانة ، وسهل بن حنيف ، فدافعوا عنه دفاع المستميت ... وقتل حمزة في المعركة بحربة وحشي ، وذلك بإغراء هند له ، واستخرجت كبده فلاكتها ... وكان عدد القتلى من المشركين اثنين وعشرين قتيلا ، وعدد شهداء المسلمين سبعين ...

* * *

القرآن يركّز على نقاط الضعف

وقد عاجلت هذه السّورة تجربة المعركة ، وتحدثت عن نقاط الضعف والقوّة فيها ، وأثارت في وعي المسلمين الكثير من المفاهيم الإسلامية المتعلقة بحركة المعركة وموقع القيادة في خطّ السير ومدى تأثير وجودها وغيابها ، في موضوع الالتزام بالمسيرة والاستمرار على المبدأ ، وتابعت المسلمين في المعركة وهم يتأمّلون ويخافون ويندفعون ويواجهون الأعداء وينهزمون أمامهم ... ولاحظت كيف تتحكم بهم جوانب الضعف البشري ، ووقفت معهم لتدفعهم إلى مواجهتها بشجاعة المؤمن الذي يعترف بها بصراحة في محاولة

٢٤٥

لتحويلها إلى نقاط قوّة بالجهد والإيمان والمعاناة ... وأعطتنا درسا عمليّا في التأكيد على الجانب السلبي في الشخصية التاريخية بالقوّة نفسها التي تؤكد على الجانب الإيجابي فيها ، على أساس الواقعية الإنسانية في الإنسان ، وعدم إغفال الضعف في التجربة الحيّة بحجّة أن ذلك يسيء إلى قداسة التاريخ وعظمة أبطاله ، مما يترك انطباعا سلبيّا عند الأجيال المقبلة بفقدان النماذج الكثيرة التي تصلح للقدوة البشرية ، فلا يبقى لنا إلّا الأنبياء والأولياء الذين يتميزون بميزة العصمة في ملكاتهم وطاقاتهم الروحيّة ، الأمر الذي يوحي للأجيال بأنّ تكليف الأنبياء يختلف عن تكليفهم ، فإذا تميّزوا بخلق أو عمل ، فليس معنى ذلك أن علينا أن نلتزم بهذا الخلق أو ذلك العمل ، لأننا لا نملك ما يملكون من طاقات ... فلا بدّ لنا من تاريخ أبيض ناصع يؤرخ للبطولات البشرية العادية التي تنطلق فيها الإيجابيات بدون سلبيات ، لتتصاعد لدينا الثقة بالإمكانيات التي تكمن في داخل الإنسان العادي للارتفاع إلى المستوى الأعلى ...

ولكننا نعتقد أن هذه الحجّة لا ترتكز على أساس إسلامي واقعي ، وذلك من خلال ملاحظتين :

الأولى : إن الفكرة القائلة بأنّ سيرة الأنبياء والأولياء لا تعتبر أساسا للدعوة إلى القدوة لأنهم فوق مستوانا غير صحيحة ، لأن الأنبياء في ممارساتهم الروحيّة والعملية لا يتحركون من مستوى فوق مستوى البشر ، بل يعيشون في الحياة بالطاقات البشرية العادية التي تتكامل وتتصاعد بالوعي والمعاناة ، وهذا ما أكّده القرآن في أكثر من آية ، في حديثه عن بشرية الأنبياء وخطأ العقيدة التي تفرض لهم شيئا فوق هذا في تكوينهم الذاتي ، وفي هذا الاتجاه كانت الدعوة الإلهية إلى التأسي برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله تعالى : (لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) [الأحزاب : ٢١].

الثانية : إن قيمة القدوة في التجربة الإنسانية تكمن في واقعيتها التي توحي بأنّ الخطأ والانحراف في بعض مراحل العمل ، لا يعني سقوط الإنسان ونهايته

٢٤٦

في حساب العقيدة والمصير ، بل يمكن له أن يقوم من سقطته ويصحّح خطأه ويقوّم انحرافه واعوجاجه ، ليستقيم له الطريق نحو الهدف ، ممّا يعني أن على الإنسان السعي الدائب في خطّ التكامل في حالات النقصان وعدم الانسحاق أمام الحالات السلبية ... وهذا ما أكده القرآن الكريم في قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ) [الأعراف : ٢٠١] ، فلا مانع من أن يطوف بك الشيطان ـ وأنت تقيّ ـ ، لأن المهمّ هو أن لا تظل مع الشيطان في وحيه وانحرافه ؛ وبذلك يكون التاريخ تاريخا للتجربة الإنسانية الناجحة التي تدفع إلى الأخذ بأسباب النجاح ، وتمنعنا من تقديس الأخطاء والخطايا باسم عصمة الخاطئين المخطئين ...

لقد عالجت هذه الآية كثيرا من الجوانب الإنسانية المتحركة في المعركة ، وأثارت كثيرا من الأجواء ... ونعتقد أن من واجب الباحثين الإسلاميين الذين يدرسون طبائع المعارك الإسلامية أن لا يكتفوا بالتاريخ العادي الذي يدرس الجوانب الظاهرة في الحادثة ولا ينفذ إلى تحليل الحالات الإنسانية الداخلية في التجربة ، بل عليهم أن يحاولوا الانطلاق إلى القرآن الذي هو كلام الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، ليعرفوا حجم المعركة بأسلوب عميق شامل. وسنحاول ـ بعون الله ـ أن نتابع دراسة معركة أحد من خلال هذه الآيات. الكريمة ...

* * *

معركة أحد : بين تخطيط الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحركة النفاق

وتبدأ الآيات بهاتين الآيتين اللتين قدّمناهما أمام الحديث : (وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ) لقد بدأ الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يدبّر أمر المعركة في بداية النهار ، وهو معنى الغدوة الذي يمثل الفترة ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس ؛ فقد انطلق صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لتحديد مواقع المسلمين في المعركة من أجل الإعداد

٢٤٧

للنصر ، (وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) فهو الذي لا يعزب عن علمه شيء مما يحتاج إلى أن يسمع أو يبصر ، لأنه محيط بذلك كله ...

وبدأت حركة النفاق تعمل لتخذل المؤمنين وتبعدهم عن المشاركة في القتال من أجل إضعاف الجبهة الإيمانية ، كوسيلة من وسائل تقوية خط الشرك وسلطته ، لأن ذلك هو الذي يمنحهم فرصة استعادة نفوذهم التي فقدوها عند ظهور الإسلام ... واستطاعوا أن يزلزلوا بعض النفوس ويضعفوا بعض العزائم ... ف (هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا) وتتراجعا ، وقد نلاحظ في هذه الفقرة من الآية ، أنها لم تتحدث عما تحدث به المؤرّخون من انسحاب ثلاثمائة رجل من الذين أعدّهم الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمعركة ، مما يوحي بأن ذلك غير صحيح ، لأن الآية تحدثت عن حالة التردد ومحاولة الانسحاب كظاهرة من ظواهر الضعف الموجودة في المجتمع الإسلامي آنذاك ، ولتنبّه المؤمنين إلى مثل هذه الحالة من أجل المستقبل. ولو كان ما نقله المؤرخون صحيحا ، لكان ذلك أشد خطورة على المسيرة ، وأكثر حاجة للتأكيد عليه ، لأنه يمثّل حالة التراجع التي تعني الانسحاب من مسئولية الإيمان بطريقة حاسمة.

وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالتأمّل ، وهي أن التعبير القرآني عبّر عن الانسحاب بكلمة «الفشل» ، مما يوحي بأنّ الجانب العملي من حياة المسلم يعتبر حالة فشل بالنسبة إلى إيمان المؤمن. فالإيمان الذي لا يعبر عن نفسه بالعمل في خط الطاعة هو إيمان فاشل ، لأنه لم ينجح في التجربة المرّة في صراع الإنسان مع الشيطان. وهذه نقطة لا بدّ من التركيز عليها في أساليب التربية بالإيحاء بأنّ الإيمان يمرّ ـ في الحياة ـ بتجربة النجاح والفشل ، كما هو الحال في كل قضية تستتبع المعاناة ، مما يرفع من درجة استعداد المؤمن في المجاهدة من أجل الحفاظ على نجاحه في خط الإيمان.

أمّا كلمة (وَاللهُ وَلِيُّهُما) فتحمل في داخلها تعميق الشعور للمؤمن بالرعاية الإلهية له في حالات الضعف والزلزال النفسي الناتج عن الضغوط الصعبة المحيطة به ، مما يجعله يحس بالأمن والطمأنينة بحماية الله له في أوقات

٢٤٨

الغفلة. وربما كان في التعبير بكلمة «الولي» من الحنان والحميميّة ما يملأ النفس بأصفى المشاعر وأنقاها وأسماها في علاقة الإنسان بالله ...

(وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) وهي دعوة للمؤمنين أن يتحركوا من فكرة (وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ٦٨] ليتوجهوا إليه في حالات الضعف ، أو في الأوضاع التي يخافون أن يضعفوا أمامها مستقبلا ، فإن التوكل على الله يمثّل أرقى أنواع الإيمان ، لأنه يمثّل الاستسلام لله من خلال الثقة المطلقة به في أوقات الشدة والرخاء واليسر والعسر ، الأمر الذي يزرع في نفسه الثقة بالحاضر والمستقبل في كل عمل من أعمال الدنيا والآخرة.

* * *

٢٤٩

الآيات

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) (١٢٧)

* * *

معاني المفردات

(بِبَدْرٍ) : ما بين مكة والمدينة.

(أَذِلَّةٌ) : ضعفاء عن المقاومة لقلة عددكم وعدتكم ، لا تملكون أيّة فرصة عاديّة للقوّة والعزة ، قبال ما كان عليه المشركون من القوّة والشوكة. وهذا لا ينافي إثبات العزة للمؤمنين لأنها مستمدة من عزة الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) [المنافقون : ٨].

٢٥٠

(يَكْفِيَكُمْ) : يقال : استكفيته الأمر فكفاني ، وكفاك هذا الأمر ، أي حسبك.

والفرق بين الاكتفاء والاستغناء ، أن الاكتفاء هو الاقتصار على ما ينفي الحاجة ، والاستغناء : الاتساع فيها ينفي الحاجة ـ كما في مجمع البيان (١) ـ.

(يُمِدَّكُمْ) : الإمداد : هو إعطاء الشيء حالا بعد حال ، والمدّ في السير الاستمرار عليه ، وامتدّ بهم السير إذا طال واستمر ، وأمددت الجيش بمدد ، وأمدّ الجرح فهو ممدّ إذا صارت فيه المدّة ، ومدّ النهر إذا جرى ، ويقال : مدّه في الشر وأمدّه في الخير.

(فَوْرِهِمْ) أصل الفور : القدر ، ومنه فارت العين بالماء : إذا جاشت به ، ومنه الفوّارة ، لأنها تفور بالماء كما تفور القدر بما فيها ، وأستعير لإيقاع الأمر بسرعة من دون تريّث ، ومنه جاء على الفور ، أي : على ابتداء الحمّى قبل أن تبرد عنه نفسه. وقيل : الفور: القصد إلى الشيء بحدّة.

(مُسَوِّمِينَ) : معلّمين لهم علامة تميّزهم ، من السّيماء وهي العلامة.

(لِيَقْطَعَ) : ليقضي ويهلك. والقطع : فصل الشيء مدركا بالبصر والبصيرة.

(يَكْبِتَهُمْ) : يخزيهم ويذلهم ويقهرهم. والكبت ـ كما يقول الراغب ـ الرد بعنف وتذليل (٢)

(٢). وحقيقة الكبت ـ كما يقول صاحب المجمع ـ شدّة الوهن الذي يقع في القلب(٣).

* * *

معركة بدر في أجواء معركة أحد

في هذه الآيات حديث عن معركة بدر التي كانت أوّل معركة بين

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٢٧.

(٢) مفردات الراغب ، ص : ٤٣٧.

(٢) مفردات الراغب ، ص : ٤٣٧.

(٣) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٣٠.

٢٥١

المسلمين والمشركين ، وقد واجه فيها المسلمون التحدي الكبير في صراع القوة الذي حدد للمسيرة الإسلامية طريقها الطويل على هدى مواجهة القوة بالقوة على أساس الحق والعدل ... وكانوا في موقع الضعف من حيث العدد والعدّة بينما كانت قريش التي تمثل قوّة الشرك ، كبيرة فيهما معا. ولكن الله أراد للمسلمين النصر ، فأودع بينهم ـ من خلال إيمانهم ـ روح الإرادة والعزم على المجابهة حتى النهاية والتضحية حتى الاستشهاد ، وأثار في جوّ المعركة لونا من ألوان الغيب الإلهي المتمثل في نزول الملائكة بطريقة خفيّة من أجل دعم الروح المعنوية التي كانت معرّضة للانهيار بفعل الظروف الصعبة المحيطة بالمعركة التي لم تكن معدّة إعدادا دقيقا ...

ولكن لم هذه الإثارة لمعركة بدر في أجواء معركة أحد؟ هل المقصود هو ربط الذكريات بمثلها في خلق جوّ من التشجيع النفسي حتى يقدم الناس على المعارك الجديدة بروحية المعارك القديمة ، أو أن المقصود هو ما ذكره البعض من بيان قضية حاسمة وهي أن الانتصار في معركة من المعارك لا يعدّ نصرا حاسما ، ولا الانكسار في معركة من المعارك يكون انكسارا نهائيا ، وإنّما النصر النهائي للصابرين الثابتين والمتقين المخلصين ، أو أن هناك شيئا آخر ربما يكون أبعد من هذا الوجه أو ذاك ، وإن كان غير مناف لهما من حيث الجوّ العام؟

لعل المقصود من ذلك ـ والله العالم ـ هو التأكيد على ربط النصر بالله في المعارك الإسلامية الفاصلة ، حتى يظل المؤمن مشدودا لله في حربه في عمليّة تعميق الإحساس بالقوة ، وعدم الخضوع للأوضاع الاستعراضية المضادة التي يراد منها هزيمة المسلمين روحيا ونفسيّا ، وذلك باستحضار قوّة الله وعنايته بعباده المؤمنين ورعايته لهم في كل أوضاعهم ومشاكلهم ، والشعور بأنّ قوّتهم لا تمثّل إلّا ظلا خفيفا من ظلال قوّة الله ورحمته ؛ فهم يشكّلون ـ في هذا المجال ـ دور الإرادة المنفعلة بخالقها لا دور القوّة المستقلة بذاتها ... فإذا كان النصر ، ذكروا الله بالإحساس بالامتنان على ما هيّأ لهم من أسبابه ، وإذا كانت الهزيمة ، ذكروا الله معها وعرفوا بأنها كانت نتيجة طبيعية لعدم الأخذ بأسباب

٢٥٢

النصر ، ولنسيان الله في أكثر حالاتهم ... وهكذا يتأكد الإيمان بالله كحقيقة تهز كيانهم بالحركة والإشراق والانفتاح على الحياة بكل عناصرها الفاعلة المتنوّعة ، فلا يبقى مجرد فكرة تعيش في زاوية مغلقة من زوايا الشخصية الإنسانية بشكل عادي جامد. وهذا ما يريد القرآن أن يثيره في أعماق الشخصية وفي كل النشاطات الإنسانية ، بأن يظل الإنسان خاضعا لعبوديته لله واستسلامه له في أموره حتى ليشعر أنه لا يستطيع أن يحرّك أيّ شيء إلّا بالله ومن الله ، وهذا ما نواجهه بارزا في هذه الآيات ...

* * *

لقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلّة

(وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ) ضعفاء لا تملكون أيّة فرصة عادية للقوّة والعزة (فَاتَّقُوا اللهَ) في مسيرتكم وفي وعيكم للدور الذي يجب أن تقوموا به في الجهاد في سبيل الله والعمل من أجله ... (لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لأن التدبّر في آفاق نصر الله لعباده المستضعفين يفرض الشكر العملي على الإنسان في كل ممارساته ومنطلقاته ...

وقد كان المؤمنون يعيشون حالة نفسيّة سيّئة عند ما كانوا يدخلون في عملية المقارنة المادية بين قوّتهم وقوّة المشركين ، فلا يجدون أيّ أساس للشعور بالتكافؤ فضلا عن التفوق ، لأن أيّا من هذين المبدأين يخضع في طبيعته لمعادلات عددية ومادّية غير موجودة لدى المسلمين. وربّما أثار ذلك في نفوسهم بعض المشاعر السلبية التي قد تشارك في دفعهم إلى الهزيمة ، فأراد الله أن يدخل الطمأنينة إلى قلوبهم بالإيحاء لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدخل معهم في حوار من أجل غرس الثقة في نفوسهم. (إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) من السماء؟! وكان هذا أمرا مثيرا لهم ، فإذا كانت قريش تبلغ ألفا في عدد المقاتلين القادمين إلى المعركة ، فها هم

٢٥٣

الملائكة ، الذين يتمتعون بقوّة هائلة لا تصمد أمامها أيّة قوّة إنسانية ، ينضمون إليهم بثلاثة أضعاف عدد قريش.

وتبلغ الإثارة حدّا تصاعديا يساهم في تقوية المشاعر إلى مستوى أفضل ، فها هو العدد يتزايد ، ولكن بشرط واحد وهو الصبر على كل تحديات المعركة ، وتقوى الله في كل خطواتها في ما تفرضه من انضباط والتزام بكل تعاليم الله وأحكامه ... (بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا) ويعاجلوكم بالحرب قبل أن يكمل استعدادكم للمجابهة (يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) أي معلّمين ـ من السيماء ـ.

* * *

هل دخل الملائكة ساحة الحرب؟

ولكن هل دخل الملائكة ساحة الحرب ، وهل كانت المهمّة الموكولة إليهم أن يقاتلوا المشركين؟ وإذا كان الأمر كذلك ـ كما تحب بعض الروايات أن تقول ـ فما هي قيمة المسلمين ، وما هو دورهم في المعركة؟ وكيف يمكن أن يقتل من المسلمين العدد الذي قتل منهم في المعركة ، في الوقت الذي يقف الملائكة كشركاء معهم في القتال؟! ربّما توحي الآية الآتية بأن القضية كانت إمدادا معنويا يقصد من خلاله رفع الروح المعنوية لدى المسلمين بالشعور بأن الملائكة يطوفون بأجواء المعركة ، فيشعرون بالأمن والطمأنينة والاندفاع نحو العدوّ بشدّة وقوّة ، وهذا ما نستقربه ، وإن كنا لا نجزم به ، لأنّ من الممكن أن يكون هناك تفسيرات تتصل بالغيب الذي لا نستطيع تفسيره بطريقة مادية.

(وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ) فليست القضية أن يقاتل الملائكة ليكون النصر مستندا إليه ، فإن النصر من عند الله ، فالله هو الذي يهيّئ للنصر أسبابه ، ويرعاه بألطافه ، ويخلق الظروف الموضوعية التي تنفتح به على النتائج الحاسمة ، (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ). أمّا هدف ذلك

٢٥٤

فهو إسقاط قوّة الكفر أو إضعافا (لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) ويحطم جانبا من قوّتهم العسكرية ، ويسقط مواقعهم المتقدمة وتأثيراتهم القوية على الناس عند ما تنزل الهزيمة بهم. وقد ذكر صاحب مجمع البيان أن هناك اختلافا في وجه اتّصاله بما قبله ، «فقيل : يتصل بقوله : (وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) ؛ ومعناه أعطاكم الله هذا النصر وخصكم به ليقطع طائفة من الذين كفروا بالأسر والقتل ، وقيل : هو متصل بقوله : (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ) ؛ أي : ولقد نصركم الله ببدر ليقطع طرفا (١).

(أَوْ يَكْبِتَهُمْ) بالهزيمة (فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ) خاسرين لم يحصلوا على شيء مما أرادوه وعملوا له في الدنيا والآخرة.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٣١.

٢٥٥

الآيتان

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (١٢٩)

* * *

معاني المفردات

(ما فِي السَّماواتِ) : جاء في المجمع : إنما ذكر لفظ «ما» لأنها أعم من «من» ، فإنها تتناول ما يعقل وما لا يعقل لأنها تفيد الجنس ، ولو قال : من في السّموات لم يدخل فيه إلا العقلاء ، إلّا أن يحمل على التغليب ، وذلك ليس بحقيقة (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٣٣.

٢٥٦

مناسبة النزول

اختلف في سبب نزولها ، «فروي عن أنس بن مالك ، وابن عباس ، والحسن ، وقتادة ، والربيع ، أنه لما كان من المشركين يوم أحد ما كان من كسر رباعيّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشجّه حتى جرت الدماء على وجهه قال : كيف يفلح قوم نالوا هذا من نبيهم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مع ذلك حريص على دعائهم إلى ربهم؟ فأعلمه الله أنه ليس إليه فلاحهم ، وأنه ليس إليه إلا أن يبلغ الرسالة ويجاهد حتى يظهر الدين ، وإنما ذلك إلى الله تعالى.

وكان الذي كسر رباعيته وشجّه في وجهه عتبة بن أبي وقاص ، فدعا عليه بأن لا يحول عليه الحول حتى يموت كافرا ، فمات كافرا قبل أن يحول الحول وأدمى وجهه رجل من هذيل يقال له عبد الله بن قمية ، فدعا عليه ، فكان حتفه أن سلّط الله عليه تيسا فنطحه حتى قتله ، وروي أنه كان يمسح الدم على وجهه ويقول : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون، فعلى هذا يمكن أن يكون على وجل من عنادهم وإصرارهم على الكفر فأخبره تعالى: أنه ليس إليه إلا ما أمر به من تبليغ الرسالة ودعوتهم ، إلى الهدى ، وذلك مثل قوله تعالى : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) [الشعراء : ٣].

وقيل : إنه استأذن ربه في يوم أحد في الدعاء عليهم ، فنزلت الآية ، فلم يدع عليهم بعذاب الاستئصال ، وإنما لم يؤذن له فيه لما كان في المعلوم من توبة بعض عن أبي علي الجبائي. وقيل : أراد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعو على المنهزمين عنه من أصحابه يوم أحد ، فنهاه الله عن ذلك وتاب عليهم ، ونزلت الآية : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) أي : ليس لك أن تلعنهم وتدعو عليهم ، عن عبد الله بن مسعود. وقيل : لما رأى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون ما فعل بأصحابه وبعمه حمزة من المثلة ، من جدع الأنوف والآذان وقطع المذاكير ، قالوا : لئن أدالنا الله منهم لنفعلن بهم مثل ما فعلوا بنا ولنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قطّ ، فنزلت الآية ، عن محمد بن إسحاق والشعبي.

وقيل : نزلت في أهل بئر معونة ، وهم سبعون رجلا من قرّاء أصحاب

٢٥٧

رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأميرهم المنذر بن عمرو ، بعثهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى بئر معونة في صفر سنة أربع من الهجرة على رأس أربعة أشهر من أحد ليعلّموا الناس القرآن والعلم ، فقتلهم جميعا عامر بن الطفيل ، وكان فيهم عامر بن فهيرة مولى أبي بكر ، فوجد رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ذلك وجدا شديدا ، وقنت عليهم شهرا ، فنزل : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) ، عن مقاتل» (١).

والظاهر ـ كما جاء في مجمع البيان ـ «قال : والأصح أنها نزلت في أحد ، لأن أكثر العلماء عليه ويقتضيه سياق الكلام ، وإنّما قال : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) مع أن له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يدعوهم إلى الله ويؤدّي إليهم بتبليغهم لأن معناه : ليس لك من أمر عقابهم واستئصالهم أو الدعاء عليهم أو لعنهم حتى تقع إنابتهم ، فجاء الكلام على الإيجاز لأن المعنى مفهوم لدلالة الكلام عليه» (٢).

وقد نلاحظ على هذه الروايات الواردة في أسباب النزول أنها كانت اجتهادات تفسيرية من أصحابها ، فقد ركزت في أكثرها على مسألة دعاء الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على الأعداء في معركة أحد ولعنهم ، أو على التمثيل بهم في جولة أخرى ، بينما نجد الآيتين في مقام بيان حقيقة إيمانية كلية في سنة الله في الكافرين الظالمين وفي قدرته الشاملة التي تجعل له السلطة الكاملة عليهم في المغفرة أو العذاب ، للتأكيد على أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ في ذاته وفي دوره ـ لا يملك من الأمر في ذلك شيئا ، لأن الأشياء في نتائجها الحاسمة تنطلق من إرادة الله ، فلا دور للأنبياء إلا تهيئة الأجواء الملائمة للهداية أو المتحركة في مواقع التحدي من أجل تنفيذ أوامر الله في الأخذ بالوسائل التي يملكونها ، مما أعطاهم الله القدرة فيه ، لأن النتائج مربوطة بالحركة العامة للأوضاع والوسائل التي قد يملك الناس بعض القدرة على تحريكها بإرادة الله ، ولكنهم لا يملكون كل شيء فيها من الداخل والخارج ، والله العالم.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٣١ ـ ٨٣٢.

(٢) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٣٢.

٢٥٨

الأمر لله والشفاعة للرسل

(لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) في مصير هؤلاء الناس الذين حاربوك لتحدد ـ أنت ـ ذلك بطريقتك الخاصة ، لأن الله لم يجعل للأنبياء ذلك إلا في دائرة خاصة من خلال وسيلة الدعاء تارة والشفاعة أخرى ، فهما يتحركان من خلال ما حدّده الله لك من منهج ومواقع ، فليس لك أن تشفع إلا لمن ارتضى أو تدعو إلّا لمن يريد الله لك أن تدعو له ، ويبقى الأمر لله أن يعذبهم إن شاء أو يتوب عليهم ويغفر لهم إذا أراد ، (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) انطلاقا من حكمته العميقة الشاملة في العذاب والمغفرة اللذين لا ينطلقان من حالة طارئة أو الخضوع لضغط معين كما هو عند الناس ، بل ينطلقان من السنّة الإلهية من موقع الحكمة في ذلك كله ، فله أن يغفر لهم يتوب عليهم ، وله أن يعذبهم ، (فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ) يستحقون العذاب ، كما يمكن أن تنالهم المغفرة عند توفر عناصرها فيهم من خلال إنابتهم إلى الله وعودتهم إليه.

(وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) فله الكلمة العليا في شؤون مخلوقاته ، وله الإرادة الحاسمة الفاعلة في مصيرهم في الدار الآخرة ، لأنه يملك الأمر كله في الدنيا والآخرة ، (يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ) المغفرة له (وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ) عذابه ، (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) فقد سبقت رحمته غضبه ، فيبقى الأمل لكل المذنبين في التعلق برحمته ليستريحوا في ساحة غفرانه ، ولا مجال لليأس من ذلك كله ، ولكن المسألة تبقى متحركة بين الخوف والرجاء ، لا سيما أن الله لم يعين مواقع المغفرة والعذاب. وقد قيل : إنّما علّق الغفران والعذاب بالمشيئة ، لأن المشيئة مطابقة للحكمة ، فلا يشاء إلا ما تقتضي الحكمة مشيئة. وسئل بعضهم : كيف يعذب الله عباده بالإجرام مع سعة رحمته؟ فقال : رحمته لا تغلب حكمته ، إذ لا تكون رحمته برقة القلب كما تكون الرحمة منا (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨٣٣.

٢٥٩

الرسول جندي خاضع لله

لقد عالجت هاتان الآيتان دور النبيّ في الشؤون العامّة من قضايا الحرب والقتال ، فليس هو قائدا يتصرف بمزاج القائد الذي يملك الأمر كله فيعفو عند ما تدفعه نوازعه الذاتية إلى العفو ، ويعاقب ويعذب عند ما يوحي إليه مزاجه بذلك ، بل هو رسول ينذر ويبشر ، وجنديّ لله في ما يأمره به وينهاه عنه ، فإذا انطلق في حياته من خلال الدور القيادي ، فإنه يتسلم خطّة القيادة من ربّه في ما يشرعه الله له من أحكام ، وما يخطط له من خطط. فهو القائد الذي يتحرك من خلال دور الجندية الخاضعة للقيادة العليا ...

وفي ضوء ذلك ، لا بدّ للمسلمين من أن يفهموا المسألة من هذا المنطلق الذي يوحي بأن الرسول لا يملك أمر التصرف من ناحية ذاتيّة ليمكن لهم أن يقدّموا إليه اقتراحات العفو من حيث يريدون العفو لبعض الأسرى ، أو يحاوروه في موضوع العذاب من حيث يريدون العذاب لبعض آخر ، بل كلّ ما هناك أنه يتلقى الأمر من الله ـ ربّه وربّ العالمين ـ فيصدر العفو عند ما يقرر الله العفو عن إنسان ما ، ويقرر العذاب عند ما يقرر الله له ذلك ، لأنهم ظالمون يستحقون كلّ ألوان العذاب بسبب ظلمهم وتمردهم وطغيانهم ... وتأتي الآية الثانية لتقرّر مبدأ رجوع كل شيء إلى الله ، لأنه مالك لكل ما في السموات وما في الأرض ، فيغفر لمن يشاء في الدنيا والآخرة ، ويعذب من يشاء في الدنيا والآخرة ... وقد سبقت رحمته غضبه ، فإنه الغفور الرحيم الذي لا ينسى أحدا من غفرانه ورحمته.

* * *

٢٦٠