تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

الممتدّة التي ترى في امتدادها في الزمن معنى وجودها في الحاضر ، وتؤمن بأنّ حركتها ـ بعيدا عن الحدود الضيقة ـ هي سرّ حيويتها وتجددها ومعنى إيمانها ، لأن الإيمان بالله وبرسالاته لا يتجمد في زمن ولا يقف عند حدّ ، إذ إنّ الإنسان هو عبد الله وخليفته في دوره الإنساني في الأرض ، فلا بد له من أن يستوعب كل عناصر الرسالة في كل دور من أدوار حياته ، وفي كل مجتمع من مجتمعاته من خلال ما يبلغه رسل الله من رسالات.

* * *

من هم الأمّة؟

وإذا كانت الدعوة إلى الخير هدفا من أهداف الإسلام من أجل شمول الخير للحياة ، فإن من اللازم أن تبرز من داخل الأمة طليعة واعية تتبنّى خط الدعوة إلى الله حسب حاجة الساحة إليها ، فقد تحتاج إلى عدد محدود قليل ، وقد يزيد هذا العدد ، وربما يشمل الأمة كلها إذا كبرت التحديات الشريرة المضادة من قوى الكفر والشرّ.

وهذا هو معنى الأمّة في قوله : (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) أي : جماعة من المسلمين الذين يمكن لهم أن يحققوا الهدف ، ويسدّوا الثغرة بالجهود المبذولة في هذا الاتجاه. وفي ضوء ذلك نعرف عدم إرادة «الأمة» بالمعنى المصطلح الذي يتسع ليتحدد في معنى القومية الشاملة التي تنطلق من وحدة اللغة والأرض والتاريخ أو العادات والتقاليد ، مما يوحي به المعنى الاجتماعي والسياسي للكلمة ، لأن ذلك لا مجال له في هذه الآية ، التي تؤكد على الجماعة الآمرة بالمعروف الناهية عن المنكر بحجم الحاجة ، فقد تشمل المسلمين كلهم إذا كانت التحديات الثقافية والسياسية والدينية والاجتماعية بالمستوى الكبير الذي لا يكفيه أيّة جماعة محدودة ، وقد يضيق عن ذلك إذا كان الحجم محدودا يكفيه قسم معين منهم.

٢٠١

وقد يتنوع الموضوع حسب الحاجة الواقعية بين الجهود الفردية التي يدعو فيها بعضهم بعضا بشكل فردي ، وبين الجهود الجماعية التي تنطلق لرعاية الواقع كله ومراقبته وتوجيهه في القضايا العامة التي تحتاج إلى الأمة الإسلامية كلها ، تبعا لاتساع حدودها وكثرة جماعتها وتنوّع أوضاعها.

وقد كان الواقع التاريخي لهذه الجماعة يتمثل في الدائرة الاجتماعية في البلاد الإسلامية تحت اسم دائرة الحسبة ، ويسمى أفرادها بالمحتسبين.

وقد يطلق عليهم اسم «لجنة الآمرين بالمعروف» ، وكانت مهمتهم ملاحقة ظاهرة الانحراف الديني والفساد الاجتماعي والسياسي في واقع الناس والدولة ، وهكذا نجد أن حجم هذه الجماعة لا يختص بعدد محدود ، فقد يشمل المسلمين كلهم في الدائرة العامة للحاجة.

* * *

الدّعوة إلى الخير مسئولية كل مسلم

... أمّا حجم الخير ومداه ونوعيته ، فإنه يتسع سعة الإسلام في عقيدته وشريعته وحركته الشاملة للحياة ، وذلك قوله تعالى : (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) ، وبذلك كانت الدعوة مسئولية كل مسلم يحتاج الإسلام إلى فكره و. أسلوبه في الدعوة ، فليس لأي إنسان من أمثال هؤلاء أن يتقاعس ويجمّد نفسه في دائرة ضيقة أو عزلة خانقة ، أو هروب من خط المسؤولية ، تماما كما لا يجوز له أن يفعل ذلك في ما يتعلق بعباداته وفروضه الأخرى. وقد شاركت عصور التخلف في خلق ذهنية سلبيّة كسولة لا شغل لها إلا البحث والتدقيق في إيجاد المبرّرات للتراجع والتكاسل والبعد عن المسؤولية ، الأمر الذي أدى إلى أن يفقد الإسلام كثيرا من الطاقات والقابليات ذات الفاعلية الكبيرة في تعزيز الإسلام والمسلمين ، ولا يزال بعض هؤلاء يتحرك من أجل التنديد بالعاملين ، لأنهم يشكلون التحدي العملي لأمثاله في حمل المسؤولية الإسلامية في الساحة.

٢٠٢

مصاديق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فقد يلتقيان بالدعوة إلى الخير في الجانب الذي تفرضه الدعوة للمعروف وللبعد عن المنكر بالكلمة وأمثالها ، مما يكون حركة إيجابية نحو الخير والمعروف وحركة سلبية ضد الشر والمنكر ... لأن ذلك من وسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وقد يتحركان في اتجاه الخطوات العملية التي تعمل على تغيير الواقع بالمواقف الحاسمة التي يقفها العاملون ضد المنكر في اتجاه المعروف ، بالثورة عليه وبمواجهته بالضغوط القويّة ، من أجل إزالته تارة ، أو التخفيف من غلوائه أخرى ؛ سواء في ذلك العمل الفردي المنكر المتمثل في انحراف الفرد عن خط الإسلام ، أو العمل الاجتماعي الذي يمثله انحراف المجتمع ككل في الخط العملي بشكل عام ، أو العمل السياسي الذي يواجه في الأمة الحكم الظالم الذي يعمل على السير بقضاياها المصيرية في الاتجاه المنحرف ، على غير سيرة العدل في الحاكم والحاكمين ، الأمر الذي قد يسيء إلى عزتها وكرامتها وذلك بإخضاع مقدراتها للكفر والكافرين بمختلف الوسائل الخفيّة التي تجعلها تحت سيطرة الاستعمار والمستعمرين ؛ أو العمل الاقتصادي الذي ينحرف بالاقتصاد عن شريعة الله في مصادر الثروة ومواردها وطريقة توزيع الإنتاج ، وإبقاء ثروة الأمة تحت سيطرة الاحتكار الجشع في ما يريده وما لا يريده ...

وفي ضوء هذا المفهوم الشامل ، نكتشف الخط الإسلامي للمسيرة الإسلامية تجاه رصد حركة الواقع في الجانب الإيجابي والسلبي ، فنلاحظ أنّ الله يريد للأمّة أن تتحمل مسيرة الخير بمعناه الواسع بالدعوة إليه حتى لا يبقى هناك أحد لم تبلغه الدعوة ، مما يعني أن تراقب كل المناطق والمجالات التي ليس فيها دعاة أو مرشدون لسدّ هذا النقص الكبير فيها ، كما يريد للأمة أن ترصد المعروف والمنكر في المجال التطبيقي للإسلام لتتحمل مسئولية الأمر بالأول والنهي عن الثاني بكل الإمكانات المتاحة لها ، في منطقة الشعور

٢٠٣

الداخلي بالرفض النفسي للمنكر والتعاطف الروحي مع المعروف ، وهو ما يعبر عنه بالتغيير بالقلب ، أو في منطقة التعبير بإطلاق الكلمة القوية التي تؤيد أو ترفض وهو التغيير باللسان ، أو في مجال المواجهة بالدخول إلى صميم الواقع والضغط عليه بشدة وهو ما يعبّر عنه بالتغيير باليد ... فلا مجال ـ بعد ذلك ـ للقول بأنّ الإسلام يوافق على السلبيّة الفردية والاجتماعية في هذا المجال ، لأنه يعزل الإنسان في النطاق الذاتي الذي لا يخلق له أية مشكلة مع الآخرين على أساس أن كل فرد مسئول عن نفسه فلا مسئولية له عن غيره إلا في نطاق النصائح والتوجيهات الأخلاقية العامة التي تلامس المشكلة من بعيد ، بحيث لا تثير أي شعور سلبي لدى المنحرفين والكافرين والظالمين ...

وقد ختمت الآية هذه الدعوة بإعطاء هؤلاء الذين يقومون بهذه المهمة صفة الفلاح بقوله : (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) للإيحاء بأن هذه الدعوة للخير والممارسة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تمثل خط الفلاح للقائمين بها ، من خلال أنها تمثّل قيامهم بالمسؤولية العامة في ما يريد الله منهم القيام به ، مقابل الخاسرين الذين يبتعدون عن مشاكل المسؤولية وأتعابها.

* * *

نهي عن السير في خط الاختلاف

وينهي القرآن عن السير في خط التفرق والاختلاف الذي يؤدي إلى انهيار المجتمعات وابتعادها عن خط الاستقامة ، من خلال ما يحدثه من التمزق الأخلاقي والسقوط الاجتماعي ، الذي يفقد فيه المجتمع توازنه الفكري والعملي ، فيسيطر عليه المترفون الذين يعملون على إضلال الناس وإسقاط قيمهم الروحية والأخلاقية والسياسية والاقتصادية لمصلحة امتيازاتهم الظالمة ، أو يتولى أمره المستكبرون والكافرون الظالمون فيبتعدون به عن خطه المستقيم وإيمانه القويم : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا) فلم يلتقوا على قاعدة فكرية

٢٠٤

واحدة على مستوى العقيدة والمفاهيم العامة والتصور الشامل الدقيق للأشياء ، بل أخذ كل واحد منهم بشيء من الأفكار المختلفة التي يناقض بعضها بعضا ، مما يؤدي إلى التنافر والتنازع والضلال ، (مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ) فاختاروا الكفر على الإيمان بعد قيام الحجة عليهم من الله سبحانه بالدلائل الواضحة والبينات القوية ، (وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) جزاء تمردهم على الله وانحرافهم عن خطه المستقيم.

* * *

دعوة عامّة أم خاصّة؟

وقد نلاحظ ـ في هذا المجال ـ أن الله سبحانه لم يطلب من المسلمين كافة القيام بهذا الدور ، بل دعاهم إلى أن يكون منهم جماعة مخصوصة لتقوم بذلك ، فكيف نفهم ذلك؟

الظاهر أن القضية ليست في مجال التحديد ، بل هي في مجال تقرير المبدأ ؛ فلا بد للأمة من دعاة للخير ومن آمرين بالمعروف وناهين عن المنكر ، بالمستوى الذي تتحرك فيه دعوة الخير ويتأكّد فيه المعروف ويزول فيه المنكر ، وبذلك يختلف حجم هؤلاء حسب اختلاف حاجة الساحة إلى تحقيق هذا الهدف ، فقد تمر الأمة بمرحلة عاديّة لا تحتاج فيها إلى النشاط الطبيعي الذي تقتضيه طبيعة الأشياء مما لا ضرورة فيه إلى استنفار الأمة بطاقاتها الكاملة ... ولكنها قد تمر بحالة طوارئ من التحديات الصعبة العنيفة التي يثيرها دعاة الكفر والضلال ، بالمستوى الذي تحتاج فيه الأمة إلى كل طاقاتها لمواجهة ذلك كله ، ويتحول فيه الموقف إلى «الوجوب العيني» الذي يتوجه إلى كل فرد بنفسه من دون أن يقوم فيه إنسان عن الآخرين ، بدلا من «الوجوب الكفائي» الذي إذا قام به البعض سقط عن الكل ، وإذا لم يقم به الكل أثموا جميعا.

وفي ضوء ذلك ، انطلقت الآيات والأحاديث الشريفة في التأكيد على

٢٠٥

الإبلاغ والتذكير ، والدعوة إلى الله ، والتنديد بالعلماء الذين يكتمون علمهم في الحالات التي تظهر فيها البدع وتتكاثر في المجتمع ، لأن ذلك هو السبيل إلى استمرار الرسالة حية نامية في حياة الناس ، وقويّة صلبة أمام التحديات الفكرية والعملية ، مما يجعل من السكوت في حالة القدرة على الكلام خيانة للإسلام والمسلمين ، لأن ذلك يفقد الموقف قوّة من قواه الجاهزة في صعيد الواقع ... وقد لا نستطيع اعتبار مواقف النبي والصحابة والأئمة عليه‌السلام محصورة في نطاق حياتهم ومرحلتهم في مجال الدعوة ، بل هي مواقف ممتدة في الحياة امتداد الرسالة في الزمن ، مما يجعل من الدعوة إليها أمانة الأجيال المسلمة في كل زمان ومكان.

وقد نستطيع التأكيد في هذا المجال على أن الرسالة الإسلامية لم تصل إلينا بهذا المستوى الكبير من القوّة والوضوح والامتداد إلّا بفضل المواقف الرسالية التي وقفها العلماء والمجاهدون في مراحل التاريخ في دعوتهم إلى الخير ، وفي أمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ، ومواجهتهم للقوى الكافرة والضالة ، حتى سقط منهم الشهداء في خط المسيرة الطويل ... وهكذا يظل الإسلام دين دعوة للفكر والإيمان ، وتوجيه للعمل والتطبيق في عملية توعية وانفتاح.

* * *

في الآخرة وجوه تبيضّ وأخرى تسودّ

... وليست القضية قضية صفة ذاتية عاديّة يراد منها تقييم الإنسان من ناحية ذاتية ، لأن طبيعة القضية تتصل بالجانب العام الشامل لحياة الإنسان ، أمّا ذلك الفلاح وهذا العذاب فإنهما يبرزان بأعلى صفاتهما في مواجهة الإنسان للمصير في موقفه أمام الله عند ما يتحدد للإنسان مصيره من خلال انطباع أعماله على وجهه ، فهناك الناس الذين تبيض وجوههم بما عملوا من خير ، من خلال

٢٠٦

ما يمثله من صفاء ونقاء وبياض ناصع ؛ وهناك الناس الذين تسودّ وجوههم بما عملوا من شر ، من خلال ما يمثله من سواد وظلمة وقلق ، وذلك هو قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) وهذا تعبير إيحائي عن الحالة الروحية التي تترك تأثيراتها على الصورة البارزة للإنسان من خلال عناصرها الخاصة في الذات ، فإذا كانت الروح منفتحة على الجانب المشرق من النيّات الخيّرة والأعمال الصالحة ، فإن ذلك ينعكس على إشراقة الوجه نورا وإشراقا وبشرا ، لأن هذا الإنسان لا يشكو من عقدة تثقل روحه وتشوّه صورته. وأما إذا كانت الروح منغلقة على الخير ومنفتحة على الشر في الدوافع والأعمال ، فإن الإنسان يبدو من خلالها شيطانا في ملامحه ، معبّرا في وجهه ، مظلما في ذاته. وهذا ما يوحي بالحقيقة الإنسانية في تأثير الواقع الداخلي في صورة الواقع الخارجي للإنسان ، بحيث تتمثل ملامحه الداخلية في ملامحه الخارجية في الصورة تارة ، وفي النظرة العامة لحركته تارة أخرى. وقد عبر الله عن ذلك بطريقة أخرى في صورة المؤمنين يوم القيامة في النور الذي يسعى بين أيديهم وبإيمانهم وذلك هو قوله تعالى : (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ) وبإزاء هؤلاء نرى المنافقين والمنافقات غارقين في الظلمة يستجدون النور من المؤمنين والمؤمنات (وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ).

وتزداد الصورة وضوحا في مواجهة الموقف ، فيبدو لنا هؤلاء الذين اسودّت وجوههم ، فإذا بنا نلمح في أوضاعهم وتقارير أعمالهم وطبيعة السؤال الإنكاري الذي يوجّه إليهم : (أَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) صورة الناس الذين ساروا في خط الإيمان فترة من الزمن ، ولكنهم وقعوا تحت تأثير الضغوط الذاتية من الشهوات والأطماع والأضاليل فانحرفوا عن الخط ، ثم تحوّل انحرافهم إلى مواجهة مضادة للخط نفسه عند ما فرضت عليهم ذاتياتهم أن يقاوموه ليرضى عنهم أولياؤهم من الكافرين والضالّين ...

وفي هذا إيحاء دقيق من بعيد بأن على الإنسان أن لا يستسلم للثقة بإيمانه في استرخاء كسول ، يؤمن معه بأنه لا يتزعزع مهما كانت الظروف والضغوط ، بل ينبغي له أن يحرسه بالفكر والتأمل والقراءة والحوار والعمل ، لأن الكثيرين

٢٠٧

من الناس قد ضلوا بعد الهدى وكفروا بعد الإيمان تحت تأثير العوامل السلبية المتنوعة المحيطة بهم ... فحاق بهم العذاب نتيجة ذلك كله ، وواجهوا النداء الحاسم من الله : (فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ).

(وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ) فقد عاشوا حياتهم مع الله ؛ فإذا فكروا كان الله أوّل ما يفكرون به في عظمة خلقه وكرمه في نعمه ، وفي كل شيء يحيط بهم ؛ وإذا خططوا لحياتهم كان الله هو الذي يستلهمونه في رسم تلك المخططات ؛ وإذا واجهتهم الشهوات ، وقفوا منها وقفة التوازن التي تأخذ منها ما يبني للإنسان روحه وجسده في ما ينفع الروح والجسد ، وترفض منها ما يهدم للإنسان كيانه في ما يضرهما ؛ أمّا إذا عاشوا مع الناس ، فإنهم لا يفكرون بأنفسهم في سجن الأنانية بل ينفتحون على الحياة الفردية والاجتماعية للآخرين كمنطلق لممارسة المسؤولية المفروضة عليهم من الله في أن تكون حياتهم خيرا وبركة للآخرين ، فلا يصدر منهم أي ضرر أو فساد لأي إنسان ؛ وإذا وقفوا مع أنفسهم تذكروا الله قبل ذلك فعلموا أنهم عبيد له وعرفوا أنّ من واجبهم أن يعبدوه حق عبادته ويطيعوه حق طاعته في كل ما يستطيعونه ويقدرون عليه من ذلك ... فكانوا قريبين من الله في فكرهم وشعورهم وعملهم فاستحقوا رحمته الخالدة التي يمنحها للصالحين والمجاهدين من عباده (فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ).

* * *

الشعور بالحضور الإلهي ضرورة تربوية

وماذا بعد ذلك؟

إن الله يختم الموقف بآيتين ، ففي الآية الأولى قوله تعالى : (تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ) فقد بيّن الله للناس الأمور كلّها ودلّهم على العلامات التي تحدّد لهم خطوط الحياة والمصير على أساس الحق ،

٢٠٨

ووضع كل إنسان منهم أمام مسئوليته ، ليختار ـ بعد إقامة الحجة عليه ـ الخط الذي يتجه به إلى الجنة أو الخط الذي يتجه به إلى النار. فإذا عاقبه بانحرافه وظلمه لنفسه فإنه يواجهه بأعلى مواقف العدل ، فإن الله لا يريد ظلما للعالمين ، لأنه العدل الذي تعالى شأنه عن الظلم ، فهو غني عنهم في كل شيء ، فلا حاجة به إلى الظلم الذي لن يحتاجه صاحبه إلا على أساس عقدة داخلية يعاني منها في ذاته ...

أما في الآية الثانية : (وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فإنها تثير الغنى المطلق لله من جهة ما يمثله ملك القوى والطاقات والأشياء الموجودة في السّموات والأرض مما يجعله مهيمنا على الأمر كله من دون عقدة ضعف أو حاجة ، كما تثير في داخل الإنسان الشعور بعظمة الله في أسلوب تربوي يدفع الإنسان إلى التفكير بالارتباط به ، لأنه مصدر القوّة في كل من حوله وما هو حوله ، فإنه يملك الأمر فيها جميعا ، كما أن مرجع الأمور إليه في المصير في نهاياتها ، كما كانت كذلك في بداياتها.

وقد ذكر صاحب تفسير الميزان أنه لا يجوز تعليل نفي إرادة الظلم من الله سبحانه بغناه عنه ، لأن ظاهر الآية هو التأكيد على ملكه لما في السّموات والأرض ؛ لأنه إذا كان يملك جميع الأشياء من جميع الجهات ، فله أن يتصرف فيها بما يشاء فلا يتصور في حقه التصرف في ما لا يملكه حتى يكون ظلما وتعديا (١).

ولكننا نلاحظ أن الله تحدث عن الظلم من حيث إنه لا يتناسب مع عظمته ورحمته وانطلاق إرادته من قاعدة الحق ، لأنه ليس بحاجة إليه بالطريقة التي يحتاج فيها الظالمون إلى الظلم على أساس ضعف وعقدة أو خوف أو ما إلى ذلك ... وليس ظاهرا في الحديث عن عدم تحقيق موضوع الظلم ، باعتبار أنه يتصرف في ملكه ، وعلى ضوء هذا فإن الآية الثانية تعرّضت للملك الشامل

__________________

(١) انظر : تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ٤٣٠.

٢٠٩

الذي يجعل الأمور في تصرفه ، مما يؤدي إلى أنه ـ وحده ـ المتصرف ، فيها المسلّط عليها مما يقتضي رجوعها إليه ، والله العالم.

وقد نلاحظ تنوّع الأساليب المماثلة في القرآن الكريم من أجل تربية الشعور بالحضور الإلهي في كل مظاهر الحياة المحيطة به ، مما يدخل في عملية البناء الداخلي للشخصية الإسلامية ، وليس مجرّد إبراز حقيقة من حقائق العقيدة وفي ضوء ذلك لا بد للعالمين في حقل تربية الناشئة الإسلامية من أن يؤكدوا على استثارة هذا الأسلوب في تربية العقيدة في نفس الإنسان المسلم.

* * *

٢١٠

الآية

(كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) (١١٠)

* * *

معاني المفردات

(كُنْتُمْ) : قال الزمخشري في الكشاف : «كان عبارة عن وجود الشيء في زمان ماض على سبيل الإبهام ، وليس فيه دليل على عدم سابق ولا على انقطاع طارئ ، ومنه قوله تعالى : (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦] ؛ ومنه قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) ؛ كأنه قيل : وجدتم خير أمة ، وقيل : كنتم ـ في علم الله ـ خير أمة. وقيل : كنتم في الأمم قبلكم مذكورين بأنكم خير أمة ، موصوفين به» (١).

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٤٥٤.

٢١١

(أُخْرِجَتْ) : أظهرت ، «ومزيّة هذه اللفظة ـ أي الإخراج ـ أن فيها إشعارا بالحدوث والتكون ، قال تعالى : (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى)» [الأعلى : ٤] ؛ كما قال صاحب الميزان (١).

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ قال عكرمة ومقاتل : نزلت في ابن مسعود ، وأبيّ بن كعب ، ومعاذ بن جبل ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وذلك أن مالك بن الضيف ، ووهب بن يهوذا اليهوديين ، قالا لهم : إن ديننا خير مما تدعونا إليه ، ونحن خير وأفضل منكم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (٢).

* * *

الأمّة الإسلامية أمّة قائدة

إنّ قيمة كل أمّة بالنسبة إلى الأمم الأخرى ، هي في المبادئ التي تؤمن بها وفي الدور الكبير الذي تقوم به في حياة الناس. وعلى هذا الأساس جاءت هذه الآية لتؤكد أفضلية الأمة الإسلامية على سائر الأمم ، لا من خلال الجانب الذاتي الذي يقوم على تفضيل شعب على شعب لصفاته الذاتية ، أو لامتيازات غيبية خاصة كما هو شأن اليهود في اعتقادهم بأنهم شعب الله المختار ، بل من خلال الدور الذي أنيط بها في تغيير الواقع الفاسد بكل الوسائل الممكنة ، سواء كان ذلك بالإقناع القائم على أساس المحبة ، أو بالقوّة التي تحطّم الحواجز التي

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ٤٣٠.

(٢) أسباب النزول ، ص : ٦٦.

٢١٢

يقيمها الآخرون أمام حرية الإسلام في الدعوة ، أو التي تواجه التمرد المنحرف الذي يقوم به الأفراد في المجتمعات الإسلامية ، فهي أمّة قائدة لمجتمعها ومجتمعات الآخرين من حيث الدور الذي أنيط بها ، بينما كانت الرسالات الأخرى ، في ما حدثنا القرآن عنه من حديث الأنبياء ، تعمل على أساس التغيير بالموعظة والكلمة الطيبة والأساليب الهادئة مما يجعل منها رسالة دعوة مجرّدة ، تماما كما هي الآية الكريمة : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ) [البقرة : ١٤٣] ؛ وإذا كانت قيمة الأمة من حيث الدور لا من حيث الذات ، فإن الحكم على واقعها العملي تابع لقيامها بهذا الدور ، ولكن ذلك لا يمنع من بقاء هذه الصفة من حيث الخط الذي وضع لها ...

وقد أثار المفسرون ـ في تفسير هذه الآية ـ الحديث حول كلمة «كان» ، هل هي متضمنة للزمان في معناها ، فيكون الحديث عن التفضيل في زمان سابق ، أو هي غير متضمنة له ، فتكون واردة لبيان أصل المبدأ؟! وقد اختار بعض المحققين من المفسرين الوجه الأوّل ، واستظهر أن «الآية تمدح حال المؤمنين في أوّل ظهور الإسلام من السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار ، والمراد بالإيمان هو الإيمان بدعوة الاجتماع على الاعتصام بحبل الله وعدم التفرّق فيه في مقابل الكفر به ، على ما يدلّ عليه قوله قبل : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) الآية ، وكذا المراد بإيمان أهل الكتاب ذلك أيضا ، فيؤول المعنى إلى أنكم معاشر أمّة الإسلام كنتم في أوّل ما تكوّنتم وظهرتم للناس خير أمة ظهرت لكونكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر ...» (١).

وذهب أكثر المفسرين إلى الوجه الثاني وقالوا : إن كلمة «كان» قد تتجرد عن الزمان في بعض الحالات كما في الآيات التي تتحدث عن صفات الله مثل (وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) [النساء : ٩٦]. ولكننا نلاحظ على هذا الموضوع ، أن الظاهر من الآية هو ورودها لبيان دور الأمة وقيمتها من خلال ذلك ، وهذا قرينة

__________________

(١) تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ٤٣١.

٢١٣

على أنّ القضية لا تتصل بالزمن ، لأن خصوصية الزمان في مثل هذه الأمور تابعة للجانب الواقعي العملي الذي تختلف فيه الأمة من زمن إلى زمن ، وهذا غير مراد من الآية ـ في ما يظهر ـ. أمّا ما ذكره صاحب تفسير الميزان فهو مخالف للظاهر ، من خلال ما استظهرناه من جهة ؛ ومن جهة أخرى فإن الآية نزلت في الوقت الذي كانت حركة الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر موجودة مستمرة في حياة المسلمين ولم تكن منفصلة عن ذلك الجوّ ، فكيف يمكن أن تتكلم عن الموضوع بصفة الماضي ، الذي قد يوحي بتبدّل الصفة إلى نقيضها؟! أمّا تفسير الإيمان بالله ، بالاعتصام بحبل الله وعدم التفرق ، فغير واضح ، بل ربما كان من القريب جدا ، أن يكون المراد منه معناه الحقيقي على أساس ارتباط الدور بالجانب العقيدي الفكري الذي يمثله الإيمان بالله ، وبالجانب التطبيقي العملي الذي يمثله الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(كُنْتُمْ) أيها المسلمون في انطلاقكم في الحياة كجماعة موحدة على أساس الخط الفكري والعملي من خلال رسالة الله التي أراد للناس ـ من خلالها ـ أن يتوحدوا في أوضاعهم العامة والخاصة ، (خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) أي خير جماعة ظهرت للناس في وجودها الحركي القيادي الذي يتحوّل فيه كل مسلم إلى داعية لله ، وعامل في خط التغيير الفردي والاجتماعي بعيدا عن الفردية الذاتية في اهتماماتها الخاصة على أساس عبادتها وأخلاقيتها في خط الإيمان ، لأن الإسلام يريد للمسلم أن يحمل في داخل شخصيته شخصية الأمة في حركة مسئوليته عن الأمة كلها في حدود استطاعته ، وبهذا تكون الأفضلية أو «الخيرية» مطلقة من خصوصية المضمون الفكري والدور العملي لهذه الجماعة ، لا من خصوصية الذات في ذاتية الانتماء من حيث ذاته.

وقد تعددت التطبيقات في التفاسير في مصداق هذه الجماعة من حيث اختصاصها بأشخاص معينين ، أو شمولها للمسلمين كلهم ، فقيل (١) : هم

__________________

(١) انظر : مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٨١١.

٢١٤

المهاجرون خاصة ، عن ابن عباس والسدّي ؛ وقيل : نزلت في ابن مسعود وأبي بن كعب ومعاذ بن جبل وسالم مولى أبي حذيفة ـ كما تقدم في أسباب النزول ـ وقيل : أراد بهم أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصة ، عن الضحاك ؛ وقيل : هو خطاب للصحابة ولكنه يعمّ سائر الأمة ؛ وقيل ـ كما في الدر المنثور ـ : أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) قال : أهل بيت النبي (١). وجاء في قوله تعالى : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية ، عن أبي عمرو الزبيري عن الصادق عليه‌السلام قال : يعني الأمة التي وجبت لها دعوة إبراهيم عليه‌السلام ، وهم الأمة التي بعث الله فيها ومنها وإليها ، وهم الأمة الوسطى ، وهم خير أمة أخرجت للناس (٢). والظاهر أن المراد بالكلمة : الجماعة المسلمة المميزة بالتزامها الرسالة في إيمانها وفي حركيّة الدعوة إلى الله ، ومن الطبيعي أن يكون مصداقها منطبقا على الصحابة المجاهدين وعلى الأئمة الطيبين من أهل البيت عليهم‌السلام ، كما هي منطبقة على المسلمين السائرين في خط الإيمان بالله والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، فيكون التفسير الوارد في هذه المصاديق تفسيرا بالمصداق أو المصداق النموذجي الأعلى ، لا تفسيرا بالخصوصية المعينة المنحصرة في هذه الفئة أو تلك ، لأن الصفات المتأخرة المذكورة في الآية : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) تشمل المسلمين كلهم.

* * *

هل الآية محرّفة؟!

وقد جاء في بعض الأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تبديل

__________________

(١) الدر المنثور ، ج : ٢ ، ص : ٢٩٤.

(٢) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ٤٣٦.

٢١٥

كلمة أمة بكلمة أئمة من قراءة خاصة ، فقد جاء في رواية علي بن إبراهيم قال : حدثني أبي عن ابن أبي عمير ، عن ابن سنان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : قرئت عند أبي عبد الله عليه‌السلام : (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) الآية ، فقال أبو عبد الله عليه‌السلام خير أمة تقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين ابني علي عليه‌السلام؟ فقال القارئ : جعلت فداك كيف نزلت؟ قال : نزلت : «كنتم خير أئمة أخرجت للناس» ، ألا ترى مدح الله لهم : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ). وجاء في تفسير العياشي عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قرأ في قراءة علي : «كنتم خير أئمّة أخرجت للنّاس» ، قال : هم آل محمد» (١).

ونلاحظ على ذلك ، أوّلا : سند الروايتين ، فإن المراد في الأولى بابن سنان ـ على الظاهر ـ محمد بن سنان ، الذي لا يعتمد الأكثر على روايته ، أما في الثانية فهي مرسلة.

وثانيا : أن إسناد ضمير (أُخْرِجَتْ) إلى الأئمة قد يكون خطأ من الناحية العربية ، لأن الجمع المذكر لا بد من أن يسند إليه الضمير في الفعل بنحو المذكّر لا بنحو المؤنث ، فلا بد من أن يقول : «أخرجوا» وإنما يجوز الإسناد إليه بنحو التأنيث إذا كان إسناد الفعل إلى الظاهر ، كما تقول جاء الأئمة بتقدير كلمة «جمع» ، وجاءت الأئمة بتقدير كلمة «جماعة» ، وإذا لم يكن ذلك فليس بليغا على الأقل.

وثالثا : إنه وردت الرواية المتقدمة عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله الصادق بالتأكيد على القراءة المشهورة : (خَيْرَ أُمَّةٍ) وتفسيرها بأنها الأمة الوسطى مما يعارض القراءة المذكورة في الروايتين بكلمة «أئمّة».

ورابعا : إن الرواية الأولى ضعيفة الدلالة ، لأن استنكار الصادق ـ على

__________________

(١) البحراني ، السيد هاشم ، البرهان في تفسير القرآن ، دار الهادي ، بيروت ـ لبنان ، ط : ٤ ، ١٤١٢ ه‍ ـ ١٩٩٢ م ، ج : ١ ، ص : ٣٠٨ ـ ٣٠٩.

٢١٦

تقدير صدق الرواية ـ أن يكون الذين قتلوا عليا والحسنين عليهم‌السلام مشمولين بهذه الآية ، وذلك من خلال ورود الصفات الثلاثة التي لا تنطبق عليهم ، لا يعني عدم ملاءمة ورود كلمة «الأمة» في الآية ، لأن المفروض أن هذه الصفات توحي بانحصار الأمة المفضلة بالأمة الواجدة لهذه الصفات ، ولا تشمل كل المسلمين ، لأن الوصف يوحي بالتقييد ، فالتعليل لا ينطبق على التبديل.

وفي ضوء هذا فقد تكون المسألة في الرواية واردة على سبيل التفسير بأن المراد بهم الأئمة عليهم‌السلام ومن يماثلهم من الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر والمؤمنين بالله بمعنى التفسير بالمصداق ، ولكن التعبير ورد على هذا الشكل.

وقد حاول المستشرق اليهودي «جولد تسيهر» أن يفسّر مثل هذا التبديل للأمة بالأئمة بأن الشيعة ـ من خلال أئمتهم ـ لا يوافقون على أن يكون للأمة دور في القرآن ، فلذلك عمدوا إلى تبديل كل كلمة للأمة بالأئمة ، ونحن نردّ على كلامه بأن المسألة ليست كما يراها ، لأن الرواية الواردة بهذا المضمون قد تكون واحدة أو اثنتين ولكنها ليست بهذا الشمول ، مع ملاحظة مهمة ، وهي أن الشيعة لم يعترفوا بهذه الروايات ولم يلتزموها في المصاحف التي كتبوها ، لأنهم ـ بأجمعهم ـ لا يرون صحة نسبة التحريف إلى القرآن ، بل يرون أنه هو القرآن الموجود بين الدفتين الذي يتداوله المسلمون من دون أية زيادة أو نقصان ، لأنه الكتاب الذي : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ) [فصلت : ٤٢] ، لأن الله قال : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] وإذا كان بعض علمائهم وهو الشيخ حسين النوري رحمه‌الله قد ألّف كتابا في إثبات التحريف ، فإن العلماء المتأخرين من بعده قد ردّوا عليه أبلغ ردّ ، ومنهم السيد أبو القاسم الخوئي ـ قدس سرّه ـ في كتابه «البيان في تفسير القرآن» ، وقد تحدث فيه أن الروايات الواردة في هذا المجال بين ضعيفة السند أو ضعيفة الدلالة ، أو محمولة على التفسير لا على التنزيل ، ولعلّ أبلغ دليل على رفض المسلمين الشيعة وأئمتهم للتحريف أمران : الأول : أن الأحاديث تواترت

٢١٧

عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بإرجاع الناس إلى كتاب الله في توثيق الروايات من حيث المضمون فقالوا : «ما خالف كتاب الله فهو زخرف» (١) ، وفيه توجيه إلى أن لا نقبل عليهم ما خالف كتاب الله وكانوا يشيرون إلى الكتاب الموجود بين أيدي المسلمين ، فإنه ليس لدى الشيعة في كل عصورهم كتاب قرآني من نوع آخر.

الثاني : إن الشيعة الذين كتبوا نسخ القرآن في الماضي أو طبعوه في المستقبل لم يختلفوا في كتابتهم وفي طباعتهم عن المسلمين ، ولذلك فإن أي إنسان يملك أية قوة أو سيطرة في الاطلاع على أسرار الواقع الداخلي للشيعة في عملية هجوم أو اقتحام لم يجد ولا يجد أيّة نسخة قرآنية مختلفة عما هو لدى الناس.

* * *

الأمر والنهي موقف قيادي تغييري

(تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) باعتبارهما الصفتين اللتين توحيان بالموقع القيادي التغييري الذي تقف فيه الجماعة المسلمة لتعمل على قيادة الناس من خلال خط الدعوة تارة والحركة أخرى والموقف ثالثة ، إلى الأخذ بالمعروف والابتعاد عن المنكر ، وعدم الاكتفاء ـ في ذلك ـ بالكلمة المعبّرة ، ثم ألّا ننكفئ عن الواقع إلى العزلة والبعد عن ساحة الصراع. وإذا كانت الأفضلية التي توحي بالتقدم على الآخرين في الموقع والدور تنطلق من هاتين الصفتين ، فلا بد من أن يكون لها دور القاعدة في استمرار هذا الموقع : (خَيْرَ أُمَّةٍ) ، فإذا أهملوا ذلك فتركوا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، سقطوا كما سقط الآخرون لأنهم لا يمثلون ـ آنذاك ـ أيّة فائدة للإنسان.

* * *

__________________

(١) الكافي ، ج : ١ ، ص : ٦٩ ، رواية : ٣.

٢١٨

(وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ)

(وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فإن الإيمان بالله الواحد يكون في العقيدة التوحيدية التي تحرر الإنسان من عبوديته للإنسان الآخر وللأصنام وللظواهر الكونية كالشمس والقمر والكواكب وغير ذلك ، فيبقى ـ في موقع إنسانيته ـ الأصيل الذي يتعامل مع الناس الآخرين ومع الكون كله كتعامل الندّ للند ، والمخلوق مع المخلوق ، في عملية تكامل في خصوصيات الوجود التي تجعل الإنسان يسير في خط الكمال الإنساني الشامل في دائرة النظام الكوني الواسع ، فيعطي الكون من عقله وجهده كما يأخذ منه ، كما يقدم للإنسان الآخر جهده الذي ينتفع به في مقابل ما يأخذه من جهده لحاجته في حياته الخاصة والعامة.

وقد جاء في تفسير الكشاف للزمخشري تعليق على هذه الفقرة : (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) قال : «جعل الإيمان بكل ما يجب الإيمان به إيمانا بالله ، لأن من آمن ببعض ما يجب الإيمان به من رسول أو كتاب أو بعث أو حساب أو عقاب أو ثواب أو غير ذلك لم يعتدّ بإيمانه فكأنه غير مؤمن بالله ، (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً* أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) [النساء : ١٥٠ ـ ١٥١] والدليل عليه قوله تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) مع إيمانهم بالله (لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) لكان الإيمان خيرا لهم مما هم عليه» (١).

ونلاحظ عليه هنا أن التعايش ليس في كون الإيمان الكامل في الإسلام هو الإيمان بكل التفاصيل العقيدية والخطوط العامة للإسلام ، إذ أن الآية ليست ـ على الظاهر ـ واردة في مقام الحديث عن التفاصيل ، بل هي ـ والله العالم ـ واردة في مقام بيان النقطتين البارزتين في الخط الإسلامي الذي يلتزمه المسلمون في خطهم العملي : (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) ، باعتبارهما العنوانين لحركية الإنسان المسلم في دوره القيادي ، الذي يجعله في مركز القيادة

__________________

(١) تفسير الكشاف ، ج : ١ ، ص : ٤٥٤.

٢١٩

للإنسان وللحياة ، وفي مركز الإشراف على الواقع لتغييره من الفساد إلى الصلاح ، ومن المنكر إلى المعروف والإيمان بالله الذي يفتح عقله وقلبه وحياته على الله ، ليلتزم المنهج التوحيدي في مواجهة الشرك كلّه.

أمّا الاستدلال بقوله تعالى : (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) فلعل المراد منه إيمانهم بالله في مقابل الذين يلتزمون الكتاب اسما وانتسابا ولا يلتزمونه مضمونا ممن تحدث القرآن عنهم بقوله تعالى : (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ) مما يوحي بوجود مثل هذه الفئة ، ومما يؤيد ذلك قوله تعالى في الآية : (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ) فليس المراد منهم الداخلين في دين الإسلام ـ على الظاهر ـ المؤمنين بالله السائرين على نهجه ؛ والله العالم.

أمّا الحديث عن أهل الكتاب فينطلق من انحرافهم عن الخط الإلهي في أكثر نماذجهم ، مما يفقدهم الدور الكبير الذي يتخيلونه لأنفسهم ، بينما لو كانوا منسجمين مع خط الإيمان بالرسول والرسالة ، لكانوا جزءا من هذه الأمة القائدة التي أوكل الله إليها هذا الدور ، و (لَكانَ) ذلك (خَيْراً لَهُمْ) في الدنيا والآخرة ولكن القليلين (مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ) ، بينما ركبت الكثرة الكاثرة رؤوسها واختارت جانب الفسق والضلال (وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ).

ولا تزال الآية تفرض نفسها على الساحة لتدعو المسلمين إلى أن يرتفعوا إلى هذا المستوى من خلال انسجامهم مع خط الإيمان وقيامهم بهذا الدور ... ولكن الواقع الإسلامي في أكثر نماذجه قد ابتعد عن ذلك بالسير مع الدعوات القومية والعنصرية والإقليمية ، وغيرها من الاتجاهات المنحرفة عن خط الإسلام ، مما جعل الفكرة المطروحة في الساحة هي رفض الإسلام كأساس للشخصية ، وكنظام للحياة ومنطلق للحركة ؛ والاكتفاء به كإطار للعبادات والأخلاقيات العامة التي لا تلامس الحياة إلّا من بعيد. وبذلك فقدت الأمّة دورها الرائد بابتعادها عن شخصيتها الحقيقة وخطّها الأصيل.

٢٢٠