تفسير من وحي القرآن - ج ٦

السيد محمد حسين فضل الله

(يُنْظَرُونَ) : الإنظار : التأخير للعبد لينظر في أمره ، والفرق بينه وبين الإمهال أن الإمهال هو تأخيره لتسهيل ما يتكلفه من عمله.

* * *

مناسبة النزول

جاء في أسباب النزول ـ للواحدي ـ عن ابن عباس : أن رجلا من الأنصار ارتدّ فلحق بالمشركين ، فأنزل الله تعالى : (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) إلى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) ، فبعث بها قومه إليه ، فلما قرئت إليه قال : والله ما كذبني قومي على رسول الله ، ولا كذب رسول الله على الله ، والله عزوجل أصدق الثلاثة. فرجع ثانيا ، فقبل منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتركه (١).

ونلاحظ في هذه الرواية نقطة مهمّة وهي قبول توبة المرتد ، وربما يرى البعض أنّ المرتد الملّي تقبل توبته ، ولعل الكثيرين في زمن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ ومنهم هذا الشخص ـ كانوا من الكافرين الذين أسلموا بحيث لم يكن إسلامهم فطريا ليكون ارتدادهم عن فطرة ، ولكن الظاهر أن الآية مطلقة لكل مرتد ، مليّا كان أو فطريا ، لأن السياق يتحدث عن المبدأ العام وهو قبول التوبة إلى الله في كل مورد من موارد الكفر والتمرّد.

وقد ورد في الحديث عن الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام ـ كما في مجمع البيان ـ في سبب نزول هذه الآية ... أنها «نزلت في رجل من الأنصار يقال له حارث بن سويد بن الصامت ، وكان قتل المحذر بن زياد البلوي غدرا ، وهرب وارتد عن الإسلام ولحق بمكة ، ثم ندم ، فأرسل إلى قومه أن يسألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هل لي من توبة؟ فسألوا ، فنزلت الآية إلى قوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا) فحملها إليه رجل من قومه ، فقال : إني لأعلم أنك لصدوق ، ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٦٣.

١٤١

أصدق منك ، وأن الله أصدق الثلاثة. ورجع إلى المدينة وتاب وحسن إسلامه» (١).

* * *

الإيمان قضية ومصير

إنّ الله يفتح للإنسان أبواب الهداية من خلال البيّنات التي تجتمع لديه ، والبراهين التي تحصل عنده ، مما لا يبقى معه شك ولا ريب. وبذلك تنطلق الدعوة إلى الإيمان ، كعقيدة وموقف ، من موقع القناعة الثابتة المرتكزة على أساس الحجة الواضحة. وفي هذا الجوّ الذي تقوم فيه الحجة عليه ، لا يسمح الله له بالسلبيّة واللامبالاة فضلا عن الإنكار والعناد ، فإن الإيمان يمثل قضية المصير الذي لا مجال للتلاعب به ، وقضية الحياة التي يرتبط فيها سلوك الفرد بسلامة المجتمع ، الأمر الذي يجعل منه شيئا أساسيا ، ويعطي صفة التمرد والمكابرة لمن ينحرف عنه. وقد عالج القرآن في هذه الآيات الموقف الإلهي من هؤلاء ، فتساءل في البداية عن جوّ الإنكار (كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌ) فقد أقام الله لهم الحجة التي فرضت عليهم الإيمان في أعماقهم والشهادة الداخلية في كيانهم والإعلان عن ذلك بألسنتهم ؛ فقد دخلوا في الإسلام وأصبحوا جزءا من مجتمع المسلمين ، فلا مجال للشك والشبهة بعد أن كانت القضية في مستوى الوضوح الكبير. ولكنهم كفروا وأظهروا الكفر ، فكيف يهديهم الله ، في الوقت الذي لا يريدون فيه لأنفسهم السير في طريق الهدى ، وظلموا أنفسهم بكفرهم. وقد جرت حكمة الله أن يقود الإنسان إلى الهداية من طريق الاختيار والإرادة والحجة والبرهان ... فإذا تمت لديه عناصرها ثم انحرف عنها غرورا وطغيانا وكبرا ، فإن الله يتركه لنفسه ولا يتدخل بطريقة غيبيّة لفرض الهداية عليه على أساس الجبر ، (وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٨٩.

١٤٢

وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) بعد أن قامت عليهم الحجة من قبله.

أما جزاء هؤلاء المتمردين فتحدده الآية الثانية (أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ* خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ) لأنهم تمردوا على الله الذي خلقهم ورزقهم وأفاض عليهم نعمه ظاهرة وباطنة ، وفتح لهم أبواب الخير والهداية بأوسع مما بين السماء والأرض ، فاستحقوا غضبه وسخطه واحتقار الملائكة والناس ، لأنهم هم الذين قادوا أنفسهم إلى موقع الحقارة الذاتية والعملية بكفرهم بالله ؛ ولكن الله لا يغلق عنهم أبواب الرجوع إليه ، فإن أبواب التوبة مفتوحة لمن أراد أن يتوب إلى الله ويصلح أمره وعمله ، لأن الكفر لا يمثل ـ عند الله ـ عقدة لا انفكاك لها ، كما هو شأن البشر الذين تتحرك العقدة في نفوسهم فتمنعهم عن العفو والصفح والمغفرة ، بل الكفر يمثل الانحراف عن خط الحق ، فإذا استقام الإنسان في خطه بعد انحرافه كانت رحمة الله له بالانتظار لتشمله باللطف والرضوان ؛ وذلك هو قوله تعالى : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) لأنه أهل المغفرة والرحمة ، فقد سبقت رحمته غضبه في كل مجال كان للرحمة سبيل.

ونلاحظ في الحديث عن الإصلاح مع التوبة ، أن التوبة لا بد من أن تتحرك في نفس الإنسان كوسيلة من وسائل التغيير الوجداني الفكري ، الذي يتحول إلى حالة في التغيير الواقعي في خطوات الإنسان العملية وممارساته ، فلا بدله من أن يمحو الماضي المنحرف بالحاضر المستقيم ، لتكون عملية التوبة وسيلة من وسائل محو الماضي الأسود بالواقع الجديد الأبيض ، فلا تكفي التوبة باللسان ما لم يصدقها العمل الصالح الذي يمثل عملية الإصلاح في الداخل والخارج.

* * *

١٤٣

الآيتان

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) (٩١)

* * *

مناسبة النزول

قيل ـ كما في مجمع البيان ـ «نزلت في أحد عشر من أصحاب الحرث بن سويد لما رجع الحرث قالوا : نقيم بمكة على الكفر ما بدا لنا ، فمتى ما أردنا الرجعة رجعنا ، فينزل فينا ما نزل في الحرث ، فلما افتتح رسول الله وآله مكة ، دخل في الإسلام من دخل منهم ، فقبلت توبته ، فنزل فيمن مات منهم كافرا : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٩٠.

١٤٤

التوبة المرفوضة

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله ورسوله واليوم الآخر (بَعْدَ إِيمانِهِمْ) الذي أعلنوه فدخلوا في المجتمع الإسلامي من خلاله رغبة أو رهبة ، ثم خرجوا منه بعد أن حصلوا على ما يريدون ، أو أمنوا مما يخافون منه ، (ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً) من خلال العقدة الحاقدة في داخل نفوسهم ، لا سيما بعد أن دخلوا ـ من جديد ـ في مجتمع الشرك الذي أرادوا التكفير أمامه عن إيمانهم وإسلامهم ، فعملوا على التشديد في كلماتهم القاسية ضد الإسلام ومواقفهم العدوانية ضده ، (لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ) لأن مثل هذا العمق العدواني ، وهذا الانتقال السريع من الإيمان إلى الكفر الذي تطور إلى زيادة في مضمونه وحركته ، ويوحي بأنهم لا يملكون الجدية في إيمانهم ، فلم يدخل إلى قلوبهم ، بل كانت المسألة تمثيلية للوصول إلى أغراضهم الخبيثة ، مما يعني أن إيمانهم الجديد الذي تعبر عنه التوبة لن يكون بأفضل من إيمانهم القديم الذي أعقبه الكفر ، فهم اللاعبون على خط الكفر والإيمان ، (وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ) التائهون في تمزقات مشاعرهم التي لا تثبت على قاعدة ولا تتحرك في الاتجاه المستقيم.

أمّا الذين يموتون وهم كفار ، ويفاجئهم الموقف بالعذاب الشديد ، فسيحاولون أن يدفعوا عن أنفسهم ذلك بكل أنواع الفدية ، أو يتمنون ذلك ، ولكن الله يحسم الموقف فلا مجال للفدية مهما عظمت ، فلا يقبل منهم شيء منها حتى لو جاءوا بملء الأرض ذهبا ، لأن خطيئة الكفر لا يفتديها شيء ، فإن الله (لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) [النساء : ٤٨] ، فلا مفرّ من العذاب الذي هو جزاء الكافرين ، ولن ينصرهم أحد من دون الله ، لأنّ الأمر كله ـ يؤمئذ ـ بيد الله.

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ) فلم يتوبوا عن خطيئة الكفر في نهاية الحياة ، (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ) يوم القيامة ، لأن جريمة الكفر لا يفتديها شيء لأنها تعلو كل جريمة ، فلا مجال للتخفيف

١٤٥

عنها بأي ثمن. وما قيمة الذهب عند الله أمام تمردهم عليه ومحاربتهم له؟! (أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) جزاء كفرهم بالله وبرسالته (وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) فلا قوّة لأحد أن ينصر أحدا ـ حتى نفسه ـ من الله الذي يملك الأمر كله ، (يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) [الانفطار : ١٩].

* * *

الإيمان والكفر موقفان عمليّان

ومن هنا ، فإن الكفر أو الإيمان ـ في مفهوم الإسلام ـ ليسا شيئا يتحرّك في داخل النفس على أساس العقيدة الكامنة في الأعماق فحسب ، بل هما موقفان عمليّان في ما يتخذه الإنسان من مواقف ، وما يمارسه من أعمال. وفي ضوء ذلك يمكننا أن نفهم أنّ الكفر وازدياده اللذين تتحدث عنهما الآية ، لا يراد منهما المعنى الداخلي فقط ، بل يتحركان من موقع العقيدة والموقف ، وبذلك يتضح معنى زيادة الكفر ... أما عدم قبول توبتهم والحكم بضلالهم بشكل حاسم ، فالظاهر منها ـ والله العالم ـ التوبة التي لا تتمثل في موقف وقناعة ، بل تتمثل في المظهر الزائف الذي يحاول أن يغطي واقعه بالتوبة ليستطيع من خلال ذلك الدخول في صميم المجتمع الإسلامي ، فيلعب فيه ما شاء له اللعب بعد أن يحصل على ثقته بالتوبة. وتلك توبة لا يقبلها الله ، لأنها صورة توبة كجزء من خطة الكفر والضلال.

أمّا كيف نستوحي هذا المعنى من الآية ، فتوضيحه أن الله يتحدث عن هذا النموذج من الناس ، بأنهم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا ، مما يدل على أن حياتهم لا تسير في الاتجاه الجادّ على أساس مسئولية العقيدة والإيمان ، فهم يتحينون الفرص للانحراف ما امتدت لهم ولا يقفون في ذلك عند حدّ ، بل يتصاعد الكفر العملي عندهم ويتزايد حتى يتحوّل إلى ظاهرة خطرة في حياة المجتمع الذي يعيشونه فيه. فالموقف ـ لديهم ـ ليس طارئا ، بل هو كامن في

١٤٦

الأعماق كعقدة متأصلة في الداخل بحيث تحرك الإنسان حركة مرضيّة في جانب السلب والإيجاب.

وقد نستلهم ذلك من ملاحظة الحديث عن الفئة الأولى التي كفرت بعد إيمانها ، ثم تابت وأصلحت ، فقبل الله توبتها لأنه علم صدقها من خلال تعقّب التوبة بالإصلاح ، مما جعل الموقف موقف جدّ وصدق. أما هذه الفئة فإنها لم تكتف بالكفر بل ازدادت كفرا وعبثا وضلالا ، مما جعل الموقف موقف تمثيل وضلال لا مجال فيه للحق وللصدق. وبهذا نفهم الفرق بين الآية السابقة وهذه الآية ؛ والله العالم بحقائق آياته. وربما يكون المراد من عدم قبول توبتهم في حالة اليأس معاينتهم الموقف في الآخرة ـ كما عن بعض المفسرين ـ ولكن هذا لا يتضح من ظاهر الآية ، بل يبدو أنّها تتحدث عن حالتهم في الحياة في وجودهم داخل المجتمع الإسلامي ، وقبول المجتمع لهم بقبول الله لتوبتهم ـ كما يحاولون ـ.

* * *

١٤٧

الآية

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) (٩٢)

* * *

معاني المفردات

(الْبِرَّ) : التوسع في فعل الخير ، ومنه البر هو خلاف البحر ، لسعته. والبر : كلمة جامعة لكل صفات الخير ، قال صاحب المجمع : «والفرق بين البرّ والخير ، أن البرّ هو النفع الواصل إلى الغير مع القصد إلى ذلك ، والخير يكون خيرا وإن وقع عن سهو ، وضد البر العقوق ، وضد الخير الشرّ» (١).

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٩٢.

١٤٨

العطاء قيمة إنسانية وخلق أصيل

العطاء هو إحدى القيم الإنسانية التي أراد الله للإنسان أن يعيشها في حياته كخلق أصيل من سمات الشخصية التي يتصف بها بحيث تصدر منه المواقف بشكل عفوي ، فيعطي الإنسان لأنه يحس بالحاجة إلى ذلك من خلال إنسانيته التي تدفعه إلى ذلك ، وإذا أعطى فإنه لا يختار الأشياء التي تعافها نفسه ويكرهها طبعه فيمنحها للآخرين ، لأن ذلك ليس مظهرا للعطاء بل هو وسيلة من وسائل التخلص من هذه الأشياء باسم العطاء ، بل يختار الأشياء التي يحبها ويريدها مما هو أثير عنده وقريب إلى حاجاته وضروراته ، فإن ذلك يحمل معنى التضحية التي يتمثل فيها روح العطاء السمح بأعلى مظاهرها.

وقد جاء في مجمع البيان ، أن عليّا عليه‌السلام اشترى ثوبا فأعجبه ، فتصدق به وقال : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : من آثر على نفسه آثره الله يوم القيامة بالجنة ، ومن أحبّ شيئا فجعله لله قال الله تعالى يوم القيامة : قد كان العباد يكافؤون في ما بينهم بالمعروف ، وأنا أكافيك اليوم بالجنة» (١) ، ويروى عن الحسين بن علي والصادق عليهم‌السلام أنهما كانا يتصدقان بالسكر ويقولان : إنه أحبّ الأشياء إلينا وقد قال الله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ).

* * *

الإنفاق والتكافل الاجتماعي

والإنفاق لا يقتصر على المال ـ وإن كان الظاهر من الآية المال خاصة ـ بل يريد الله للإنسان أن ينفق من كل ما يحتاجه الناس مما هو عنده من مال أو

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٩٢.

١٤٩

جاه أو علم أو قوة أو غير ذلك ، فإن السرّ في عظمة الإنفاق في الإسلام هو تحقيق التكافل الاجتماعي بين الناس في جميع المجالات من موقع المسؤولية والرغبة في القرب من الله. وقد أراد الله سبحانه أن يعرف الإنسان بأن للبرّ طريق رئيسي هو أن ينفق مما يحب ، كما عرّفه بأن الله عليم بما ينفقه في السرّ والعلانية ، وبالتالي لا يجب عليه أن يقف الإنسان في الإنفاق عند حدّ الأشياء الظاهرة ، بل ينبغي له أن يراعي طبيعة الحال في ما تستلزمه من إسرار أو إعلان ، فإن الجزاء يصل إليهما ممن عنده علم السرّ والعلانية ، إنه أرحم الراحمين.

* * *

لا ينال البر إلّا بالإنفاق

(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) الذي يمنحه الله عباده من الرضوان ونعيم الجنة ، وربما كان المراد بالفقرة أن الإنسان لا يصل إلى درجة البر بحيث يكون من الأبرار ، أو إلى مستوى البرّ بالله وهو الطاعة والتقوى الدالان على عمق الإيمان والإخلاص لله في نفسه وحياته ، (حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) من المال الطيب الذي تفضلونه ، وتحبونه ، وتميزونه عن غيره بكل درجاته ، بحيث لا تنفقون قدر الحاجة بل ما يزيد عليها أيضا ، كما في قوله تعالى : (وَيَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ) [البقرة : ٢١٩] ومن اختيار الطيب في مقابل الخبيث كما في قوله تعالى : (وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ) [البقرة : ٢٦٧] حتى تصل المسألة إلى درجة الإيثار الذي يعطي الإنسان من نفسه بما قد يؤدي إلى تفضيل الآخر على نفسه كما في قوله تعالى : (وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ) [الحشر : ٩] ، وقوله تعالى : (وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ) [الإنسان : ٨] ، أي مع حاجتهم إليه وحبهم له ، وهذا هو الذي يمثل أعلى درجات البر ، لأنه يوحي بأن الإنسان قد وصل إلى درجة فقدانه للإحساس بحاجته واستغراقه في حاجة الآخرين من أجل رضوان الله ، وذلك في

١٥٠

عملية مقارنة بين حاجة الدنيا إلى المال وحاجة الآخرة إلى رضوان الله ، وهذا يتمثل في الشهادة التي هي أعلى درجات البرّ. وقد ورد في الحديث «فوق كل ذي بر برّ حتى يقتل الرجل في سبيل الله فليس فوقه بر» (١). (وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ) سرّا وعلانية (فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ) لأنه الذي يستوي لديه السر والعلن ، فكل الأشياء مكشوفة عنده بارزة في علمه الذي لا يغيب عنه شيء ، وفي ذلك إيحاء بأن الله لا يضيع إنفاقكم بل يجزيكم عليه لأنه يعلمه بكل تفاصيله.

* * *

دروس وعبر

وقد جاء في مجمع البيان قال : «روي أن أبا طلحة قسم حائطا له في أقاربه عند نزول هذه الآية ، وكان أحب أمواله إليه ، فقال له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : بخ بخ ، ذلك مال رابح لك ، وجاء زيد بن حارثة بفرس له كان يحبها ، فقال : هذه في سبيل الله ، فحمل عليها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أسامة بن زيد ، فكأنّ زيدا وجد في نفسه ، وقال : إنما أردت أن أتصدق به ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أما إن الله قد قبلها منك. وأعتق ابن عمر جارية كان يحبها ، وتلا هذه الآية ، وقال : لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله تعالى لنكحتها ، وأضاف أبو ذر الغفاري ضيفا فقال للضيف : إني مشغول وإن لي إبلا فاخرج وائتني بخيرها ، فذهب فجاء بناقة مهزولة ، فقال له أبو ذر : خنتني بهذه ، فقال : وجدت خير الإبل فحلها ، فذكرت يوم حاجتكم إليه ، فقال أبو ذر : إن يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي ، مع أن الله يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وقال أبو ذر : في المال ثلاثة شركاء : القدر لا يستأمرك أن يذهب بخيرها أو شرّها من هلك أو موت ، والوارث ينتظرك أن تضع رأسك ثم يستاقها وأنت ذميم ، وأنت

__________________

(١) البحار ، م : ٢٦ ، ج : ٧١ ، باب : ٢ ، ص : ٤٢ ، رواية : ٢٥.

١٥١

الثالث ، فإن استطعت أن لا تكون أعجز الثلاثة فلا تكن ، إنّ الله يقول : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ) وإن هذا الجمل كان مما أحب من مالي ، فأحببت أن أقدمه لنفسي» (١).

وجاء في تفسير أبي الفتوح الرازي ، أنه كان لزبيدة زوجة هارون الرشيد مصحف ثمين جدا ، قد زينت غلافه بأغلى أنواع المجوهرات والأحجار الكريمة ، وكانت تحبه حبا شديدا وتعتز به أكثر اعتزاز ، وفيما هي تتلو القرآن في ذلك المصحف ذات يوم ، مرّت على قوله تعالى : (لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) فأوحى لها ذلك بأن تبيع أحجاره الكريمة وجواهره النفيسة ـ باعتبار أنّها أحب شيء لديها ـ لتنفق ثمنها في سبيل الله ، وهكذا حفرت الآبار والقنوات في الصحراء ليشرب الناس الساكنون في الصحراء والمارّون فيها منها (٢) انسجاما مع جوّ هذه الآية.

وهكذا نجد أن هذه الآية قد تركت أثرا كبيرا في نفوس المسلمين ، فتحولت إلى ذهنية تنفتح على الخير وسلوك يتحرك في اتجاهه ، وحركت الخطط للتغيير ، وهذا ما ينبغي للعاملين في سبيل الله أن يستهدفوه في حركة الدعوة باللجوء إلى الأساليب الفنية التي تفتح القلب على الله من خلال الانفتاح على آياته ، وتقود الواقع إلى تحقيق المبادئ الخيّرة في شريعة الله ، لتتحول الحياة في المجتمع الإسلامي إلى حياة إسلامية حية تختزن كل الإسلام في وجدانها وحركتها وسلوكها العملي.

* * *

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٩٢ ـ ٧٩٣.

(٢) الرازي ، أبو الفتوح ، تفسير القرآن ، ج : ٣ ، ص : ١٥٧.

١٥٢

الآيات

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (٩٥)

* * *

معاني المفردات

(فَاتَّبِعُوا) : الاتباع : لحاق الثاني بالأول لما به من التعلق ، فالقوة للأول والثاني يستمد منه ، والتابع ثان متدبر بتدبير الأول متصرف بتصريفه في نفسه.

(حَنِيفاً) : أصل الحنيف : الاستقامة ، وإنما وصف المائل القدم بالأحنف تفاؤلا ، وقيل : أصله الميل ، فالحنيف هو المائل إلى الحق في ما كان عليه إبراهيم عليه‌السلام من الشرع.

* * *

١٥٣

مناسبة النزول

في أسباب النزول في ما ورد من حديث التفسير ، أن هذه الآيات جاءت ردا على اليهود الذين يحرّمون لحوم الإبل وألبانها ، زعموا بأن ذلك كان محرّما في دين إبراهيم وأولاده ، واعتراضا منهم على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الذي أحلّها في الوقت الذي يقول فيه إنه على ملّة إبراهيم.

فقد جاء في أسباب النزول للواحدي : «قال أبو روق والكلبي : نزلت حين قال النبي : أنا على ملة إبراهيم ، فقالت اليهود : كيف وأنت تأكل لحوم الإبل وألبانها؟ فقال النبي : كان ذلك حلالا لإبراهيم فنحن نحلّه ، فقالت اليهود : كل شيء أصبحنا اليوم نحرمه ، فإنه كان على نوح وإبراهيم حتى انتهى إلينا. فأنزل الله ـ عزوجل ـ تكذيبا لهم : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) الآية» (١).

* * *

تحريم ذاتي لا تشريعي

كانت هذه الآيات من أجل أن تضع القضية في موضعها من الحقيقة الدينية التاريخية ، وهي أن الله لم يحرم على بني إسرائيل شيئا قبل نزول التوراة ، بل كانت الأطعمة كلها حلالا منذ عهد إبراهيم حتى عهد يعقوب الذي هو إسرائيل ، الذي منع نفسه من بعض الأطعمة لأنه يعافها أو يتضرر منها لا على أساس التحريم الشرعي ، فإنه أعظم قدرا من أن يحرّم على نفسه شيئا قد أحلّه الله له ، وهكذا استمرت الشريعة قبل نزول التوراة ، وذلك هو قوله تعالى : (كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) لأن الله لم يحرم منه شيئا عليهم (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) وهو يعقوب (عَلى نَفْسِهِ) تحريما ذاتيا لها من الناحية المزاجية ، فإن

__________________

(١) أسباب النزول ، ص : ٦٤.

١٥٤

الإنسان قد يمنع نفسه من بعض الأشياء المحلّلة من أجل بعض الجوانب النفسية ، بعيدا عن عالم التحريم والتحليل ، وكان ذلك : (مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ).

* * *

أساليب الزّيف والمراوغة

ولمّا نزلت التوراة حرّمت بعض الأشياء عقوبة لهم على ما قاموا به من بعض المعاصي ، كما أشار إليه الله سبحانه في قوله تعالى : (فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) [النساء : ١٦٠] وحرّمت عليهم أشياء أخرى منها ما ذكره الله في قوله : (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ) [الأنعام : ١٤٦] ولم يرد في التوراة تحريم لحم الإبل ، فكيف يدعون تحريمها وينكرون على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حليتها. ثم أطلق التحدّي في وجوههم : (قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) ولكنهم لم يثبتوا أمام التحدي لأنهم يعرفون نتيجة ذلك في إظهار كذبهم وزيف دعاويهم.

وهذا أسلوب لا بد من مراعاته واتباعه مع الناس الذين ينسبون إلى الشريعة تحليل شيء غير موجود فيها ، أو ينكرون وجود بعض العقائد الباطلة في كتبهم ، وهي موجودة فيها ، وذلك كبعض الملحدين الذين يتحركون في وضع سياسي واقتصادي معيّن ؛ فإذا تحدث إليهم متحدث بما عندهم من ذلك ، وخافوا أن تعطل هذه القضايا بعض خططهم وأهدافهم ، أنكروا وجودها اعتمادا على أن الناس لا يقرءون ، أو أنهم لا يصلون إلى هذه الكتب ، فيمكن للعاملين في سبيل الدعوة إلى الله أن يطلبوا منهم إبراز كتبهم أمام الناس ليظهروا ما فيها من شؤون العقيدة في عالم الإلحاد والإيمان ، ليبرز من ذلك زيفهم وبطلان

١٥٥

أساليبهم الخادعة. فإذا وضحت الحقيقة من خلال ذلك ، أو من خلال هروبهم عن إظهارها ، فلا بد من أن يقفوا وقفة الصدق أمام الحقيقة الواضحة. (فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين يظلمون أنفسهم ويظلمون الحقيقة والناس الذين يريدون الارتباط بالحقيقة على أساس الحجة والبرهان.

* * *

امتداد رسالي

وتنتهي الآيات بالأمر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أن يؤكد موقفه الذي حاول اليهود أن يثيروا الريب والشكوك من حوله ، للإيحاء بأنه ليس من عند الله ، ولهذا جاء التأكيد بقوله : (قُلْ صَدَقَ اللهُ) فإن قول النبي هو قول الله ، لذلك كان التشكيك به تشكيكا بقول الله كما أن تصديق الله يستلزم التصديق به. ثم أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيف المخلص المائل عن الباطل إلى الحق ، لأن ملّته هي الإسلام في نطاقه الشامل الذي يستوعب كل الرسالات في مراحلها المتنوّعة المتدرّجة.

(فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ) التي تمثل ملة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما تمثله من الامتداد الرسالي لتلك الملّة التي تجمع في داخلها الخطوط العامة لكل ما يريد الله أن يلتزموه في المعنى التوحيدي الشامل من حيث الفكر والعمل ، (حَنِيفاً) منفتحا على خط الاستقامة في طريق الحق المائلة عن خط الباطل ، فقد كان يمثل التوحيد الخالص عقيدة ومنهجا وعبادة وحركة في الجانب العملي من الحياة ، (وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) فقد كان ثورة على الشرك كله بكل قوّة ، حتى أنه عادى قومه وأباه في سبيل ذلك.

وقد دعا في نهاية المطاف إلى اتباع ملّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، باعتبار أنها تمثل إرادة الله الأخيرة في خط الرسالات ، مما يجعل اتباعها إسلاما لله الواحد ، وتجسيدا للتوحيد الحق الذي تلتقي لديه كل منطلقات الحياة الخيرة وتخضع

١٥٦

له ، فذلك هو خط إبراهيم عليه‌السلام التوحيدي الذي يرفض كل شرك سواء كان شركا مباشرا كشرك المشركين من قريش وغيرهم ، أو كان شركا غير مباشر كشرك أهل الكتاب في عقيدتهم بالمسيح وغيره.

* * *

من وحي الآية

وربما نستوحي من هذه الآية ـ في خط الدعوة ـ أنّ علينا مواجهة الفئات المنحرفة التي تضع في عناوينها الكبرى شخصية تاريخية عظيمة أو مقدسة من الشخصيات التي تحمل في واقعها الحركي القيم الكبرى في الدائرة العقيدية والروحية والاجتماعية من خلال التزامها بالرسالة الشاملة ، فتتبع الأسلوب العملي الذي يضع أمامها الخط العام الذي تحركت به هذه الشخصية التاريخية في تجربتها الماضية في عملية مقارنة بين الواقع الذي يعيشون فيه وبين الخط العام الذي تمثله في ميزان القيم المتنوعة ، وذلك من خلال تجربة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الموقع القرشي الذي كان يضع إبراهيم عليه‌السلام عنوانا له من خلال انتساب قريش إليه ، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه يعبدون الأصنام خلافا لرسالة التوحيد الإبراهيمية ، فكانت هذه الآية بعد الخطاب الذي وجهه القرآن إليهم إعلانا للزيف الذي يتحركون فيه على مستوى العقيدة والعبادة.

* * *

١٥٧

الآيتان

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) (٩٧)

* * *

معاني المفردات

(أَوَّلَ) : أوّل الشيء : ابتداؤه ، ويجوز أن يكون المبتدأ له آخر ويجوز أن لا يكون آخر له ، لأن الواحد أوّل العدد ولا نهاية لآخره ، ونعيم أهل الجنة له أوّل ولا نهاية له.

(بِبَكَّةَ) : أي بمكة ، وأصل بكة : البك وهو الزحم. يقال : بكّه يبكّه بكا إذا زحمه ، ويباكّ الناس إذا ازدحموا ، فبكة مزدحم الناس للطواف ، وهو ما حول الكعبة من داخل المسجد الحرام ، وقيل : سميت بكة لأنها تبكّ أعناق الجبابرة إذا ألحدوا فيها بظلم ولم يمهلوا ، والبكّ : دقّ العنق. وأما مكة فيجوز أن يكون اشتقاقها كاشتقاق بكة وإبدال الميم من الباء كقوله : «ضربة لازب

١٥٨

ولازم» ويجوز أن يكون من قولهم : أمتك الفصيل ما في ضرع الناقة : إذا مصّ مصّا شديدا حتى لا يبقى منه شيء ، ومكّ المشاش مكّا : إذا تمشش بفيه ، فسميت مكة بذلك لقلة مائها (١).

(مُبارَكاً) : البركة : الثبوت ، من قولهم : برك بروكا أو بركا إذا ثبت على حاله ، فالبركة ثبوت الخير بنموّه ، ومنه البركة شبه الحوض يمسك الماء لثبوته فيه ، ومنه قول الناس : تبارك الله لثبوته لم يزل ولا يزال وحده.

(كَفَرَ) : كفر في العمل لا في العقيدة ، لأنه ترك الحج رغم استطاعته واجتماع شروط الوجوب عنده ، فلم يقم بما فرضه الله عليه. قال صاحب المجمع : كفر ، يعني «جحد فرض الحج ولم يره واجبا ، عن ابن عباس والحسن» (٢) ، وعلى ضوء هذا فيكون كافرا حكما باعتبار إنكاره ضروريا من ضروريات الدين وهو وجوب الحج ، مما يستلزم تكذيب الرسول الموجب للكفر.

* * *

تحويل القبلة إلى الكعبة

ربما تكون هذه الآيات ردا على ما حاول أن يثيره اليهود على الإسلام والمسلمين من شبهات في تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة ، لأن بيت المقدس هو الذي أمر الناس بالتوجه إليه أوّلا لقدمه وعبادة الأنبياء فيه. فجاءت هذه الآيات لتذكرهم بأن هذا البيت هو (أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) لعبادة الله ، وليكون مصدر بركة وهدي للعالمين ، و (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) الذي كان يتعبد فيه كدلالة على أقدميته ، لأن بيت المقدس كان من بناء سليمان عليه‌السلام ، الذي هو متأخر بزمان كثير عن إبراهيم عليه السّلام. وقد جعله الله آمنا للناس (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) لا يجوز لأحد أن يعتدي عليه مهما كان وضعه. وقد تعبد الله

__________________

(١) مجمع البيان ، ج : ٢ ، ص : ٧٩٧.

(٢) (م. ن) ، ج : ٢ ، ص : ٧٩٩.

١٥٩

الناس بقصده والحج إليه لكل من استطاع إلى ذلك سبيلا ، مما يوحي بأنه محل عناية الله ورعايته واهتمامه به ، فلا مانع ـ من هذه الجهة ـ أن يحوّل القبلة إليه ، ليتوجه الناس إليه في صلاتهم كما يتوجهون إليه بالقدوم إليه في حجّهم.

ربما تكون هذه الآيات واردة في هذا الجو ـ كما عن بعض المفسرين ـ وربما لم تكن كذلك بل كانت واردة في مقام تقرير هذه الحقيقة من ناحية مستقلة ، كمقدّمة للحديث عن تشريع الحج من حيث إن ذلك يلتقي بقيمة هذا البيت في ما استهدفه إبراهيم ـ بأمر الله ـ من بنائه ، بأن يكون ملتقى للناس من كل مكان لعبادة الله وللتعاون في ما بينهم على الخير والتقوى ، وللنفع العميم الذي تمثله كلمة البركة ، وللهدى الذي يمتد منه للعالمين من خلال ما يهتدي به الناس عندهم إلى ما فيه صلاح أمر دنياهم وآخرتهم. وفي ضوء ذلك يمكن أن نتوقف أمام عدة أمور في هذه الآيات من أجل أن تتضح لنا معانيها التفصيلية.

* * *

ما معنى أول بيت؟

١ ـ إن معنى قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) ليس هو أنه أوّل ما بني على وجه الأرض ، كما قد يتوهمه البعض ، بل المراد به أول بيت وضع للعبادة والهدى والبركة للناس ... وهذا ما وردت به الرواية عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام في ما نقله ابن شهر آشوب عنه ، في قوله تعالى : (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) الآية ، فقال له رجل : أهو أوّل بيت؟ قال : لا قد كان قبله بيوت ، ولكنه أوّل بيت وضع للناس مباركا ، فيه الهدى والرحمة والبركة. وأوّل من بناه إبراهيم ، ثم بناه قوم من العرب من جرهم ، ثم هدّم فبنته العمالقة ، ثم هدم فبناه قريش (١) ...

__________________

(١) نقلا عن : تفسير الميزان ، ج : ٣ ، ص : ٤٠٧.

١٦٠